ولدى إنغماسها في أفكارها نسيت مراقبة ويندي التي زحفت على العشب حتى وصلت الى حاجز القش الذي يحيط بالحلبة .ولما أدركت ليندا الأمر ,كان الأوان قد فات ....فقد اختفت ويندي داخل فتحة صغيرة تطل على الحلبة .ارادت ليندا الصراخ لكن صوتها ظل داخل حنجرتها .اسرعت نحو الحلبة وراحت تحاول الدخول وراء الحاجز .أصوات مرعبة صعدت من الحضور .ولدى رؤية المنظر امامها ,راح قلبها يخفق بسرعة .
وسط الحلبة كان ماريو ممتطيا حصانا ويواجه ثورا وحشيا .وفي الإستعراض كان عليه ان يبرهن شجاعة ومرونة ليرغم الحيوان ان يلتف حول بيرق غرز على الجهة الثانية من الحاجز .
لكن ,في هذا الوقت بالذات ,لم يكن المتفرجون مهتمين بمهارة ماريو .انما مثل ليندا ,كانو مذعورين ويحدقون بالطفلة التي تجتاز الحلبة وهي تحبو .لم تكن الطفلة تعي الخطر ,إنما تريد لفت نظر ماريو اليها ,لكن ماريو كان منغمسا بمهمته ومديرا اليها ظهره .
اطلقت ليندا صرخة ثاقبة ,فالتفت ماريو وصرخ :
"يا إلهي."
قفز ماريو عن الحصان وأسرع نحو ويندي التي كانت تزحف بهدوء .وفي هذا الوقت بالذات هجم الثور .
اغمضت ليندا عينيها وفقدت الوعي .
ركض الرعاة الى الحلبة فترك الثور فريسته وهجم بصورة عمياء على الجمهور الملتف حوله .تجمع الناس حول ليندا .وحملها موظفو الكونت الى المنزل ووضعوها في سريرها .وراحو يرغمونها على التنفس.
عندما عادت ليندا الى وعيها ,أطلقت زفرة أليمة من شفتيها قائلة :
"ماريو..."
اجابها بصوت مختنق :
"أنا هنا ,يا حبيبتي ."
بالنسبة الى ليندا ,التي كانت مقتنعة انها خسرت اعز انسان في حياتها ,كان صوته صدى آت من بعيد ...فتحت عينيها بصعوبة ولم تفكر بكبت فرحها .
أضاف ماريو بهدوء وهو ينحني فوق سريرها :
"انت بحاجة الى الراحة .الصدمة كانت قوية عليك ...ما زلت ضعيفة .سآتي لأراك بعد قليل ."
"بيلا وكارمين احاطاها بحنان .لكن ليندا فضلت الصمت .حمل ماريو ويندي بين ذراعيه وتوجه نحو الباب .وقبل ان يجتاز العتبة التفت مرة أخيرة الى ليندا ,ثم غادر الغرفة .
غطت ليندا في نوم عميق .ولما استيقظت بعد ساعات وضعت روبا عليها وراحت تفكر كم سيسخر منها ماريو ,لأنه لا يمكنه ان يتجاهل طبيعة عواطفها إتجاهه .وهذا سيقوي عزيمته على الثأر منها .
عند العصر جاء ماريو يتفقدها .كانت جالسة امام النافذة المفتوحة تتمتع الهواء المنعش .سمعته يدخل ,لكنها لم تقم بأي حركة .اقترب منها ,فشمت رائحة عطره .لاشك انه استحم لتوه
حدثها بصوت منخفض حتى لا تفاجأ.
"قالت لي كارمين انك في تحسن كبير .لكن اذا كنت لا ترغبين بالكلام أعود بعد قليل ."
تنفست ليندا الصعداء وقالت :
"بامكانك البقاء ,اذا شئت .اجلس من فضلك ."
جلس ماريو على طرف النافذة في مواجهة ليندا .توترت ورفضت ان تنظر اليه .ضغطت على معصميها غارزة أظافرها في يدها .
"لا شك انك شعرت بصدمة كي تفقدي وعيك هكذا ...لم تصب الطفلة بأي أذى ,اليس كذلك ؟"
وفي ذعر ادركت انها اهتمت بمصير ماريو اكثر من ويندي ,ارتجفت ,فاسرع ماريو بالقول :
"يبدو انك ستصابين ببرد !هذا الروب خفيف! اتريدين شالا سميكا أضعه عليك ؟"
كتفت يديها فوق صدرها وقالت:
"كلا شكرا ,لا شيء سوى اني تذكرت ما حدث اليوم ..أخافني الحيوان بضخامته ."
