كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
سَألتها بتعجّب وهي تَراها تَقِف أَمام المرآة تُرَطّب بَشرتها: إنتِ ليش هالكثر باردة! ولا كأن صاير شي!
عَقّبَت بهدوء وهي تنظر لانعكاس صورتها: لأن فعلًا مو صاير شي
ارْتَفَعَ حاجِباها مُسْتنكرة بشدّة: مـــلاك! محمد طلقش.. بدون مقدمات طلقش وإنتِ تقولين مو صاير شي!
حَرّكت كَتِفها بلا مُبالاة وهي تستدير قائلة: عـادي.. هو مو أول واحد يطلق.. ولا أنا أول وحدة تتطلق
خطت ببرود إلى سَريرها.. جَلست وهي تلتقط هاتفها الذي شَبكته بشاحنه أثناء ما كانت تستحم.. حَرّكت اصْبعها على الشاشة تنظر للمحادثات في الوقت الذي همست فيه حُور: إنتِ غَريــبة!
تَجاهلتها وتجاهلت معنى كلمتها لترفع رَأسها وتقول بابْتسامة جانبية: راح تتأجل مقابلتش مع نُور
عَقَدت حاجبيها: ليـش؟
أَجابت: لأنها البارحة ولدت "رَفعت الهاتف تُشير إليه" توني أشوف في قروب بنات العايلة
هَزّت رَأسها بتفهم وهي تعقد ذراعيها: مو مشكلة "استطردت بجدية" ملاك إذا تبين تتكلمين أنا فاضية
أَشاحت عنها لتستقر بالهاتف على المنضدة وتقول: شُكرًا حبيبتي "أَبعدت خصلاتها المُبللة عن جانب وجهها قَبْلَ أن تنظر لها وهي تبتسم وتُرْدف" مو محتاجة أتكلم.. محتاجة أنام بس.. صار لي جم يوم مو نايمة.. والسفر والترانزيت تعبوني
تَنهدت بقلّة حيلة: على راحتش "تراجعت إلى الباب وهي تَسأل" أقعدش للغدا؟
وهي تستلقي وتتدثر بالغطاء: بكون قاعدة أولردي عشان صلاة الظهر
ابتسمت لها بخفة: أوكي "وقَبلَ أن تُغلق الباب ألقت نظرة تفحص سريعة على ملامحها ثُمّ قالت" ارتاحي
أُغلِقَ الباب.. دارت عيناها على المَجال الخالي.. الخالي من كُل شيء.. أَنصَتت للهدوء الذي أَتْخَمَ الغُرفة.. واسْتَشعرت البرودة التي سَوّرت الجُدران وقَيّدت أَطْرافها. انْكَمَشَ جَسدها باحِثَةً عن الدّفء وهي تَشد الغطاء إليها.. لَم يَكن يظهر منها سوى وَجْهها المَأهول بالصَمت. لا تصدعات ولا تغضنات.. لا خطوط تعبيرية.. ولا مياه تُغرق المقلتين.. كانت ملامحها ثابتة بطريقة تبعث على الاستنكار. هي ذاتها تستغرب هذا البرود الذي يَلفّها.. لا تدري أهو تَبَلّد أم أَنّ الأمر فعلًا لا يستحق ردة فعل عنيفة! تَنَفسّت بهدوء وأَسْدلت جِفْنيها.. ومُباشرة رُسِمَ على صَفحة ذاكرتها وَجْهه.. وكأَنّهُ قَدِمَ إليها ليجعلها تُقارن بين يَحموم عَينيه، وبين السواد الذي أَخذَ يَغشى حياتها.. لعلّها تتَيقن أَنّهُ لا ظَلام كظلام ذاته. صَدَح سؤال بين حُجراتها: تُرى ما هُو حالك الآن مُحَمّد؟
،
خارج الغرفة.. في الطابق السُفلي.. جَلست حُور بعد نزولها بجانب زوجها وهي تقول ببؤس: مو راضية تتكلم في الموضوع.. أنا خايفة عليها
نَطَقَ يوسف باستغراب: توقعتها تصيح.. بس كنت معاها من طلعتنا من بيت محمد.. لين ما وصلنا اهني.. ما نزلت من عيونها ولا دمعة!
سَألت مريم تطلب العَوْن: عمتي شنو نسوي؟ مو زين لها جذي قاعدة تكتم في قلبها
بَسَطَت يَديها تَشرح خواءها من الحلول: والله مادري يا بنتي.. حاولت معاها أول ما وصلت.. بس كانت تتجاهلني وتغير الموضوع.. أنا قلت أتركها ترتاح شوي وتستوعب الوضع
يوسف بتفكير: يمكن هي مو متأثرة صدق من اللي صار.. يعني مو شرط تنهار وتصيح.. ردود الفعل تختلف من بنية للثانية بخصوص هالموضوع.. وهي ملاك أساسًا ما شاء الله عليها عندها قدرة كبيرة على تحمل الصدمات والتكيّف وياها
حور بتعاطف: بس هي تحبـه.. مو معقولة ما يحزنها إنها تفترق عنه!
استنتجت مريم: يصير إن كان له أسبابه وهي تفهمتها
ارْتَفعَ حاجبها: بس عمتي هو ما قال لها.. ما قال لأي أحد.. طلقها من غير لا تدري.. ليش سوى جذي.. ليــش!
قالت تتهكّم على الماضي والحاضر المُسْتَنسخ منه: والله يا بنتي مادري شيصير فيهم الرجال من يروحون ألمانيا.. على طول يطلقون زوجاتهم!
