كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
أَرْخت ذراعيها حَوْلَ رَأسها وهي تَسْتَرخي في اسْتلقائِها بَعدَ أَن كَشفت بَطنها للطَبيبة. أَغْمَضَت والمَلْمَس البارد للمادة الهُلامية فوق جلدها جعلها تَرجُف بلا إرادة منها.. زَفَرَت بهدوء وهي مُنتبهة لارْتباكها هذا.. الرجفة والنبضات الحَثيثة والبرودة المُتَعَلِّقة بأطرافها. لا داعي لكُل ذلك مروة.. لا تُفسدين هذه اللحظات الخاصة والمُميزة بقباحة الواقع. فَتحت عَيْنيها عندما طُرِقَ الباب.. لَم تتحرّك ظَنًّا منها بأنَّها إحدى المُمرضات.. لكنَّ وَجهه الذي لاحَ لها أَجبرَها على جَذب جَسدها للأمام بمفاجأة. نَظَرت إليه بعينيها المُتَوَسّعتين وهُو يَبتسم للطبيبة التي قالت له: زيـــن لحقت دكتور
عَقَّبَ وهو يقترب من السرير: خلصت العملية ومُباشرة جيت
أَوْمأت له: يعطيك العافية
وجسده يقف باستقرار على يسارها: يعافيش دكتورة
أَشارت لمروة وبيدها الجهاز: دكتورة ارتاحي
رَمَشت لمرتين مُتتاليتين وهي تتطلع إليها ببلاهة قَبْلَ أن تعود لوضعية الاستلقاء.. ازْدَردت ريقها ووجوده غير المُتوقع وقُربه المُبالغ فيه يَتَلَقَّفها يُمنةً وشِمالا.. ما أدراه أَنَّها هُنا؟ هل أخبرته الطبيبة؟ أو أَنَّهُ بَحثَ بنفسه؟ أين بحثَ أصلًا!
: هذا هو جنينكم
التَفَتَت للطبيبة بانتباه.. كانت تُشير بإصْبعها للتصوير الواضح في الشاشة، لذلك وَجَّهت نَظرها للشاشة.. لتستقبل وللمرة الأولى صُورة طِفلها.. نعم طِفْلها.. ها هُو.. واضِحٌ جِدًا من بين غَياهب رَحْمها ودِفئه.. مُسْتريح وآمِن هُناك.. طاهِرٌ وأَبيض.. لَم تُدَنَّس رُوحه بكُرهٍ أو انتقام. تَرَقْرَقت دَمْعة في عَيْنها أَحياها الشعور الذي غَمرَ دواخلها وأحاطها بسِعة.. زُهور تَفَتَّحت من بين الخَريف الشائب، وقناديل أضاءت العُتمة المُوحِشة، وأنهارٌ عَذْبة أَخذت تُنعِش ما مات وقُتِل وانتحر. أَدارت رَأسها لزوجها.. مُتَشَوِّقة لرؤية مشاعره على صَفحة وجهه.. تُريد أن تعرف.. هل قَلْبه يَرقص وَسط صَدره مثلما يَفعل قَلْبُها الطَّيْر؟ تَصادمت أنفاسها بزَهوٍ ودهْشة مما رَأته بين عينيه وعلى وَجهه.. تلك النَّظرة.. نَظرة الحِرْمان التي التقى فيها العَطش بواحته؛ أّذابت قَلْبها بكامل حجراته.. آآآه كَم أنتَ رَقيقٌ وشَفَّاف عبد الله.. وأنا.. أنا بانتقامي الأعمى فَضضتُ رِقّتك الشفافة عنوة. ارتعشت شَفتاه بابْتسامة تُقاوم دَمعة الفَرح.. ها هُو جنينه.. طِفله المخلوق من ظهره.. ها هُو يَسْبح بين ظُلماتٍ ثَلاث.. أشهرٌ فَقَط وسَيتَّخذ من حضنه مخدَعًا له وبحرًا لا يخون.. أبدًا لا يخون. تبادلَ مع زوجته نظراتٍ مُتناقضة في معانيها اقتطعَ وِصالها صَوت الطبيبة التي بَدأت تَسْتفيض في الشرح والنُّصح. وأخيرًا ناولتهما نسخة من التصوير قَبْلَ أن تتركهما وتخرج في حين أن مروة أَشغلت نفسها في مسح بطنها وترتيب ملابسها. ناداها بصوتٍ أٌقرب للهمس: مروة
رَشَّحت صَوْتها ثُمَّ أجابت ببحّة دون أن ترفع بصرها: نعم؟
جَلَسَ على المقعد أمامها وقال: طالعيني
تَرَدَّدت وبانَ ذلك على ملامحها.. لكنّها في النهاية ناظرته لينعكس أمامه ضَياعًا توأمًا لضياعه.. نَطَقَ بتنهيدة مُرْهَقة: راح نسافر
عَقَدت حاجبيها بعدم فهم ويداها تتركان قميصها: شنو؟
بَلَّلَ شَفتيه قَبْلَ أن يُفَصِّل لها بهدوء: إنتِ أنهيتين الامتياز.. فراح نسافر أنا وإنتِ.. راح نسافر أمريكا.. عشان تاخذين سنوات الإقامة هناك وتمتحنين للبورد
رَمَشَت وهي تُحَرّك رَأسها وبيدها تُطالبه بالتمهّل في مُحاولة للاستيعاب: لحظة لحظة.. شنو بنسافر أمريكا! "رَفعت حاجبيها ووجهها الشاحب أَطَّرته عروق تستعد لحقن الدّماء وهي تسَألهُ باستنكار" عبد الله إنت مستوعب شنو قاعد تقول!
رَدَّ بذات هدوئه غير المُتلائم مع الخَبر الذي فَجّره: اي مستوعب مروة.. كلّمت جم صديق لي هناك ورتبت كل شي.. ومثل ما سمعتين من الدكتورة إن ما في ضرر من السفر.. تطمني كل أمورش بتمشي تمام
عَلت نبرة صوتها والرَّجفة عادت لتستحكم منها: عــبــد الله شنو تطمني! جاي لي من غير مقدمات تقول لي بنسافر أمريكا! فجأة جذي! واللحيـــن وأنا توني في أول شهور حملي!
هَزَّ رَأسه بخَيْبة عَظيمة من نفسه ومن أُمّه ومنها هي ومن كُل ما هُو حوله، ومن حر فؤاده هَمس: مروة ما أقدر أقعد اهني.. مـا أَقــدر.. أحس كل شي قاعد على صدري.. يخنقني.. يخنقنـــي.. والله حتى النَّفَس بالغصب أقدر أتنفسه "مَسَح جانب وَجهه المُتَهَدِّل وهو يُكمل بنبرة هَزَّت كيانها من جذوره" ضاقت عَلي الدّنيا مروة.. والله ضاقت عَلي "وَقَفَ ليستطرد بضحكة مكسورة.. مُحْبَطة" يوم خطبتش أمي ما وافقت.. وبعد اللي صار عرفت ليش.. حزّتها.. قلت لغيداء.. قلت لها.. يا مروة.. يا هجرة ما بعدها رجعة.. ما كنت أدري.. إنّش بتكونين لي.. وإنّش إنتِ مع أمي.. بتوجهوني غصب لطريق الهجرة
هَمَست بصوتٍ تلتهمه اللوعة: عَبـ ـد الله
رَفَعَ يَده أمام وجهها يُقاطعها وعيناه تغشاهما رَمادية مؤسِفة: أنا ما سامحتش.. لكن سامحت أمي.. ما أقدر إلا إنّي أسامحها.. لأنها أمّي.. ولأنها أمّي.. أنا ما أقدر أقعد اهني.. ما أقدر أشوفها.. أخاف أقسي عليها بنظرة ولا كلمة.. وإنتِ "خَبَت نَبرته وتَصَدّعت ملامحه بألم" إنتِ كنتِ لي خلاص "أشارَ لصدره.. لقلبه" انحفر وجودش اهني "أشارَ لعروق ذراعه مُضيفًا وهي تشهق بالبُكاء الصارخ بالنّدم" تمشين اهني.. واللحين ولدي يكبر داخلش.. عشان جذي.. راح تجين معاي.. بتهاجرين معاي.. عشان نبدا من جديد "أَكمل بحشرجة ووسط عينه لَمحت أطيافًا مُوَدِّعة" أنا فقدت نُور بغفلة مني.. ومُستحيل.. مُستحيــل اللحين أفقدش.. خلني.. خلني أتألم منش عندش.. أشتكيش عندش.. أعاتبش وأهاوشش وإنتِ زوجتي.. حَلالي.. بتحمل كل هذا.. بتحمله مدام نار البُعد ما تجويني "رَفَعَ حاجِبه وعدستاه تتخبّطان على وجهها مُتسائِلًا" شنــ ــو.. جوابش؟
تَطَلَّعت إليه لدقائق ثُمَّ تَركت السّرير.. مَشَت إليه على وقع تصافق أهدابه.. وهُناك على صَدره وَسَّدت رَأسها وذراعاها تُحيطانه بتَشَبّث الغارق المُستنجد.. ودموعها التي سالت مَنحت قَلْبه الجواب. وهُو.. هُو المُهَشَّمة أَحلامه.. المُنحني صَبره.. والمَثقوب فَرحه.. ما كان له إلا أن احتضنها.. كَجمرةٍ تكويه احتضنها.
,،
قالت مَلاك أَنَّ الليلة هي الليلة المَنشودة.. هي التي سَتكون الخَطَّ النهائي الذي سَيَخسر عنده والدها.. هي التي سَتُغشي الباقي من حياته بسوادٍ لا أَواصر بينه وبين الضِّياء. الخطة بسيطة.. فاتن سَتسلّمه المواد المَمنوعة.. وهُو سَيستلمها منها مُقابل مبلغ من النقود.. وأثناء هذه المُبادلة المُخالفة للقانون.. ستفاجئهم الشرطة باقتحامها للفيلا وإلقاء القَبض عليه.. هكذا ببساطة.. ببساطة لا يُمكن أن تَعبر من أَمام حَدس والدها. من أَجل هذا أَصدرت قَرارها بينها وبين نَفسها.. لَم تُناقشه مع ذاتها.. قَفَزَ في عَقلها ومُباشرة وافقت عَليه. وها هي الآن تَتخذه.. فمركبتها قَد تَوَقَّفت أَمام الفيلا التي سَكنوا فيها لفترة من الزَّمن.. كانت مزرعة أكثر من أن تكون مَنزل.. كما أَنَّها كانت مَعْزولة عن الشارع العام.. وعدد المنازل المُحيطة بها يُعَد على أَصابع اليَدين. مَرَّرَت بَصرها عليها من خَلْف زُجاج السَّيارة.. شَدَّت على المِقْود.. حفرة تَهوي إليها شجاعتها قَد انتصفت صَدرها.. ورَعشةٌ خَفيفة بَدأت تَتَسَلَّق جَسدها. خائفة هي.. خائفة للحَد الذي جَعلَ الخَوْف يَتَكَوَّر في حَلْقها.. يَمنعها من مُمارسة عملية تنفس صَحيحة. لا تدري ماذا يَنتظرها.. لا تدري ماذا تقول.. بل لا تدري لِمَ هي هُنا! نعم.. تُريد أن تُقابل والدها.. ولكن من أجل ماذا؟ وفاتن تلك.. ستكون هُناك.. يعني أنهما سَتلتقيان للمرة الأولى.. ففي أي مُنحدر ألقيتِ بنفسكِ حُور! دَعَكَت وَجهها بيديها وزَفرات مُضطربة تفر على عَجلٍ من جَوفها.. ازدردت ريقها ويداها تكادان أن تَقتلعان المقود من مكانه.. دُوار بَدأ يَتلقف أطرافها ليُحاصرها من كُل جانب.. والغثيان كالرِّيح يهيج وَسط صَدرها. مَسَحت بيدها المُسَوَّرة بالرَّجفة على قَلْبها المُختنق من قَبْضة التَّوجس.. خائفة مما سَيحدث بعد دقائق.. لا تدري ما الذي سَيحدث.. لكنّها خائفة منه.. وكَون الذي يَنتظرها مُبْهَم الملامح.. هذا ما كان يُعَرْقل خطواتها. بَعد نصف ساعة من التَّخبط بين الأسئلة اليتيمة من أجوبة.. وبين الخَوف من المُستقبل القَريب جدًا.. انتبهت لدخول مَركبة عَبر البوابة الكبيرة الواقعة أقصى يمينها. هُنا بَدأت نبضاتها أولى مراحل جنونها.. إن لَم تكن فاتن التي دَخلت.. فهو واحد من رِجاله.. يا إلهي.. وكأنَّ سماءها أصبحت أرضها.. تَمَسَّكت بمقبض الباب وعيناها لَم تُفارقان أسوار الفيلا الشاهقة... لَم تُسرف في التفكير حتى لا يَضطرها خوفها أن تتراجع. تَرَجَّلت من السيارة.. تَأكَّدت من مخزون أَنفاسها.. ثُمَّ خَطت بسرعة متوسطة إلى الداخل.
