كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
انتظرَ قُدوم الليْل.. لا يَدري لماذا.. ولكنّهُ فَضّل أن يَمتطي سِرْج الظّلام ليَجيء إليها.. أو إليه.. فهو لا يَعتقد أنّ أُوار الغَضَب المُشْتَعِلة داخلها سَتسمح لها بمُقابلة بَحْره. دَقّ الجَرس واسْتَقبلهُ ناصِر بصمت.. تَبِعهُ للداخل.. للأعلى.. وأخيرًا لِغُرفتها.. وأَمام الباب تَركهُ وَحيدًا.. كَوِحْدة الأمواج وَهي تَلتقي مع رِمال الشاطئ. ازْدَرَدَ ريقه.. فاكتَشَفَ حينها أَنّ ريقه جاف.. فَغُدده اللعابية قَد تنازلت عن مُهمّتها بعد أن أَصْبَحَ المَوْت أَكثر قُرْبًا. جَرّبَ أن يَتنهد.. حمدًا لله.. لا زال يَمْلك بضع ذرات هواء.. يَتَذَكّر أَنّهُ ظَفَرَ بها من بين يَدي أَيّام سَعيدة.. أَيّام نادِرة. طَرَقَ الباب لمرّة واحدة لَم يَتبعها بثانية. أمسكَ بالمقبض.. أَخفضهُ.. ومن ثُمَّ شَرَعَ الباب. دارت عَيْناه على الغُرفة.. الفارغة.. الفارغة منها. أَغلقَ الباب ثُمّ تَقَدّمَ بخطواتٍ مُتَرَيّثة.. فَقَد يُصادفها.. وهذا ما لا يُريده.. ويَعي أَنّها لا تُريده أَيْضًا. انتبه لباب غُرفة الملابس المُوْصَد.. وانتبه لابنه.. لصغيره.. طِفله وثَمَرة فؤاده.. كان مُرْتاحًا وَسَط سَريره الطفولي المُلتصق بسريرها. مَشى إليه على وَقعِ نَبَضاته.. بخطواتٍ بَطيئة تُناقض خطوات قَلْبه الحَثيثة. اسْتَقَرّ جَسده عند السَرير ولَم تَسْتقر أَنفاسه.. فَهي تَصادمت بشعواءٍ وارْتباك.. الْتَبَست عليه الأزمنة.. أَفي عَرصات الحاضر هُو يَختنق؟ أم بَين سفوح الماضي العَطِرة بأنفاسها الأولى يُحَلّق؟ هي.. هي.. والله هــي! مَدّ يَديه المُكَبَّلتين بالرّجفة.. باليُمنى مَسَّ رَأسه فأَحدثَ التّماس زِلْزالٌ في عَيْنهِ؛ سَقطت على إثْره دَمْعة تَشَرّبها شَيْبُ لِحيته.. وباليُسرى مَسَّ جَسده.. فَفاضت من صَدرهِ شَهْقة لَم تَكُن سِوى صَرْخة أَصدرتها رُوحه في خَضم صِراعها مَعَ الحَياة. آآآه... آه.. تَرَدّد سؤال في جَوْفه: السعادة على مَقَربة مِنّا.. قابَ قَوسَيْنِ من أَرْواحنا أَو أَدنى.. فَلِمَ تَفلت من بين أَيادينا؟ أَنا.. هُنا.. وفي هذه اللحظة.. أنا طَلال.. أَعترف بأنّ السعادة لها أَشكالٌ عَديدة.. أَشكالٌ يَرْسمها الإنسانُ بتجاربه.. بمِحنهِ وأَحزانه.. أَشكالًا ما هي إلا أَضدادًا لعذاباته.. وأنا.. هذا هُو شَكل سعادتي؛ أُسْرة.. أُسْرة أَساسها نُور ومنها تَتَفَرّع أَشكال سعادتي الثانية.. وهذا الطفل الصّغير.. فِرْعها الأوّل. كان فاتِحًا عَيْنيه.. أَهدابه الطويلة تَرْمش بخفّة، وكأنّهُ يُغنّي بها لنفسه تهويدة ما قَبل النوّم. أحاطه بذراعيه ورَفعه إليه.. قَرّبَ وَجهه من وجهه الدائري.. تَأمّله بابْتسامة تَطَوّرت إلى ضِحْكة مَبْحوحة ناقَضتها دُموع لَم يعرف سَببها.. أَلِفَرح وَلدتها عيناه أم لِكَمد. هَمَسَ إليه بصوتٍ مَسْموع.. صَوْتٌ أَجْبَر تلك المُخْتَبِئة أن تخنق بيديها شهقاتها: يُبـــ ـه.. يُبـه ناصِر.. شلونك حَبيبي؟ "واصَلَ كما لَو أَنّ هذا الكائن يَفهمه" أدري إنّك بخير.. مدامك بين أحضان نُور فإنت بخير "بِصدق والأَلمُ يُسْبِغ كلماته" آسـف يُبه ما ييتك بعد ولادتك مباشرة.. آسف لأني اتأخرت في تسميتك.. وآسف لأنّي ما أذّنت في إذنك "ابْتَسَمَ بشحوب" لكن جدّك ما قَصّر معاك.. ناصر العود ما قَصّر
أَخفضَ رَأسه ليُعيد الأذان. نَظَرَ إليه بَعدَ أن انتهى قائِلًا: أدري متأخرة.. بس مابي أخليها في خاطري.. ولا في خاطرك.