,،
دَفعَ باب المَقهى الزُجاجي لِتَسْتقبله رائحة القهوة المُتَطَيّب بها المَكان.. تَقَدَّم خطوة ثُمَّ وَقَفَ يُدير عَدستيه على المُتواجدين.. كانوا قَليلون في مثل هذا الوقت من الصباح.. وهُو كان واحدٌ منهم.. هُناك على إحدى الطاولات كان جلوسه. مَشى إليه بهدوء والرَّهبة تَتَضاعف داخله.. وَقَفَ أَمامه فأشارَ له وهو يقول بنظرة تكسوها الحدّة: اقعــد
جَلَسَ وبظاهر سَبَّابته مَسَّ أَسفلَ أنفه، يُخفي ارتباكه.. شَبَكَ كَفَّيه وبَصره قَد تَعَلَّق بكوب القهوة الخاص بعمّه الذي نَطَقَ بعد برهة بنبرة مُمرغة بالإحباط: بتهورك خَسَّرت نفسك دور المظلوم وبغباء لبست دور الظالم.. الحق كان معاك.. لكن عقب اللي سويته.. صار الحق عليك
هَمَسَ بصوتٍ مُتَخَثّر دُون أَن يرفع عينيه: ما قصدت أضرها
تَقَدَّم بجسده ليهمس بفحيحٍ يَكاد أَن يُرْمد جلد عبد الله من حرارته: تدري لو كان صار شي لبنتي.. أو لولدها.. ما كنت بسامحك طول عمري
أَفرغَ تنهيدة طويـلة وهو يُغمض للحظات قَبْلَ أن ينظر إليه ويهمس: آسف.. بس كنت أحتاج أعرف شنو صار
رَفَعَ حاجبه: ومن قال لك إن لازم تروح لطلال عشان تعرف شنو صار؟
عُقْدة خَفيفة تَوَسَّطت حاجبيه: شلون يعني؟ ما في أحد غيره يدري.. نور ما كانت في وعيها
أَكَّدَ: اي ما في أحد.. بس طلال سوى شي فعلًا.. ويظن إنّه سوى شي ثاني
ازدادت العقدة: ما فهمت!
بهدوء: يعني القرب كان طَفيف "وبصراحة" ما تجاوز القُبلة "أَكملَ سَريعًا قَبْلَ أن يُعقّب عبد الله" وأنا مو قاعد أقول جذي دفاعًا عن طلال أو عن بنتي "وبقهرٍ وغَيظ تَمنى لَو أَنّه يَحرق كُل ما حوله" أنا كــاره نفسي وكاره الماضي اللي خلاني أضطر وأقعد معاك هالقعدة وأقول لك هالكلام اللي ما في أبو في الدنيا يقبل إنّه يفكر فيه، مو بعد ينطقه! "صَمتَ للحظات وهو يُطْبِق شَفتيه.. رَنا جانبًا بعدستيه قَبْلَ أن يُعيدهما لعبد الله ويقول" طلال يعتقد إنّه فعلته كانت.. إنها..
وصَمَت وهو يَزم شَفتيه.. عبد الله الذي استوعب مقصده تَساءَلَ بشك: شلون إنت تدري؟
وَضَّحَ: في نفس الليلة جا واعترف لي.. وقال لي بالضبط شنو صار.. وكنت أدري إنّه فاهم غلط.. بس ما صححت له
ارْتَفَعَ حاجِباه: وليـش!
حَرَّك كتفه وبعدم اهتمام: عقاب له.. عشان كل ما تذكّر ينحرق ويتقطع ندم.. اللي سواه في بنتي مو قليل.. بس اللي يعتقد إنّه سواه أعظم.. فخليته على نفس أَفكاره الغلط عشان ينجوي منها ويحترق
شَدَّ على أَصابعه وعدستاه تَتخبَّطان وَسَط مُقلتيه بعشوائية.. قَبْلَ أن تستقران على عمه ليفصح عن سؤال: ليش وافقت على زواجه منها على الرغم من إنّك تدري باللي سواه؟
ببساطة أجاب: عشان بنتي.. نُور ظلَّت لسنتين مسجونة في أحداث ذيك الليلة.. ما تدري هي حقيقة لو وهم صنعه عقلها.. يوم عن يوم تذبل قدام عيوني.. وأنا أدري إنها بريئة وطاهرة، مثل ما أدري إنّي غلطت يوم رفضت طلال كزوج لها.. فما كان قدامي إلا تزويجها منه.. عشان لو صار وعادت الذكرى المشوشة تهاجمها.. ما تحس بتأنيب الضمير اللي ياكل روحها.. بيكون زوجها.. حلالها.. ونجحت الخطة "سَخَرَ وبيده أشارَ إليه" لكن جيت حضرتك وخرَّبت كـــل شي.. هدمت اللي بنيته بتسرعك
كَرَّر: مــا قصدت عمي أخرب فيما بينهم.. ما كانت هذي نيتي "بَرَّر وبصدق لَمَعَ في عينيه" كنت أحتاج أعرف.. كنت أحتاج أفهم وهذا من حقي.. هي كانت زوجتي.. وهو خالي.. ما بقدر أعيش وأنا أدري إن تسكّر عليهم باب غرفته في وقت كان هو فيه يحبها وهي ما هي في وعيها.. أكيد أبي أعرف شنو اللي صار بينهم
وهو يُرْسِل لهُ مع نظراته سِهام لَوْم: كان في ألف طريقة وطريقة ثانية عشان تعرف
أَخفضَ رَأسه وهو يَشد قَبْضتيه ويَزم شَفتيه ثُمَّ يقول: عمي لا تلبّسني الغلط كله.. في النهاية أنا ضحية حالي من حالهم
ابتَسَمَ ليقول بنبرة يغشاها لحْن الماضي: كنت أقدر أكون مثلك متهور وأروح أفضح أمك عند أبوك.. بس بلعت موس وسكت.. عشان أبوك.. عشان أخوي.. أنا كنت يا عبد الله.. ولا زالت.. ضحية أفعال أمك
هَمَسَ بصوتٍ خاوٍ وهو يَكاد يُصَم من ضَجيج الأسئلة: شلون عرفت إنها.. هـي؟
شَرَحَ له وهُو يُخرج محفظته من جيب ثَوْبه: السالفة ما كانت طبيعية.. ونُور ما كانت طبيعية.. فأكيد هي لها يَد.. وما خاب ظني "أَلقى النقود على الطاولة ثُمَّ وَقَف وهُو يُعيد المحفظة ويستطرد" زوجتك هدمت بيتها.. وهدمت بيت نُور.. أمها ما لها عذر.. طريق الحق حتى لو كان فيه الهلاك.. الواحد لازم يسلكه.. مهما كلّفه من ثمن