"لست وحدك من فكر هكذا ."
"انت تعرف ,أليس كذلك ؟لماذا تخفي علي ..."
اقترب منها بسرعة وسألها
"ماذا تعنين بالضبط ,يا حبيبتي ؟ماذا بإمكاني ان أعرف ؟
"انت تعرف ...اني أحبك ."
ساعدها ماريو على النهوض وجذبها نحوه وقال :
"أليس هناك شيء آخر يجب علي معرفته ؟"
ارخت رأسها على كتفه وراحت تسمع دقات قلبه بوضوح ,انه واثق من نفسه ,ويريد منها خضوعا كاملا ! رفعت ليندا ذقنها وصرخت بوجهه :
"بطريقة او أخرى ,عرفت اني كذبت عليك .ويندي ليست ابنتي ,بل شقيقتي .اردت ان أصيب غرورك فاستعملت هذه الخدعة ...اني آسفة ."
"أيتها الماكرة الصغيرة ,أنت حقا آسفة ."
انحنى فوقها وغمس نظرته اللماعة في عينيها وقال :
"آه,يا حبيبتي ,لقد عاقبتني ...تعذبت كثيرا .لكن كيف باستطاعتي الا أسامحك ,يا حياتي ؟...لا يمكنني العيش بدونك."
عانقا بعضهما بعطف ولم تصدق مدى سعادتها .
همس ماريو في أذنها بحب :
"اني احبك .كنت كالمجنون منذ ليلة امس .امتطيت جوادي ورحت أهيم في الصحراء."
ثم أضاف :
"هل تسامحيني لأني جعلتك تستسلمين لي بالقوة ؟لقد تصرفت بسوء .انت التي كنت عذراء ..."
اذن ,اكتشف سرها منذ ذلك اليوم .لامت نفسها على سذاجتها لأنها اعتقدت ان عدم خبرتها ستمر دون ان يلاحظ ماريو .خبأت وجهها في كتفه .
"اذن لماذا أرغمتني على مصارحتك ,ما دمت تعرف ذلك ؟"
مازال هناك سؤال يحيرها فتحلت بالشجاعة وسألته بخجل :
"كنت صريحة معك وأرجو أن تكون صريحا معي .ما هي نواياك نحو كابريللا؟هل مازلت تراها ؟"
ابتعد عنها بلطف واستغراب قائلا :
"كابريللا؟في حياتي تعرفت على الكثيرات.
كن عابرات كظلال في الليل .انت وحدك ,يا حياتي ,عرفت ان تحتفظي بي ,والى الأبد."
تأثرت ليندا بكلامه وظلت صامتة ثم أرادت ان تمازحه فقالت :
"هل كان يزعجك حقا لو كانت ويندي ..ابنتي ؟"
"طبعا ,كنت أموت غيظا ."
وراحا يعانقان بعضهما بعض.وبعد مرور ساعة ,كانا واقفين أمام باب الشرفة ينظران الى القمر .اطلقت ليندا زفرة ارتياح فقال ماريو :
"اذا ترغبين ان اكف عن ادارة المزرعة ,فسأفعل .في استطاعتي ان أعيل عائلتي الصغيرة ,حتى لو اضطررت الى البدء من الصفر ."
ابتعدت ليندا ثم همست :
"وويندي ..هل تقبل ان تكون جزءا من هذه العائلة ؟"
"احب هذه الطفلة حبا كبيرا وسأظل احبها مثل أولادي .لكن لم تردي على سؤالي ,يا حبيبتي ؟هل تريدين ان أبرهن لك حبي ؟سوف أذهب الى جدي وأقول له اني أتخلى عن جميع حقوقي في المزرعة ."قالت له بلطف :
"كلا.لنفكر بجدك أيضا ...فهذا القرار سيحطم قلبه .ومن جهة ثانية ..."
توقفت عن الكلام لأن ماريو وضع يده على قلبها وأحس به يخفق بسرعة هائلة .لكنها أكملت جملتها :
"...النسر بحاجة الى مساحة كبيرة ليبسط جناحيه في تحليق قوي .سنبني حياتنا في هذا الوادي ,وادي فردوسنا السعيد ."
تمت بحمد الله "