كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
الهَدوء يَتَسَرَّب إليهم شَيئًا فَشيء بعد العاصفة التي قَدِمَ بها ناصِر.. على الأَقل ظاهِريًا كان الهدوء جَلي.. لكن بعضَ القُلوب كان يَعتلج بين حُجراتها القَلق.. كَقلب نُور.. وجِنان. نُور بالطَّبع تُفَكِّر بالناجي من خيانة البَحر.. أَمَّا جِنان، فَغِيابُ فَيْصَل أَحاكَ في صَدرها هَواجِس لَم تَكُن سِوى كائنات طُفيلية تَقتات عَلى صَبْرها. نَظَرت لشاشة هاتفها المُرْتاح وَسط حضنها، لا وجود لِرَد على مُكالماتها ولا رسائلها. قَلَبت الهاتف من جَديد مع عروج زَفْرة من صَدرها إلى الهواء.. ثانيتان وعادت ورفعته لتتصل إليه مَرة أخرى. الرَّنين مُتواصل دون جَواب حتى انقطع لترتفع يَدها بارْتباك لِجانب وَجْهها. لَيْلى الجالسة مُقابلها لاحظت حالها.. أَخفضت كوب الشاي مُسْتَفسِرة: جِنان شنو فيش؟ صاير شي؟
نَظَرَت إليها بانْتباه.. ضَمَّت شَفتيها للدَّاخل بقلّة حيلة قَبْلَ أن تُرْخيهما لتُجيب بتردّد: مو صاير شي.. بس فيصل طالع من الصبح وللحين ما رجع
عُقدة خَفيفة تَوَسَّطت حاجبيها: تصدقين ما انتبهت! انشغلت مع نُور وما انتبهت إنه من طلعته ما رجع "سَألتها باهْتمام" ما قال لش وين راح؟
حَرَّكت رأسها: لا ما قال "وهي تَمس جانب جَبهتها بحيرة" وكل ما اتصل له ما يرد.. حتى كتبت له في الواتس اب بس يبين مو داخل من الفجر
ناصر الذي لَفت انتباهه الموضوع عن الجهاز اللوحي الذي كان بين يديه؛ اسْتنكرَ وهُو ينظر للساعة المُشيرة للعاشرة والرُّبع مَساءً: يعني وينه من الصبح للحين! إذا عنده شغل على الأقل يكتب ويخبرش "سَألَ" متأكدة ما قال لش وين رايح؟
أَكَّدت: والله ما قال لي.. أَصْلًا من قعدت من نومتي الصبح ما شفته.. كان طالع أساسًا "كَوَّرت يَدها بتماسك ناقَضَ التَّصدع الذي هَزمَ ملامحها" ما عليه خل يطلع.. من زمان ما طلع.. بس يقول إنّه بيتأخر.. يرد عَلَي.. مو جذي حاقر!
جَنى التي بَثَّ حَديثهم خَوفًا في نفسها البريئة تساءلت بخفوت: بابا شنو فيه؟
أَجابتها جِنان بمحاولةٍ لاحتواء خوفها وتَبديده: ما فيه شي ماما.. بس ننتظره يجي
جَنى التي كانت تجلس على يَسار عَمَّتها نُور تُلاعب الصغير وتتأمله؛ التَفت لها جُود بابْتسامة وهي تُمسك هاتفها وتقول: أفا عليش جوجو اللحين بتصل له وبزفه.. ليش جذي يخلي بنته تخاف عليه
ابتسمت الطفلة بخفّة في الوقت الذي رَفعت فيه جُود هاتفها لأذنها.. عَلا حاجِباها بعد ثواني مُسْتنكرة: سوَّاه مشغــول!
قالَ ناصر بعصبية طَفيفة: يعني يا يرد يا يرجع.. شهالحركات بعد! كلش مو ناقصين
لَيلى التي بَدأ يتكاثر القَلق في جَوْفها على ابنها قَبَضَت على فخذه وهي تهمس بعينين تُشيران لجَنى: اهدا ناصر.. لا تخوّف جَنى
رَدَّ بنبرة الصوت ذاتها وبملامح مَعقودة: شلون اهدا وهو حضرته له جم شهر منقلب حاله؟ شدراني في هالليل هو شوضعه!
نَهرته ونبضها يتحفّز: لا تقول جذي.. إن شاء الله ولدي ما فيه إلا العافية
التَجأت جِنان لهاتفها مُجَدَّدًا: بشوفه مرة ثانية يمكــ
قاطَع جُملتها صَوْت المِصْراع الذي كان يُفتح في الخارج.. التَفتت لنور التي قالت بهدوء: صوت الشَتَر.. يعني وَصل
شَبكت جِنان كَفَّيها اللتين جَمَّدهما كُل من القَلق والانتظار.. شَدَّت عليهما وهي تتنفس بفمٍ مَفتوح.. تَركت الهاتف جانِبًا ثُمَّ وَقَفت وأَلمٌ يَتَمَكَّن من ساقيها إلى قَدميها.. وكأنَّ عظامها استوت حَديد يَطرقه الأَلم. خَطت ناحية المَدخل ببطء وهي تَسْتشعر تَمركز الثِقل كُلّه في يسار صَدرها.. فَوْقَ ذلك المخلوق النابض.. ازْدَردت ريقها عندما تَجَلَّى أَمامها بصورته الكاملة.. بصورته السليمة.. أسدلت الرَّاحة جِفْنيها وزَفيرٌ مُشَبَّع بنصف قلقها غادرَ صَدرها.. زادت من سُرعة خطواتها وهي تُعاتبه بزعل: فيــصل إنت ويــنك.. خَوَّفتني عليــ
شَهقة خافتة فَرَّت من حنجرتها على إثر احتضانه المُفاجئ لجسدها.. فهو أحاطَ خصرها بكلتا يَديه وبحركة خاطِفة رَفعها لمُستواه مُقَرَّبًا وَجههُ منها ليُقَبِّلها.. إلا أَنَّها تَداركت الأمر على عَجل وأَطبقت يَدها على فَمه بعينين تنضحان بالصَّدمة؛ في اللحظةِ التي صَرخت فيها جُود وهي تُشيح مُغمضة: فيــصلــوووه يا قليــل الأدب
تَطَلَّعت لعينيه بعينيها المُتَّسعتين تطلبان منهُ تَفسيرًا للحركة غير اللائقة التي كان سيقوم بها، هَمست باسْتنكار
والموقف المُحرج تَسَلَّقت حرارته وَجهها: فيــصل شفيــك!