،
تَقابلت معه وَسط المنزل ومن حولهما تتوزع غرفتي الجلوس الواسعتين.. كانت تَحمل الحَقيبة المُستطيلة المُنتَظَرة.. تَشد على مقبضها كُل ثانيتين خوفًا من انزلاقها بسبب تعرّق كَفّها. ابْتَسمَ وقَدماه تَقودانه إليها.. ومع كُل خطوة تُقَرِّبهُ منها كان يَسْتَل من قَلْبها نَبضة.. فهي في الأَشهر الماضية تَخمرت بشجاعة رَكيكة.. والليلة.. آه من الليلة... الليلة هي تَعَرَّت من هذا الخِمار حتى أَن الخَوْف أَخَذَ يَتداعى من حولها ليُكَبِّلها عنوةً. تَمَسَّكت بالحقيبة مُجَدَّدًا.. وهذه المَرَّة العَرَق تعاضَد مع الرَّجفة مُضعفين قَبضتها. استعانت بابْتسامة بالية عندما وَقَفَ أَمامها.. وبهمسٍ مبحوح تَساءلت: مستعد لعملية المُبادلة؟
رَفعَ حاجِبَيه وقابلها بسؤال: أَي مُبادلة فيهم؟
تَطَلَّعت إليه لثواني وسؤاله جَليَّةٌ فيه المُراوغة.. لكن المُشكلة أَنَّها لا تدري يراوغها بماذا! حافظت على ثَباتها.. وأعادت تثبيت عباءة الثقة المُتَهَدِّلة على كَتفيها.. وبكلمات تدرعت بالحَذَر: على حد علمي إن اللي تجمعنا مُبادلة وحدة.. إلا إذا كنت ناوي نهايتك وخططت لشي من وراي!
شَخَرَ بسخرية وَخزت تَماسكها: وشنــو بيصير لو كنت مخطط من وراش! بتاخذين مكان فرناندو وبتعاقبيني؟
أَوسعت ابتسامتها ومن بين التباساتها قالت بثقة: لا طبعًا.. لأنّك أذكى من إنّك تعرض نفسك لمثل هالخطر
هَزَّ رَاسه مُهَمْهِمًا بتأييد قَبْلَ أن يُعيد سؤاله: ما قلتين لي.. أي مُبادلة فيهم اللي تسأليني إن كنت مستعد لها؟
هذه المرة انتصرت عليها العُقدة وتَوَسَّطت حاجِبَيها.. لَم تفهمه.. لم يتفقان على مُبادلة غير هذه.. هي تعطيه البضاعة وهُو يَرُد إليها المَبلغ. استقامت في وقوفها وهي تُحَرّك الحقيبة من جانب جسدها إلى منتصفه، وبيديها أمسكت بمقبضها وعيناها عليها.. وبهدوء قالت وهي ترفع بصرها إليه: ما أذكر إنَّ كان في بيننا مبادلة غير هذي الشنطة والمبلغ اللي يساويها
ابتسَم وبصوتٍ جهور قال: لا لا.. أكيد يا حلوة في غيرها.. أكيد يا وعد "مالَ رَأسه وهو يُضَيِّق عَيْنيه ليُرْدف فاصِلًا رُوحها عن جَسَدِها" ولا أقول يا فاتن؟
في ثواني تَلَوَّنت ابتسامته كَحِرباء بالمَكر.. قَبْلَ أن تتطوَّر لضحكة مُجَلْجلة.. فوجهها الذي نُهِبَ منه اللون كان بالنسبةِ له مَشْهَدًا يصلح للتندر. كانت تتمنى لَو أَنَّها في حُلم.. أو أَنَّها مَسْجونة بين قَبْضَتي كابوس.. أَو أَنَّ جاثومًا أَسود يُلاحقها من كُل جانب.. تمنَّت لو تكون اللحظة وَهْمٌ سُرِقَ من على غَفْلةِ الواقع.. أَو صَفْحة مَنسية بين صَفحات رواية سَعيدة.. أو ساعة دَهْماء اغتصبت وَجه صَباحها المُنير. تَمَنَّت من أعماق رُوحها أن تكون اللحظة أي شيء.. أي شيء.. عَدا أن تكون واقعًا وحَقيقة.. لكن أَسَفًا أنَّها كانت حَقيقة.. كالعينين في الرأس كانت حَقيقة. تَصافقت أهدابها ببعثرة عندما قَلَّصَ المسافة بينهما.. قَلْبها استنفر.. النبضات تَعَلَّقَت أقراطًا في أُذنيها.. حَبَسَت أَنفاسها بين أَضلاعها التي انكمشت كما لَو أَنَّها تحمي دواخلها من التَّشتت.. وهُو كان يَقترب حتى اصطدم طَرف حذائه بطرف حذائها. حشَرَ يَده في جَيْب ثوبه وهو يَهمس بخُبثٍ يَجري مع دمائه: هالكثر اشتقتين لي وجيتين لي برجولش بعد كل هالسنين؟ "دارَ المكان فيها وهي تُبْصِر السلاح في قبضته.. ضَحكَ مُعَلِّقًا" أوووف.. الخوف واكل منّك حتة
ثَبَّت فوّهة السلاح على فِكّها ورَفعَ بهِ وَجهها.. شَبَكَ عَيْنيه بعينيها المُتَحَوّرتين لمغارتين تسكنهما الوِحشة.. ارْتَفعت زاوية شَفتيه كاشِفًا عن ابتسامة تُقَطِّر ثقةً مُسْتَفِزة: ما أدري وين عقلش.. وعقل زوجش الغبي يوم فكرتون إنّ مُمكن خطة غبية مثل هذي تمشي عَلَي! "أَخْفَضَ السلاح ببطء مُرْبِك لُعِنقها نُزولًا لصدرها وهو يَهمس بحاجب أَرفعته أَنفة عَمياء" لكن قولي لي.. شرايش فيني وأنا أمثل الجَهل؟ أستاهل العلامة الكاملة صح؟
اقْتَلعت صَوْتها من تُربة حقدها العَتيقة لتهمس من بين أسنانها: حَقيـــــر
وَضَعَ سَبّابته على شَفتيها: أوش أوش
دَفرت يَده ببغضٍ يلهب وَسط مُقلتيها.. ارْتَفَعَ حاجباه وشفتاه تقوستا كما لَو أَنَّهُ كان يُقَيِّم فعلتها.. ومن ثُمَّ حَرَّك بصره على جسدها ومن عينيه كانت تنقذف سِهام وَقِحة.. كَرَّرت بعلو وهي تَرمي الحقيبة بغَضَبٍ ارْتعدت منه أوصالها: حَقيــر.. حَقيـــــر.. إنــت أحــقــر إنــســان على وجــه الأرض
ادَّعى الاسْتنكار: ليــش يا فاتن؟ ترى في يوم من الأيام هذا الجَسد كان مُلك خاص فيني.. أتصرف فيه على كيفي
دَفعتهُ من صدره بكلتا يديها وَالجنون تَفصلهُ عنها شَعرة.. كانت تدفعه ومن حنجرتها ترتفع صَرخات اجْترعَ القَهر كلماتها.. صَرخات بعُمر ضياعها وبعمر الظَّلم الذي أَفسدَ بهِ حياتها.. وهُو.. ذاك الجَبل الضخم.. لَم يَتحرّك جَسده قَيْد أُنملة. أخيرًا كَبَّلَ معصميها بيدهِ اليُسرى.. وباليُمنى ثَبَّت السلاح فوق قَلْبها.. وبصوتٍ مُجَلْجِل قال: شــوفي يا حــرم رائد الموقّر.. الفيلا كلها محاصرة برجالي.. وكلهم مسلّحين.. وهذا أنا عندي سلاحي.. فيعني أي حركة تصدر منش بتقابلها طلقة.. ليـن ما تموتين وترتاحين من هالدنيا.. فخليش آدمية لا تجيبين نهايتش.. ترى محد بينقذش.. هاللي شادة الظهر فيهم مُستحيل يقدرون يصمدون قدام القناصة اللي عندي
نَطقت من بين بحّاتها ومن بين انتحارات الدّموع فوق وَجْهها: اذبحني.. اذبحني وخلّصنــــي
ضَحكَ: لا ما يصيــر بهالسهولة.. طول عمرش عايشة في عذاب.. متعودة عليه يعني.. فما يصير تموتين من غيره.. لازم نذوقش آخر كاس منه
أسدلت جِفنيها.. لا بَل هَمُّ الماضي قَدِمَ إليها وأَرْخى جِفنيها لألا تُبْصِر خِيانة الحاضر الذي وَثِقَت به حَدَّ الغلو.. لَم تتخيَّل أن النهاية سَتكون هكذا.. لَم تتصور ولو للحظة أَنَّ العذاب سَيُرافقها إلى قَبْرها.. لِماذا؟ لماذا بَعد هذا السعي المُجِد بَحثًا عن الطمأنينة لا تَتلَقَّانا سِوى العذابات؟ أَلِهذه الدرجة أَلِفت أَرواحنا السَّواد وباتت بلا إرادة منها تَحيد عن طريقة الرَّاحة لتمضي إلى الهاوية.. حيثُ الغَرق في الأَوجاع؟ كَيْف لَم تنتبه؟ كَيْف لَم تتوخى الحَذر؟ بَل كَيف نَسى جِرْحها أَنَّ سُلطان يُستحال أن تعبره حيلة؟ هو المُحتال الأَكبر.. الثعبان الذي يَنقض عَليك في أَكثر لحظاتك صَفاء ليشوهها بسمومه.. تلك التي لا تقتلك.. بَل تختبئ بين عروقك لتدب بين دمائك أَلَمًا في كُل مرة تَسهو فيها عن واقعك استجابة لِسَكَرِ الأحلام. تَساءَلَ وهو يَضغط بالسلاح فوق قَلْبها: وين تبين تكون أول طلقة؟
: في بنتهـ ـا
التَفَتَ كلاهما بانصعاقٍ كادَ أن يَفقأ أعينهم من محاجرها.. تَسَمَّرَ بصرهما عليها وهي واقفة باستقامة تُعَكِّر ثَباتها الرَّجفة.. جلدها قَد تَبَدَّلَ لونه وبات أَحْمرًا يُصاحبه بَياض الخوف.. ذلك البياض الخاص بالموت.. وَوسط مُقلتيها كانت تهتز دُموع أَبت أن تَخدش وَجنتيها. هَمَسَ سُلطان بلعثمة: حُـ ــ ـ... ــ ـو...ر!
