كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله
الجزء الحادي والستون
الفصل الثاني
: يُمــــــــه
نِداءٌ كانَ له صَدى ارْتَدّ من الماضي.. فَـ"يُمّـه" الهائِجة وَلجت إلى مَسامعها: بَلقيـــــس
رَفعت بَصرها تنظر للسُّلم.. تَنظر للخَيْبة العُظمى وهي تُؤسّس بُنيانها على أَرْض عَيْنيه.. تَنظر لِوَجه أَبيها الذي غَيّبهُ التُراب ولَم تُغَيّبهُ الذّاكرة.. ذاكرة النّدم.. الحَرج.. والعار. وَقَفَ أَمامها طَيْرًا غالت سُكون رُوحه السّماء.. يَرْتَعِش وصَدرهُ يَسْتفرغ أَنفاسًا تتوسّل بأن ارْحميني.. ارْحميني أُماه.. ارْحمي فؤادًا كانَ مولد نبضتهِ الأولى رَحْمكِ.. أوليسَ من الرّحمِ تُخْلَق الرّحمة؟! أَنتِ أُم.. لكِ حرفان نستطيع أن ننسج منهما آلاف المشاعر.. أنتِ رَحْمة.. حُب.. لُطف.. رَأفة.. وإحساس.. هل فرّطتِ بكُل هذا من أجلِ انتقامٍ طائش؛ جذوره غَرسها حُب أعوَج في أرْض ماضيكِ وحاضرنا؟ مَدّ لها المُذكرات.. وَضعها أمام وَجهها.. نَقلت عَدستيها بينها وبين عَيْنه اليُسْرى المُتَعَلّقة بطرف أهدابها السُفلية دَمعة.. اجتَثّ صَوْته المكسور ليَسأل بتلعثم الدّهشة: شــ ـ.. ــشنـ..ـو.. شـ ـنو.. هذا؟ شنــو.. هذا؟ شنــــــو!
تَساءَلت بأنفاسٍ مَخْطوفة وخَطُّ سَلمى المُميز يُعيدها لمقاعد الدراسة: شنــ.. ـنو! ما.. مــا أدري
قَرّبَ المذكرات منها أكثر.. وكأنّه يُريد للكلمات أن تحرث عينيها لتزرع فيهما السُّم الذي أغرقت بهِ حيوات كُثار. لكنّها أشاحت.. هَربت بضعف الجُبناء ونَطقت بثقة مُحَطّمة: ما أدري شنو هذا.. وليش بدري أصلًا؟
أَجابها يُسْرِد عليها رواية ظُلمها: هذي مذكرات.. مذكرات أم مروة.. صديقتش سلمى.. صديقتش اللي ورطتيها بسرقة أدوية كانت نهايتهم في بطن نُور المسكينة
التَفتَت إليه بحدّة والشرار يزعق وَسط مُقلتيها: هــذي مُــفــتــريـــة
ابتسمَ وضحكة قَصيرة مَبْحوحة حَلّقت من حنجرته بجنحي شهقة، في الوَقت الذي انتحرت فيه الدّمعة من على شُرفة عَيْنه بَعدَ أن أَتخمتها الخيانة.. ناداها: يُمـــه "أكمل بإحباطٍ كَسى ملامحه" يُمـه أنا اللي واجعني أكثر من وجع اللي سويتيه.. إنّي وأنا أقرا.. ما فكرت ببرائتش ولو للحظة! ما شكيت.. اليقين ذبحنــي.. ذبحنــي يُمه.. أنا ولدش واثق إنش أجرمتين.. واثق أكثر مما إنّي واثق بحُبش لي!
زَجرتهُ والغَضب يَتطاير شَرارًا من عينيها: جَـــب... أنا أمّــك.. أمّــك وتصدق عَلي هالافتراء؟ هذي جذابة.. جذااابـــة "وبلومٍ حامٍ" لكن أنا قلت لك وما صدقتني.. قلت لك هالبنية ما تصلح لك، ما تناسبك.. أدري فيها داخلة وفي نيتها الخراب.. لكن إنت ما سمعتني.. عارضتني وأخذتها غصبًا عني.. مثل ما أخذت بنت عمّك هذيك "وبتقزز" الخاينة
انحسرت أصابعه عن المذكرات حتى سَقطت على الأَرض ليُناديها برجاءٍ يَسْتجدي تلك الرحمة المفقودة: يُمـــه لا تنكرين.. إنتِ اللي رسمتين هالخيانة.. أسبوع وإنتِ تشربينها هالأدوية وهي تهلوس ولا تدري.. أوهمتينها إنها مريضة.. وإن طلال زوجها.. ودخلتينها غرفته وهو فيها.. غرفة وبابها مسكر عليهم.. بس الله وطلال يدرون "ارْتَجفَت رُوحه وهمسه يخبو" يدرون شصار فيها.. بينهم!