أَنهى كلامه ثُمَّ مَشى مُغادِرًا المَقهى.. تارِكًا من خَلْفه عبد الله وهُو يُبصر انهيار حياته الجديدة التي بَناها فَوْق أَساسٍ رَكيك.. أَساسٌ اسْمهُ مَرْوة. أَغْمَضَ والحُزن يَتَشَعَّب في صَدره.. يَمضي ليغزو دمائه.. قَلْبه.. رُوحه.. أفكاره.. حتى لا وعيه سَقطَ صَريعًا عندَ قَدمي الحُزن. مَرَّر يَده على جَبينه وأصابعه تَدعكه.. كأنَّما يُريد أَن يَمسح كُل صورها وهي مُتَسربلة بنظرة الحُب الآسرة.. لَمعة الصَّبابة التي تَسْلب لُبّه.. ويَنع الاخضرار الذي يزهو حدائق بين حجرات قلبه.. يُريد أَن يُمحي تلك الابتسامة المُدجَّجة بنوايا ماكِرة لَم تَلْتفت لها ذاته المُسالمة.. لمساتها المُنطوي أَسْفل دفئها زَمهرير الخيانة.. والقُبلات التي أَصْمتت حَنين عَطشه للارْتواء. لكن كيف؟ كَيــف يُمْحي كُل ذلك؟ كَيْف سَيَقتلعها من أَرْضه بَعدَ أن أَعادت تَرْتيب خرابه؟ جاءَتهُ لِتَطرد عنهُ الفَساد لكنَّها غالتهُ وأَسْرفت في الإفساد! أَيُعْقَل أَن كُل الذي كان لَم يَتعدَّى كَوْنهُ زَيْف؟ زَيــــف! حَتـ ـى.. أَزاح جِفْنيه لتنظر العينان لليباب المُقفر من زُمردتيها.. حَتى امتزاجهما الأخير كانَ زائف؟ خطوات أناملها على جسده.. أنفاسها الساخنة.. وارتعاشها اللذيذ.. ابتسامتها المُنتشية.. وهَمْسها الذي إلى الآن لَو تَذَكَّره يَتنمل منهُ صيوان أذنه.. هل كان كَذِب؟ تَصنّع وتَمثيل؟ غير معقول.. غير معقول مروة.. غــيــر مــعــقــول! عبد الله لَن يَقتنع بزيف أحاسيسكِ.. فذاته يُسْتحال أن تُخطئ. وَقَفَ بِحَزم وبين أَوصاله اشْتَعَلَت رَغبة جامحة للقائها.. يُريد أن يفهم.. يُريد أن يَستوعب.. حتى لَو اضطره أن يفري جلدها ليستخرج من جوفها الحَقيقة.
,،
أَخْفَضت قطعة الخُبز التي قَضمتها لمرةٍ واحِدة فَقط.. نَظَرت لكُوب الحليب الدافئ.. تَأمَّلت سَطحه الرَّاكد والبُخار يعلو منه.. لا رَغبة لها في تناول أي شيء.. لكن هي مُضطَّرة لأن تأكل.. حتى لا يَجُف حَليب ثَدييها. تَنَهَّدت مع ارْتفاع يَديها للكوب.. احتضنتهُ باليُسرى وباليُمنى مَرَّت على فوّهته بأناملها.. تَرْسم دَوائر كتلك الحائمة وَسط رَأسها. فَكَّرت كَثيرًا.. كَثيرًا جدًا.. رُبَّما هي المرة الأولى التي تُفَكّر فيها بكُل هذا العمق وهذه الجدية.. والنتيجة التي اهتدت إليها مُقنعة.. نَوعًا ما. فعدم الإقناع الذي يَرتبط بها مُتعلّق بمَدى شَجاعتها.. هذه هي المُشكلة الوَحيدة.. أما كبريائها وغُرورها البَغيض.. فَأصبحَ في طي النسيان. شاكَست شَفتيها ابتسامة تَهكّم لَم تَفُت والدتها التي تَساءلت بشك: في شنو تفكرين؟
رَمَشَت بخفّة مُنتبهةً لها.. رَفعت عينيها إليها لتنظر لها لثواني قَبْلَ أن تخفضهما وترفع الكُوب لترتشف من الحليب بهدوء.. مَرَّرت لسانها على شَفتيها ثُمَّ أجابت دون أن تنظر لها: في شقتي
عُقدة خَفيفة تَوسَّطت حاجبيها وباستغراب: شقتش! وشنو فيها شقتش؟
أَجابت بنبرة خافتة تُوحي بالتَّردد: راح أرجع لها.. أرجع لشقتي.. ولزوجي
مالَ رأسها وبعتابٍ غَضَّنَ ملامحها: حنين أرجوش.. والله ما فينا شدة.. لا تسوين لنا سالفة جديدة
استنكرت: سالفة شنو يُمَّه! أقول لش أبي أرجع لشقتي وزوجي بدل ما تشجعيني تقولين لي لا تسوين لنا سالفة! وهذا إنتِ تحنين عَلي ارجعي وارجعي.. شصار اللحين؟
قابلتها بسؤال في باطنه رَيبة وعدم ثقة: إنتِ شنو في راسش؟
وَضَعت الكوب على الطاولة قَبْلَ أن تَسْتنشق نَفَس عَميق وتزم شَفتيها.. أَرجعت خصلاتها خلف أذنها ثُمَّ تَحَدَّثت بهدوء وهي ترفع بصرها إليها لعلَّها تَقرأ صدقها: يُمَّه.. أنا فكرت واجد.. اللي سويته غلط.. واجد غلط.. ضريت نفسي وضريت زوجي وولدي.. حتى انتو ضريتكم وبهذلتكم معاي.. وبعد التفكير الطويل قررت أرجع لبيتي.. أبي أحاول أصحح خطأي وألملم اللي طاح.. وأنا أدري.. بسَّام طيّب.. إن شاء الله بيتفهمني
تَساءلت وملامح عدم الراحة تجوس بين طيَّات وجهها: متأكدة تبين ترجعين؟
هَزَّت رَأسها وهي تَتَقَلَّد بثقة فَتِيّة: ايــه يُمّه متأكدة "كرَّرت" متأكدة
ابتسامة ناعمة لاطفت شَفتيها طاردةً كُل التعابير المُتشائمة، وبحماس قالت وهي تقف: من اللحين ببدأ أنا وجيني نجهز أغراضكم "استفسرت قَبْلَ أن تمضي للأعلى" متى بترجعين؟
بادلتها الابتسامة: خلال هاليومين.. إذا يصير يعني
وهي تمشي مُسرعة للسُّلم: يصير يصير "رَكبت العتبات وصوتها يَصل لحَنين كالهمس" الحمد لله يا ربي.. الحمد لله إنّك هديتها
اتَّسعت ابْتسامتها وهي تَسدل جِفنيها كما تسدل الشمس أجنحة شُعاعها؛ بَعد أن تَطمئن على الأَرْض التي تَكَفَّل بها القَمر. تَنَفسَّت براحة كَبيرة وهي تَشعر بجِبال الهَم تَتهدَّم شيئًا فشيء لتتحول إلى ذراتٍ صَغيرة.. تَتخلص من حِملها مع كُل زَفْرة. تتمنى أن تَمر الأحداث بسلام.. كَما تَتمنى أن طِيبة بَسَّام لا زالت حيَّة تُرْزق.. لَم تَستبح دمائها سِهامها المُتعجرفة.