رَدَّت بصوتٍ هَزمته الأبوة الموبوءة: اي يُبـ ـه حُور.. حُور.. بنتك.. حُور بنت فاتن
نَظَرَ لفاتن المشدوهة وهُو وللمرة الأولى في حياته يَتلمظ الخوف.. الرُّعب.. والهَلع.. ازدْرَدَ ريقه ويده بسلاحها تبتعد عنها ليُقابل ابنته ويقول برجاءٍ لا يُليق به: حُور حبيبتي.. اسمعيني
بحَزمٍ وشدّة قالت: ما بسمع شي.. تبي تذبح بعد؟ ما عليه اذبح.. بس هالمرة اذبحني "وبلوعة التهمت كلماتها" لأنّـ ـي مو قادرة أعيش مع زوجي.. وأنا أدري إن أبـ ـووي.. ذابح أبوه.. أبووي اللي تسبب بمرض زوجي وتسبب بجرحي وضرري "عَدّدت على أصابعها وهي تشهق في بكائها الذي غَزا بدموعه مدائن وجهها" خطفتني من أمـ ـي.. وذبحت مربيتها وزوجها وبنتهم.. وذبحت عمــ ــي صالح.. صديق عمرك... ودَفنت يوسف في المرض.. وذبحت عَمّار.. وهذا غير العذاب والنار اللي عيشّت فيها أمي.. حرمتها من الضنا.. بقت فلوسها.. أهنت كرامتها وما تركت لها ولا ذكرى حلوة.. واللحيــ ـن.. اللحين جاي تكمّل! "تَقَدّم خطوة لَم يتبعها بأخرى والسبب يَدها التي ارتفعت تَمنعه.. وبجديّة تامة قالت والنحيب يَتَكَسّر في صَدرها" لا تقــ ـرّب.. إذا بتبرر.. لا تقرّب.. لكن إذا بتذبـ ـح.. قَرّب.. واذبـ ــحنـ ـي
هَرْولت إليها فاتن هاتِفةً من قُعر فَزعها: حُـــور "أمسكت بكتفيها تنهرها عن فعلتها المُتمرغة بالجنون" يُمـ ـه حُور لا.. لاا " أَكملت وهي التي لَم تتمنى بأن يُدَنّس لقائهما الأوّل بنجاسة سُلطان" اطلعي يُمه.. اطلعي من اهني.. أنــ ـا.. أنا أقدر أتصرف
نَظَرَت إليها لثانية.. ثُمَّ عادت تنظر لوالدها لتقول بثقة لَم تكن تعلم من أين أتت بها: لو طلعت من اهني ما راح أطلع إلا لمكانين.. للمقبرة.. أو لمركز الشرطة.. مكان ما بيسلم نفسه وبيعترف بكل جرايمه
أَطبقت السماء فَوْقَ عالمه.. شَعَرَ بالأَرْض تتمخّض من أَسْفله.. وخيل له أَنَّه يَسْمع صَوْت تَدمير قَصره العاجي الذي اتَّكأ على عرشه لعقود.. وقَلْبه.. ذاك الذي لا يعلو بين حجراته إلا زَئير الأَسد.. ها هُو يَكاد أن يُفرى من زَعيق نَبضاته المُضطربة. هَمَسَ يَستعطف فؤادها: يُبه حُور.. أنا.. أنا ما ضريتش
ابتسمت ابتسامة جرداء: أدري إنّك ما ضريتني.. بس سويت اللي أعظم "شَهقت حتى انجرح حَلْقها" ضَرّيــ ـت ناس هم محل نفســ ـي وقلبي وروحي.. ضرّيت أعــز الناس في حياتي "هَزَّت رَأسها بتعبٍ أَضنى وجودها" وأنا خـ ـــلاص.. حِملي ما يشيل وَجع زيادة.. بــــس.. رُوحي ما تبي الدنيا إذا بتفقد فيها عزيز
سَألها ووسط عينيه.. يا للهول.. وَسط عينيه قَد احترق دَمْعٌ أَحْمر: تبين الموت؟
ارْتَفَعَ صَدرها مُسْتنشقةً هواءً يَسعها في آخر لحظاتها.. قَبْلَ أن تُجيب بحروف مُرتعشة: الموت أرْيَح لي
فاتن التي لَم تعد تقوى قدماها على حَمل جَسدها المُتضعضع من ضراوة الموقف.. صَرخت في وجهها: حُــور اعقلي.. هذا مجنووون.. يسويــــها ويذبحش.. ما يعرف بنت ولا ولد "استدارت إليه تُواجهه وهي تَضع جسدها دِرْعًا أمام جسد ابنتها.. رَفعت ذراعيها جانبًا لتقول وشَرٌّ شَرِس كَشَّرَ عن أنيابه في عينيها" والله.. والله لو تجرحها ربع جرح راح أذبحك.. أذبحـــك يا سلطان وأشرب من دمك
حَرَّكَ يَده القابضة على السلاح ومعهُ تَحرّك فؤاد فاتن المُشارف على الانهيار.. أَمّا حُور.. فكانت غير واثقة إذ هي على أَرْض الواقع.. أَم أنّ رُوحها فارقت جَسدها لتتبعثر بين فراغات وَهْمٍ واسِع الخيال.. الدوار الذي حاصرها قَد أَصْبح جُزءًا منها.. لَم تعد قادرة أن تسيطر على أطرافها.. ساقيها بُترتا.. وذراعيها شُلَّتا.. حتى أَنَّ حواسها اختلطت ببعضها البعض وتصادمت.. لا تدري من أين تستنشق الهواء وكيف تزفره.. ولا من أين تتبع الضوء لترى.. ولا بأي لغة تستعين لتنطق.. هي حتى أصابها الشّك بأنّها أصبحت بكْماء من هَوْل المَشهد وسطوته. سلطان يستجيب ويده تتحرّك.. فاتن تتقلَّد سلاح الأمومة من أجل حماية فلذة كبدها.. وحُور.. تائهة بين الوجود.. واللاوجود.. ومن بين هذا وتلك وهذه.. صَدَح صوت إطلاق نار في الوقت الذي دَلف فيه رائد وعزيز على عَجل.
صَمْـــــت.. صَمْتٌ كالذي يَعقب الخط المُستقيم لقلبٍ ميّت.. صَمْتٌ عَمَّ الاَرجاء ومَلأَ الأَجساد الواقفة بصدمة.. فالنهاية غير متوقعة.. غير متوقعة إطلاقًا! كان أَوَّل من تَحرّك عَزيز.. خَطى حتى توقّف عند الجُثّة.. ثواني وأبعدَ عَيْنيه لألا يتمكن التّشمت من نظراته. قالَ بهدوء وهو يحشر يديه في جيبي بنطاله: انقطع سيل السّم
لَم يُعَقِّب أحد.. فلا زالوا واقعين في قَبْضة الصّدمة.. لكن رائد استطاع أن يُزيح عَيْنيه عن الجثة.. لينتقل بهما إليها.. بَصرها شاخص ووجهها قَد استفرغ كُل دمائه حتى استوى كَفنًا يُنذر بالسوء.. زاغت عدستاها وَسط البياض وأَهدابها أخذت تتصافق مُعلنةً استسلام وعيها للغياب.. صَرخَ وهو يَرى جَسدها يَميل بوهَن: فـــاتــــن انــتــبــهــي
استدارت بشهقة مذعورة وبردة فعل سريعة أَحاطت جَسدها بذراعيها قَبْلَ أن تُهَشّمه الأرض.. ضَرَبت على خَدّيها وهي تناديها بفزع: حنـ ـ.. ــحُور يُمــ ـه حُـ ـور.. حُـوور "التفتت لرائد الذي جلسَ بجانبها وصَرخت" رائـــد بــنــتــي.. بنتــــي بنتــــــي
قال يُطمئنها: اهدي اهدي.. فقدت وعيها بس.. إغماء عادي بسبب الموقف.. بس راح نوديها المُستشفى أفضل
وهي تَمسح على وجهها الناطقة بين طيّاته جراحها وآهات ماضيها وحاضرها: يا بعـ ـد عمري.. يا رُوحي إنتِ
وهُو يَضع ذراع أسفل ظهرها والأخرى أسفل ساقيها: خلينا نوديها السيارة.. عندي ماي وعطر.. حاولي تصحينها لين ما نوصّل المُستشفى
أَشارت للخارج بملامح مخطوفة: بس برا.. محاصرين.. قناصة
عَقَدَ حاجبيه: ما في ولا أحد برا!
التَفَتت بحقــدها لجثته وقدماها تَحرّكتا نحوه وهي تشتمه من بين أسنانها بقهــر: الـــ... الـــ... جذب عَلي الحقيــر
اعْتَرَضَ طَريقها رائد الذي وقف أمامها: فاتن مو وقته.. خلاص ارتحنا منه.. خلينا نلحق على بنتش "استقام جسده وحور بين يديه.. التفتَ لعزيز" لازم أمشي
هَزَّ رَأسه: أكيد أكيد.. أنا بكلم الفريق عشان يجون كلهم اهني
قبْلَ أن يعبر الباب وفاتن من خلفه: كــلمــنــي
رَفع يده مُشيرًا بإبهامها: تمام
استدار بعد خروجهم لسلطان.. لسلطان الميّت.. لسلطان المُنتحر بطلقة وجّهها لرأسه مُباشرة.. قَرْفَصَ عنده.. تَأمَّل بقعة الدّم الكبيرة المُتشكلة بجانب رأسه كالبُحيرة.. تَتَبَّعَ مسيرها ومن ثُمَّ ثَبَّتَ بَصره عليه.. لَم يَمنع الضغينة من أن تحشو مُقلتيه.. هَمَسَ بِغِل حاولَ ألا يمسّه التّشفي ولكنه فَشل: ذبحتهــم ظلم وكتبت بدمهم انتحار.. واليــوم إنت.. إنـــت.. كتبت بدمك منتحر
,،
دَخَلَ إليهن بوجه الشُّؤم.. بالوَجه الذي يَصرخ بالفاجِعة ولكن بِصَمتٍ مُهيب.. يُجْبِرك على الإنصات لِسقوط الحَياة مُنهَزِمة على يَدي المَوْت. كانت تَقِف عند الخزانة الصَّغيرة الخاصة بطِفلها تَسْتخرج له ملابس نظيفة غير التي اتَّسخت من استفراغه.. ومُذ دَخل أَجْفَلت في مكانها.. جُود المَسْتَلقية على بَطنها فَوْقَ السَّرير تُلاعب الطِّفل؛ اعتدلت جالسة تَفاعلًا مع ملامحه المُوْحِشة.. والدتها وجِنان فَقد تَركتا الجُلوس لتَقِفا بِتَوَجّس.. أَما جَنى الصَّغيرة، فهي رَكَضت إليه دون أن تَفهم براءتها فَحْوى تعابيره. احتضنَها بيَد واحدة قَبْلَ أن يَخفض رأسه إليها ويقول بابْتسامة: بابا جَنى ما عليه تروحين فوق عند بابا شوي؟
هَزَّت رَأسها بطاعة ثُمَّ خَرجت تجري باتجاه شقتهم.. وهُو عاد ليَقذفهن بنظراته المُتكَتِّمة. تَساءلت لَيلى وهي تقترب منهُ والقَلق يُسَيّرها: ناصر.. شصاير؟ ليش وجهك جذي!
تَطَلَّعَ إليها لحظات قَبْلَ أن يُحَرِّك عَدَستيه لها.. لتلك التي اسْتوعبت منذُ النَّظْرة الأولى أن الأمر يَخصّها.. أن "الفاجعة" تَخصّها. لذلك حاولت أن تَطرح هي السؤال.. أن تستفسر عن المُتَضَرّر.. أن تَتَأكّد بأن ذ ا ك عَلى ما يُرام.. لكنّها لَم تَسْتطع.. لَم تَسْتطع أن تَجُر حَرْفًا واحدًا.. حَلْقها جُفَّ.. ولسانها شُلَّ.. وشَفَتيها أُطْبِقَتا بجمود. كَرَّرت لَيلى بحدّة وهذا الصَّمت يؤرقهن ويَزيد من قَلَقِهن بلا جَدوى: نــاصــر تحجــى.. شصاير؟
أَجابَ وعَيْناه لَم تَبْرحان ابنته التي تكاد أن تَسْتفرغ رُوحها: مــات
هَتفت ليلى باستنكار: شــنـــو!