نَقَلَ بصره من وجهها المُحْمَر للجالسين خَلْفها.. ابتسمت شَفتاه من وراء يدها وهُو يَهبط بها للأرض.. أَخْفَضَ يدها ثُمَّ أحنى رأسه مُقَبِّلًا خَدَّها بخفّة قَبْلَ أن يتجاوزها إليهم.. كانت والدته تنظر لهُ بابْتسامة جانبية وحاجب مرفوع.. أما والده فَقد وَبَّخه ببرود: شفيك إنت نسيت نفسك! ما تستحي على وجهك!
تَنحنحَ بإحراج وبظاهر سَبابته مَسَّ أسفل أنفه وهُو يَقول ببحَّته: اعذروني ما انتبهت
جَلَسَ على الأَريكة بجانب ابنته وهُو يَضمها إليه وجُود عَلَّقَت: نعيمًا
اتَّسَعت ابتسامته وبيديه مَسَح على شَعره الذي قَصَّره بالطريقة التي اعتاد عليها.. ولحيته التي خَفَّفها. التَفتَ لوالدته التي تَساءلت: وينك من الصبح؟
أَجاب بعدَ أن استنشق نَفَس عَميق: والله رحت واجد أماكن.. رحت البنك أشوف الشغل اللي قطعته.. رحت حلقت مثل ما تشوفون.. رحت الجيم.. وو
ابتَسمَ وعيناه ترنوان لِجنان التي لا تزال واقفة حيثُ تَركها، تَتأمَّله على وقع طُبول نَبضاتها المُحتَدِمة. ازْدَردت ريقها الجاف من نَظرته المُبَطَّنة برسائل عدّة اسْتصعبَ عليها فَك شيفراتها.. كانت تُريد أن تسأل عن معانيها لكن الخَجل إلى الآن لَم يُحرِّرها. حَرَّك بصره منها إليهم عندما استفسرت والدته: ووشنو؟ شفيك سكت؟
بَلَّلَ شَفتيه ثُمَّ أَجابَ بهدوء مُشَرِّعًا أَبواب السَّماء في صَدر جِنان: ورحت المحكمة وانفصلت عن ياسمين
ارْتَفعَت حواجبهم بمُفاجأة وجود عَقَّبت تلقائيًا بَفرح: وأخيـــرًا
شَزرها والدها فانكمشت في مكانها دون أن تمنع ابتسامتها من أن تطال عينيها.. تساءلَ الوالد بجديّة: شنو صار بالضبط؟ ومن متى مقرر هذا القرار؟!
أَجابَ بتحفّظ: التقينا وتفاهمنا وشفنا إن هذا القرار الصح.. ارتباطنا كان غلط والحمد لله طلعنا بأقل الخسائر
أَنهى جُملته تَزامنًا مع مُغادرة جِنان للأعلى.. تَعَلَّقَ بَصره بطيفها وذاكرته تعود به لتلك الليلة.
،
وَصَلَ للشقة حيثُ تَنتظره.. عندما دَخل هاجَمهُ شُعور الغُربة.. شُعور عدم الانتماء.. وكأنَّهُ جَذْر باغتَتهُ الحَياة وحَملته على جنحي هوائِها وأَلقته في أَرْضٍ لَيست أَرْضه وأجَبرته على التَّكيف معها. لكن فَيْصل.. لِنَكن صادقين.. أو لِتَكن أَنتَ صادِقًا مع نَفْسِك.. هَل فعلًا الحياة هي التي اقتلعتكَ من أَرْضكِ لأخرى لا تنتمي إليها؟ أَم أَنَّك أنتَ الذي تَشَعَّبت إلى أَرْضٍ أُخرى وأنتَ تعلمُ يَقينًا بعدم قُدرتك على البقاء بين تُرابها.. فهي في النهاية ليست أَرْض الجِنان وإن تَسَرْبَلت بالياسَمين. بَعدَ أن سَلَّمَ بخفوت جَلَسَ أَمامها دُون أَن يُدني بطرفه إليها.. وهي كذلك.. بَقِيا لأكثر من خَمسِ دَقائق يُحَدِّقان في الأَرْض التي تَحَوَّرت إلى كِتاب حَوى قِصَّتهما.. مُنذُ أَوَّل لِقاء حتى هذه اللحظة.