,،
الشِّقة رَقم 5 الواقِعة في الطَّابق الثاني للمبنى "..." الذي يَبعد حوالي خَمسون مِترًا عن موقع حادِثة مَوْت عَمَّار المُفَبْرَكة. هذه المعلومة البسيطة والعَظيمة في آنٍ واحد تَم استنطاق العامل كابي سوري للاعتراف بها.. ولَم تَتَطَلَّب منهما هذه العملية أي جُهْد يُذْكر.. فهو ما إن زُجَّ في مَرْكبة رائد.. حتى انطلق لسانه مُفْصِحًا عن كُل شيء، فَعَيْنَي عَزيز كانت كافِيَتان لإرهابه.. فهو بنظرة واحدة بَصَقَ عَليه السَّواد الذي سَيَبتلع حياته إذ هو حاول أن يُراوغهما أو أن يُكذب عليهما. لذلك سَلكَ الطَّريق ذو العذابِ الأَخف.. طَريق سَيحتفظ له ببعضٍ من الألوان. وفعلًا.. هُما سَرَّحاه مُباشرة بعد أن نَطق ولكن مع تحذيرٍ حاد بأنَّهما سَيُراقبانه إلى الأَبد. فهو من الناحية القانونية يَجِب أن يَتلقَّى عُقوبةٍ ما بما أَنَّهُ مُشاركٌ في الجريمة ولو بطريقةٍ غير مُباشرة.. إلا أَنّهما سَرَّحاه لعدّة أَسباب أَهمَّها غُرْبته وفقره وعائلته في بَلده التي تنتظر منهُ الإعانة نهاية كُل شَهر. وَقَفا أَمام باب الشِّقة.. دَقَّ رائد الجرس وعَزيز بجانبه يَنتظر. إلا أَنَّ جَوابًا لَم يَأتِهما حتى بَعد أن ضَربا الباب بقبضتيهما.. فقال عزيز: بندخل
نَهره رائد: لا عزيز.. شنو ندخل! ما عندنا أمر بالتفتيش
رَفعَ حاجبه وببرود حازِم: مــا يــهــــمنــي
تَراجعَ خطوتان للخلف ثُمَّ عادهما سَريعًا وهو يَرْفع ساقه للأعلى ليهوي على المِقبض بقوّة أَدَّت إلى انفكاك القِفل؛ الذي أَتبعهُ اقتحامهما غير المشروع. تَقَدَّم للداخل وَعيناه تدوران على المَكان بتفحّصٍ دَقيق.. هَمَسَ رائد من خَلفه: عزيز خل ناخذ أمر وبعدين نفتش.. لا نسوي لنا سالفة
تَجاهله وأَشار بيده بعشوائية آمِرًا دون أن يَقطع بَحثه: افتح الليتات
تَأفف مُتَذَمّرًا من هذا العَنيد وهو يَستدير باحثًا عن المفاتيح التي وَجدها خَلْفَ المنضدة المُسْتقر فوقها التلفاز.. أَضاءَ المصابيح ليتَمازج نُورها بنور الشّمس المُخْتَرق الستائِر؛ قَبْلَ أن يخطو وهو يَتَلَفَّت ويستنشق بعُقدة حاجبين: شنو هالريحة!
أَجابَ باسْتخفاف: شنو بعد.. ريحة البلاوي اللي يشربونها
تَغضَّنت ملامحه باشْمئزاز هامِسًا بتقزز: وع عليهم
قالَ وهو يَلْتفت إليه: اترك عنّك التشمم وتعال دوّر معاي
استنكَرَ بعلو حاجبين: أدوّر شنو! الجريمة مر عليها أكثر من سنتين.. مو معقولة بنلقى شي وفي شقة رائد بعد.. مو غبي هو
رَنا لهُ بَطرف عَيْنه مُعَقّبًا: المُجرم لازم يكون غبي في لحظة من لحظات ارتكابه للجريمة.. وبعدين احنا لقينا أشياء في بيت صالح حتى بعد مرور عشرين سنة على الجريمة.. فتعال ساعدني لا تتحجج "وهو يَوخز ضَميره" عشان عَمَّار الله يرحمه
تَنهَّد باستسلام وهُو يَخطو إلى زاوية أخرى من الشِّقة ليبدأ بَحثه. اسْتَمرَّا في مهّمتهما لما يُقارب الأربعون دَقيقة ولَم يَعثرا على طرف خيطٍ واحد.. هُما بَحثا في غرفة الجلوس.. في المطبخ.. داخل دورات المياه وغرف النَّوم الاثنتين.. نبَّشا الأدراج وألقيا نظرات أَسفل الأرائك والأَسرة.. حتى بين الملابس بَحثا. لكن لا شيء. وعَزيز مُقتنع أَنهما سَيجدان دليل ودليل قَوي.. فالشّقة قَريبة جدًا من المكان الذي عُثِرَ فيه عَمَّار.. فَبالتأكيد هو قُتِلَ هُنا ثُمَّ نُقِل إلى سَيَّارته المركونة هُناك أمام مصباح الشارع الذي يَدَّعون اصطدامها به.. بالطَّبع بعد أن حَطَّمها سوري بآلة الهَدم التي كان يتحكَّم بها. تَساءَل رائد ويداه تستقران على خِصْره: هـا؟ شبتسوي اللحين؟
وهُو جالس على رُكبتيه يَنظر لأسفل الطاولة الصغيرة المُتوسّطة غرفة الجلوس: بنشوف إذا له مكان ثاني غير هذي الشقة "رَفَعَ رأسه مُرْدِفًا" باقي وقت على خيبة الأمل
أَوْمأ بتفهّم ثُمَّ قال: انزين امش خل نطلع "أشارَ للباب" ويبي لنا حل للقفل اللي كسرته
هَمَسَ وهو ينحني لمنضدة التلفاز: لحظة
فَتَّشَ في درجيها وأَسفلها.. حتى التلفاز نفسه تَفَحَّصه بدقة وألقى نظرة على جهاز التحكّم الخاص به.. لكن أيضًا لَم يَجِد شَيء.. لذلك رَفَعَ جَسده بحركة سَريعة وقوية تَنم عن قَهره.. وَقَفَ وهو يَزْفر.. وكان سَيَستدير ليخرج.. لكن عَقله اليَقِظ بَرَقَ فَجأة ليُنير في ذاكرته صُورة عمرها لحظات.. صُورة لَم تكون إلا لعجلات منضدة التلفاز. انحنى مُجَدَّدًا وعَدستاه تقفزان من عجلة إلى أخرى.. يَنظر.. يُدقّق.. ويُقارن.. هُو حَتَّى أَخرج مصباحه اليدوي الصَّغير من جيبه ليتيَقَّن مما التقطتهُ حَواسه المُتمرسة. رائد الذي كان يُراقبه تَحرَّك إليه عندما شَدَّت شَفتيه ابتسامة جانبية تَحكي عن اكتشافٍ خَطيـر. تَساءَل بحذر: شنو؟ شنو حصَّلت؟
رَدَّ: تعال شوف
جَلس كجلوسه بجانبه لينظر للعجَلة الأمامية اليُسرى.. كانت سوداء.. يعلوها بعض الغبار.. كما كانت متَّسِخة.. فبقعة رمادية داكنة بحجم عملة معدنية بقيمة خمسين فلس؛ كانت تشغل منتصفها إلى نهايتها المُلْتصقة بالأرض. سَأله عزيز بهمسٍ تُسانده أنفاسٌ مُتَحَمّسة: ها.. ما تشوف عليها شي غير عن باقي العجلات؟ شي مألوف.. أو لون مألوف؟
ضَيَّقَ عيناه مُدَقِّقًا فيها ووعيه بأكمله مُركّزًا عليها. ثواني واتَّسعت ابتسامة عزيز مُحاكاةً لاتّساع عَيْني رائد الذي هَتفَ: دم.. بـقـعـة دَم!