جَلَسَ على سَريرها والطفل لا زال بين أَحضانه.. يَرسم ملامحه في عَقله.. ويَنحته على جدران قَلْبه.. ويَحيكها بخيوطٍ من شَمس جِلْبابًا من نُور لتتزيّن به رُوحه. الشَّبه الذي يَجمعهُ بوالدته كَبير جدًا.. وكأنّ نُور نَذَرَت ملامحها الماضية إليه.. فوَجهه هذا أَعاده تسعة وعشرون عامًا إلى الوَراء. نَطَقَ بأسَى واسْتسلام ذاته كانَ جَليًّا بين كلماته: أَتمنى إن داخلك بعد يكون شَبيه لداخلها.. رُوحك وقلبك نسخة من روحها وقلبها "هَزّ رأسه يَنهاه" لا تاخذ من أبوك شي.. لا تاخذ من ظلام طَلال شي.. كُون نُور بويهك وبقلبك وروحك "مَسَحَ على شَعره والخَيْبة تغزو عَيْنيه على هَيْأة فَيْضانٍ مالح.. وبحشرجة أَفرت قَلْبَ تِلك المُعْرِضة" سامحني يُبه.. سامحني يا ولدي لأنّي حرمتك من الحياة الطبيعية من قبل لا تنولد
وكأَنّ الطِفل فَهمه واسْتوعَب كَلماته.. فَقد ارْتفعت من حَنجرته صَرخة بُكاء ارْتَبَكَ منها طَلال.. التَفَتَ لباب غرفة الملابس الذي فُتِحِ بقوّة وخَرجت منهُ نُور مُندَفِعة إلى ابْنها. أخذتهُ منهُ وهي تُصْغي لنبرة بُكائه وتَتفَحّص مَلامحه.. وفي ثواني تَرجمت حالته هذه.. فهو ببساطة جائع. جَلَست على الجهة الأخرى من السّرير وهي تهمس لهُ برِقّة بالصّبر والهدوء.. فهي سَتطعمهُ حالًا.. تحتاج فقط أن تفعل شيئًا واحِدًا.. وبحدّة تلاءَمت مع احتقان وَجْهها أَمرت ذاك المشدوه دون أن تَرْفع طَرْفها: اطْـلع برّا
بتوَسّل وجَسده يَستدير ليُقابلها: خليــني.. أرجوش نور خليــني
نَظَرت لهُ باستنكار وبملامح مُتَغَضّنة بها شيء من اشْمئزاز.. وهُو قابلَها بنظرات الطّفل المسجون داخله.. تلك النظرات التي تهوي لها مَشاعرها بانقياد.. لذلك أَشاحت عنه وهي تلتقط غطاء الطفل الخفيف.. سَترت بهِ نفسها حتى تستطيع إرضاعه براحة. أَسْنَدت ظَهْرها وبَصرها يُواجه الأمام.. تَشْعر بنظراته القادمة من على يسارها.. تَشْعر بها وهي تَخترق جَسدها لِتَطّلع على رُوحها. بالطّبعِ هي مَفضوحة أَمامه.. يَعلم جَيّدًا بأَنّها تُعاني في كُل ليلة حتى تنام.. ليس من إزعاج هذا الصغير.. ولكن لأنّها تفتقد للدفء الذي اعتادَ أن يَتركه بين زوايا جَسدها.. كما أَنّها تَفْتقد لنبضة الشّوق التي يُشْعلها كَشَمعة كُلّما أرادَ مُغادرتها.. والأَعظم من ذلك.. هي.. بكُل وجودها.. تَفْتقد إليه هُو.. بكُل وجوده. فالانفصال المادي الذي قُدِّرَ لهما يُعادله ورُبّما يَفوقه انفصالهما الرّوحي. وكأنّهما غَريبَيْن.. لا يَجمعهما سوى هذا الطِفل المسكين.. وهذا الشعور مُقيت؛ أن يُصْبِح جُزء منك غَريبًا عَليك كَطَرَفٍ اصطناعي يُشْغِل فَراغَ ما بُتِر. أَدارت رَأسها إليه فباغتَتها رَعشة.. ليس بسبب قوافل عَينيه.. لا.. فَالقوافل لَم تَكن تَحُج إليها.. كان حَجّها لابْنه.. وإنّما بسببِ عَينيه ذاتهما.. بسبب البؤس الذي يَسْبح وَسطهما. لا تُبالغ إذا قالت أَنّها رَأت نِهايته تَسْترق النّظر خَلْفَ أهدابه.. فاخضرار العَدستين غالتهُ النّار حتى تَرَمّدَ تَمامًا.. وغشاوة الدّمع التي تُشاغبهما كانت تُشْبِه بطريقةٍ ما الأكفان وهي تَلتف حَوْلَ الأجساد. كانت وبسبب انشداهها في الذي تَحكيه مُقلتيه تَتنفس بصوتٍ مَسْموعٍ ومُلْفِت.. حتى أَنّه حَرّكَ بَصره إليها. ارْتَعَدت بفَزَعٍ مَكتوم فأخفضت رأسها تُشْغل نفسها في طفلها الذي أنهى رَضعته. مَسَحت فَمه ثُمّ رَفعتهُ لتحملهُ على كَتفها.. وبيدها تَمسح على ظَهره. هُو هَمَسَ بتردد: أبوش قال لي.. إن خبّرش.. شنو صار بالضبط.. قبل "أَرْسَلت إليه إحدى سهامها اللاسعة ليَصْمت إلا أَنّهُ أكمَلَ بسؤال" هل مُمكن تسامحيني؟
رَدّت باقتضاب بهِ شيءٌ من الرّجفة: ما تغيّر شي بعد اللي قاله أبوي.. يظل اللي سويته حرام وخيانة لله ولعبد الله ولي.. فيعني الجواب واضح
هَزّ رأسه بتفهّم وهو يبتسم بإحباط ويُرْخي طَرْفه.. قَبْلَ أن يرفعه ليقول بطلب وعينه على الطفل: ما عليه أبوس ناصر؟
تَطَلّعت إليه والعَطْف يُحاول هَتْكَ حصون الغَضَب المُسيطرة عليها.. لحظات وسَلّمتهُ الصغير.. تناولهُ منها وهو يَبتسم ابتسامة تتعرّف عليها للتو.. ابتسامة يبدو أَنّها خاصة بابنه. قَبّلَ رَأسه.. ثُمّ قَبّلَ خَدّيه.. وأخيرًا قَبّلَ عُنُقه وهو يَسْتنشق رائحته المعجونة بالبراءة وبرائحة أمومتها. هَمَسَ لهُ ومن عَيْنيه أخذت تنعى الوَصايا: اذكرني بالخير يُبه "قُبْلة أخيرة.. قُبْلة استنشقت فيها رائحة الوداع تَركها على جَبينه ثُمّ قال" مع السلامة يا ولدي