: كنت من البداية أنـ ـا
رَمَشَ بانْتباه ثُمَّ رَفَع رأسه إليها.. كانت لا تزال تُشاهد الأَرْض بعينيها الرَّطِبَتين. كَرَّرَت وهُو يُنصت لكلماتها باهْتمام: أنـا اللي تسبَّبت بهذا الخَراب "ارْتَفَعت من قَلْبها تَنهيدة مُرْتَجِفة وهي تُكْمِل" احتجت فترة طويــلة.. وشجاعة كَبيرة.. عشان أقدر أقتنع بهذي الحَقيقة وأعترف بها "وبلوعة طَغت على نَبرتها حتى أغارت كلماتها" أنا حبيــ ـتك بكل ما فينـ ـي "رَفعت البَصر إليه مُواصِلة بحَسرة" وإنت ما حبيتنـ ـي بكل ما فيك
أَغْمَضَ وملامحه تهترئ أكثر من ذي قَبْل.. هَمَسَ بلَحْنِ اعتذار ضَجَّ بين جَنبات رُوحه: والله ما قصدت جرحش.. والله
تَنَشَّقت وبظاهر كَفّها مَسَحت إحْدى الدَّمعات المُشاغبة خَدَّها الزَّهري وهي تُعَقِّب: أدرري.. إنت جرحتني بس ما كان قصدك تجرحني.. أنا تسبَّبت في جرحك لي بغبائــ ـي "عاتبته والعَين تَذرف نَدمًا عَتيقًا للتو يَصحو من سُباته" ليـش حَزَّتها ما صديتني؟ ليش سمحت لي أنجرف معاك؟ ليــش استغليت حبّـي لك عشان تقهر زوجتك وتشعلل غيرتها؟ ليش فيصل؟ ليــــش؟
انْحَنى ظَهره ويداه التجأتا لشعره تنثران بعضًا من ارتباكه.. زَفَرَ بحرارة ناتِجة عن الأوار المُشتعلة لِزَمن داخله قَبْلَ أن يُجيبها باسْتسلام: لأنّي جبان.. خفت أواجه مُشكلتي معاها.. مع جِنان.. خفت من الوَجع اللي مُمكن تخفيه كلماتها.. خفت فيصل الواثق من نفسه ينكسر.. الانكسار شي مُرعب بالنسبة لي.. وإنَّ يكون من جِنان.. فهذا كان صعب عَلَي.. واجد صَعب "وبمرارةٍ من ذاته وعليها" وللأَسف.. بعد اللي صار بيني وبينش.. تقوقعت على نفسي ورضخت لجبني وما حاولت أصَلّح الأمور "تَشَدَّق ساخِرًا من نَفسه" إنتِ كنتِ أشجع مني.. اتخذتين هالخطوة عشان نتفاهم
مَرَّرت عَدستيها على وجهه باسْتغراب لَم يُلاحظه هُو المُشيح بعينيه.. كانت تظن أَنَّهُ على عِلم بقدوم جِنان إليها.. لكن الآن اتَّضحَ لها أَنَّ لا خَبر لَديه. مَرَّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تَنطق بصعوبة والكلمات تَخِز قَلْبها المُنهَك: احنا اثنينا غلطنا.. اثنينا استغلينا هالعلاقة لأمور تخدمنا وتشبع طمعنا.. راحت مننا شهور.. وأنا.. أنـ ـا مو مستعدة إنّي أخسر بعد.. أي يوم زيادة
تَصافقت أهدابه وشَخص بَصره المُتعلّق بكفّيه المُتشابكتين.. اضطربت أَنفاسه وَقَلبه تَحَفَّز لِما بَعد هذه الجُملة.. نَظَرَ إليها ونَبضاته تَملأ دواخله من سُرعة توالدها.. تَساءَل بتردّد يقف على عَتبةِ الأَمل: يَعــني؟
انشغلت في مُقاومة الشَّهقات المُتكوّمة في حَلقها.. مما أَدى لانتصار الغَمام المُتَكتل فَوْقَ عَيْنيها؛ فارْتَطَمت الدَّموع بخدَّيها وهي تُجيب لِتَقطع خَطيئة حُبِّها من رَأسها: يعنـ ـي.. صار وقت.. انفـ ــصالنـ ـا
,
هَرَبت إلى الشقة.. لَم تَسْتطع أَن تَقِف بَعد الذي نَطق به.. أَحسَّت بأنَّها سَيُغشى عليها من رَوْعة الخَبر الذي هَبَطَ عَلى رُوحها كَقَمَرٍ مُنير في لَيْلة مُظْلِمة.. أو كَشمسٍ دافئة بعد عَصْرٍ من جَليد.. أو كمَطَرٍ زلال يَغمر الأَرْض مُنْهِيًا يَبابها. احْتضنت وجهها المُشْتَعِل كَجسدها من شِدّة انفعالها.. دائِمًا ما كانت النار وحَريقها مُوْجعَيْن.. لكن الآن.. الآن هي تَشعر بلذّة هذه النار.. نار تتقد بحماسٍ وتنتقل بين دمائها بمُتعة. أَغْمَضت وهي تَبْتسم بسعادة لا حدود لها وجواها يُرَدّد مع كُل نبضة.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله. أَزاحت جِفْنيها بخفّة عندما أَقْبَلَ عَليها. ارْتَعَشَ كَيانها لِحضوره.. فلقد كان هُو.. هُو فَيْصل.. ذاك الذي أَحَبَّته.. وكأَنَّهُ عائدٌ إليها من حَرب خاضها مع ذاته.. حَرْبٌ خَضَعَ في نهايتها مُفْسِحًا المَجال لذاته بأن تُقَيَّد بها.. أكثر وأكثر. ابتسمت إليه ورائحته التي عَطَّرت جَوْفها قبل قَليل ها هي تَمشي إليها معه. تَوقَّفَ أَمامها دُون أن تُفارق عَيناه عَيْنيها.. وقَبْلَ أن تنطق بحرف.. انْحنى إليها مُسْتَهِلًّا القُبلة التي مَنعتها. ابتعدَ بعد دقائق ليُعانق مُقلتيها الهائمتين فيه.. هَمَسَ ببحّته الجذابة ضاحِكًا: صرت أقدر أميّز دموع الفرح