كَرَّرَ واحْمرارٌ طَفيف يُحيط بمحجريه: مــات.. طــ ـلال.. مات
ثَلاث شَهقات فَرَّت من قلوب النّساء الثلاث.. عَداها هي التي انَقلَبَ الكَوْن من حَوْلها على عَقِبيه.. في لحظةٍ واحدة صَيَّرت الكَلِمة التي نَطَقَ بها الدُّنيا مَكانًا غَريبًا.. لا تَألفهُ ولا تَعرفه.. حَتى أَنَّ أَسْئِلة استغراب بَدأت تَصدح في جَوْفها.. أَين هي.. ولماذا هي هُنا.. وما الفائدة من وُجودها.. وما هُي الحَياة وما هُو المَوْت؟ أَسْئلة كَثيرة يُقابلها صَمْتِ مُطِبق.. فَبعدَ المَوْت تَنحني الأَجوبة باعْتذارٍ ثُمَّ تُغادِر.. لِتَضيع الأسْئلة في فراغاتٍ مع نَدَمِها. تَقَدَّم خطوتان سارِدًا عَليها حِكاية وَفاته: مات غرقان.. خانه البحر اللي وَثق فيه طول عمره.. مات وهو فاقد الأمل فينا كلنا.. رحت له.. شفته.. لونه راح.. ما بقى غير الزراق دليل على اختناقه.. وجسمه المبلل دليل على إن حتى البحر تخلى عنه
حَرَّكت رَأسها بالرَّفض.. الحركة كانت بَطيئة.. ثُمَّ أَخذت تتسارع شيئًا فشيء.. وكأنَّها برفضها سَتنفي حَقيقة مَوْته. جاءت لتمشي لوالدها لكنَّ قدماها المَشْلولتان من الصَّدمة أَوْقَعتاها أَرْضًا.. سَقَطَت على رُكبَتيها في الوَقت الذي اختْرق فيه نَشيجٌ جافَ صَدرها.. أسْرعت إليها كُل من لَيلى وجنان.. واحدة على يَمينها.. والأُخرى على يسارها في مَشْهَدٍ تَقليدي تُحاول فيه النّساء أن تحتوي وَجَع الأُنثى المُرَمَّلة، دون أن يَعْلَمن أَنَّ هذا الوَجع لا يَتّسع له حُضن.. ولا يندمل جِرحه.. ولا يُمحيه زَمن. شَهَقَت شَهْقة تَمَنَّعت عن رئتي طَلال ولَم تُنجِه.. شَهَقت والحَقيقة تُباغتها لتستقر طَعْنة وَسط قَلْبها وهي بكُل شراسة تَصدّها.. لكنّها تَفشل.. فالسَّهمُ يَنغرس دون تَوَقّف ودون رأفة. هَمَست بصوتٍ مبهوت وهي تُناظر والدتها من خلف غِشاء اللا واقع: مات.. مـ ـات.. طَلال مات.. يُمّـ ـه "عَلَت من حَنجرتها صَرْخة آه تَخْتَصِر حَرَّة الرُّوح وحُرْقتها" راااح يُمّـ ـ ـه.. راااح طلال يُمّـه راااح
قَرَّبت يَديها من خَدَّيها تُريد أن تلطمهما فسارعت والدتها الباكية تمنعها: لا يُمّـه لا تجزعين.. لا تجزعين واذكري الله.. قولي إنا لله وإنا إليه راجعون
ناحَت والعَيْنان مُغْمَضتان تَسترجعان الملامح الأخيرة.. الابتسامة المُوَدّعة.. والدمعة الحائرة بين اخضرارٍ رَمادي.. وبلوعة انتحبت: رااح وما سامحـ ـتـ ـه.. راح مكسـ ـور يُمّه.. كَسرته يُمّه.. كَسرته وخذلتـ ـه "اخْتنقت الشهقات بين أَضلاع صَدرها ولسانها يَتَحَسَّر بشَجن" ما استانس مع ولده.. انتظره طول هالسنيـ ـن.. وآخر شي مـ ـات وما استانس معاه "صَرخت بهستيرية وجسدها يَتلوى بين أيديهما" حــرمــتــه مــن ولــده.. حــرمـــتــه وخــذلــتــه.. لا يُمّـــه... لااا خل يَرْجع.. خل يرجع لو ساعة وأسامحـ ـه.. والله.. والله أسامحه... أَصْلًا سامحته.. والله والله سامحتـ ـه.. خـل يرجع.. مـــا أقدر.. مــ ـا أقدر أعيش من غيره يُمّــــــه.. خـل يرجع عشان ولده.. عشان ولــــ ـده
تَحَرَّكَ إليها.. قَرْفَصَ أَمامها ويده تُمْسِك بذقنها.. نَظَرت إليه والدّموع تَنعى فَقده وَسط عينيها وتبكيه على وَجْنتيها المُصْفَرَّتين.. هَمَسَ في الوَقت الذي هَبطت من عَيْنه دَمْعة وَحيدة: شفته.. مَيّت كان.. لونه الأزرق يقول ما له حياة ثانية.. بس الله نجّاه
تَقَلْقَلت عَدستاها بتخبّط على وَجْهه.. ماذا يقول؟ مــاذا يقـــول! أَو أَنَّها لَم تفهم ما يعنيه.. أو أنَّ أذنيها فاتتهما كَلِمة! التَفتت لوالدتها التي استنكرت بعلو وعُقدة شَديدة: نــاصــر إنت شقاعد تخربط!
قالَ وعيناه لَم تُفارقان وجه ابنته المخسوف: زوجش ما مات.. طلال ما مات.. كانت بينه وبين الموت لحظات بس.. وبفضل الله ومن عقبه الدكاترة اللي أنعشوه نَجى.. طلال بعده حي "شَدَّ على ذقنها وبقسوة أَرْدَفَ" فإذا ما تبينه يموت انهي تعذيبش وريحيه وريحي نفسش.. أنا ما بهذلت عمري ودست على كرامتي وقلبي وجمعتكم مع بعض.. عشان تجين وتدمرين كل هذا.. خـلاص.. الشي صار وانتهى.. اللحين هو زوجش وأبو ولدش.. وإذا هالكثر ما تقدرين تتحملين موته فوقفي جنونش قبل لا صــدق تندمين
تَرَكَ ذِقنها ثُمَّ وَقفَ ليُغادر غرفتها لغرفة نومه.. تَبعتهُ زوجته التي أغلقت الباب بقوّة أَحدث صوت تَبعهُ صرختها: إنــــت اســـتــخــفــيـــت! هـذي جذبة الواحد يجذّبها! "مَسَّت صِدْغيها بطرف أَناملها تُعَبِّر عن عدم استيعابها" أنا مو قادرة أصَدّق إنّك إنــت ناصر اللي طول عمرك تتصرف بحكمة تسوي هالسوّات! لو صار في بنتك شي؟ شنو بتنفعك هالجذبة!
هَزَّ رَأسه بخَيبةٍ من ذاته وهُو يَخلع غترته ويَرميها بجانبه: من زمان راحت من إيدي هالحكمة.. من زمان فقدتها "سَألها بَأسى صَدَّعَ ملامحه" ما شفتين حال ولدش؟ ما شفتينها هي نُور؟ كنت أظن إنّي ماشي صح.. بس طلعت أكبر غلطان
عَقَّبَت بقهـر: كيــفك إنت تحسّر على ضياع حكمتك على قولتك.. بس لا تقرّب صـوب عيالي.. للحين ما طلعت من الأربعين وتجي جذي ترمي عليها خَبــر جــذب زين ما راحت من جيسي "أشارت للخارج مع ارْتفاع صَوْت بكاء الطفل" هــا شوف.. فزعتها وفزعت ولدها "صَفَّقَت" عـاد اللحين استانس وارتاح إذا مرضوا
أَشاح عنها وهُو يَزْفر وأصابعه تتخللان خصلات شعره الشائبة.. يَعلم أَنَّهُ مُخطئ وأنَّ فعلته طفولية.. لكن منظر طلال وهو مُسَجَّى فوق السَّرير أَفقده عَقله.. سَلَب منهُ تلك الحِكمة التي لطالما كان يَتباهى بها.. لِوَهْلة ظَنَّ أَنَّهُ فَقدهُ للأَبد.. فَقدَ الابن الذي لَم يُنجبه.. فَرْق السّن بينهما ليس بكبير.. لكنَّ شُعوره ناحيته كان ولا زال شُعور الأب تجاه ابنه.. وأَن يَرى ابنه مُغَيَّبٌ شَبابه بثَوْب المَوْت.. هذا ما لا قُدرة لروحه على احتماله. أَخْفَضَ رَأسه وبيده ضَغَطَ على جَبينه وهو يَسْتمع لزفراتها وهمسها: إنا لله وإنا إليه راجعون.. استغفر الله ربي وأتوب إليه.. استغفر الله "دَنت منه حتى استقرت على رُكبتيها عند ساقيه.. أحاطت وَجْهه بيديها وهي تُناديه" ناصر "أَخفضَ يَده ونَظرَ إليها بقلّة حيلة.. شَدَّت بيديها ومن داخلها ثَبَّطت عَزم غَضِبها لتحتويه.. فالواضح أَنَّ الوقت غير مُناسب للوْم.. هَمست لهُ بمَلق" خلاص ناصر.. اللي صار صار.. وبسّك لوم لنفسك
قالَ بصوتٍ مُهْتَز تَجَرَّعَ فؤادها أَلمه: ليلـ ـى أنا اللي أتعبته.. من أول ما رفضته يوم خطب نور.. لين آخر شي "نزحت عن وجهها عدستاه مُسْتَرجِعًا مَشْهد طَلال المُرْعِب" يوم شفته جذي.. لا حول ولا وقوة.. ميت ليلى.. والله لو تشوفينه تقولين هذا روحه من زمان عرّجت لربها.. يوم شفته.. والله.. والله حسيت ظهري انكسر.. اسْودَّت الدنيا في عيوني.. طلال أمانة عندي ليلى.. هو ولدي.. ولــدي.. أنا اللي ربيته.. وأنا اللي كنت معاه في كل خطوة من خطوات حياته.. عَوَّرني منظره.. حسيته خَرق روحي
أَرْخت كَفّيها حَوْلَ عُنقه لِتَشدّه إليها بحنّية كانت الكلِمة السِّر التي فَتحت أبواب ذاته.. أحاطها بذراعيه ومن صَدره ارْتفعت تنهيدة انقبَضَ منها قَلْبها المُحِب.. رَأسه على كَتفها وهي تَهمس في أُذنه بعضًا من طَمأنينة: ناصر ما كان في إيدك شي قبل.. الله رايد إنها تتزوج عبد الله ويطلقها وبعدين تاخذ طلال.. ولو إنت ما رفضته.. جان الله سَبَّب سَبب غيرك وما تم هالزواج.. واللي صار بينهم كان نتايج أغلاط وتجاوزات كان بيجي يوم وبياخذون جزاهم عليها.. وخلاص خذوه.. وآخر شي غرقه قضاء وقَدر.. والحمد لله طَلع منها حَي.. بس إنت لا ترهق عقلك بالتفكير ولا تخلي اللوم كله عليك.. في النهاية احنا بشر.. مُستحيل كل اللي نخطط له يمشي صح مثل ما نتمنى.. حكمة ربي أقوى وفوق كل شي
كان كلامها بَلْسَمًا والله شَعرَ بهِ يُغَلِّف جواه بنعومة.. زُلالًا كان وطوق نَجاة من أَسواط الذات المُعاتِبة. هَمَسَ بعد دقائق قليلة تَنَعَّم فيها بحضنها المُشَرَّع لهُ ولتخبّطاته دَوْمًا؛ هَمَسَ: رُوحي لنور شوفيها
شَدَّت عليه وأناملها تَمسح فوْقَ شعره: معاها جود وجنان
لَم يُصِر.. طَبَع على كَتِفها قُبْلة كانت بعُمق ودفء الحُب المخلوق منذ الأزل في جواه لها وهُو يَسترخي بين أحضانها مُسْدِلًا جِفنيه.. فَلن يُمانع من أن يرتوي من فَيْضها العَذب ومن أَن يتدلل عليها.. فلا شيء يُضاهي كَفُّ لَيلى المُمطِرة.
،
على الجِهةِ الأخرى كان أَيضًا أَحدهم يُعاتِب نَفسه.. أو إحداهن. تَقِفُ عند سَريره.. كَفٌّ راجفة على جَبينه المُغَضَّن.. والأخرى فَوْقَ فَمِها.. تَكْبح بها لِجام الشَّهقات المُسْتَعِرة داخلها. كُل شيء حَدَثَ سريعًا.. ناصر اتَّصلَ بزوجها.. أخبره أَنَّ ثلَّة من الشَّباب انتشلوا "جُثَّة" طَلال من البَحر.. أَخبرهُ بأنَّه في طريقه إلى المُستشفى ليستعلم إن كان لا يزال حَيًّا.. المُكالمة استمعَ إليها كُل منها هي وغيداء.. غيداء أَصابها الهَلع.. وهي صُبَّ من فَوْقها ماء زَمهرير جَمَّدها.. قَبْلَ أن يهوي عليها جَبَلٌ ليهشّمها. فهي وَصَلت إلى المستشفى بقايا رُوح.. بقايا امْرأة على مَشارف الثُّكل. لا تدري كَيْف استطاعت أن تَبقى واعية طوال فترة انتظارهم وهُو في غرفة الإنعاش.. وعندما خَرجوا ليبشروهم ببقائه على قَيْد الحَياة.. شَعرت وكأنَّها جَرَت مَسافة سنوات ظُلمها وتعذيبها وانتهاكها له في ثواني فَقط لِتَصل إليه في اللحظةِ الأخيرة.. تلك التي فَصلت بينه وبين المَوْت. انْتبهت لنداء غيداء المُتلهّف: طـلال
أَبعدت بأناملها غمام الدّمع عن عينيها لتتمكن من النظر إليه جَيِّدًا.. زادَ تَغضّن جبينه وتضاعفت عُقدة حاجبيه.. أنفاسه المُستعينة بكمّام التّنفس أصبحت أسْرع من السّابق.. إذن هو يَصْحو. مَرَّرَت لسانها على شَفتيها ويدها البعيدة تنقبض بالقُرب من قَلْبها المُضطرب.. ازْدَردت ريقها بصعوبة عندما فَتحَ نصف عَيْنيه.. حَرَّكَ عَدستيه ببطءٍ شَديد.. وكأنَّه يَتَفَحَّصَ المكان ليتعرّف عليه.. أهو بَطن الأرْض أم سَطْحها؟ نادته غيداء من جديد وهي تحتضن يده بكلتا يَديها: طلال حبيبي.. تسمعني؟
أَرادَ أن يفتح عَينيه.. لكن الإضاءة أرغمته على الإغماض مُجَدَّدًا بانزعاج.. حاولَ ونَجَحَ أخيرًا.. لتتضح لهُ صورة غيداء الدَّامعة بابتسامة.. أرخى بصره ليديها.. كلاهما تحتضنان يَده.. عَقَدَ حاجبيه.. فجلده يستشعر دِفئًا يُبَث إليه من كَف مَجْبولة على الحَنان.. فإن لَم تَكُن يَدها فهي يَدُ من! رَفَعَ كَفّه الحُرّة لليَد المُرتاحة فوْق جَبينه.. مَسّها في الوَقت الذي التفت فيه لصاحبتها. نَقَلَ بَصره على وجهها لثواني قَبْلَ أن يُبْعِد يدها بنفور.. أَخفضَ الكمَّام عن أنفه وفَمه ليقول ببحّة مشروخة ولكن حادَّة: اطــلـعـي بـرا
نَطَقَت برجائها الأعرج: طــ ـلـ
قاطعها بحدِّة أكبر: بـــرا.. اطــلــعــي برا.. بــرااا
تَراجعت للخَلف وهي تُبصر بعين رُوحها المنهارة كيف أشاحَ عنها ودمعة يتيمة تُفارق عينه.. فاتَ الأَوان بَلقيس.. فاتَ الأوان.. تلك الأمومة التي كَبّلتيها قِسْرًا حتى ظَنَّت ذاتكِ أَنَّها ماتت تحت أنقاضٍ من كراهية مُصْطَنعة؛ لَم تعد ذات صلاحية.. لَا نَفعَ لها بعد الآن.. فالحاضر يُستحال أن يَقبل بِفَضْلة الماضي.