هَزَّ رأسه وهو يُشير للبقعة الرَّمادية بطرف المصباح الشبيه بالقلم: اي دم.. وواضح من لونه إنّ مرت عليه أكثر من سنة.. وتسعة وتسعين بالمئة احتمال يكون دم عَمَّار "أَرْدَفَ" لازم نوديه المختبر
تناول من جيب بنطاله مشرط في الوقت الذي أخرج فيه رائد كيس بلاستيكي صَغير.. وبسهولة كَشَط الأَثر الرَّمادي مُباشرة إلى داخل الكيس. وَقفا بالدليل وعيناهما تتبادلان نظراتٍ عَبَّرت عما يَجول في خاطر كُل منهما.. يبدو أَنَّ النهاية اقتربت. خَطى الاثنان لخارج الشقة بعدَ أغلقا المصابيح.. تساءلَ رائد وهو ينظر للقفل: شنو نسوي وياه؟
ببساطة أجاب: بنكلم البواب.. بنقول له يتصل في صاحب الشقة ويخبره إن شم ريحة غاز فاضطر يكسره عشان يدخل قبل لا يصير شي خطير
حَكَّ صدغه: بيقول له ليش ما فتحته بالمفتاح اللي عندك
رَفعَ حاجبيه بابتسامة: عنده رزمة مفاتيح لاثنعشر شقة بغرفها.. على ما يحصّل المفتاح المطلوب انفجر الغاز واحترق المكان بكبره
ابتسمَ باقتناع إلا أَنَّه سألَ سؤال أخير وهما ينزلان العتبات: انزين البواب.. شلون بيطاوعك؟
ضَحكَ: هو بس بيسمع اسم الشرطة بيقول حاضر وعلى أمركم
عَلَّقَ رائد: نفسي نفسي والناس خل تولّي
,،
عادَ من المَسجد بعدَ أن أَدَّى صَلاة الظهر.. وكالعادة بعَد أَن تُسْبِغ عليه الصلاة سَكينتها يُقَرّر أن يَذهب إليها. في المرات السابقة كان يتردد فيعود أدراجه لغرفته الجَديدة التي باتَ يَنام فيها بعد الذي حَصَل. لكن اليوم واصَلَ ودَخلَ إلى غرفته السابقة.. حَيثُ كانت تَنزوي. وَقَفَ خَلْفها.. هي التي اتَّخذت من النافذة الكبيرة المُطِلّة على باب المنزل طَريقًا مَخْفِيًا.. يَمضي بها للقيا ابنها الغائب. إلا أَنَّ الطَريق طال.. والرحلة باتت شاقة.. والرُّوح قَد أَنهكها الشَّوق وأرهقتها اللهفة. هَمَسَت وهي التي ميَّزته من خلال طَرقه: ما رجع.. عبد الله يا بو عبد الله ما رجع
عَقَّبَ بجُملة كانت كالحُمم في لهيبها.. وكالجليد في زَمهريه: ولا راح يرجع
استدارت إليه كالملسوعة وهي ترشقه بنظراتٍ مُهدّدة.. هُو تجاهلها واتَّجه ليجلس على السرير ويقول: أنا مو جاي أتكلم عن عبد الله.. ما في كلام أصلًا بخصوصه "أَرْدَفَ بجديّة غمرت صوته وتكاثرت في عينيه" أنا جاي أتكلم عن أخوي.. عن ناصر
دارت عدستاها على وجهه ببرود ثُمَّ التفتت مُجدَّدًا للنافذة لتقول بنبرة تنضح منها الحِدَّة: ما في شي نتكلم عنه بخصوصه
رَدَّ: امبلى في "وببساطة" إنش تحبينه
هذه المرة فَزَّت واقفة لتواجهه وتقول بانفعالٍ بانَ على وجهها الذي خالطته الحُمْرة: كــنــت أحبه.. كــنـــت.. ولا تظن إني بنكر.. لأنه مو شي عيب ولا حرام.. وهو كان يدري.. ناصر كان يدري إني أحبه بس هو ما كان يشوف غير ليلى "وبثقة لا غُبار عليها أكملت " وأنا لو ما حبيتك جان ما قعدت معاك ولا دقيقة.. وطول ما أنا على ذمتك ما خنتك حتى بتفكيري
وَقفَ ليُقَلّص المسافة بينهما.. ليتسنَّى لهُ تحسّس ملامحها بعينيه.. لرُبّما وَجدَ صِدْقًا. هي أَكملت بحشرجةٍ غريبة على صوتها الذي نادِرًا ما يَخلع ثوب الشّموخ: أنـا.. ومن أوّل أسبوع لي معاك.. حمدت ربي إنّك إنت اللي كنت نصيبي في النهاية.. ومن يومها وأنا في كل صلاة أحمد ربّي "أشارت لصدرها بيدين غالتهما الرّجفة" إنت ما كَبّلتني.. إنت طَوّقتنـ ـي.. بحنانك وتفهمك وصبرك طوّقتني
تَطَلّع لوجهها.. نُور الشمس المُتَمرّد من أَسْفل الستائر صُبَّ على جانبه الأَيسر.. مُضيئًا بذلك عَينها التي تَرقرقت وَسطها دَمعة. هَمسَ وهُو في نَفسه يُحاول أن يَطرد الصّدق الذي استشعره بين كلماتها ورآه بين طَيّات ملامحها: مدام كل هذا في قلبش.. ليش سويتين اللي سويتينه!