ضَحكَت وهي تحتضن وجهه بكلتا يَديها والدموع بلا إرادة منها تنهمر.. هَمست لهُ بجذَلٍ وسعادة وامِضة: خــلاص.. انتهى التعب؟
أَكَّدَ بانْشراح وأنفه يُداعب أنفها: انتهى التعب حَبيبتي.. انتهى التعب جِناني
,،
مُذ دَخلَ جَرت إليه ودُموع الاغتباط تنسكب على وجهها المُبْتَسِم بفرحة مَبتورة.. احْتَضنته وهي تهمس بكلمات مُرتعشة: شــفــ ـت.. شفت عبّود.. دم عمّـ ـار ما راح هَدر.. دَم حَبيبي بو عبد الله ما راح هَدر.. القاتل بياخذ جزاه.. والدنيا كلها عرفت إنّ عَمّاري مات في سبيل وطنه.. شــفـــت؟
احتضنها بدوره وهو يرد بابْتسامة: اي يا عُمري شفت.. وعزيز اتصل وخبرني.. وقريب راح يعدمون القاتل
أَغمضت ولسانها يَلهج بهَمسات الشُّكر والحَمد لله.. رَفعت رَأسها تَسأله: دريت عن طلال
هَزَّ رأسه: اي.. كلمني رائد.. وأنا اتصلت لطلال وتطمنت عليه
أَبعدها عنهُ قَليلًا وبقي يُحيط كتفها بذراعه عندما اقتربَ منهما والداهما.. سَلَّمَ ثُمَّ أَطْرَقَ لنصف دَقيقة قَطعها سؤال والده: يُبه عبد الله في شي؟
تَنحنحَ مُسْتَعِدًّا لإطلاق قُنبلته التي سَتربكهم.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه قَبْلَ أن يَرْفعَ عينيه ليقول بثباتٍ ظاهري: أنا قَرَّرت أسافر مع زوجتي أمريكا.. باجر الصبح طَيَّارتنا وراح نستقر هناك.. على طول
شَعَرَ بتصلُّب جَسد شَقيقته الذي أَعقبهُ ابتعادها المادي عنه.. لكنّه لَم ينظر إليها.. فهو كان يُصارع مُحاولة انحراف بَصره عن وجه والدته الذي شَحِب.. وَوجه والده المأهول بالاستنكار والذي نَطَقَ بعلو: شنو هالقرار المُفاجئ! خططت لكل شي ورتبت.. واللحين جاي تقولها لنا جذي.. بكل برود.. جنه الشي عادي.. ما جنك بتهاجر لآخر الدنيا من غير حتى ما تشاورنا!
أَخفضَ بصره وهو يَرد بخفوت: يُبه أنا آسف.. مو قصدي أتجاهل وجودكم.. بس أدري إنكم ما راح توافقون لو قلت لكم.. وأنا أحتاج.. أحتاج هالابتعاد
هذه المرة غيداء هاجمته من بين غَصَّاتها المُتراكمة وسط حلقها: ابتعـ ـد.. روح أي مكان تبي لفترة.. لا تشوف رقعة وجوهنا لين ما ترتاح.. بس مو تسافر أمريكا.. لاا وبعد يا ليتها سفرة.. إلا هجـ ـرة!
كَرَّرَ وعيناه تعودان للوالدين: آسف "اسْتطرَدَ" أنا جاي أسلم عليكم
تَمتم والده وهُو يَمسح عن وَجهه آثار صَدمته: لا حول ولا قوة إلا بالله "التَفتَ لزوجته بلومٍ مُبَطَّن" قولي شي يا بلقيس.. قولي شي يا أمّـــه
كانت تنظر لعبد الله باسْتقامة كان انعكاسها انحناء.. وعَيْناها المُتَوَسِّعتان التَمَعَ وَسطهما دَمْعٌ كان يُهَدِّد بالانقضاض على وجنتيها.. لكنّها تماسكت.. بصعوبة بالغة تَماسكت لتنطق بنبرة هَزَمها النَّشيج: خـ ـ ـلاص.. عفتنـ ـا يا عبد الله
ازْدَرَد آلامه ليقول: يُمّـه.. ترى أنا سامحتش.. إذا كان هذا بيريحش.. فتأكدي إني سامحتش
ابتسمت بأسى مُتَهكِّم: بـس على الرغم من سماحك ما تقدر مو بس تشوفني.. ما تقدر حتى تقعد معاي في نفس الديرة
تَراجعَ للخلف خطوة ولسانه لَم يَبرحه الاعتذار: آسـف.. بس ما أقدر.. والله ما أقدر
قالت وهي التي لا وجه لها لتُطالبه بالبقاء: على راحتك.. روح ارتاح واترك وراك عايلة مَذْبوحة
زَمَّ شَفتيه بضيقٍ اعتلج في صدره مع بِحار آلامه.. العَجز يُكَبِّله.. هُو حاديه.. هُو الذي يُقَرِّر عنه.. فلا دَخلَ لعبد الله الذي يُقَدِّس العائلة. حَرَّكَ رَأسه.. نَظَرَ يَمينًا.. لتلكَ الشقيقةِ نَظر.. لَم تَهنأ بفَرحٍ مُسْتَمِر أَبدًا.. ها هَي العُتمة تعود لتطرد ما زارها من ضياء.. عاتبتهُ بالعينين.. أأهون عَليك؟ أتهون هذه الشقيقة الوَحيدة؟ أَقادرٌ قَلْبكَ على فراقها وفراق طَيريها؟ ستحرقني الشَّمس من بعدك أخي.. سَتكويني وسَتُذيب قَلْبي من الانتظار.. أوليسَ أنتَ الظِّلال؟ وعَضُدكَ ذاك، كَيفَ سيواصل الحَياة دون سِوار أصابعي؟ لَم تَكُن بهذا الضعفِ عبد الله.. لا يُليق بكَ هذا الانهزام.. ولا يُليق بكَ غير بياض السَّلام.. لا راية الاستسلام.