أَعادهُ إليها وهي تُحاول أن تُسَيْطر على الانهيار الذي أخذ يُهَدّم قِلاع غَضبها.. وَقفَ دون أَن يُزيح بَصره عنها.. لوهلة شَعرت بأنّهُ يَحضنها ويُقَبّلها بعينيه.. كما أَنّهُ كان يُودّعها.. وَداع المَيّت لأحبابه. تَجَمّدت دمائها واختنقت أنفاسها بين أضلاعها عندما هَمَسَ بنبرة راجية: سامحيني نُور
تَراجعَ للخَلف.. قَلّصَ القُرب وضاعفَ المسافات.. فَتحَ الباب.. ثُمّ رَفعَ يدهُ مُلَوِّحًا بوَداعٍ أخير كانت خاتمته ابتسامته الخاصة بها: مع السلامة حَبيبتي
,،
دَلفَ للمركز بخُطى ثابِتة.. صارمة.. تَضِج منها قوّة تَهْتز منها الأرْض المَسيكة من تَحته.. دَلفَ وعَيْناه تَبْرقان بثقة تُدَمِّر عَدوّه.. ثِقة بَصيرة يُسْتحال أن تَعميه. رَفَعَ حاجِبه بإهمال ويداه تُحشران في جَيْبي معطفه الأسود عندما أشارَ إليه بغضبٍ يَكاد يَنفجر منه: هــذا.. هــذا كان معاه.. وصفهم لي البوّاب
قالَ ببرود وهي يَتَّكئ على المكتب من خلفه: آسفيــن أخ رائد.. دخلنا شقتك وفتشنا
التفت رائد للضابط بعينين متّسعتين: يعــترف.. بكل وقاحة يعترف إنّه دخل وفتّش.. وإنـــت ساكت
سَألَ الضابط عَزيز باقتضاب وبحاجبين معقودين: صحيح إنّك إنت ورائد الأسبوع اللي راح فتشتون شقته بغيابه من غير أي أمر رسمي؟
أجاب رائد بهدوء: قلت لك من قبل اي
بحدّة: أنا أسأل عزيز
رَدَّ عزيز ببروده المُستفز وهُو يُخرج سيجارة ويُشعلها: اي صَحيح
علا صَوْته يَزجره: إنت تعرف إن هذا خطأ تتعاقب عليه
نَفَثَ الدُّخان ثُمَّ رَفَع كَتفيه يُمَثِّل قلّة الحيلة وهُو يُقنّع وجهه بالبراءة: والله إذا اللي المفروض يتصرفون ماخذين وضعية لا أسمع لا أرى لا أتكلم.. فاحنا مضطرين إننا نتصرف بروحنا
استنكرَ رائد: وأنــا شمسوي عشان حضرتك ورائد تفتشون شقتي؟
رَفعَ رائد وَرقة من على المكتب.. وبنظرة كالسهم: قتلت عَمّار.. في شقتك قتلت عَمّار قَبل سنتين
صَرخَ: جــذاب.. إنت من قبل تكرهني يالــ... واللحين تبي تتهمني بشي ما سويته
ضَحكَ عزيز وهو يَرْفع رأسه والدّخان يرْتفع من فمه.. تساءَل باسْتخفاف وهُو يَميل في وقوفه: زين إنت اللحين ليش مشتط وتصرخ وحالتك حالة! المفروض مدام إنك واثق ببراءتك لازم تكون هادئ
أنفاسه تتسابق إلى خارج صَدره لتتخبّط في المكان.. حاولَ أن يُسَيْطر على غضبه وهو يقول برجفة ووجهٌ لَسعهُ الخوف القرمزي: اي.. أنا بريء.. واتهامكم باطل
أشارَ رائد بإصبعه للورقة: دم عمّار كان على عجلة طاولة تلفزيونك.. حتى هالتحليل باطل؟!
مَدَّ الضابط يده: عطني أشوف
ناوله إياها وأخذَ يَقرأها لثواني قَبْلَ أن يَرْفع بَصره لرائد ويقول بهدوء: لازم ناخذك للتحقيق
استنكَرَ بردّة فعله المُتوترة: شنــو تحقيــق.. هذا كله جذب.. جـــذب.. إنت ما تفهــــم!
قال عزيز وهُو ينظر لعِقب السيجارة ويده تُطفئه في المنفضة: مع إن ما له داعي.. لأن التهمة لابسته وعندنا شاهد على تخطيطه لها.. بس ما عليه "نَظَر للضابط مُرْدِفًا بابْتسامة جانِبية دَقَّت ناقوس تَوَجّسه" بنمشي معاك خطوة خطوة وبنشوف لوين توصل
تَطَلَّعَ إليه لثواني بملامح مُتَغَضِّنة.. قَبْلَ أن يُنادي أحد الشرطة ليَسير معه برائد الذي كان يشتم ويصرخ للحَبس. تساءلَ رائد بعد أن خلى المكتب إلا منهما: إنت بتكون معاه في التحقيق؟
رَفَعَ حاجبيه: طبعًا.. ما أثق في ولا واحد اهني غيرك.. فأكيد مدام هو بيستلمه أنا بكون معاه مثل ما سمعت.. خطوة خطوة.. وإنت اهتم بموضوع فاتن
زَفَرَ بقلقه المُتشعّب في ذاته: الله يستر.. واجد متشائم من هالخطة.. حاس بيصير شي
قالَ عزيز مُحاولًا أن يُهَوِّن عليه: لا تفكر جذي.. تفاءَل.. وبيكون معاك فريق موثوق فيه محاوطين الفيلا اللي هُو فيها وأنا إذا قدرت بكون معاهم أكيد.. وفاتن كل اللي عليها إنها تسلمه اللي يبيه.. وفي الوقت المناسب تدخلون تقبضون عليه
ضحكَ بتوتر وهو يَمسح جانب وجهه: يا ليــت الموضوع بكل هالبساطة
بثقة: راح يعدّي ببساطة.. صدقنــي
رَفعَ كتفيه بخواء حيلة: يــا رب
,،