أَجابت بإفصاح: عشان كرامتي.. عشان نفسي.. وعشان سنيني اللي راحت وأنا محرومة من أبــ ـوي.. أبوي اللي مات وهو ما يكلمني.. مات وهو غضبان عَلَي
عَقّبَ بهدوء: كنتِ تستاهلين
نَفت بشدّة: لاا.. ما كنت أستاهل.. ما كنت أستاهل هذا العقاب.. أنا كنت مراهقة.. متهورة والحُب الغلط أعماني.. كانت كل هالأمور لصالحي.. كنت أستاهل أتعاقب.. بس مو جذي.. مـو جـــذي!
وعُقْدة خَفيفة بين حاجبيه: بنخلي نور وعبد الله على صوب.. طلال شنو ذنبه؟ شنو ذنبه يتصوّب بشظايا قهرش من ناصر اللي خله أبوش يغضب عليش؟
بثقة ردّت: ذنبه إنّه ولد أمه.. حنان اللي حامت حوالين أبوي لين ما تزوجها وأمي ماتت من قهرها.. نست شلون أمي ضفّتها من بعد ما بقت وحيدة لا أهل ولا عزوة
ارْتَفَعَ حاجِباها باستنكار عندما ضَحكَ ضحكة قَصيرة وعلامات التعجب تغص بها ملامحه ومُقلتاه.. هَمسَ غير مُصَدّق: يا الله بلقيس.. يـــا الله! تكسرين الخاطر.. والله تكسرين الخاطر
تَخَبّطت عدستاها على وجهه بعدم فهم ونبضاتها قَد حَفّز من سرعتها توجّسٌ دَبّ وَسط قلبها من ردة فعله الغريبة.. تساءلت بحذر: ليش تقول جذي!
قالَ وبقايا الضحكة تتحوّل لابتسامة لمحت فيها السخرية مع الخَيبة: الشره على خواتش اللي يدرون وما علّموش.. لا وفوق هذا واصلوا في تعذيب وتهميش طلال المسكين!
نَطقت بقلبٍ يرتعش: بو عبد الله تحجى واللي يرحم والديك.. شتقصد بحجيك هذا! شنو اللي ما علموني فيه خواتي!
أَجابَ بحاجبٍ مرفوع: سبب زواج أبوش من حنان.. حنان بنت خالة أمش اللي ضفتها في بيتها
هَمست بتلعثم وخوفٍ مُوارب من الحقيقة: شـ ـ ــشــ ـنو.. شنو!
نَطقَ ليقذفها برصاصة ثَقَبت رُوحها لتُحيي جِرْحًا بعُمق جِرْح عذابات طلال الطويلة: إنتِ ولأنش ما سمعتين الوصية ولا اطّلعتين عليها مثل ما طلب أبوش قبل موته.. ما تدرين إنّ أمش بنفسها قالت لأبوش يتزوج حنان.. عشان يكون وراها رجّال حلال عليها
شَعرت بتنمّل يجري من أطرافها لباقي جسدها من هذه الصاعقة التي ألقاها عليها.. هَزّت رَأسها ترفض ما قاله وهي تهمس ببحّة الصّدمة: لا.. لا.. مُستحيل.. لاا.. أمي مُستحيل تسوي هذا الشي.. أمي ماتت مقهورة.. مقهووورة
قالَ ليستل منها بقايا أنفاسها: أمش ماتت من سرطان القولون اللي اكتشفوه في آخر مراحله.. بس أبوش ما قال لكم.. تقارير المستشفى كلها موجودة ووصية أبوش إذا تبين تتطلعين عليها.. أخوي ناصر خبّرني بكل شي.. وكل هالأشياء محفوظة عنده مثل ما طلب أبوش الله يرحمه
لَم تعد تشعر بجسدها.. شُلَّ بأكمله.. حتى أَنّها لَم تعد تَسمع صَوته.. جُفَّت عُروقها والدُّم نَزحَ عن أراضيها.. أَصْبَحت بَلقعًا.. صَفحة بيضاء باهتة ماتت فيها المشاعر والأحاسيس وانتحرت من على قارعتها الحَياة. تَقَهقر جَسدها حتى اصطدمت بالمقعد.. اخْتَلَّ توازنها.. وجَسدها الهَزيل تَكالبت عليه الأيام الخالية التي ساندتها الحَقيقة القاتلة للماضي الغابر؛ ليسقط باستجابة للجاذبية الأرْضية بعد أن غابَ عنها الوَعْي.. وكانَ آخر ما حَلَّقَ بوهْنٍ من حَنجرتها وَجْسٌ شَقَّ قَلْبها لتعلو كلمته: أخــــــوي
,،
اسْتَقبلهُ بِصَمت.. وجَلَسَ مُقابلهُ بِصَمت.. وها هي انقضت سِتُّ دَقائق والصَّمتُ لا يَزال مُتَرَبِّعًا بينهما. كلاهُما كانَ يَضِج في روحه الكَلام.. أَحاديث كَثيرة تُريد أَن تَعْبر لَرُبّما تَسْتريح من ثِقْلها القُلوب.. لكن هَيْهات.. هَيْهات أن يَكون للراحة مُسْتَقر وَسط الجَوى. رَفَعَ بَصره لِناصر عندما تَنحنح وكأنهُ أَرادَ أن يُنَبّهه.. وفعلًا.. ثَبَّتَ طَلال عَيْنيه عَلى وَجهه مُنتَظِرًا ما سَيَقوله. مَرَّرَ لِسانه على شَفتيه وهُو يَتَقَدّم بجذعه للأمام.. اتَّكأ بمرفقيه على فَخذيه وشَبَكَ أصابع يَديه.. كُل ذلك فَعله دون أن يُدني بطرفه لطلال الذي اسْتَفسَر بهمسٍ يُغَلّفهُ الذّبول: شنو تبي تقول؟
أجابَ بَعدَ ثواني بسؤال وهو يَتَطَلّع إليه بدقّةٍ وتَركيز: شنو صار بينك وبين نور بالضبط ذيك الليلة في غرفتك؟
تَغَضَّنت ملامحه بتعب في الوَقت الذي مالَ فيه رَأسه وهو يَقول بضَجَرٍ كَبير: ناصر كلش مو وقته.. والله ماني طايق نفسي عشان تيي وتسألني.. كفاية اللي صار
كَرّرَ بحزمٍ انعكسَ في عَيْنيه وبجديّة تَمَرّغَ بها صَوته: شنو صار بالضبط بينك وبين نور ذيك الليلة؟
قابلهُ بسؤال وبعقدة حاجبين: ليش تسأل اللحين؟ في هذا الوقت بالذات؟ وإنت أساسًا تعرف الجواب!