رَنا لغيداء بحَوَر عينه التائه عندما شَهقت بصدمة كاسحة: عبد الله إنت شقاعد تقول!
كَرّرت بثقة مُنقطعة النظير كان يراها عبد الله غَطرسة قَبيحة: جــذابـــة.. هذي تبي تهدم بيتي وتخرب بيني وبينك
حَرّكَ رَأسه وهو في عالم غير عالمها: طلال.. طلال يدري
تَحرّك قاصِدًا الباب لكنّها قَبضت على ذراعه تمنعه وهي تصرخ: أوووقف... أوقــف.. ما تروح له.. ما تروووح
سَألها بوجسٍ يائِس والدّمعة تستحيل إلى بَحْرٍ غَصّت من مُلوحته عَيْناه: ليــش؟ خايفة أكرهــ ـ...ــش فعلًا.. أكره أمي!
ضَغَطَت على يَده وسَبّابتها اقتربت من شَفتيها سكينًا تُهدّد شعوره الضال، وهي تقول بوجهٍ قَد تَشَرّب حُمَمًا حارقة: انطــــم.. انطم.. غصــبًا عنك تحبني وتصدقني.. وهالـ... الجذابة دواها عندي "سَألته وهي تتلفّت" وينها؟ وينها اللحين؟ بهذلت الأولي والتالي وشردت؟ صَحّت العاق اللي داخلك وتركتك؟
سَحَبَ ذراعه يُحرّرها من قَبْضتها المبتورة الدفء.. نَطَقَ بلسان الماضي المَكتوم وحواسه لم تَكن تصغي إلا لما كُتِبَ بين جِلْدٍ وَوَرق: اتهمتين عمي ناصر بالحـــرام.. ولأن أبوي العود كَشف جذبش وغضب عليش لين موته.. قررتين تنتقمين من عمي ناصر في نُور! "هَوت الدمعات تَبكي زَوجةً طَلّقها منهُ انتقامٌ أَسْود.. أرْدَفَ يُعاتبها بطير رُوحه المذبوح وهُو يُشير بإصْبعيه" ذبحتيني يُمّه مرتين.. مرتيــن.. مرة بسهم نُور.. ومرة بسهم مروة
اسْتدارَ مُهرولًا للخارج ومن خلفه غيداء تجري ونحَيبها المصدوم يَسْبقها.. خَرَج تارِكًا من خَلْفه الجَبروت وهُو يَتقهقر.. الأُبّهة المُتَبَجّحة وهي تَتحوّر ذُلِّ حَقير.. والأُم وهي تُثْكَل بَعْدَ أن طَعنت ظَهرَ ابْنها بكَفّيها. اجْتَذَبتها أَرْضٌ مَسيكة لَم تُشْفِق يَومًا عليها.. سَقطت على رُكبتيها ودوامة الواقع تَتلقفها لتغمر حواسها.. تَلَفّتت يُمنةً وشِمالًا.. إذ لا مُنقذٍ ولا مُساند.. كانت تغوص وتغرق والماضي يَجُرّها إليه بحبال مَشْنقة عَقَدت خيوطها بخباثتها.. ارْتَعدَت أطرافها واضطربت رُوحها.. حتى أن أنفاسها تَبعثرت من الزلزال الذي أخذَ يُدَمّر دَواخلها.. زاغت العُيون والمشاهد تداخلت أمامها.. الزمجرة تعلو ومعها يعلو جُنون نبضاتها.. إنها صَرخته.. صَرخة قلب أُبوّته الذي هَشّمته بشرور أفعالها.
: بلقيـــــس
نَظَرت لشَقيقتها برُعبٍ أَطّر عينيها الجاحظتين؛ السابح فيهما دَمْعٌ لهُ حمرة باهتة.. هَمست بلسان الخَوْف: أبــ ـ ـبــوي.. أبوي!