,،
ما الأُم؟ رَحْمٌ بسُكنى تسعةِ أَشْهُر؟ رُوحٌ باتّساع أَرْواح؟ أم قَلْبٌ بحُبٍ خُرافي لا يَخضع لأي قاعدة؟ من هي الأُم؟ يُقال الأُم هي التي "رَبَّت" لا تِلك التي "أنجبت".. لكن.. أليسَ هذا إجحافٌ في حَقٍّ تِلكَ التي حَملت جَنينها وَهْنًا على وَهن؟ لكن أَيضًا.. تِلك التي رَبَّت، تَضحياتها لا يَسعها الكَوْن ولا يَسْتوعبها. فإذن.. المُقارنة هُنا قَد تكون مُعَقَّدة وظالمة في أحوالٍ كَثيرة. لذلك يُفَضَّلَ ألا يُسْأل هذا السؤال.. على الأَقل أمام الأُمَّين.. التي رَبَّت.. والتي أَنجبت. بَحثَ عنها كثيرًا.. لِدقائق بَحثَ عنها إلى أَن وَجدها عند المَسْبح.. واقفة عَلى بُعد خطوتين منه.. تَتَأَمَّل سَطحه الشَّفاف وبذراعيها تَحْتضن نَفسها.. وكأَنَّها تَعيشُ شِتاءً نَفسي.. تُصارع لَسعات جَليده بينها وبين ذاتها المُحتفظة بآثارٍ للسعاتٍ سابقة. تَقَدَّمَ إليها.. اسْتَقَرَّ خَلْفها مُلْصِقًا صَدره بِظهرها.. وبذراعيه أحاطها؛ هُو الرَّبيع المُتَعَكِّز على فُتات يَنعه. هي ما أن أحاطتها لَمسته الدافئة وأنفاسه العَطِرة؛ حتى طالتها رَعْشة خَفيفة ذَكَّرت رَئتيها بالتنفس.. فارْتفع صَدرها لتنفذ منه شَهْقة قَصيرة تُشْبه تلك التي تُفارقه بَعد النَّجاة من الغَرق. انكَمشت في حِضنه ويداها تَشُدّان على ساعديه، وبِهَمسٍ لهُ لَحنٌ كَئيب ومُنحنٍ بخَيبة: أَحس إنّي قسيت عليها بكلامي
ضاعفَ من احتضانه إليها يُخبرها بأنَّهُ معها.. سَيسمعها ويفهمها. تَنَهَّدت وهي تُرجع رأسها للخلف ليستند إلى كَتفه.. وذاكرتها تعود بها للساعات الماضية.
،
اللقاء الأوَّل بَعد الحادِثة.. اللقاء الأَول دون أن يُطْبِق على أَنفاس الاثنتين ثِقل وجود سُلطان.. لَم تتسنى لها مُقابلتها في المَشفى بعد إفاقتها من الإغماء.. فبعد أن طَمأنهم الطّبيب.. غادرت مُباشرة برفقة يوسف وملاك.. دُون أن تَسَأل عنها.. عن هذه الأُم.. فاتن. قَبَضَت يَديها فَوْقَ فَخْذيها المُتلاصِقَين.. كانت بحركتها هذه تُحاول أن تُسَيْطر على رَجفتها التي أَبلت حَواسها.. لكن بلا فائدة.. فالرَّجفة تتضاعف ثانية بعد الأخرى.. وكأَنَّ سَماء راعدة قَد احتكرتها. أَغمضت وهي تَشد أصابعها المُحْمَرَّة.. ومن فَمها كانت تنفث زَفرة ساخنة من بين شَعب الزَّفرات التي أَحرقت جَوْفها. ازْدَردت ريقها وهي تَشعر ببخارٍ يَعلو من جَسدها المأهول بالعَرَق.. فَتحت عَيْنيها قَبْلَ أن تَرْفعهما للأُنثى الباكية.. الأُنثى الغريبة.. الأُنثى التي تَتشارك معها بعضًا من ملامحها.. وبعضًا من كروموسوماتها.. دمائها.. ورُبما أمراض وراثية لا تعلمها. هذا من الناحية التكوينية. أما من ناحية المَشاعر.. من ناحية القَلب ونبضاته.. العَقل وأفكاره.. الرُّوح وأحاسيسها.. الذاكرة وماضيها.. الدفء والحَنان والحُب واللطف والقلق والخوف والارْتباط العاطفي.. كُل ذلك يُشَكِّل صَفحات فارغة في كِتاب الأُم.. التي أَنجبت. لا تَشعر ناحيتها بأي شعور.. بأدنى شعور. فَأنتَ إما أن تَحب إنسانًا وإما أَن تَكرهه. لكن أُولئك الذين لا تملك لهم ذاكِرة خاصة في عقلك تحتفظ بلحظاتكم معًا.. ولَم يَسْبق أن تَلَهَّفَت شَوْقًا لهم.. ولَم تَمُت إحدى نَبضاتك في سَبيل الخَوْف عَليهم.. فإلى أي فئة يُصَنَّفون؟ لِفئة الناس الذين لا حُب لَهم ولا كُره عَليهم.. ما يعني أَنَّهم لا شيء.. أي أَنَّها هي.. أُمّها.. فاتن.. هي لا شيء!