,،
كانت تَخْلَع رِداء الصَّلاة عندما طُرِقَ الباب.. سَمحت بالدّخول وهي تَطوي الرّداء وعَيْناها تَسْتعلمان الدّاخل. مالت شَفتاها بابْتسامة عندما قابلها وَجْه والدتها التي بادلتها الابتسامة.. قالت وهي تَخطو إليها: تَقَبّلَ الله
: منا ومنكم صالح الأعمال
حَلّقَ الصّمت بينهما لثواني قَبْلَ أن تَقتطعه الوالدة بهدوء: يُمّه ملاك مُمكن تقعدين.. أبي أكلمش في موضوع
عَقَدَت حاجِبَيها وابْتسامتها تَنحى مَنحى الاستغراب: موضوع شنو؟
رَبّتت على السّرير بجانبها: إنتِ اقعدي
جَلست وهي تُدير جَسدها لتُقابلها بانتباه: قولي يُمّه
مَرّرت لسانها على شَفتيها ثُمّ ابتسمت وبيدها مَسّت خصلات شَعر ملاك الغافية على كَتفها.. أَخفضتها وبالتوالي أخفضت عينيها.. قَبْلَ أن ترفعهما لتُشبكهما بعينيها وتقول: مثل ما تعرفين إن عدتش انتهت قبل جم يوم "هَزَّت رَأسها تَحثِّها على المواصلة.. فأكملت والابتسامة تتسع" واليوم اتصلت أم محمد تخطبش.. لمحمد
ارْتَفَعَ حاجِباها لقمّة الاسْتنكار والتّهكم.. تَساءلت وهي تشخر بسُخرية: شنــو!
كَرّرت ناطِقةً الكَلِمات ببطء: أم محمد.. اتصلت.. تخطبش.. لولدها.. محمد
هذه المرّة اعْتلا حاجبها الأيسر فَقط ولسانها يُفْصِح عن سؤالٍ قُذِف من قَلْبها: ليش انتهت فترة نقاهته واللحين قرر يرجّعني لحياته؟
عاتبتها: مـلاك شهالحجي! "أَرْدَفت تُدافع عن مُحَمّد" الرّجال عنده ظروفه.. ويمكن تسرّع في قرار الانفصال.. بس اللحين هو يبيش.. بعقد جديد.. ومهر جديد "وشَفَتاها تَتسربلان بابْتسامة تَعَجّبت منها ملاك إلا أن الكلمات التي تبعتها أَفصحت عن معناها" ويبي يشوفش بالفستان الأبيض.. يبي يسوي عرس هالمرة
استنكرت وهي تثب واقِفة: نَعـــم! عرس شنو هذا اللي يبي يسويه! خلاص.. هو طلقني.. وأنا تقبلت واقعي وتقبلت انفصالي عنه.. شيبي اللحين جاي يخطبني مرة ثانية عقب ما خلصت العدة مُباشرة.. لا ويبي بعد ألبس له أبيض وعرس وحالة!
وَقَفت وقابلتها وهي تَفتح يَديها: والله يا حبيبتي على راحتش.. في النهاية الراي رايش مو راي أحد غير.. ولا هي غصيبة.. مدامش رافضة بقول لهم إن البنية ما تبيه
عَقَدت ذراعيها ولسانها يَتحرّك بتلعثم في جَوْف فَمها لتقول: شنو يعني يُمّه... ما يصير
رَفعت حاجبَيها تدّعي عدم فهم: شنو اللي ما يصير؟
ويَدها تَدعك ذراعها بحيرة: يعني أقصد عيب.. على طول نعطيهم جواب.. انتظري يومين وبعدين ردي عليهم "هَمْهمت وهي تُخْفي ابتسامة اهتزّت منها نَبضة في قَلْب ملاك.. ازْدردت ريقها قَبْلَ أن تتساءَل بربكة" ليش تبتسمين؟
تعجّبت وهي تتراجع للخلف: أنا ابتسم! ما ابتسمت "قالت قَبْلَ أن تُغْلِق الباب بملامح أَجبرتها على ارتداء الجديّة" ما في مانع إنش تستغلين هاليومين في التفكير.. يمكن يتغير رايش!
زَمّت شَفتيها بضيقٍ شَعرت بهِ كصَخرة عملاقة تَجثم فَوْقَ صَدرها.. شَدّت من عُقدة ذراعيها مع استدارتها ناحية النّافذة. وَقفت عندها.. أزاحت الستائر قَليلًا بطرف أناملها.. تَأمّلت السّماء التي طَلّقتها سُحب البارحة.. وكأن شَيئًا لَم يكن.. وكأنّها لَم تَكُن مُحَمّلة بهدايا تُسمّى مَطر. وهي.. هي مثل السُّحب بالنسبةِ إليه.. عابِرة.. تَجيء لسمائه مُلَبّيةً دَعوة القَحط المُصَدّرة من أرض ذاته.. وحينما يَتعب.. وتهزمهُ سَطوة الشمس ولَهيبها.. يَركلها بَعيدًا عنه.. بلا سَبب.. ولا خَبر. تَنَهّدت وبتنهيدتها كانت تُفْسِح المَجال للبُكاء بأن يَتَجمّع.. لكن لا شيء. تُريد أن تبكي.. تعتقد أنّها تحتاج أن تبكي.. أن تبكي قَهرًا منه وعَليه.. لكنّها غير قادرة على البُكاء. أن تَسْتَشعر خَواء صَدرك من البُكاء في حين أَنّ واقعك مَملوءٌ به ومُصِرٌّ عَليه.. هذا الأمر مُتعِب جدًا. تأففت ورَأسها يَميل جانبًا بخفّة.. حَكّت طرف جِفنها قَبْلَ أن تُبْصِر وعدستاها تَتخبّطان على المجال خَلْفَ الزُّجاج.. لماذا أخبرت والدتها بأن تنتظر؟ هل كان الانتظار من أجل ما قَصدت فعلًا؟ أم من أجل قَلْبها؟ قَلْبها الذي يَرجوها لِتمنحه وقتًا للاختيار.. وهل هي سَتقبل باختياره؟ تَنهيدة جَديدة.. وسؤال يَتردّد صداه وَسط رُوحها.. من أجلِ ماذا تُريدنا أن نلتقي مُجدَّدًا مُحَمّد.. من أجل ماذا؟
,،
الهَدوء يَتَسَرَّب إليهم شَيئًا فَشيء بعد العاصفة التي قَدِمَ بها ناصِر.. على الأَقل ظاهِريًا كان الهدوء جَلي.. لكن بعضَ القُلوب كان يَعتلج بين حُجراتها القَلق.. كَقلب نُور.. وجِنان. نُور بالطَّبع تُفَكِّر بالناجي من خيانة البَحر.. أَمَّا جِنان، فَغِيابُ فَيْصَل أَحاكَ في صَدرها هَواجِس لَم تَكُن سِوى كائنات طُفيلية تَقتات عَلى صَبْرها. نَظَرت لشاشة هاتفها المُرْتاح وَسط حضنها، لا وجود لِرَد على مُكالماتها ولا رسائلها. قَلَبت الهاتف من جَديد مع عروج زَفْرة من صَدرها إلى الهواء.. ثانيتان وعادت ورفعته لتتصل إليه مَرة أخرى. الرَّنين مُتواصل دون جَواب حتى انقطع لترتفع يَدها بارْتباك لِجانب وَجْهها. لَيْلى الجالسة مُقابلها لاحظت حالها.. أَخفضت كوب الشاي مُسْتَفسِرة: جِنان شنو فيش؟ صاير شي؟
نَظَرَت إليها بانْتباه.. ضَمَّت شَفتيها للدَّاخل بقلّة حيلة قَبْلَ أن تُرْخيهما لتُجيب بتردّد: مو صاير شي.. بس فيصل طالع من الصبح وللحين ما رجع
عُقدة خَفيفة تَوَسَّطت حاجبيها: تصدقين ما انتبهت! انشغلت مع نُور وما انتبهت إنه من طلعته ما رجع "سَألتها باهْتمام" ما قال لش وين راح؟
حَرَّكت رأسها: لا ما قال "وهي تَمس جانب جَبهتها بحيرة" وكل ما اتصل له ما يرد.. حتى كتبت له في الواتس اب بس يبين مو داخل من الفجر
ناصر الذي لَفت انتباهه الموضوع عن الجهاز اللوحي الذي كان بين يديه؛ اسْتنكرَ وهُو ينظر للساعة المُشيرة للعاشرة والرُّبع مَساءً: يعني وينه من الصبح للحين! إذا عنده شغل على الأقل يكتب ويخبرش "سَألَ" متأكدة ما قال لش وين رايح؟
أَكَّدت: والله ما قال لي.. أَصْلًا من قعدت من نومتي الصبح ما شفته.. كان طالع أساسًا "كَوَّرت يَدها بتماسك ناقَضَ التَّصدع الذي هَزمَ ملامحها" ما عليه خل يطلع.. من زمان ما طلع.. بس يقول إنّه بيتأخر.. يرد عَلَي.. مو جذي حاقر!
جَنى التي بَثَّ حَديثهم خَوفًا في نفسها البريئة تساءلت بخفوت: بابا شنو فيه؟
أَجابتها جِنان بمحاولةٍ لاحتواء خوفها وتَبديده: ما فيه شي ماما.. بس ننتظره يجي
جَنى التي كانت تجلس على يَسار عَمَّتها نُور تُلاعب الصغير وتتأمله؛ التَفت لها جُود بابْتسامة وهي تُمسك هاتفها وتقول: أفا عليش جوجو اللحين بتصل له وبزفه.. ليش جذي يخلي بنته تخاف عليه
ابتسمت الطفلة بخفّة في الوقت الذي رَفعت فيه جُود هاتفها لأذنها.. عَلا حاجِباها بعد ثواني مُسْتنكرة: سوَّاه مشغــول!
قالَ ناصر بعصبية طَفيفة: يعني يا يرد يا يرجع.. شهالحركات بعد! كلش مو ناقصين
لَيلى التي بَدأ يتكاثر القَلق في جَوْفها على ابنها قَبَضَت على فخذه وهي تهمس بعينين تُشيران لجَنى: اهدا ناصر.. لا تخوّف جَنى
رَدَّ بنبرة الصوت ذاتها وبملامح مَعقودة: شلون اهدا وهو حضرته له جم شهر منقلب حاله؟ شدراني في هالليل هو شوضعه!
نَهرته ونبضها يتحفّز: لا تقول جذي.. إن شاء الله ولدي ما فيه إلا العافية
التَجأت جِنان لهاتفها مُجَدَّدًا: بشوفه مرة ثانية يمكــ
قاطَع جُملتها صَوْت المِصْراع الذي كان يُفتح في الخارج.. التَفتت لنور التي قالت بهدوء: صوت الشَتَر.. يعني وَصل
شَبكت جِنان كَفَّيها اللتين جَمَّدهما كُل من القَلق والانتظار.. شَدَّت عليهما وهي تتنفس بفمٍ مَفتوح.. تَركت الهاتف جانِبًا ثُمَّ وَقَفت وأَلمٌ يَتَمَكَّن من ساقيها إلى قَدميها.. وكأنَّ عظامها استوت حَديد يَطرقه الأَلم. خَطت ناحية المَدخل ببطء وهي تَسْتشعر تَمركز الثِقل كُلّه في يسار صَدرها.. فَوْقَ ذلك المخلوق النابض.. ازْدَردت ريقها عندما تَجَلَّى أَمامها بصورته الكاملة.. بصورته السليمة.. أسدلت الرَّاحة جِفْنيها وزَفيرٌ مُشَبَّع بنصف قلقها غادرَ صَدرها.. زادت من سُرعة خطواتها وهي تُعاتبه بزعل: فيــصل إنت ويــنك.. خَوَّفتني عليــ
شَهقة خافتة فَرَّت من حنجرتها على إثر احتضانه المُفاجئ لجسدها.. فهو أحاطَ خصرها بكلتا يَديه وبحركة خاطِفة رَفعها لمُستواه مُقَرَّبًا وَجههُ منها ليُقَبِّلها.. إلا أَنَّها تَداركت الأمر على عَجل وأَطبقت يَدها على فَمه بعينين تنضحان بالصَّدمة؛ في اللحظةِ التي صَرخت فيها جُود وهي تُشيح مُغمضة: فيــصلــوووه يا قليــل الأدب
تَطَلَّعت لعينيه بعينيها المُتَّسعتين تطلبان منهُ تَفسيرًا للحركة غير اللائقة التي كان سيقوم بها، هَمست باسْتنكار
والموقف المُحرج تَسَلَّقت حرارته وَجهها: فيــصل شفيــك!
