الفصل الخامس
فجأة,دق الجرس معلنا موعد العشاء .تمالكت ليندا نفسها لئلا تهرب .في الحقيقة ,لم تعد تنوي البقاء هنا في المزرعة ,غير ان مواجهة صريحة مع الكونت دون ادريانو أصبحت مهمة حتمية لا مفر منها .عليه ان يشرح لها الامور بوضوح ,وان يتصرف بنبل ويقدم لها اعتذاره ,لأنه رسم لها صورة خاطئة عن حفيده ,بعيدة كل البعد عن الواقع .
هبطت السلالم بسرعة وعصبية .ولما وصلت باب الصالون وقفت مترددة ,ثم استجمعت شجاعتها وقررت ان تفتح الباب وتدخل قاعة الاستقبال.
فوجئت بوجود دون ادريانو وحده .كان مستغرقا في أفكاره يحدق بكآبة .ولما دخلت القاعة وقف يستقبلها .لم تلمح أي اشارات ندم أو تأنيب الضمير .
"أنت رائعة حقا.لي الشرف ان ارحب بك في بيتي واكرمك على مائدتي .من زمن بعيد لم تدخل فتاة جميلة مثلك منزلنا ."
تغيرت تعابير ليندا وخشيت ان تخور عزيمتها وتتخلى عن تصميمها الذي قطعته على نفسها برفض الزواج من حفيده ,مهما كلف الامر .
"هذا لطف منك يا سيدي.غير أنه عليك ان تسامحني اذا قلت لك ان هذه المجاملات وهذا الافراط في المديح الذي تنعم علي به ,يبدو لي عديم الجدوى مثل بعض تصريحاتك الاخيرة "
عدل جلسته وتوارى التغضن المرير عن وجهه وأعلن بصراحة:
"نعم علي الاعتذار منك .ربما كان اخفاء الخطر أخطر من الكذب المتعمد .لكن بانتظار المناقشة بكل هذا , اسمحي لي ان أقدم لك شرابا منعشا .بامكاننا ان نتناول العشاء بعد قليل ."
قبلت ان تتبعه الى المقعد حيث جلست ونظراتها المليئة بالخوف كانت منجذبة تلقائيا نحو الباب .عرف دون ادريانو ما يدور في خلدها فهمس يقول :
"استرخي يا آنسة .حفيدي ليس في المزرعة مساء اليوم .ذهب الى المدينة برفقة بعض الرعاة .ولن يعودوا قبل الفجر وستسمعين ضجتهم الاعتيادية اذا لم يكن نومك عميقا ."
شعرت ليندا ارتياح واسترخت في مقعدها وبين الوسائد المحيطة بها .فابتسم دون ادريان لردة فعلها وقال :
"اذن ,لقد اتيحت لك فرصة لقاء حفيدي ."
اعترتها قشعريرة باردة وقالت :
"ما حدث بيننا لم يكن ما تسميه باللقاء .لقد احتجزني ووسمني للحال كما تفعلون بالماشية ."
كان دون ادريانو منهمكا بتحضير الشراب الذي رفضته ,فقاطعها فجأة وهو مقطب الحاجبين :
"وسمك."
"وسمني مثل أي امرأة سلعة .وبرأي حفيدك ,انا امرأة لا مكان لها هنا ,ومصيرها متعلق بمن اشتراها ,يعني انت ,ايها الكونت ."
قال بغضب :
"لو كان ما يزال صبيا ,لعاقبته على هذا الكلام البذيء ."
"لكنه لم يعد صبيا .الظاهر انه على حق.ان تختار بنفسك امرأة لتزوجها من حفيدك الخجول والمرتاب ,ليس عملا بعيدا عن الخيال.لكن حفيدك يدعى ماري ودي فالديفيا ,وليس ذلك الرجل المرتاب الخجول ! لا يمكنك ان تجهل ان مبادرتك هذه ستجعله يغضب بعنف ؟"
جلس قربها واكتفى باطلاق زفرة عميقة لا شك انه نادم على ما فعله .لكن على ماذا هو نادم بالتحديد ؟على فشل مخططه ,ام على الضرر الذي ألحقه بحفيده وبها ؟
قال بلهجة متوسلة :
"اذا قبلت سماع ما أقوله ,سترين ان تصرفي هو أقل أنانية مما تتصورين ."
"وما الفئدة بعد الآن ؟بعد ما باح به حفيدك ,اصبح كل شيء واضحا.انت مربي ماشية معروف ولا أحد احد ينكر ذلك .لكنك توصلت الى الاقتناع انه بامكانك تحقيق تجاربك على الكائن البشري .غير انك ارتكبت خطأ جسيما ,فيما يتعلق بنا,دون ماريو رجل غليظ وفظ .يرجع كل شيء اليه .وهذا ما أكده اكثر من أي شيء آخر ."