نَظَرت لوالدتها التي قالت بمَلق: يُمّه حُور كلمي أمش.. سولفي معاها.. المسكينة جاية تتطمن عليش
أَطالت النظر دون أن تَتحرَّك أهدابها وفي عقلها الأفكار تحوم بشعواء دون أن تلتقط فِكرة واحدة. دقيقة ومن ثُمَّ حَرَّكت عَدستيها لفاتن.. تَطَلَّعت إليها وهي تَتَأمَّل خرائط الدَّمع المرسومة على وَجْنتيها.. عَيْناها الداميتان.. اللتان تُناديانها بهمسٍ مُتردّد.. ورَجفة رُوحها المُتَّضحة في أَنفاسها المُتذَبذبة. رَشَّحت صَوْتها.. حاولت.. فعلًا حاولت أن تُخرِج صَوْتها رَقيقًا.. لكن وعلى الرغم من مُحاولاتها.. ارْتَفَعَ من حنجرتها صَوْتٌ فَج.. لَهُ أطراف جارِحة: أنا بخير.. بس.. أَنـا.. آسفة.. سامحيني.. بـس.. ما أقدر.. أتقبلش بسهولة "شَدَّت يَديها وهي تَرى كيف لُطِمَ وَجه فاتن بصدمة.. لكنّها أكملت بغصّة وعيناها تُرسلان لها نظرات قِلّة الحيلة" أنــ ـا مثلش... كنت ضحية.. بس أنا ما كنت في عمر كنت أقدر أفهم فيه اللي حواليني.. "أشارت لوالدتها" ما استوعبت الدنيا إلا وهذي أمي.. وهي فعلًا أمي.. ما يهمني دمي يتطابق مع دم من.. لأنّي ما عرفت أم غيرها.. وهي ما عرفت بنت غيري.. وثنتينا مارسنا أدوارنا بأحسن صورة.. مشاعرنا كانت لبعض.. ما أقدر في يوم وليلة أحوّل هالمشاعر لإنسانة غيرها. أنا عمري تسعة وعشرين سنة.. وسنين عمري كلها مرتبطة بهذي الأم.. من ناحية ذكريات ومشاعر ومواقف "كَرَّرت" أنا آسفة.. بس ما أقدر أكون لش البنت اللي تبينها.. لش احترامش.. ولش الحق إنش تشوفيني وتكلميني.. وتعامليني بمثل ما تحبين.. بس أنا ما أقدر أقابلش بالمثل.. ما أقدر أمثل دور البنت.. يمكن في المستقبل تنبت في قلبي محبة لش.. بس مُستحيل تاخذين مكان أمي.. لأني ما عرفتش كأم.. إنتِ شخص غريب بالنسبة لي "وَقَفَت وجفناها يرتخيان هَرَبًا من سَطْوة البؤس الذي قَرفص على ملامح فاتن المخذولة.. أَرْدفت ببحّة والدموع تنهمر على خَدّيها بضجيج" أنـا كلش آسفة.. بس ما أقدر.. والله ما أقــ ـدر
ومن ثُمَّ أطلقت العنان لقدميها فارةً من المَجلس؛ كَقاتِلٍ ذَبَحَ الأَمل الوحيد الذي كانت تقتات عليه رُوح أُم ثَكلى.
,
تَقَوَّسَ كَتِفاها من ثِقل جَبَلِ البُكاء الذي حَطَّ فَوْقهما.. ناداها بحَنان وهُو يُمَرِّر باطن يده على ذراعها الباردة: حُور يا عُمري
استدارت إليه بوجهها الصارخ فيه الضَّياع.. ومن بين عَبراتها قالت: أحس إنّي جرحتهـ ـا.. جرحتها يُوسف.. والله.. والله حسيت وكأني رَميتها من السما لين الأرض.. من غير أي رَحمة "أَشارت لنفسها تستجدي تَفَهّمًا" بس أنا ما أعرفهـ ـا.. ما أحس ناحيتها بولا شي.. ولا شــي
احْتَضَن وَجْنتيها بِكَفّيه وهُو يُخفض رَأسه ليُقابل بوجهه وَجهها المُتَوَرِّم من البُكاء.. وبهمسٍ مُطبطب هَمسَ: حُور حبيبتي إنتِ.. لا تفكرين بهالطريقة.. إنتِ اللي سويتيه صح.. كلامش صَح.. وهي أكيد راح تتفهمش.. أكيد راح تنصدم في البداية وبتحس بضيق.. بس بعدها بتتفهم وضعش.. صدقيني.. الغلط إنّش تجبرين نفسش تبحرين معاها في علاقة تدرين إنها جذب ومجاملة وشفقة.. واهني يمكن صدق تزعل عليش لأنش عيشتينها في وهم "احتضنها مُرْدِفًا وكَفّه تَمسح على شَعرها المَسْدول" لا تقسين على نفسش ولا تلومينها.. إنتِ معذورة.. موقفش صعب.. لا تحاولين تضغطين على نفسش خوفًا من إنش تجرحينها.. ولا تحاتين "ابتسمَ بحُب هامِسًا بعذوبة" حُور أَرَق من إنها تجرح أحد "أَبعدها قَليلًا ليُعانق عينيها بعينيه ناصِحًا بلُطف" إنتِ اللي عليش حبيبتي إنش تمشين خطواتش بهدوء.. خطوة بخطوة.. لا تستعجلين مشاعرش.. أكبر خطأ إنش تطالبين مشاعرش بفوق طاقتها.. النتيجة جدًا سيئة.. واهني احتمالية الجرح تكون كبيرة