قالَ من بين أَسْنانه: طـلال جـاوب على السؤال
زَفَرَ وهو يَلتفت بعدستيه جانبًا للحظات قَبْلَ أن يعاود النظر إليه ليُجيبه بهدوء. ناصر كان يُنصت إليه وَعقله يَسْترجع تلك الليلة المشؤومة واعتراف طلال المُنهار الغارق من دموع نَدمه.. يَسْمعه وبصره يَتفحّص ملامحه بدقّة.. تلك المَلامح التي تَكالبَ عليها ماضيه مع حاضره بلا رَحْمة. كانت تَجاعيد التّعب والإرهاق تَشق قَسمات وَجْهه من جميع الجوانب.. فَوْقَ جَبينه.. أَسْفَلَ عينيه.. وحَوْلَ فَمه.. بَياض مُقلَتيه احتفظَ بلونٍ أحمر باهت يَدل على أَنّه بَكى لساعاتٍ طَويلة.. والسّواد الجاثم أَسْفَل عَينيه يَفضح سَهره. هُو تَحَدّث وسَردَ المَوْقف الأَرْعن للمرةِ التي لا يَعْلمها.. فهو إلى جانب أَنّهُ حكاه لناصر ورائد سابقًا.. فلقد استفرغهُ لعشرات المرّات على مسامع ذاته المُتأسّفة. أرْدَفَ بعد أَن انتهى: واللحين قول لي.. ليش تسأل؟
كَشَفَ صَدره عن تَنهيدة أَثارت استغراب طلال أكثر وأكثر.. عَرَكَ كَفّيه ببعضهما البَعض وعدستاه تَتأمّلان الأَرض بشرود حَفّزَ القَلق بين عروق طَلال الذي هَتَفَ: نــاصــر
نَظَرَ إليه.. ازْدَرَد طلال ريقه عندما أَبْصَرَ شَفَقةٌ مُقيتة تُلَوّح من عَيْنيه.. شَعرَ بشيءٍ يَنقبض في قَلْبه.. في الوَقت الذي نَطقَ فيه ناصر بهدوءٍ كالذي يَسْبق دوْي انفجار قُنبلة: اللي صار بينك وبين نور حَرام.. ما في شك بهذا.. بس مو الحرام اللي تعتقد إنّك سويته
تَقَدّمَ جَسده للأمام بتحفّز والعُقدة تَسْتحوذ على ملامحه، وبعدم فهم: شتقصد!
تَنهيدة أَخرى.. ومن ثُمّ: يعني إنت ما زنيت.. اللي صار بينكم مو زِنا مثل ما تعتقد
وَقَفَ ببطء والانشداه أَرْجَفَ أَطْرافه خاوية القِوى.. وبتعثّر قال: بــ ـ..ــبس.. إنت.. إنـ ـت.. قلت.. لازم أنجلد.. لأنّي زنيــ ـ... ووجلدتني.. جلدتنـ ـي
وهو على جُلوسه حَرّكَ لسانه باعترافٍ طَعنَ طَلال في ظَهره: إنت نسبت الجُرم لنفسك وأنا ما صحّحت لك.. استغليت جهلك عشان أطفي ناري المشتعلة على بنتي
أَشارَ لِنفسه.. لِخرابه.. لِذاته.. وبهمسٍ مَشْروخ لَم يَكن سوى آه هَتَفَت بها نَبْضة بعد أن عَثّرتها الخيانة: وأَنــا! "صَرَخَ من قُعر أَلمه" وأنـــــا!... من يطفي النــار اللي حرقتني وحرقتني وحرقتنـــي وللحيـــن تحرقني؟ مــن؟ كلما أَشوف الراحة وهي تنسلب مني أقول اي.. هذا عقاب ربي.. ربي للحين ما تاب عَلَي.. ما غفر لي جُرمي.. ما تجاوز عن الكبيـــرة اللي فعلتها.. واللحيـــن ياي تقول لي إنّي بــريء وإنّك جذبت عَلي! "تَقَدّمَ منه وهو يَضرب بقبضته على صَدره.. فَوْقَ قلبه.. مُرْدِفًا بحُرقة احْتَقَن منها وجهه المكدود" هذا ما عاد له وجود ناصر.. البارحة نور ذَبحت آخر جزء منه "وهو يُعَدّد على أصابعه المُرتعشة" انطعن من خواتي.. وانطعن من بلقيس.. وانطعن منك.. وانطعن من نور وعبد الله "عاتَبهُ وغَمامَ عُمره يُسْقِط على عَينيه دُموعًا ليذرفها" ومو طعنة وحدة يا ناصر.. مو طعنة وحدة! تماديتون في قسوتكم.. وااايد تماديتون.. وأنا ساكت ومنجب... أقول ما عليه.. أستاهل.. أنا اللي يبته لنفسي.. أستاهل.. عشان أتأدب "رَفع كَتفه وهو يَبتسم بخيبة مُرْدِفًا وبصوته المبحوح يستغيث" لكن طلعت ما أستاهل.. ما أستاهل هالظلم اللي انظلمته منكم "أدارَ جَسده وهُو يُغمض عينيه وأصابعه تتخلل خصلات شعره المُبلّلة بعرقه.. وبهمسٍ تغمره الحيرة" يا الله.. يــا الله! "التَفَتَ إليه وعلى وجهه نُحِت سؤاله الأبدي" أنا ليش عايش! شنو الفايدة من عيشتي؟
وَقفَ ليُقابله وهو ينهره بهدوء: طلال لا تقول هالحجي
أَعادَ بإصرارٍ نابع من جراح رُوحه المكشوفة: لا قول لي ناصر... قــول لي ليش.. ليش أنا للحين عايش؟
رَدَّ: أمر الله يا طلال
ابتسامة لا معنى لها ولا لون عَبرت أرض شَفتيه القاحلة وهو يَقول: تدري.. السعادة اللي طول عمري أحلم فيها.. أدري إني راح أحصّل عليها وللأبد وقت ما ربي ياخذ روحي.. خلاص أنا تيقنت.. الموت بالنسبة لي هو المرادف للسعادة