تَتَغَلغل إلى نَفسها الكآبة وهي مَعجونةٌ بالحُزن كُلَّما وَقَعت عَيْناها عَليه. هي لا تنكر.. بَعدَ آخر حَديثٍ بينهما، وبعدما أَلقت عليه ذلك التهديد المُرْتَجِف؛ تَحَسَّن حاله.. ليس بصورةٍ كَبيرة.. ولكن مُقارنةً بالأسابيع الماضية فَقد كان أَفضل. فهو أَلغى تعاقده الدَّائم مع غُرفة النّوم.. أَصْبَح يَجلس في غرفة المَعيشة، كَما أنَّهُ نَزلَ عدّة مرات لغرفة نُور من أجل رؤيتها ورؤية الطِّفل. وها هُو في هذه الأثناء يقضي وقته مع ابنته المُكِبّة على جهازها اللوحي للإجابة على أسئلة اللعبة التعليمية التي كانت تستمتع بها. أما هي جِنان.. فكانت تُراقب الأَوضاع من مكانها.. داخل غُرفة الغَسيل.. حيثُ كانت تَكوي ملابس المدرسة الخاصة بِجنى. قَد شَرعت الباب بأكمله حتى يَتَسَنَّى لها استراق النظر بين الحين والآخر. صَحيح أَنَّ خروجه من الغرفة أَمْرٌ حَسَن.. إلا أَنَّهُ لَم يَتَحَرَّر من السلبية المُحيطة بِه. لا زالَ خامِل.. بعقلٍ شارد.. وجَسد هَزيل.. ويَد تَكاد أن تحفر خَدّه من فَرْط اسْتنادها عَليه. ببساطة، كانت صُورته المَعنى المادي للاستسلام. انتقلَ بَصرها منه إلى ابنتها التي نادته: بابا.. بابا.. بابا فيصل؟
زَمَّت شَفتيها بِضَجر أَغبش عَيْنيها الواسعتين وهي تراه ساهِيًا عن ابنته.. لكن جَنى أَصَرَّت في ندائها؛ فهي اقتربت منها أكثر وبيدها الصَّغيرة أَخذت تهز كَتفه وتُناديه بنبرةٍ أعلى: بــابــا.. بابا حبيـــبي
رَمَشَ بانْتباه فالتَفَت لها بالتوالي مع انخفاض يده عن خَدِّه.. رَدَّ بلُطف: آسف بابا ما سمعتش.. شنو تبين؟
أَشارت للشاشة قائلةً بإحباط: تعبت.. ما عرفت شنو الجواب؟
قَرَأ السؤال بنصف عُقدة قَبْلَ أن يَبتسم بخفّة وهو يَقول: بابا جَنى السؤال كَبير عليش
حَرَّكت كَتفها: عادي "تساءلت" تعرف الجَواب؟
هَزَّ رَأسه: اي أعرفه
باهتمامٍ وفضول يُحب المَعرفة: شنـــوو؟
أَجاب: التفاضل والتكامل
كَرَّرت من خلفه: التفاضل والتكامل "استفسرت" شنو يعني؟
ضَحك: أوووه لو بشرح من اللحين لسنة ما بخلص "قَرَصَ خَدّها بمُشاكسة مُرْدِفًا" وبعدين إنتِ شتبين من هاللعبة؟ صعـبة
أَجابت بعفوية: أحــب الماث بابا.. ماي فايفوريت سابجِكت.. وهذي اللعبة "أشارت بإبهامها" بيــرفكت
رَفَعَ حاجِبَيه يَسألها إن كانت ستصبح عبقرية: سو يو وِل بي أ جينييس؟
رَفعت ذِقنها بثقة منقطعة النظير لتُجيب بنعم: شُور آي وِل
احْتَضَنها وبِشَفتيه طَبَعَ قُبْلة على جَبينها بَعْدَ أَيَّامٍ عِجاف، وبحُب مُتَأصِّل في ذاته: الله يحفظش يا بعد قلبي
الحِوار كان قَصير.. بَريء.. ورَقيقٌ جِدًا جِدًا.. رِقَّة كتلك التي تَحط بها قَطرات النَّدى على الوريقات العُطشى. وهي كانت عُطشى، افْتَقَدت لِنَبع حَنانه الأبوي الذي لا يَبْخل على رَي ابنته. تركت غرفة الغسيل وهي تحمل الملابس باتّجاه غرفة طفلتها في الوَقت الذي ارْتَفَع في رَنين هاتفه.. عَلَّقتهم هُناك ثُمَّ خَرجت إليهما ليَقطع خطواتها الاسْم الذي هَتَفَ به فيْصل بلهفة: ياسْميـــن!
تَجَمَّدَت قَدماها على الأَرْض.. وبسرعة خَيالية حَملت الدماء الجليد إلى قَلْبها الذي انكمشَ على نفسهِ بخوف.. نعم بخوف.. فهي تَخشى مما تُحيكه تلك الفَتاة.. لا تدري ما هي خطتها التالية.. لا تدري هل أجدى حديثها المَشحون معها أم لا.. ولا تدري أَمن أجل الفِراق هي اتصلت أم من أجل لِقاء يُفني ما تبقّى منها؟
ازْدَرَدت ريقها وهي تعصر إصْبَعي يُسْراها بيمناها المُرتجفة.. تَحَرَّكت ببطء ناحيتهما لتجلس بالقرب من ابنتها تُخفي ارتباكها وجُل حواسها مُنصتة إليه..: اي اي.. أكيد ياسمين "صَمت لثواني ثُمَّ قال وقدماه تقودانه لغرفة النوم" مسافة الطريق بس وأنا عندش
دَلف للغرفة لخمس دقائق ثُمَّ خَرَجَ على عجل بعدَ أن أَبدل ملابسه.. ودون أن يُلْقي عليهما نَظْرة واحدة تابَعَ طريقه للباب وغادَرَ الشِّقة. هُنا التَفتَت جَنى لوالدتها مُتسائِلة بزَعل قَوَّسَ شَفَتيها: ماما بابا ما راح يرجع؟
لَم تُجِبها.. انهارَ كُل ما في جَوْفها ما خلا الغَصَّات التي قَيَّدتها قِسْرًا. ازْدَرَدت ريقها وهي تُخفي وَجعها.. ويَداها باستنجاد قَصدتا يَد طِفلتها الصغيرة.. وبصمتٍ تام احتضنتها؛ لتَسْتَمِد منها قوّة تُعينها على استقبال "الحَل" الذي يَعتمد عليه بُنيان حَياتهم.