نَقَلَ بصره من وجهها المُحْمَر للجالسين خَلْفها.. ابتسمت شَفتاه من وراء يدها وهُو يَهبط بها للأرض.. أَخْفَضَ يدها ثُمَّ أحنى رأسه مُقَبِّلًا خَدَّها بخفّة قَبْلَ أن يتجاوزها إليهم.. كانت والدته تنظر لهُ بابْتسامة جانبية وحاجب مرفوع.. أما والده فَقد وَبَّخه ببرود: شفيك إنت نسيت نفسك! ما تستحي على وجهك!
تَنحنحَ بإحراج وبظاهر سَبابته مَسَّ أسفل أنفه وهُو يَقول ببحَّته: اعذروني ما انتبهت
جَلَسَ على الأَريكة بجانب ابنته وهُو يَضمها إليه وجُود عَلَّقَت: نعيمًا
اتَّسَعت ابتسامته وبيديه مَسَح على شَعره الذي قَصَّره بالطريقة التي اعتاد عليها.. ولحيته التي خَفَّفها. التَفتَ لوالدته التي تَساءلت: وينك من الصبح؟
أَجاب بعدَ أن استنشق نَفَس عَميق: والله رحت واجد أماكن.. رحت البنك أشوف الشغل اللي قطعته.. رحت حلقت مثل ما تشوفون.. رحت الجيم.. وو
ابتَسمَ وعيناه ترنوان لِجنان التي لا تزال واقفة حيثُ تَركها، تَتأمَّله على وقع طُبول نَبضاتها المُحتَدِمة. ازْدَردت ريقها الجاف من نَظرته المُبَطَّنة برسائل عدّة اسْتصعبَ عليها فَك شيفراتها.. كانت تُريد أن تسأل عن معانيها لكن الخَجل إلى الآن لَم يُحرِّرها. حَرَّك بصره منها إليهم عندما استفسرت والدته: ووشنو؟ شفيك سكت؟
بَلَّلَ شَفتيه ثُمَّ أَجابَ بهدوء مُشَرِّعًا أَبواب السَّماء في صَدر جِنان: ورحت المحكمة وانفصلت عن ياسمين
ارْتَفعَت حواجبهم بمُفاجأة وجود عَقَّبت تلقائيًا بَفرح: وأخيـــرًا
شَزرها والدها فانكمشت في مكانها دون أن تمنع ابتسامتها من أن تطال عينيها.. تساءلَ الوالد بجديّة: شنو صار بالضبط؟ ومن متى مقرر هذا القرار؟!
أَجابَ بتحفّظ: التقينا وتفاهمنا وشفنا إن هذا القرار الصح.. ارتباطنا كان غلط والحمد لله طلعنا بأقل الخسائر
أَنهى جُملته تَزامنًا مع مُغادرة جِنان للأعلى.. تَعَلَّقَ بَصره بطيفها وذاكرته تعود به لتلك الليلة.
،
وَصَلَ للشقة حيثُ تَنتظره.. عندما دَخل هاجَمهُ شُعور الغُربة.. شُعور عدم الانتماء.. وكأنَّهُ جَذْر باغتَتهُ الحَياة وحَملته على جنحي هوائِها وأَلقته في أَرْضٍ لَيست أَرْضه وأجَبرته على التَّكيف معها. لكن فَيْصل.. لِنَكن صادقين.. أو لِتَكن أَنتَ صادِقًا مع نَفْسِك.. هَل فعلًا الحياة هي التي اقتلعتكَ من أَرْضكِ لأخرى لا تنتمي إليها؟ أَم أَنَّك أنتَ الذي تَشَعَّبت إلى أَرْضٍ أُخرى وأنتَ تعلمُ يَقينًا بعدم قُدرتك على البقاء بين تُرابها.. فهي في النهاية ليست أَرْض الجِنان وإن تَسَرْبَلت بالياسَمين. بَعدَ أن سَلَّمَ بخفوت جَلَسَ أَمامها دُون أَن يُدني بطرفه إليها.. وهي كذلك.. بَقِيا لأكثر من خَمسِ دَقائق يُحَدِّقان في الأَرْض التي تَحَوَّرت إلى كِتاب حَوى قِصَّتهما.. مُنذُ أَوَّل لِقاء حتى هذه اللحظة.
: كنت من البداية أنـ ـا
رَمَشَ بانْتباه ثُمَّ رَفَع رأسه إليها.. كانت لا تزال تُشاهد الأَرْض بعينيها الرَّطِبَتين. كَرَّرَت وهُو يُنصت لكلماتها باهْتمام: أنـا اللي تسبَّبت بهذا الخَراب "ارْتَفَعت من قَلْبها تَنهيدة مُرْتَجِفة وهي تُكْمِل" احتجت فترة طويــلة.. وشجاعة كَبيرة.. عشان أقدر أقتنع بهذي الحَقيقة وأعترف بها "وبلوعة طَغت على نَبرتها حتى أغارت كلماتها" أنا حبيــ ـتك بكل ما فينـ ـي "رَفعت البَصر إليه مُواصِلة بحَسرة" وإنت ما حبيتنـ ـي بكل ما فيك
أَغْمَضَ وملامحه تهترئ أكثر من ذي قَبْل.. هَمَسَ بلَحْنِ اعتذار ضَجَّ بين جَنبات رُوحه: والله ما قصدت جرحش.. والله
تَنَشَّقت وبظاهر كَفّها مَسَحت إحْدى الدَّمعات المُشاغبة خَدَّها الزَّهري وهي تُعَقِّب: أدرري.. إنت جرحتني بس ما كان قصدك تجرحني.. أنا تسبَّبت في جرحك لي بغبائــ ـي "عاتبته والعَين تَذرف نَدمًا عَتيقًا للتو يَصحو من سُباته" ليـش حَزَّتها ما صديتني؟ ليش سمحت لي أنجرف معاك؟ ليــش استغليت حبّـي لك عشان تقهر زوجتك وتشعلل غيرتها؟ ليش فيصل؟ ليــــش؟
انْحَنى ظَهره ويداه التجأتا لشعره تنثران بعضًا من ارتباكه.. زَفَرَ بحرارة ناتِجة عن الأوار المُشتعلة لِزَمن داخله قَبْلَ أن يُجيبها باسْتسلام: لأنّي جبان.. خفت أواجه مُشكلتي معاها.. مع جِنان.. خفت من الوَجع اللي مُمكن تخفيه كلماتها.. خفت فيصل الواثق من نفسه ينكسر.. الانكسار شي مُرعب بالنسبة لي.. وإنَّ يكون من جِنان.. فهذا كان صعب عَلَي.. واجد صَعب "وبمرارةٍ من ذاته وعليها" وللأَسف.. بعد اللي صار بيني وبينش.. تقوقعت على نفسي ورضخت لجبني وما حاولت أصَلّح الأمور "تَشَدَّق ساخِرًا من نَفسه" إنتِ كنتِ أشجع مني.. اتخذتين هالخطوة عشان نتفاهم
مَرَّرت عَدستيها على وجهه باسْتغراب لَم يُلاحظه هُو المُشيح بعينيه.. كانت تظن أَنَّهُ على عِلم بقدوم جِنان إليها.. لكن الآن اتَّضحَ لها أَنَّ لا خَبر لَديه. مَرَّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تَنطق بصعوبة والكلمات تَخِز قَلْبها المُنهَك: احنا اثنينا غلطنا.. اثنينا استغلينا هالعلاقة لأمور تخدمنا وتشبع طمعنا.. راحت مننا شهور.. وأنا.. أنـ ـا مو مستعدة إنّي أخسر بعد.. أي يوم زيادة
تَصافقت أهدابه وشَخص بَصره المُتعلّق بكفّيه المُتشابكتين.. اضطربت أَنفاسه وَقَلبه تَحَفَّز لِما بَعد هذه الجُملة.. نَظَرَ إليها ونَبضاته تَملأ دواخله من سُرعة توالدها.. تَساءَل بتردّد يقف على عَتبةِ الأَمل: يَعــني؟
انشغلت في مُقاومة الشَّهقات المُتكوّمة في حَلقها.. مما أَدى لانتصار الغَمام المُتَكتل فَوْقَ عَيْنيها؛ فارْتَطَمت الدَّموع بخدَّيها وهي تُجيب لِتَقطع خَطيئة حُبِّها من رَأسها: يعنـ ـي.. صار وقت.. انفـ ــصالنـ ـا
,
هَرَبت إلى الشقة.. لَم تَسْتطع أَن تَقِف بَعد الذي نَطق به.. أَحسَّت بأنَّها سَيُغشى عليها من رَوْعة الخَبر الذي هَبَطَ عَلى رُوحها كَقَمَرٍ مُنير في لَيْلة مُظْلِمة.. أو كَشمسٍ دافئة بعد عَصْرٍ من جَليد.. أو كمَطَرٍ زلال يَغمر الأَرْض مُنْهِيًا يَبابها. احْتضنت وجهها المُشْتَعِل كَجسدها من شِدّة انفعالها.. دائِمًا ما كانت النار وحَريقها مُوْجعَيْن.. لكن الآن.. الآن هي تَشعر بلذّة هذه النار.. نار تتقد بحماسٍ وتنتقل بين دمائها بمُتعة. أَغْمَضت وهي تَبْتسم بسعادة لا حدود لها وجواها يُرَدّد مع كُل نبضة.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله. أَزاحت جِفْنيها بخفّة عندما أَقْبَلَ عَليها. ارْتَعَشَ كَيانها لِحضوره.. فلقد كان هُو.. هُو فَيْصل.. ذاك الذي أَحَبَّته.. وكأَنَّهُ عائدٌ إليها من حَرب خاضها مع ذاته.. حَرْبٌ خَضَعَ في نهايتها مُفْسِحًا المَجال لذاته بأن تُقَيَّد بها.. أكثر وأكثر. ابتسمت إليه ورائحته التي عَطَّرت جَوْفها قبل قَليل ها هي تَمشي إليها معه. تَوقَّفَ أَمامها دُون أن تُفارق عَيناه عَيْنيها.. وقَبْلَ أن تنطق بحرف.. انْحنى إليها مُسْتَهِلًّا القُبلة التي مَنعتها. ابتعدَ بعد دقائق ليُعانق مُقلتيها الهائمتين فيه.. هَمَسَ ببحّته الجذابة ضاحِكًا: صرت أقدر أميّز دموع الفرح
ضَحكَت وهي تحتضن وجهه بكلتا يَديها والدموع بلا إرادة منها تنهمر.. هَمست لهُ بجذَلٍ وسعادة وامِضة: خــلاص.. انتهى التعب؟
أَكَّدَ بانْشراح وأنفه يُداعب أنفها: انتهى التعب حَبيبتي.. انتهى التعب جِناني
,،
مُذ دَخلَ جَرت إليه ودُموع الاغتباط تنسكب على وجهها المُبْتَسِم بفرحة مَبتورة.. احْتَضنته وهي تهمس بكلمات مُرتعشة: شــفــ ـت.. شفت عبّود.. دم عمّـ ـار ما راح هَدر.. دَم حَبيبي بو عبد الله ما راح هَدر.. القاتل بياخذ جزاه.. والدنيا كلها عرفت إنّ عَمّاري مات في سبيل وطنه.. شــفـــت؟
احتضنها بدوره وهو يرد بابْتسامة: اي يا عُمري شفت.. وعزيز اتصل وخبرني.. وقريب راح يعدمون القاتل
أَغمضت ولسانها يَلهج بهَمسات الشُّكر والحَمد لله.. رَفعت رَأسها تَسأله: دريت عن طلال
هَزَّ رأسه: اي.. كلمني رائد.. وأنا اتصلت لطلال وتطمنت عليه
أَبعدها عنهُ قَليلًا وبقي يُحيط كتفها بذراعه عندما اقتربَ منهما والداهما.. سَلَّمَ ثُمَّ أَطْرَقَ لنصف دَقيقة قَطعها سؤال والده: يُبه عبد الله في شي؟
تَنحنحَ مُسْتَعِدًّا لإطلاق قُنبلته التي سَتربكهم.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه قَبْلَ أن يَرْفعَ عينيه ليقول بثباتٍ ظاهري: أنا قَرَّرت أسافر مع زوجتي أمريكا.. باجر الصبح طَيَّارتنا وراح نستقر هناك.. على طول
شَعَرَ بتصلُّب جَسد شَقيقته الذي أَعقبهُ ابتعادها المادي عنه.. لكنّه لَم ينظر إليها.. فهو كان يُصارع مُحاولة انحراف بَصره عن وجه والدته الذي شَحِب.. وَوجه والده المأهول بالاستنكار والذي نَطَقَ بعلو: شنو هالقرار المُفاجئ! خططت لكل شي ورتبت.. واللحين جاي تقولها لنا جذي.. بكل برود.. جنه الشي عادي.. ما جنك بتهاجر لآخر الدنيا من غير حتى ما تشاورنا!