ناداه: طلال اسـ
قاطعه بكلمتين جليديتين: اطلع برا
استنكرَ التغيّر الغريب والسريع الذي تَمَكّن منه.. جاءَ ليتحدث لكن صَرخة طلال المجنونة أَلجمته: اطــــلـــع بــرا.. اطــلــع من حـيـاتي ناصر.. اطــلــــع... خــلاص.. أدّيت اللي عليك "ضَحكَ وكأنَّ مَسًّا قَد أصابَ عقله وهو يُكمل" صدق ما أدّيته على أحسن وجه.. بس يكفي إنّي للحين حَي.. دمرتني صح.. شوّهت أحلامي.. حرمتني من حبيبتي لمرتين.. وذبحت حلم الأسرة اللي كنت أسعى له.. بس ما عليه.. أنا للحين أتنفس "رَفَعَ حاجبيه وبتساؤل لاسع" مو هذا المطلوب؟ مو مشكلة.. بنجرح الإنسان.. بننتزع من قلبه أحلامه وبنكسرها وبعدين ندوسها.. بنقلب له الحقيقة أوهام والأوهام حقيقة.. بنطحنه وهو خل يختنق بآهات روحه.. ما عليه مدامه بعده حَي.. بعده يقدر يمشي.. حتى لو كان إير وراه حطامه مــا عــلــيــه.. صح ناصر؟ صــح ولا أنا غلطان؟
نَطَقَ وهو يَنتقي كلماته بحذر ليتفادى أي ردة فعل غير مُتوقعة: طـلال الأمور تحت السيطرة.. نور قاعدة تمر في صدمة.. وأي شي قالته فهو بسبب صدمتها.. يعني هي ما تقصده.. فلا تستعجل السوء.. أنا راح أكلمها وأفهمها.. كل شي راح يتعدل ويرجع مثل قبل وأفضل
كَبّلت العُقدة ملامحه الرّمادية وهو يتساءَل: ليش للحين ما طلعت!
رَفَعَ يده يُحاول أن يَتفاهم معه: لحظة طـ
اتّسَعت عيْناه بصدمة من الدّفعة القوية وغير المُحترمة التي وَجّهها إليه.. وقَبْلَ أن يُعَبّر عن صَدمته أَتته الدّفعة الثانية أقوى من سابقتها ولسانه يُردّد بحقدٍ كان غَريبًا وجدًا عليه: اطــلع.. اطـلع ناصر "وبصرخة أَكّدت لناصر أن هذا الذي أمامه قَد سُلِب منه وَعيه" اطــــلع.. بـــرا ناصر براا.. اطــلــع بــرا
فَتحَ الباب ثُمّ أخرجهُ قِسْرًا من شقته وصرخاته تتردّد بين أرجاء المَبنى وتَصْدح بين جُدران رُوح ناصر المذهولة.. لقد ذُبِحَ طَلال.. لَقد ذُبح بيدين أَحبِّ خَلْق الله على قَلْبه. أغلق طَلال الباب.. اسْتندَ عليه بجانب جَسده المُرْهَق.. المَذبوح بسيوف الخيانات.. المطعون في خضم انتشائه من عِناقٍ وَهْمي.. اسْتَنَدَ والرّوح في جَوْفه تَصرخُ أَين سَندي وكَتِفي وأَرْضُ بقائي؟ أَين تلك اليَد التي وَجّهتني لطريق النّور؟ أَين دوائي وقوّتي وصَبري؟ أين أَنتَ ناصِر؟ وهُناك.. على أرْضية شِقّته المُختنقة من الكآبة.. استسلم جَسده بسقوطٍ خافت.. كصوت وَقع أَقدامه وهي تمشي على طريق السعادة.. انهارَ وجوده والصّمت الذي أَخذَ يَزعق داخله صَرّح لهُ بالحقيقةِ القَبيحة.. بالحَقيقةِ التي أَعمى بَصيرته عنها لسنوات.. بالحَقيقة التي لَم تحتمل أَيّة ظنون.. حَقيقة وحدته. كُنتَ طَلال.. كُنتَ ولا زلتَ وحيدًا.. وافتقار ذاتك لجوابٍ عن أَسئلتك يؤكّد على انتمائك للوحدة.. لا ناصر ولا نور.. لا عائلة ولا أُسرة صَغيرة.. فوحدتك وُلِدت بموت أُمِّك.. وُلِدت بعمرٍ مُخَلّد.. فهي سَتبقى حتى وإن أتى وأَنقذكَ المَوْت.. سَتبقى إثْباتًا على أَنّك عُشْتَ ومُتَّ وَحيدًا. احْتَضَن جَسده.. كان يَرتعش.. يعتقد أَنّهُ مَحْموم.. لا لا طَلال.. لستَ مَحْمومًا.. هذه نتائج النار التي زَجَّ فيها ناصر حَطَبَ خيانته.. أصْبَحتْ أكبر.. أَصبحتْ أَشرس ولهيبها ازْدادَ تَمَرّده.. باتَ يَتغَذَّى على أَشْلائك بلا رأفةٍ وشَفقة. ها أنتَ تَستنشق رائحة ذاتك وهي مُسْتسلمة للفناء.. ها أنت تختنق من جُثث دواخلك.. قلبك.. رُوحك.. وأحلامك.. من أَين لكَ توابيت تضمها فيها؟ بل من أين لك أرض تدفنها فيها؟ وهل تَحْتمل الأَرْض دَفْنَ كَيانٍ مُدَمَّر؟ هُنا بَكى طَلال.. أَفْرَغ من العين دُموعه وناحَت من حنجرته آهات ذاته.. وبَكى.. بضياعٍ وتيه بَكى.. فهو اكتشف في نهاية المطاف أَنّه لا يدري إلى أَيْن ولِمن ينوء بوجعه!
,،
يتبع
|