،
تَقَلُّبات جَسدها على السَّرير تُشبه تلك التي تَحْتكر جَسَد الإنسان المُصاب بجُروح قاتِلة. حتى عَضلاتها وعِظامها آلمتها وهي تَتَقَلقل هكذا بتوتر.. لكن لا حيلة لها.. فالساعة قَد تجاوزت الثانية صَباحًا وهُو غادرَ مُنذ الثامنة مَساءً. ستّ ساعات.. سـتّ ســاعــات! زَفَرَت بحرارة وبأصابعها ضَغطت على جبينها ومُقدّمة رَأسها.. يا الله.. سينفجر هذا الرأس من هذه الأفكار التي تَطرقه بلا هوادة.. احتمالاتٍ كَثيرة.. هواجس تُثير في نفسها رَغبة الغثيان.. الغثيان من شِدّة الرُّعب.. كُلَّما ضَجَّت فكرة جَديدة.. ارْتَطَمَ قَلْبها بأضلاعها ثُمَّ انقَبض.. وكأَنَّهُ يُعَبِّر عن مَدى خوفه واضطرابه. سَتُجَنين جِنان.. سَتُجنيــن حتمًا إذا لَم تـ... تَصَلّبت حَركتها وفي لحظات أَغمضت عَينيها مُدَّعية النَّوم ونَبضاتها تكاد أن تفر من بين حجراتها من سرعتها.. فهو دَخلَ إلى الغرفة ورائحة عطره انتشرت في المَكان بتسَلّط استولى على أنفاسها. نَظَرت لهُ من خلف الغطاء المُمتد حتى أعلى أَنفها.. كان قَد دخل لغرفة الملابس.. سَيستحم طبعًا. وفعلًا هو خَرجَ بعد عشر دقائق بملابس النّوم وشعره المُبَلّل. لَم تستطع وهي في مكانها وبعينيها النصف مغلقتين وتحت هذه الإضاءة الصفراء الخافتة جدًا؛ أن تَسْتشف من ملامحه مَشاعره. كانت تنتظر أن يقترب من السرير.. لكنّهُ تَوَجّه للقِبلة وكَبَّرَ مُصَلِّيًا.. وطالت صلاته.. وطالَ سجوده.. وعندما تَوَقَّفَ مؤشِّر الساعة عند الثالثة صَباحًا.. كان هُو يَطوي السّجادة قَبلَ أن يَقصد السَّرير. أَغمضت سَريعًا وهي مُتأكِّدة بأن صوت نَبضاتها مَسْموعًا له، وأَنَّ أهدابها المَجنونة سَتفضحها وهي تشعر به يقترب منها.. أَنفاسه تَصطدم بوجهها بل وتستقر بين طَيّاته.. أَخفضَ رَأسه مُرخِيًّا جَبينه على خَدِّها.. ازْدَرَدت ريقها الذي تَحَوَّر إلى سَكانين وصَوت تَنهيدته يَخترق رُوحها.. يا الله.. مــا هــذا! ظَلَّ على هذه الوضعية لنصف دَقيقة قَبْلَ أن يبتعد ليستلقي في مكانه. فَتحت عَيْنيها المَسْكونَتين بالدّمع.. تَخَبَّطَت عَدستاها على ظَهره.. تَخَبُّطًا مَفزوعًا حائِرًا.. فماذا تعني هذه التنهيدة؟ وماذا يُقابلها من كَلمات؟!
,،
البَحر صَديقهُ.. كانَ صَديقه.. لا يَعلم إذا البَحر لا يزال صَديقه.. أو بالأحرى.. هُو غير واثق من ذلك. فالجَميع تَخَلَّى عنه.. كُل الذين وَثِقَ بهم خانوه في فترةٍ من الزَّمن.. سواء باسْتسلامهم للموت.. أو بتعذيبهم القاسي له.. أو بِكَذِبهم.. أو بِصَدّهم وعدم غفرانهم.. أو وأو.. تَعَدَّدَت الأَسباب والنتيجة واحدة.. طلال وَحيد إلى الأَبد. اسْتَنكَرَ سؤال في جَوْفه: ورائد يا طلال؟ وفاتن مؤخرًا؟ هُما معك. رَدَّت ذاته المُصَابة بعشرات الطلقات المُنبثقة من أَسْلِحةٍ صَديقة يُفترض أَنَّها لا تخون: وما الضمان لبقائهم إلى الأَبد؟ هُما الآن معك.. لكن بعد سنوات عندما سَتنظر إلى يمينك ويُسراك.. هَل سَتَجِدهما هُناك؟ أَم أَنَّك لَن تُبصر غَير أَطلالهما تُلَوِّحُ من خلف ظهورهم المُنصرفة؟ زَمَّ شَفَتيه وهُو يسدل جِفنيه بإرهاقٍ من نَفسه قَبْلَ أن يكون ممن هُم حَوْله.. إرْهاق كان يَتَبَجَّح أَسْفَل عَينيه وبين طَيَّات ملامحه.. حتى أَنَّهُ شَعَرَ بِثقله يُكَبِّل مفاصله. ولكنَّهُ تَجاهل الأَمر.. كما تَجاهلَ أَنَّهُ لَم يَأكل مُنذ أَيَّام طَويلة.. لا يتذكر منذ متى لَم يَعبر فَمه غير بضع قطرات ماء. بالمُناسبة.. ها هي قَطرات أُخرى تَعبر أَبواب السَّماء.. بعنفوانٍ مُحَبَّب كانت تَتساقط على الأَرْض وكأنَّها تُوقظها من سُباتها.. لتُخبرها بأنَّ الجَفاف وَلَّى.. والسُّقيا ها هي هُنا.. تَهديكِ مَطَرًا لتَمنحي الحَياة والإنسان شَجرًا وزَهرًا ونَهرًا. وأنتَ طَلال.. متى سَيَحينُ مَوسم ارْتوائك؟ متى سَتُطلِق سَراحك السّنين العِجاف.. مَتى؟ زَفَرَ حرارة جَوْفه عندما أَرْكَن مَركبته على مَقربة من البَحر. أَوْقَفَ المُحَرِّك ثُمَّ نَزلَ منها باتّجاه قاربه. كان يَفك وثاقه عندما وَصله من يَمينه سؤال مُسْتَنكِر طَغت عليه جَلْجَلة المَطر: بتدخل البحر؟!
اسْتدار إليه وهو مُنحنٍ يُباشر عمله.. كان شابًا معه أربعة شبان آخرون يبدون أصغر سنًّا منه.. أَجابَ بهدوء: اي "أشارَ لقاربه" حَيّاكم
ضَحكَ الشاب وهُو يَقول بنبرته التي تُحاول أن تعلو فَوْق صَوتِ المطر: لا لا.. أصلًا كنا جايين بندخل نحدق بس غيَّرنا راينا من المطر.. من جذي استغربت إنّك تبي تدخل في هالجو
ابتسَمَ بخفّة: لا عادي.. متعوّد
قالَ شابٌ آخر: بس خطير.. الرياح واجد قوية وطرادك صغير
وهُو يَدفع القارب للبحر: لا تحاتي أخوي.. داخل البحر جم مرة في جو أَخس من هالجو
هَزَّ رَأسه الأوَّل: على راحتك.. رحلة مُوفَّقة
رَفَعَ يَده وبابْتسامة رَدَّ: مشكوريــن.. أشوفكم إن شاء الله
التَفَتَ لرفقائه عندما وَلَجَ طَلال للبحر والقارب يَسْري بهِ بسرعة شاقًّا المَوْج، قالَ وهو الذي حَذَّره: هذا مجنـووون.. شلون يَدخل في هالجو.. ما يشوف شلون الهوا!