لمع بريق في نظرات دون ادريانو وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه.فوجئت ليندا بردة فعله ونهضت مسرعة ,لكنه مد يده اليها واعلن بلهجة ها دئة :
"سامحيني يا عزيزتي ,لكن سبق وسمعت هذا الكلام من قبل ,ذلك ان المرأة التي اصبحت كنتي كانت تتكلم مثلك تماما .علي ان اقول صراحة اني احتجزتها في المزرعة بنية تزويجها ابني .وابني كان رجلا ذو طباع غريبة .لا يمكن قهره بسهولة ,ولا يختلف عن حفيدي الذي رأيته اليوم ."
ران صمت طويل وتابع يقول :
"لم اختر الفتاة بنفسي .لقد وصلت الى هنا بطريق الصدفة ,لكن, يجب ان اعترف لك انني منذ رأيتها ,خطرت ببالي فكرة .واردت ان اسهلها بتسهيل اللقاءات بينهما ,في البداية كانت تتم في مناخ عدائي .لكني فرحت كثيرا عندما اخدا يشعران تجاه بعضهما البعض بالحنان الذي تحول الى حب كبير .وبالتالي تغير طبع ابني بشكل كلي وعرفا السعادة معا .ولا يمكنني ان اعبر لك بالكلمات ما شعرت به عندما علمت بالماساة .لذلك أرغب من كل قلبي يقدم ماريو ,ثمرة هذا الحب ,على زواج سعيد مثل والده .هذه امنيتي الوحيدة لا يمكنك ان تلوميني ان اقدمت على تحقيق هذه الامنية."
اقتربت ليندا من المدفأة وانحنت صوب النار المتوهجة التي عكست على وجهها الارتباك والحيرة .انها تشعر نحوه بالشفقة ,الكونت دون ادريانو ,ملك المزارعين ,سيتقاعد املا ان تصبح هي ملكة المزرعة .شعرت بالتواء ساخر ومر في فمها ,غير انها حافظت على الوقار عندما التفتت الى العجوز الذي كان جالسا في مقعده منحنيا الى الامام ويده على ذقنه .لم تكن تريد ان تجرح شعوره ,فأعلنت بلهجة متزنة قائلة :
"اسفة يا سيدي ,لكني غير قادرة على قبول ترتيباتك ."
هز رأسه احتجاجا فأضافت قائلة :
"هل فكرت بان النجاح الذي فيما يتعلق بابنك كان مجرد حظ ,وان هذا النوع من التجارب لا يمكنه ان يؤدي الى النتيجة نفسها ؟"
لم يعد يحتمل الشك في قدراته فقال بغضب شديد:
"الطبيعة البشرية لا يمكن ان تتغير ,الاجيال تتلاحق والانسان ما زال ينقل الى نسله العادات والفضائل والعيوب نفسها .في عروقي يجري دم الغزاة الاوائل .فقد ورتث عنهم حب المغامرة ,وكراهية الخوف,والانانية والعنفوان .وكان ابني يتمتع بهذه الصفات واليوم اراها عند حفيدي .ولهذا السبب انا متأكد ان ما اقدمت عليه ليس خاطئا ولا يقبل الفشل ."
قالت ليندا وهي تضم يديها المرتجفتين :
"لكنك نسيتني وانا ارفض الاشتراك في هذه الترتيبات وامل ان تعفيني من تحقيق العهد الذي قطعته .اتمنى العودة الى بلادي باسرع وقت ممكن ."
وضع دون ادريانو كاسه بهدوء وافترب منها بتعال ثم قال بلهجة باردة ومراعية :
"اخشى ان يكون ما تتمنيه مستحيلا ,اذكرك بانه سبق وعقدنا صفقة لا مجال للتراجع عنها .هذه الملابس التي ترتديها ,والمنزل الذي تسكنيه انت وأختك ,دليل قاطع ,ويحق لي ان انتظر منك امتثالا وطواعية ."
توقف لحظة ثم أضاف :
"وكما لاحظت فالمزرعة مقطوعة عن العالم .اذن,لا مجال للهروب و الرحيل .انها اضاعة للوقت.كي تخرجي من هنا عليك ان تاخدي الطائرة .وتلك التي نملكها لن اضعها تحت تصرفك .عليك ان تبقي هنا ,شئت ام أبيت."
اطلقت نواحا عميقا وقالت بغضب:
"بامكانك ان تعتبرني سجينة لديك لكنك لن تتوصل ابدا ان تجعلني اتزوج حفيدك بالقوة ."
اجاب دون ادريانو من دون اضطراب كأن شيئا لم يكن :
"في البداية المرأة التي كانت قبلك كانت تفعل مثلك في جميع تصرفاتها .وردة فعلك هذه تؤكد نجاح مهمتي .لذلك انا مسرور جدا "
القمر يلقي أشعته على سرير ليندا حيث استلقت منذ ساعات بعدما هرعت راكضة من قاعة الاستقبال ,حانقة على الكونت وخائبة لحظها السيء .فقرار الكونت الذي لا رجعة عنه وضعها في حالة حزن وكآبة .والآن تعتبر المنزل سجنا حيث بامكانها ان تتأسف على مصيرها وتندم .
شدت على معصميها وانزلقت تحت الاغطية وراحت تنتحب باكية وتصرخ :
"انا مجنونة .حقا مجنونة ,لماذا لم يخطر ببالي انني بقبول هذه الصفقة ,رميت نفسي في مأزق؟"