أَخفضَ بصره وهو يَرد بخفوت: يُبه أنا آسف.. مو قصدي أتجاهل وجودكم.. بس أدري إنكم ما راح توافقون لو قلت لكم.. وأنا أحتاج.. أحتاج هالابتعاد
هذه المرة غيداء هاجمته من بين غَصَّاتها المُتراكمة وسط حلقها: ابتعـ ـد.. روح أي مكان تبي لفترة.. لا تشوف رقعة وجوهنا لين ما ترتاح.. بس مو تسافر أمريكا.. لاا وبعد يا ليتها سفرة.. إلا هجـ ـرة!
كَرَّرَ وعيناه تعودان للوالدين: آسف "اسْتطرَدَ" أنا جاي أسلم عليكم
تَمتم والده وهُو يَمسح عن وَجهه آثار صَدمته: لا حول ولا قوة إلا بالله "التَفتَ لزوجته بلومٍ مُبَطَّن" قولي شي يا بلقيس.. قولي شي يا أمّـــه
كانت تنظر لعبد الله باسْتقامة كان انعكاسها انحناء.. وعَيْناها المُتَوَسِّعتان التَمَعَ وَسطهما دَمْعٌ كان يُهَدِّد بالانقضاض على وجنتيها.. لكنّها تماسكت.. بصعوبة بالغة تَماسكت لتنطق بنبرة هَزَمها النَّشيج: خـ ـ ـلاص.. عفتنـ ـا يا عبد الله
ازْدَرَد آلامه ليقول: يُمّـه.. ترى أنا سامحتش.. إذا كان هذا بيريحش.. فتأكدي إني سامحتش
ابتسمت بأسى مُتَهكِّم: بـس على الرغم من سماحك ما تقدر مو بس تشوفني.. ما تقدر حتى تقعد معاي في نفس الديرة
تَراجعَ للخلف خطوة ولسانه لَم يَبرحه الاعتذار: آسـف.. بس ما أقدر.. والله ما أقدر
قالت وهي التي لا وجه لها لتُطالبه بالبقاء: على راحتك.. روح ارتاح واترك وراك عايلة مَذْبوحة
زَمَّ شَفتيه بضيقٍ اعتلج في صدره مع بِحار آلامه.. العَجز يُكَبِّله.. هُو حاديه.. هُو الذي يُقَرِّر عنه.. فلا دَخلَ لعبد الله الذي يُقَدِّس العائلة. حَرَّكَ رَأسه.. نَظَرَ يَمينًا.. لتلكَ الشقيقةِ نَظر.. لَم تَهنأ بفَرحٍ مُسْتَمِر أَبدًا.. ها هَي العُتمة تعود لتطرد ما زارها من ضياء.. عاتبتهُ بالعينين.. أأهون عَليك؟ أتهون هذه الشقيقة الوَحيدة؟ أَقادرٌ قَلْبكَ على فراقها وفراق طَيريها؟ ستحرقني الشَّمس من بعدك أخي.. سَتكويني وسَتُذيب قَلْبي من الانتظار.. أوليسَ أنتَ الظِّلال؟ وعَضُدكَ ذاك، كَيفَ سيواصل الحَياة دون سِوار أصابعي؟ لَم تَكُن بهذا الضعفِ عبد الله.. لا يُليق بكَ هذا الانهزام.. ولا يُليق بكَ غير بياض السَّلام.. لا راية الاستسلام.
,،
ما الأُم؟ رَحْمٌ بسُكنى تسعةِ أَشْهُر؟ رُوحٌ باتّساع أَرْواح؟ أم قَلْبٌ بحُبٍ خُرافي لا يَخضع لأي قاعدة؟ من هي الأُم؟ يُقال الأُم هي التي "رَبَّت" لا تِلك التي "أنجبت".. لكن.. أليسَ هذا إجحافٌ في حَقٍّ تِلكَ التي حَملت جَنينها وَهْنًا على وَهن؟ لكن أَيضًا.. تِلك التي رَبَّت، تَضحياتها لا يَسعها الكَوْن ولا يَسْتوعبها. فإذن.. المُقارنة هُنا قَد تكون مُعَقَّدة وظالمة في أحوالٍ كَثيرة. لذلك يُفَضَّلَ ألا يُسْأل هذا السؤال.. على الأَقل أمام الأُمَّين.. التي رَبَّت.. والتي أَنجبت. بَحثَ عنها كثيرًا.. لِدقائق بَحثَ عنها إلى أَن وَجدها عند المَسْبح.. واقفة عَلى بُعد خطوتين منه.. تَتَأَمَّل سَطحه الشَّفاف وبذراعيها تَحْتضن نَفسها.. وكأَنَّها تَعيشُ شِتاءً نَفسي.. تُصارع لَسعات جَليده بينها وبين ذاتها المُحتفظة بآثارٍ للسعاتٍ سابقة. تَقَدَّمَ إليها.. اسْتَقَرَّ خَلْفها مُلْصِقًا صَدره بِظهرها.. وبذراعيه أحاطها؛ هُو الرَّبيع المُتَعَكِّز على فُتات يَنعه. هي ما أن أحاطتها لَمسته الدافئة وأنفاسه العَطِرة؛ حتى طالتها رَعْشة خَفيفة ذَكَّرت رَئتيها بالتنفس.. فارْتفع صَدرها لتنفذ منه شَهْقة قَصيرة تُشْبه تلك التي تُفارقه بَعد النَّجاة من الغَرق. انكَمشت في حِضنه ويداها تَشُدّان على ساعديه، وبِهَمسٍ لهُ لَحنٌ كَئيب ومُنحنٍ بخَيبة: أَحس إنّي قسيت عليها بكلامي
ضاعفَ من احتضانه إليها يُخبرها بأنَّهُ معها.. سَيسمعها ويفهمها. تَنَهَّدت وهي تُرجع رأسها للخلف ليستند إلى كَتفه.. وذاكرتها تعود بها للساعات الماضية.
،
اللقاء الأوَّل بَعد الحادِثة.. اللقاء الأَول دون أن يُطْبِق على أَنفاس الاثنتين ثِقل وجود سُلطان.. لَم تتسنى لها مُقابلتها في المَشفى بعد إفاقتها من الإغماء.. فبعد أن طَمأنهم الطّبيب.. غادرت مُباشرة برفقة يوسف وملاك.. دُون أن تَسَأل عنها.. عن هذه الأُم.. فاتن. قَبَضَت يَديها فَوْقَ فَخْذيها المُتلاصِقَين.. كانت بحركتها هذه تُحاول أن تُسَيْطر على رَجفتها التي أَبلت حَواسها.. لكن بلا فائدة.. فالرَّجفة تتضاعف ثانية بعد الأخرى.. وكأَنَّ سَماء راعدة قَد احتكرتها. أَغمضت وهي تَشد أصابعها المُحْمَرَّة.. ومن فَمها كانت تنفث زَفرة ساخنة من بين شَعب الزَّفرات التي أَحرقت جَوْفها. ازْدَردت ريقها وهي تَشعر ببخارٍ يَعلو من جَسدها المأهول بالعَرَق.. فَتحت عَيْنيها قَبْلَ أن تَرْفعهما للأُنثى الباكية.. الأُنثى الغريبة.. الأُنثى التي تَتشارك معها بعضًا من ملامحها.. وبعضًا من كروموسوماتها.. دمائها.. ورُبما أمراض وراثية لا تعلمها. هذا من الناحية التكوينية. أما من ناحية المَشاعر.. من ناحية القَلب ونبضاته.. العَقل وأفكاره.. الرُّوح وأحاسيسها.. الذاكرة وماضيها.. الدفء والحَنان والحُب واللطف والقلق والخوف والارْتباط العاطفي.. كُل ذلك يُشَكِّل صَفحات فارغة في كِتاب الأُم.. التي أَنجبت. لا تَشعر ناحيتها بأي شعور.. بأدنى شعور. فَأنتَ إما أن تَحب إنسانًا وإما أَن تَكرهه. لكن أُولئك الذين لا تملك لهم ذاكِرة خاصة في عقلك تحتفظ بلحظاتكم معًا.. ولَم يَسْبق أن تَلَهَّفَت شَوْقًا لهم.. ولَم تَمُت إحدى نَبضاتك في سَبيل الخَوْف عَليهم.. فإلى أي فئة يُصَنَّفون؟ لِفئة الناس الذين لا حُب لَهم ولا كُره عَليهم.. ما يعني أَنَّهم لا شيء.. أي أَنَّها هي.. أُمّها.. فاتن.. هي لا شيء!
نَظَرت لوالدتها التي قالت بمَلق: يُمّه حُور كلمي أمش.. سولفي معاها.. المسكينة جاية تتطمن عليش
أَطالت النظر دون أن تَتحرَّك أهدابها وفي عقلها الأفكار تحوم بشعواء دون أن تلتقط فِكرة واحدة. دقيقة ومن ثُمَّ حَرَّكت عَدستيها لفاتن.. تَطَلَّعت إليها وهي تَتَأمَّل خرائط الدَّمع المرسومة على وَجْنتيها.. عَيْناها الداميتان.. اللتان تُناديانها بهمسٍ مُتردّد.. ورَجفة رُوحها المُتَّضحة في أَنفاسها المُتذَبذبة. رَشَّحت صَوْتها.. حاولت.. فعلًا حاولت أن تُخرِج صَوْتها رَقيقًا.. لكن وعلى الرغم من مُحاولاتها.. ارْتَفَعَ من حنجرتها صَوْتٌ فَج.. لَهُ أطراف جارِحة: أنا بخير.. بس.. أَنـا.. آسفة.. سامحيني.. بـس.. ما أقدر.. أتقبلش بسهولة "شَدَّت يَديها وهي تَرى كيف لُطِمَ وَجه فاتن بصدمة.. لكنّها أكملت بغصّة وعيناها تُرسلان لها نظرات قِلّة الحيلة" أنــ ـا مثلش... كنت ضحية.. بس أنا ما كنت في عمر كنت أقدر أفهم فيه اللي حواليني.. "أشارت لوالدتها" ما استوعبت الدنيا إلا وهذي أمي.. وهي فعلًا أمي.. ما يهمني دمي يتطابق مع دم من.. لأنّي ما عرفت أم غيرها.. وهي ما عرفت بنت غيري.. وثنتينا مارسنا أدوارنا بأحسن صورة.. مشاعرنا كانت لبعض.. ما أقدر في يوم وليلة أحوّل هالمشاعر لإنسانة غيرها. أنا عمري تسعة وعشرين سنة.. وسنين عمري كلها مرتبطة بهذي الأم.. من ناحية ذكريات ومشاعر ومواقف "كَرَّرت" أنا آسفة.. بس ما أقدر أكون لش البنت اللي تبينها.. لش احترامش.. ولش الحق إنش تشوفيني وتكلميني.. وتعامليني بمثل ما تحبين.. بس أنا ما أقدر أقابلش بالمثل.. ما أقدر أمثل دور البنت.. يمكن في المستقبل تنبت في قلبي محبة لش.. بس مُستحيل تاخذين مكان أمي.. لأني ما عرفتش كأم.. إنتِ شخص غريب بالنسبة لي "وَقَفَت وجفناها يرتخيان هَرَبًا من سَطْوة البؤس الذي قَرفص على ملامح فاتن المخذولة.. أَرْدفت ببحّة والدموع تنهمر على خَدّيها بضجيج" أنـا كلش آسفة.. بس ما أقدر.. والله ما أقــ ـدر
ومن ثُمَّ أطلقت العنان لقدميها فارةً من المَجلس؛ كَقاتِلٍ ذَبَحَ الأَمل الوحيد الذي كانت تقتات عليه رُوح أُم ثَكلى.