أَضافَ أحدهم وهُو يُضَيِّق عَيْنيه مُحاولًا أن يَرى من بين الزَّخات المُتطايرة بعشوائية من فِعل الرّياح الهائجة: طَرَّاده صَغير.. مُستحيل يقدر يتحمل هالجو.. مطر وريح وبحر! هذا خل يحمد ربه إذا طلع منها عايش
تَبادَل الشَّباب الخَمسة النَّظرات والتَّوجّس يَتَقَلقل بينهم.. فالنَّاظرُ لهذا المَشْهد سَيعلم يَقينًا أَنَّ الخارج منهُ ليس إلا مَنكوبًا.
تَقَدَّمَ آخر إلى جهة سيارتهم قائِلًا: هو قال إنّه متعوّد وداخل البحر بأجواء أخطر.. هو أدرى بنفسه.. فخلونا نمشي لأن تسبحنا تسبّح
تَبعوه البقِيّة وآخرهم مَشى بَعدَ أن أَلقى نَظْرة أخيرة على خَيال طَلال "القُبطان" وقاربه الصَّغير.. ذلك القُبطان الذي فَقدَ مَوْطنه لِثلاث مَرَّات.. مَرَّة عند تُراب قَبْر والدته الرَّطب.. مَرَّة على مَقصلة الإعدام الذي شَنقهُ فَوْقها ناصر بحبل كَذِبه.. ومَرَّة تَحت أَهداب النُّور التي كَسفت شَمسها لِتُطَلِّقهُ ثَلاثًا بظلامِ هَجْرها. القارب يَحمله والبَحرُ يَحضنه، برحابة وَوداعة.. لطالما كان البَحرُ مَهْده.. وكَم سَتكون قِصّته شاعرِية إذ أَصْبَح لَحْده أَيضًا. ابْتَسَمَ وهُو يَقِف على الطَّرف الأمامي.. الأَمواج تَتقدمه خُيولًا تَشد عَزْمها للأَمام وكأنَّها في سِباق.. وعلى جانبيه هي أَجنحة تُحَلِّق برُوحه بين السَّماء والأَرْض. أَغَمَضَ مُوَلِّيًا وَجْهه شَطْرَ السَّماء.. ابتسامته اتَّسعت وغَدير السُّحب يَتناثر على وَجْهه بَكرم.. يُقَبِّلهُ أَوَّلًا.. ثُمَّ يُزيح عن مَلامحه أَسْقامَ ذاته.. وأَخيرًا يَنفذ لدواخله.. يُغَسِّلها ويُطَهِّرها من كُل ما هُو آسن. ماءٌ ثَجَّاج يَرْتطم بوجهه وجَسده.. باردٌ وعَذب وبهِ نعومة يُخَيَّل إليك أَنَّها ترتق صدوع قلبك. عُباب المَوْج يُحاوطه من كُل جانب وكأنَّهُ سَيِّد البَحر.. من أَجل ذلك هُو عَشِق البَحر.. لأَنَّهُ لا يُساومه بخيالاته ولا يحرمه من أحلامه.. ولأنَّه يَمنحه كُل الذي نُهِبَ منه.. يَمنحهُ الشُّعور الطَّيْب.. ذاك الذي يُشْبِه الرَّاحة التي تَملأ الصَّدر بَعدَ الشَّكوى. هُو مَدينٌ للبَحر.. مَدينٌ لِصَبرهِ عَليه ولعدم إعراضه عَنه. طَلال لا زال يُحادث السَّماء بذراعيه المَنشورتين.. ويَشكر البَحر بنبضاته المُتَوهِّجة.. لَم يَكن واعِيًا ورُوحه ما بين السَّماء والبَحْر؛ أَنَّ القارب أَصْبَح يَتمايل بشكلٍ أخطر من السّابق.. وأَنَّ الأمواج التي تَصفعها الرَّياح قَد أَغرقت نصفه.. لَم يَكُن مُنْتَبِهًا وهُو يَنسلخ عن الحَياة أنَّ وُقوفه المُتطرف لَم يَكُن سوى وُقوفٌ على حافة الهاوية.. وأَنَّ اللحْد الذي أَغراه لنهايته الشاعرية ها هُو يَفتح باعه إليه.. هُو بجسده الهَزيل المُخاصم الطّعام.. وبروحه الحائِرة بين البقاءِ والانسحاب.. وبذاته المأهولة بالطَّعنات.. سَقطَ في البَحر.. هَوى وَهوى معهُ انتشائه فأفاق عَقله.. في الأسابيع الماضية كان يَتمنى المَوت.. يَسْتجدي منهُ قدومًا في كوابيسه.. بل ويَنتظره بين اللحظةِ وأختها.. والآن.. الآن والمَوْتُ يُحاربه.. بقبضته الكَبيرة وَفَمه المَجبول على الابتلاع؛ اسْتوعَب أَنَّهُ لا يُريد المَوْت.. هُو يَهاب المَوْت.. هُو غير مُستعد للمَوْت.. فَأخذَ يُصارعه.. بقواه الوَاهنة حاولَ أن يَسْبح.. يُحَرّك ذراعيه وساقيه بثِقل.. يُريد أن ينجو.. يَحــتاج أن يَنجو.. فللتو أَصْبَحَ أَبًا.. ورُبَّما تُسامحه نُور.. لا يعتقد أَنَّها تستطيع أن تُفارقه أَبَد الدَّهر.. قَد تَتَجَمَّل حياته إذ هُو صَبر قَليلًا.. قَليلًا فَقط.. لكن.. كُل هذه الأَحاديث انتهى وَقتها.. ها هي قُدرته تَضعف.. تنهار.. أطرافه لَم تُعِنه على السباحة.. وصَدره قَد اجْترع الكثير من الماء.. والبَحر كعادته يُحَقِّق أحلامه. أَغمضَ عَيْنيه.. أَسْبَلَ يَديه ورجليه.. ارْتَخى جَسده.. وتَلَقَّفَهُ الماء برويَّةٍ وَحنان.. وها هُو البَحر يَسْتوي إليه قَبْرًا.