هَزَّت رَأسها وبحديثه هذا استوعبت أَنَّهُ قَبْلَ أن يَنصحها، كان يُعرّي ذاته التي أَرْداها ضياع المشاعر حتى اضطربت. أَخذت تَمسح دُموعها وهُو ساعدها بيديه.. قالت وهي تُشير للمنزل: خلنا نرجع البيت
هَزَّ رَأسه وأحاطَ كتفيها ليمشي معها للداخل.. ضَرَبَ على جَبينه وكأنّه تَذَكّر: نسيتيني شنو كنت أبي أقول
التفتت إليه مُتسائلة: شنو؟
ابتسمَ بسعة: ملاك وافقت على محمد والليلة العقد
شَهَقت وقدماها توقفتا عن المشي وهي تهتف: احـــلف
ضحكَ: والله.. بس عاد من غير عرس ولا فستان
تَهَدَّلت ملامحها بإحباط: ليــــش عاد
ارْتَفعَ حاجبه وابتسامته تَميل: أحس إن السالفة عنـــاد
عَقَّبَت بغيظ: ما تكون ملاك إذا ما عاندت
,،
يَدهُ قابضة عَلى جانِبَي المَقعد بقوَّة نَفَرت بسببها عُروقه واحْمَرَّت منها مَفاصله.. كان يَضغط على مَسْنَدي الذراع وعَيْناه تُحَدِّقان في ساعده وجُملتها الأخيرة تَطِن عند أَذنه.. تَنخر في رأسه.. وتَلْتوي كحِبال حَوْل قَلْبه. أَغْمَضَ وهُو يَكِز على أَسْنانه لِيَظهر لهُ من خلف سِتار عَيْنيه وَجهها والدَّموع تُبَلِّله.. ارْتَجفَ فَجأة وَوجْهي طَيْراها يُباغِتانه.. نَظرة والدته الكَسيرة.. وخُطوط التَّعب المَحفورة على جَبين والده. أَبهذه البساطة يَتخلى المَرْء عن عائلته؟ أَبهذهِ البَساطة يَتَمَكَّن من أَنفسنا النُكران؟ نُكران تِسعة أَشهر وسنين من الصَّبرِ على التربية.. نُكران ليالي السَّهر وساعات الخَوْف من خَطَرٍ أو مَرض! ما بِكَ عبد الله؟ ما بِكَ سَلَّمتَ حَياتك لِيَدِ ريحٍ عابِثة؟ كَيْف اسْتَطَعت أَن تنحني للاستسلام بكُل سهولة؟ بل كَيْفَ سَمحت للاستسلام بأن يَهزمك! أَيُعَقَل أنَّ هذا أنت؟! عبد الله الذي لو سَقَطَ لَاتَّكأ على الأَرْض وهي مأهولة بأشواكٍ مُعَرْقلة ونَهض.. يَمسح الدَّم ويَمضي في طَريقه واليَقين في قَلْبه يُوَجِّهه لخلاصٍ أكيد.
: عبد الله شفيك؟
التَفَتَ بجانب وَجْهه ناحيتها وهي سَألت من جديد بقلقٍ من ملامحه: شفيك عبد الله؟ وجهك مو طبيعي!
لَم يُجِبها.. هُو أَخذَ يَتَنَقَّل ببصره على الرُّكاب الذين إلى الآن يَدلفون للطائرة باحثين عن مقاعدهم.. أَلقى نظرة على المُضيِّفات المُهتمات بالتنظيم.. قَبْلَ أن يَنظر لزوجته الحائمة حَوْل ملامحها علامات الاستفهام. وَجَّهَ بَصره للأمام ويَداه تُضاعفان من قَبْضهما.. قَبْلَ أن يَرْتفع صَدره كاشِفًا عن استنشاق عَميق أعقبهُ زَفيرٌ أعمق.
نادته: عبد الله!
وَثَبَ واقِفًا وهو يَنطق بكلمة واحدة: قومي
علا حاجِباها بتعجّب: شنــو!
كَرَّر وهُو يَلتقط حقيبة الظهر من الخزانة العلوية: قومــي
تَساءلت وهي التي لَم تفهم: ويـــن!
بجديَّة تامة أَرْهبتها وأجبرتها على الارتجاف داخليًا: راح ننزل.. خلاص ما في سفر
جاءت لتطلب تَفسيرًا لكنّه أَمسك بيدها وأوقفها لِيَجرّها من خلفه دون نقاش. وعند باب الطائرة حَدَثت مُشادات بينه وبين المُضيفة ومُساعد قائد الطائرة إلا أَنَّه استطاع في النهاية الفرار إلى الخرطوم حتى خَرج إلى قاعة المطار.. لَم يَسأل عن الحقائب ولَم يفَكِّر فيها حتى.. كان فقط يُهرول وهي من خلفه.. يَدها في يَده.. وقدماها تُحاولان ألا تتعثران من مَشيته السريعة. هُو كان يَمشي وكأنَّهُ سَهمًا يَطير إلى هَدفه.. إلى موطنه.. إلى عائلته.. إلى أصْله. كان سَيُسافر هَرَبًا من سَطوة الوَجع الذي استحكم منه.. وللتو.. وهُو على مَقعدِ الطائرة.. اسْتوعبَ أَنَّ بسفره أو بهجرته؛ هُو سَيسْلخ ذاته عن انتمائها.. أَي أَنَّهُ سَيعيش بين غَياهب وَجَعٌ أزلي.