,
تَقَوَّسَ كَتِفاها من ثِقل جَبَلِ البُكاء الذي حَطَّ فَوْقهما.. ناداها بحَنان وهُو يُمَرِّر باطن يده على ذراعها الباردة: حُور يا عُمري
استدارت إليه بوجهها الصارخ فيه الضَّياع.. ومن بين عَبراتها قالت: أحس إنّي جرحتهـ ـا.. جرحتها يُوسف.. والله.. والله حسيت وكأني رَميتها من السما لين الأرض.. من غير أي رَحمة "أَشارت لنفسها تستجدي تَفَهّمًا" بس أنا ما أعرفهـ ـا.. ما أحس ناحيتها بولا شي.. ولا شــي
احْتَضَن وَجْنتيها بِكَفّيه وهُو يُخفض رَأسه ليُقابل بوجهه وَجهها المُتَوَرِّم من البُكاء.. وبهمسٍ مُطبطب هَمسَ: حُور حبيبتي إنتِ.. لا تفكرين بهالطريقة.. إنتِ اللي سويتيه صح.. كلامش صَح.. وهي أكيد راح تتفهمش.. أكيد راح تنصدم في البداية وبتحس بضيق.. بس بعدها بتتفهم وضعش.. صدقيني.. الغلط إنّش تجبرين نفسش تبحرين معاها في علاقة تدرين إنها جذب ومجاملة وشفقة.. واهني يمكن صدق تزعل عليش لأنش عيشتينها في وهم "احتضنها مُرْدِفًا وكَفّه تَمسح على شَعرها المَسْدول" لا تقسين على نفسش ولا تلومينها.. إنتِ معذورة.. موقفش صعب.. لا تحاولين تضغطين على نفسش خوفًا من إنش تجرحينها.. ولا تحاتين "ابتسمَ بحُب هامِسًا بعذوبة" حُور أَرَق من إنها تجرح أحد "أَبعدها قَليلًا ليُعانق عينيها بعينيه ناصِحًا بلُطف" إنتِ اللي عليش حبيبتي إنش تمشين خطواتش بهدوء.. خطوة بخطوة.. لا تستعجلين مشاعرش.. أكبر خطأ إنش تطالبين مشاعرش بفوق طاقتها.. النتيجة جدًا سيئة.. واهني احتمالية الجرح تكون كبيرة
هَزَّت رَأسها وبحديثه هذا استوعبت أَنَّهُ قَبْلَ أن يَنصحها، كان يُعرّي ذاته التي أَرْداها ضياع المشاعر حتى اضطربت. أَخذت تَمسح دُموعها وهُو ساعدها بيديه.. قالت وهي تُشير للمنزل: خلنا نرجع البيت
هَزَّ رَأسه وأحاطَ كتفيها ليمشي معها للداخل.. ضَرَبَ على جَبينه وكأنّه تَذَكّر: نسيتيني شنو كنت أبي أقول
التفتت إليه مُتسائلة: شنو؟
ابتسمَ بسعة: ملاك وافقت على محمد والليلة العقد
شَهَقت وقدماها توقفتا عن المشي وهي تهتف: احـــلف
ضحكَ: والله.. بس عاد من غير عرس ولا فستان
تَهَدَّلت ملامحها بإحباط: ليــــش عاد
ارْتَفعَ حاجبه وابتسامته تَميل: أحس إن السالفة عنـــاد
عَقَّبَت بغيظ: ما تكون ملاك إذا ما عاندت
,،
يَدهُ قابضة عَلى جانِبَي المَقعد بقوَّة نَفَرت بسببها عُروقه واحْمَرَّت منها مَفاصله.. كان يَضغط على مَسْنَدي الذراع وعَيْناه تُحَدِّقان في ساعده وجُملتها الأخيرة تَطِن عند أَذنه.. تَنخر في رأسه.. وتَلْتوي كحِبال حَوْل قَلْبه. أَغْمَضَ وهُو يَكِز على أَسْنانه لِيَظهر لهُ من خلف سِتار عَيْنيه وَجهها والدَّموع تُبَلِّله.. ارْتَجفَ فَجأة وَوجْهي طَيْراها يُباغِتانه.. نَظرة والدته الكَسيرة.. وخُطوط التَّعب المَحفورة على جَبين والده. أَبهذه البساطة يَتخلى المَرْء عن عائلته؟ أَبهذهِ البَساطة يَتَمَكَّن من أَنفسنا النُكران؟ نُكران تِسعة أَشهر وسنين من الصَّبرِ على التربية.. نُكران ليالي السَّهر وساعات الخَوْف من خَطَرٍ أو مَرض! ما بِكَ عبد الله؟ ما بِكَ سَلَّمتَ حَياتك لِيَدِ ريحٍ عابِثة؟ كَيْف اسْتَطَعت أَن تنحني للاستسلام بكُل سهولة؟ بل كَيْفَ سَمحت للاستسلام بأن يَهزمك! أَيُعَقَل أنَّ هذا أنت؟! عبد الله الذي لو سَقَطَ لَاتَّكأ على الأَرْض وهي مأهولة بأشواكٍ مُعَرْقلة ونَهض.. يَمسح الدَّم ويَمضي في طَريقه واليَقين في قَلْبه يُوَجِّهه لخلاصٍ أكيد.
: عبد الله شفيك؟
التَفَتَ بجانب وَجْهه ناحيتها وهي سَألت من جديد بقلقٍ من ملامحه: شفيك عبد الله؟ وجهك مو طبيعي!
لَم يُجِبها.. هُو أَخذَ يَتَنَقَّل ببصره على الرُّكاب الذين إلى الآن يَدلفون للطائرة باحثين عن مقاعدهم.. أَلقى نظرة على المُضيِّفات المُهتمات بالتنظيم.. قَبْلَ أن يَنظر لزوجته الحائمة حَوْل ملامحها علامات الاستفهام. وَجَّهَ بَصره للأمام ويَداه تُضاعفان من قَبْضهما.. قَبْلَ أن يَرْتفع صَدره كاشِفًا عن استنشاق عَميق أعقبهُ زَفيرٌ أعمق.
نادته: عبد الله!
وَثَبَ واقِفًا وهو يَنطق بكلمة واحدة: قومي
علا حاجِباها بتعجّب: شنــو!
كَرَّر وهُو يَلتقط حقيبة الظهر من الخزانة العلوية: قومــي
تَساءلت وهي التي لَم تفهم: ويـــن!
بجديَّة تامة أَرْهبتها وأجبرتها على الارتجاف داخليًا: راح ننزل.. خلاص ما في سفر
جاءت لتطلب تَفسيرًا لكنّه أَمسك بيدها وأوقفها لِيَجرّها من خلفه دون نقاش. وعند باب الطائرة حَدَثت مُشادات بينه وبين المُضيفة ومُساعد قائد الطائرة إلا أَنَّه استطاع في النهاية الفرار إلى الخرطوم حتى خَرج إلى قاعة المطار.. لَم يَسأل عن الحقائب ولَم يفَكِّر فيها حتى.. كان فقط يُهرول وهي من خلفه.. يَدها في يَده.. وقدماها تُحاولان ألا تتعثران من مَشيته السريعة. هُو كان يَمشي وكأنَّهُ سَهمًا يَطير إلى هَدفه.. إلى موطنه.. إلى عائلته.. إلى أصْله. كان سَيُسافر هَرَبًا من سَطوة الوَجع الذي استحكم منه.. وللتو.. وهُو على مَقعدِ الطائرة.. اسْتوعبَ أَنَّ بسفره أو بهجرته؛ هُو سَيسْلخ ذاته عن انتمائها.. أَي أَنَّهُ سَيعيش بين غَياهب وَجَعٌ أزلي.
,،
تَلَفَّتَت وهي تَتَفَحَّص بعينيها المَساحة الشاسعة التي أَرْكَن فيها السَّيارة.. رَنت إليه بشكٍ يَملأ عينيها، والجواب يَعترك في حَلقها إلا أَنَّها أرادت أن تتأكَّد: هذي.. أَرْضك؟
ابتسمَ ويَداه تَنخفضان عن المِقْود، وبهمسِه المَبحوح أجاب: لا
عَقَدت حاجِبيها وهي تُدير النظر من جديد إلى المكان، قَبْلَ أن تعود إليه وباستنكار: بس نفس المنطقة!
هَزَّ رأسه بالإيجاب: اي صح.. بس هذي مو أرضي "وابتسامته تتسع لتصل إلى عَيْنيه لتلتمع وسطهما" هذي أرضنا كلنا.. أنا وإنتِ وجَنى
ضَحكَت وهي تستوعب مقصده: أعترف إنّك خوفتني وخليتني أتحبط شوي.. شكيت إنّك بعتها من غير ما أدري
ضَحكَ: ما استخفيت للحين
جَنى التي كانت تتكئ بساعديها على مَقعديهما تَساءلت: بابا يعني هذا بيصير بيتنا بروحنا مالنا؟
أَكَّد: ايــه حَبيبتي "ونبرته يَغمرها التشويق" وراح تكون غرفتش كبيـــرة.. أكبر من الغرفة اللي في بيت بابا ناصر
اتَّسعت عيناها بانبهار وحماس وعقلها البريء بَدأ يُصَوِّر ويَرسم لها شكل هذه الغُرفة الكبيــرة. نَظَرَ لِجنان المُطْرِقة وكَفُّها مَبسوطة على بطنها.. سَألها: في شنو تفكرين؟
رَفعت بَصرها إليه وابتسامة يُشاكسها اللهو أمالت شَفتيها، قالت والمَكْر في نظراتها: تراك بعد غلطان "أكملت وهي ترى عُقدة حاجبيه" الأرض.. أو البيــت.. بيتك وبيتي وبيت جنى "ضَغطت على بطنها" وبيت الحلوة اللي اهني
ارْتَخَت ملامحه وتَجَمَّدَت عدستاه على بطنها.. أما جَنى فقالت بتفكير: الحلوة؟ يعني بنية "شَهقت بفرحة عارمة وسؤالها يَعلو" مــامــا يعني البيــبي بنيــة؟
ضَحَكت لفرحتها وحماسها وهي تؤكد: اي ماما.. البيبي بنية "لَوَّحت أمام وجه فيصل الساكن" شفيــك يا الأخ.. وين رحت؟
أَرْجع الصوت في حنجرته قبلَ أن يُجيب ببحَّة مُتضاعفة: قاعد أحاول أستوعب
نظرت له بطرف عينها: وهــا.. استوعبت ولا للحين؟
عَضَّ على شَفته السُفلية وهُو يُضَيِّق عَيْنيه ويَهز رأسه.. اعْتلت ضحكتها من ردة فعله وجَنى تُشاركها الضحكة دون أن تفهم شيء.. سَخرت منه من بين ضحكاتها: كَسرت خاطري
عَقَّبَ وكُلِّه يَبتسم.. لَيس فقط شفتيه: اي اضحكي اضحكي.. أنا اللي الله يساعدني "قَرَصَ ذراعها مُوَبِّخًا بمُزاح" كفاية إنتِ وجنى لاعبين بقلبي لعب.. بعد بتجيبين وحدة ثالثة تعاونكم؟
ضَربت يده ثُمَّ مَسحت على مكان فعلته وهي تقول: شدخلني أنـا! إنت اللي تحدد إذا كان بنت لو ولد
ضَحكَ والسعادة تتداعى لتستوطن عينيه وملامحه: أدري أدري.. بس جنان وحدة ويا الله قادر أستحملها.. شلون لو كان منها نسختين؟ شناوية على قلبي؟
رَفعت ذقنها تتصنع الغرور: أبيك تهيم فيني أكثر وأكثر
تَنَهَّدَ ومشاعر طفولته، مُراهقته وشَبابه تَسْتريح وللمرة الأولى بين كلماته بجُرأة وعَفوية: والله هايم يا بنت الحلال.. من زمان هايم.. من زمــــاااان
هَمَسَت ونَبضها يَتسربل بثوب الحُب المُطَهَّر من خطايا الماضي: أحبــك
شاركتها جَنى: وأنا أحبك بابا
ضَحكَت جِنان وهُو ضَحك وذراعيه تحتضن الاثنتين: وأنا أحبكم وأحب جِنان الجديدة
ارْتَفعَ حاجبها: خلاص يعني قررت يكون الاسم مُشتق من اسم جِنان؟
ابتسمَ وبثقة تَهواها: طَبــعــًا.. لأن جِنان هي الأَصل
تساءلت والخَجل يَرْوي خَدَّيها: ومن متى وهي الأَصل؟
لَم يُجِبها، هُو حَرَّكَ عَينيه لابنته طارِحًا عليها سؤال: بابا جنى.. لو ماما جِنان كانت شَجرة "وهو يَبتسم" مثلًا شجرة توت.. وأنا أَرضها.. تتوقعين من متى وهي تزرع داخلي؟
أجابت بعدَ تفكيرٍ عَميق: من أول ما الله خلقها
اتَّسعت ابتسامته وهَمس مُسْتَفسِرًا من جِنان: أقنعش الجواب؟
حَلَّقَت من جَواها تَنهيدة أوزعت بين أوصالها رَجفة لَذيــذة.. هَمست بابتسامة أَوْشَت بمكنون قَلْبها: مقتنعة من زمــاااان
,،
يتبع
|