,،
أَرْخت ذراعيها حَوْلَ رَأسها وهي تَسْتَرخي في اسْتلقائِها بَعدَ أَن كَشفت بَطنها للطَبيبة. أَغْمَضَت والمَلْمَس البارد للمادة الهُلامية فوق جلدها جعلها تَرجُف بلا إرادة منها.. زَفَرَت بهدوء وهي مُنتبهة لارْتباكها هذا.. الرجفة والنبضات الحَثيثة والبرودة المُتَعَلِّقة بأطرافها. لا داعي لكُل ذلك مروة.. لا تُفسدين هذه اللحظات الخاصة والمُميزة بقباحة الواقع. فَتحت عَيْنيها عندما طُرِقَ الباب.. لَم تتحرّك ظَنًّا منها بأنَّها إحدى المُمرضات.. لكنَّ وَجهه الذي لاحَ لها أَجبرَها على جَذب جَسدها للأمام بمفاجأة. نَظَرت إليه بعينيها المُتَوَسّعتين وهُو يَبتسم للطبيبة التي قالت له: زيـــن لحقت دكتور
عَقَّبَ وهو يقترب من السرير: خلصت العملية ومُباشرة جيت
أَوْمأت له: يعطيك العافية
وجسده يقف باستقرار على يسارها: يعافيش دكتورة
أَشارت لمروة وبيدها الجهاز: دكتورة ارتاحي
رَمَشت لمرتين مُتتاليتين وهي تتطلع إليها ببلاهة قَبْلَ أن تعود لوضعية الاستلقاء.. ازْدَردت ريقها ووجوده غير المُتوقع وقُربه المُبالغ فيه يَتَلَقَّفها يُمنةً وشِمالا.. ما أدراه أَنَّها هُنا؟ هل أخبرته الطبيبة؟ أو أَنَّهُ بَحثَ بنفسه؟ أين بحثَ أصلًا!
: هذا هو جنينكم
التَفَتَت للطبيبة بانتباه.. كانت تُشير بإصْبعها للتصوير الواضح في الشاشة، لذلك وَجَّهت نَظرها للشاشة.. لتستقبل وللمرة الأولى صُورة طِفلها.. نعم طِفْلها.. ها هُو.. واضِحٌ جِدًا من بين غَياهب رَحْمها ودِفئه.. مُسْتريح وآمِن هُناك.. طاهِرٌ وأَبيض.. لَم تُدَنَّس رُوحه بكُرهٍ أو انتقام. تَرَقْرَقت دَمْعة في عَيْنها أَحياها الشعور الذي غَمرَ دواخلها وأحاطها بسِعة.. زُهور تَفَتَّحت من بين الخَريف الشائب، وقناديل أضاءت العُتمة المُوحِشة، وأنهارٌ عَذْبة أَخذت تُنعِش ما مات وقُتِل وانتحر. أَدارت رَأسها لزوجها.. مُتَشَوِّقة لرؤية مشاعره على صَفحة وجهه.. تُريد أن تعرف.. هل قَلْبه يَرقص وَسط صَدره مثلما يَفعل قَلْبُها الطَّيْر؟ تَصادمت أنفاسها بزَهوٍ ودهْشة مما رَأته بين عينيه وعلى وَجهه.. تلك النَّظرة.. نَظرة الحِرْمان التي التقى فيها العَطش بواحته؛ أّذابت قَلْبها بكامل حجراته.. آآآه كَم أنتَ رَقيقٌ وشَفَّاف عبد الله.. وأنا.. أنا بانتقامي الأعمى فَضضتُ رِقّتك الشفافة عنوة. ارتعشت شَفتاه بابْتسامة تُقاوم دَمعة الفَرح.. ها هُو جنينه.. طِفله المخلوق من ظهره.. ها هُو يَسْبح بين ظُلماتٍ ثَلاث.. أشهرٌ فَقَط وسَيتَّخذ من حضنه مخدَعًا له وبحرًا لا يخون.. أبدًا لا يخون. تبادلَ مع زوجته نظراتٍ مُتناقضة في معانيها اقتطعَ وِصالها صَوت الطبيبة التي بَدأت تَسْتفيض في الشرح والنُّصح. وأخيرًا ناولتهما نسخة من التصوير قَبْلَ أن تتركهما وتخرج في حين أن مروة أَشغلت نفسها في مسح بطنها وترتيب ملابسها. ناداها بصوتٍ أٌقرب للهمس: مروة
رَشَّحت صَوْتها ثُمَّ أجابت ببحّة دون أن ترفع بصرها: نعم؟
جَلَسَ على المقعد أمامها وقال: طالعيني
تَرَدَّدت وبانَ ذلك على ملامحها.. لكنّها في النهاية ناظرته لينعكس أمامه ضَياعًا توأمًا لضياعه.. نَطَقَ بتنهيدة مُرْهَقة: راح نسافر
عَقَدت حاجبيها بعدم فهم ويداها تتركان قميصها: شنو؟
بَلَّلَ شَفتيه قَبْلَ أن يُفَصِّل لها بهدوء: إنتِ أنهيتين الامتياز.. فراح نسافر أنا وإنتِ.. راح نسافر أمريكا.. عشان تاخذين سنوات الإقامة هناك وتمتحنين للبورد
رَمَشَت وهي تُحَرّك رَأسها وبيدها تُطالبه بالتمهّل في مُحاولة للاستيعاب: لحظة لحظة.. شنو بنسافر أمريكا! "رَفعت حاجبيها ووجهها الشاحب أَطَّرته عروق تستعد لحقن الدّماء وهي تسَألهُ باستنكار" عبد الله إنت مستوعب شنو قاعد تقول!
رَدَّ بذات هدوئه غير المُتلائم مع الخَبر الذي فَجّره: اي مستوعب مروة.. كلّمت جم صديق لي هناك ورتبت كل شي.. ومثل ما سمعتين من الدكتورة إن ما في ضرر من السفر.. تطمني كل أمورش بتمشي تمام
عَلت نبرة صوتها والرَّجفة عادت لتستحكم منها: عــبــد الله شنو تطمني! جاي لي من غير مقدمات تقول لي بنسافر أمريكا! فجأة جذي! واللحيـــن وأنا توني في أول شهور حملي!