,،
تَلَفَّتَت وهي تَتَفَحَّص بعينيها المَساحة الشاسعة التي أَرْكَن فيها السَّيارة.. رَنت إليه بشكٍ يَملأ عينيها، والجواب يَعترك في حَلقها إلا أَنَّها أرادت أن تتأكَّد: هذي.. أَرْضك؟
ابتسمَ ويَداه تَنخفضان عن المِقْود، وبهمسِه المَبحوح أجاب: لا
عَقَدت حاجِبيها وهي تُدير النظر من جديد إلى المكان، قَبْلَ أن تعود إليه وباستنكار: بس نفس المنطقة!
هَزَّ رأسه بالإيجاب: اي صح.. بس هذي مو أرضي "وابتسامته تتسع لتصل إلى عَيْنيه لتلتمع وسطهما" هذي أرضنا كلنا.. أنا وإنتِ وجَنى
ضَحكَت وهي تستوعب مقصده: أعترف إنّك خوفتني وخليتني أتحبط شوي.. شكيت إنّك بعتها من غير ما أدري
ضَحكَ: ما استخفيت للحين
جَنى التي كانت تتكئ بساعديها على مَقعديهما تَساءلت: بابا يعني هذا بيصير بيتنا بروحنا مالنا؟
أَكَّد: ايــه حَبيبتي "ونبرته يَغمرها التشويق" وراح تكون غرفتش كبيـــرة.. أكبر من الغرفة اللي في بيت بابا ناصر
اتَّسعت عيناها بانبهار وحماس وعقلها البريء بَدأ يُصَوِّر ويَرسم لها شكل هذه الغُرفة الكبيــرة. نَظَرَ لِجنان المُطْرِقة وكَفُّها مَبسوطة على بطنها.. سَألها: في شنو تفكرين؟
رَفعت بَصرها إليه وابتسامة يُشاكسها اللهو أمالت شَفتيها، قالت والمَكْر في نظراتها: تراك بعد غلطان "أكملت وهي ترى عُقدة حاجبيه" الأرض.. أو البيــت.. بيتك وبيتي وبيت جنى "ضَغطت على بطنها" وبيت الحلوة اللي اهني
ارْتَخَت ملامحه وتَجَمَّدَت عدستاه على بطنها.. أما جَنى فقالت بتفكير: الحلوة؟ يعني بنية "شَهقت بفرحة عارمة وسؤالها يَعلو" مــامــا يعني البيــبي بنيــة؟
ضَحَكت لفرحتها وحماسها وهي تؤكد: اي ماما.. البيبي بنية "لَوَّحت أمام وجه فيصل الساكن" شفيــك يا الأخ.. وين رحت؟
أَرْجع الصوت في حنجرته قبلَ أن يُجيب ببحَّة مُتضاعفة: قاعد أحاول أستوعب
نظرت له بطرف عينها: وهــا.. استوعبت ولا للحين؟
عَضَّ على شَفته السُفلية وهُو يُضَيِّق عَيْنيه ويَهز رأسه.. اعْتلت ضحكتها من ردة فعله وجَنى تُشاركها الضحكة دون أن تفهم شيء.. سَخرت منه من بين ضحكاتها: كَسرت خاطري
عَقَّبَ وكُلِّه يَبتسم.. لَيس فقط شفتيه: اي اضحكي اضحكي.. أنا اللي الله يساعدني "قَرَصَ ذراعها مُوَبِّخًا بمُزاح" كفاية إنتِ وجنى لاعبين بقلبي لعب.. بعد بتجيبين وحدة ثالثة تعاونكم؟
ضَربت يده ثُمَّ مَسحت على مكان فعلته وهي تقول: شدخلني أنـا! إنت اللي تحدد إذا كان بنت لو ولد
ضَحكَ والسعادة تتداعى لتستوطن عينيه وملامحه: أدري أدري.. بس جنان وحدة ويا الله قادر أستحملها.. شلون لو كان منها نسختين؟ شناوية على قلبي؟
رَفعت ذقنها تتصنع الغرور: أبيك تهيم فيني أكثر وأكثر
تَنَهَّدَ ومشاعر طفولته، مُراهقته وشَبابه تَسْتريح وللمرة الأولى بين كلماته بجُرأة وعَفوية: والله هايم يا بنت الحلال.. من زمان هايم.. من زمــــاااان
هَمَسَت ونَبضها يَتسربل بثوب الحُب المُطَهَّر من خطايا الماضي: أحبــك
شاركتها جَنى: وأنا أحبك بابا
ضَحكَت جِنان وهُو ضَحك وذراعيه تحتضن الاثنتين: وأنا أحبكم وأحب جِنان الجديدة
ارْتَفعَ حاجبها: خلاص يعني قررت يكون الاسم مُشتق من اسم جِنان؟
ابتسمَ وبثقة تَهواها: طَبــعــًا.. لأن جِنان هي الأَصل
تساءلت والخَجل يَرْوي خَدَّيها: ومن متى وهي الأَصل؟
لَم يُجِبها، هُو حَرَّكَ عَينيه لابنته طارِحًا عليها سؤال: بابا جنى.. لو ماما جِنان كانت شَجرة "وهو يَبتسم" مثلًا شجرة توت.. وأنا أَرضها.. تتوقعين من متى وهي تزرع داخلي؟
أجابت بعدَ تفكيرٍ عَميق: من أول ما الله خلقها
اتَّسعت ابتسامته وهَمس مُسْتَفسِرًا من جِنان: أقنعش الجواب؟
حَلَّقَت من جَواها تَنهيدة أوزعت بين أوصالها رَجفة لَذيــذة.. هَمست بابتسامة أَوْشَت بمكنون قَلْبها: مقتنعة من زمــاااان
,،
يتبع
|