هَزَّ رَأسه بخَيْبة عَظيمة من نفسه ومن أُمّه ومنها هي ومن كُل ما هُو حوله، ومن حر فؤاده هَمس: مروة ما أقدر أقعد اهني.. مـا أَقــدر.. أحس كل شي قاعد على صدري.. يخنقني.. يخنقنـــي.. والله حتى النَّفَس بالغصب أقدر أتنفسه "مَسَح جانب وَجهه المُتَهَدِّل وهو يُكمل بنبرة هَزَّت كيانها من جذوره" ضاقت عَلي الدّنيا مروة.. والله ضاقت عَلي "وَقَفَ ليستطرد بضحكة مكسورة.. مُحْبَطة" يوم خطبتش أمي ما وافقت.. وبعد اللي صار عرفت ليش.. حزّتها.. قلت لغيداء.. قلت لها.. يا مروة.. يا هجرة ما بعدها رجعة.. ما كنت أدري.. إنّش بتكونين لي.. وإنّش إنتِ مع أمي.. بتوجهوني غصب لطريق الهجرة
هَمَست بصوتٍ تلتهمه اللوعة: عَبـ ـد الله
رَفَعَ يَده أمام وجهها يُقاطعها وعيناه تغشاهما رَمادية مؤسِفة: أنا ما سامحتش.. لكن سامحت أمي.. ما أقدر إلا إنّي أسامحها.. لأنها أمّي.. ولأنها أمّي.. أنا ما أقدر أقعد اهني.. ما أقدر أشوفها.. أخاف أقسي عليها بنظرة ولا كلمة.. وإنتِ "خَبَت نَبرته وتَصَدّعت ملامحه بألم" إنتِ كنتِ لي خلاص "أشارَ لصدره.. لقلبه" انحفر وجودش اهني "أشارَ لعروق ذراعه مُضيفًا وهي تشهق بالبُكاء الصارخ بالنّدم" تمشين اهني.. واللحين ولدي يكبر داخلش.. عشان جذي.. راح تجين معاي.. بتهاجرين معاي.. عشان نبدا من جديد "أَكمل بحشرجة ووسط عينه لَمحت أطيافًا مُوَدِّعة" أنا فقدت نُور بغفلة مني.. ومُستحيل.. مُستحيــل اللحين أفقدش.. خلني.. خلني أتألم منش عندش.. أشتكيش عندش.. أعاتبش وأهاوشش وإنتِ زوجتي.. حَلالي.. بتحمل كل هذا.. بتحمله مدام نار البُعد ما تجويني "رَفَعَ حاجِبه وعدستاه تتخبّطان على وجهها مُتسائِلًا" شنــ ــو.. جوابش؟
تَطَلَّعت إليه لدقائق ثُمَّ تَركت السّرير.. مَشَت إليه على وقع تصافق أهدابه.. وهُناك على صَدره وَسَّدت رَأسها وذراعاها تُحيطانه بتَشَبّث الغارق المُستنجد.. ودموعها التي سالت مَنحت قَلْبه الجواب. وهُو.. هُو المُهَشَّمة أَحلامه.. المُنحني صَبره.. والمَثقوب فَرحه.. ما كان له إلا أن احتضنها.. كَجمرةٍ تكويه احتضنها.
,،
قالت مَلاك أَنَّ الليلة هي الليلة المَنشودة.. هي التي سَتكون الخَطَّ النهائي الذي سَيَخسر عنده والدها.. هي التي سَتُغشي الباقي من حياته بسوادٍ لا أَواصر بينه وبين الضِّياء. الخطة بسيطة.. فاتن سَتسلّمه المواد المَمنوعة.. وهُو سَيستلمها منها مُقابل مبلغ من النقود.. وأثناء هذه المُبادلة المُخالفة للقانون.. ستفاجئهم الشرطة باقتحامها للفيلا وإلقاء القَبض عليه.. هكذا ببساطة.. ببساطة لا يُمكن أن تَعبر من أَمام حَدس والدها. من أَجل هذا أَصدرت قَرارها بينها وبين نَفسها.. لَم تُناقشه مع ذاتها.. قَفَزَ في عَقلها ومُباشرة وافقت عَليه. وها هي الآن تَتخذه.. فمركبتها قَد تَوَقَّفت أَمام الفيلا التي سَكنوا فيها لفترة من الزَّمن.. كانت مزرعة أكثر من أن تكون مَنزل.. كما أَنَّها كانت مَعْزولة عن الشارع العام.. وعدد المنازل المُحيطة بها يُعَد على أَصابع اليَدين. مَرَّرَت بَصرها عليها من خَلْف زُجاج السَّيارة.. شَدَّت على المِقْود.. حفرة تَهوي إليها شجاعتها قَد انتصفت صَدرها.. ورَعشةٌ خَفيفة بَدأت تَتَسَلَّق جَسدها. خائفة هي.. خائفة للحَد الذي جَعلَ الخَوْف يَتَكَوَّر في حَلْقها.. يَمنعها من مُمارسة عملية تنفس صَحيحة. لا تدري ماذا يَنتظرها.. لا تدري ماذا تقول.. بل لا تدري لِمَ هي هُنا! نعم.. تُريد أن تُقابل والدها.. ولكن من أجل ماذا؟ وفاتن تلك.. ستكون هُناك.. يعني أنهما سَتلتقيان للمرة الأولى.. ففي أي مُنحدر ألقيتِ بنفسكِ حُور! دَعَكَت وَجهها بيديها وزَفرات مُضطربة تفر على عَجلٍ من جَوفها.. ازدردت ريقها ويداها تكادان أن تَقتلعان المقود من مكانه.. دُوار بَدأ يَتلقف أطرافها ليُحاصرها من كُل جانب.. والغثيان كالرِّيح يهيج وَسط صَدرها. مَسَحت بيدها المُسَوَّرة بالرَّجفة على قَلْبها المُختنق من قَبْضة التَّوجس.. خائفة مما سَيحدث بعد دقائق.. لا تدري ما الذي سَيحدث.. لكنّها خائفة منه.. وكَون الذي يَنتظرها مُبْهَم الملامح.. هذا ما كان يُعَرْقل خطواتها. بَعد نصف ساعة من التَّخبط بين الأسئلة اليتيمة من أجوبة.. وبين الخَوف من المُستقبل القَريب جدًا.. انتبهت لدخول مَركبة عَبر البوابة الكبيرة الواقعة أقصى يمينها. هُنا بَدأت نبضاتها أولى مراحل جنونها.. إن لَم تكن فاتن التي دَخلت.. فهو واحد من رِجاله.. يا إلهي.. وكأنَّ سماءها أصبحت أرضها.. تَمَسَّكت بمقبض الباب وعيناها لَم تُفارقان أسوار الفيلا الشاهقة... لَم تُسرف في التفكير حتى لا يَضطرها خوفها أن تتراجع. تَرَجَّلت من السيارة.. تَأكَّدت من مخزون أَنفاسها.. ثُمَّ خَطت بسرعة متوسطة إلى الداخل.
،
يتبع
|