زَمّت شَفتيها بقَهر وهي تتنفس بوضوح وتهمس بتوبيخ وهي تضرب كتفها بضربات مُتتالية: قلــت لش.. قلت لش وحذرتش ألــف مرة.. بس إنتِ حمــ... ما تسمعين الحجي "بَكت ورَعْشة هلع تُصَب عليها" بيذبحــــش.. صدقيني بيذبحش ومحد بيهمه
تَمَسّكت بها بكلتا يَديها وهي تُحَرّك رأسها برفضٍ لهذه النهاية البَشعة: لا.. لا لا.. لا.. أبوي بيصدقني.. بيصدقنـــي
صَفعتها بغيظ: بيصدق شنــو.. شنـوو! الجذب لابسش من فوقش لتحتش.. وناصر متربي تحت عيونه.. خبز إيــده.. قلت لش مُستحيـــل يصدق عليه حتى لو كان مسويها صدق.. مو بعد هو المظلوم وإنتِ متبلية عليه!
: بلقيـــس
احتضنت شَقيقتها ودَفنت وَجهها في كَتفها عندما فَتحَ الباب بقوة أُصْدِرَ عنها صَوْت مُجَلْجل أَرْجفها.. شَدّدت من احتضانها لشقيقتها وهي تَتمنى لو أنّها تَصنع لها من أضلاعها قَفصًا يَحميها من عاصفة والدها.. لكن الأُمنيات كانت عَصية ومُسْتحيلة.. فقَبضته الحديدية كَبّلت ذراعها لتقتلع جَسدها من ضِفة الأمان المُهْتَرِئة والتي هَمست تُناشده: يُبــ ــه لا تذبحها
بصوته الجَهور المَشْحون غَضَبًا: ما أذبحها؟ ما أذبحها هــا؟ "صَفعها بكفّه حتى مالَ رَأسها وهو يُكْمِل من بين صرخاتها المُتوجعة" إلا أذبحهــا وأشرب من دمها "صَفعة أخرى" تتهمين الصبي بالباطل.. تتهمينه زوووور يا بلقيس!
نَفت من بين شهقاتها وتنشقها: لا يُبه.. لا.. مو زور.. أنا صادقـ ـة
اتّسعت عَيْناه وصَفعة ثالثة طُبعت بسببها آثار أصابعه على خدّها الجَمْر وعلى جدار قَلْبها: وبعــد تعيدينها! يالـ...
حاولت والدتها أن تتدخل لإنقاذها وهي تبكي ومن خلفها باقي الفتيات يرتعشن رُعبًا: اتركها عبد الإله.. بتذبحــها.. اتركها
دَفرَ يَد زوجته مُتجاهل توسّلاتها.. شَدّ بلقيس من شعرها وهي تَتلوى بألم وتُحاول بكفّيها أن تفك أسرها: هدنــي يُبـه.. هدنـ ـي.. أنا ما جذبت.. صدقني هـو اغــ
ضَربها على فَمها يُصْمتها قِسْرًا: ابلعيـــها.. ابلعي حقارتش يالـ.... "رَفعَ رَأسها بيده المُستولية على خصلاتها ليُثَبّت عينيها بعينيه.. سَألَ بفحيحٍ يُنذِر بُقرب الفاجعة" اعترفي.. من الســ... اللي سويتيها معاه واتهمتين بدله ناصر.. مـــن؟
تَطَلّعت إليه بصدمة لثواني وكلماته تنفذ لجوفها كالصاعقة.. زَعقت بهستيرية ورَجفة عارمة: لااا يُبـــه.. لااا.. حرام عليك.. حــ ـراام.. أنا بنتــــك.. شلون تفكر فيني جذي! شلــووون!
رَماها بازْدراء على الأرض حتى اصطدمت مؤخرة رأسها بالحائط.. وهُو يَقول ببغضٍ شَديد: ذوقــي.. ذوقي الظلم بلقيس.. ذوقيـه
نَظَرت إليه وهي غارقة في بحر بؤسها وبكائها ذو الشهقات المشروخة.. نَظرت إليه لتُبصِر على الهُدْبِ دَمْعة أَبَت أن تهبط وتَحني شُموخه العَتيد.. دَمْعة لَم تَكُن تَعلم أَنّ ابْنها سَيرثها بعد أربعين عامًا. تَقَهقرَ جَسده ويده ارْتفعت تقبض على جهة قلبه.. تَمَسّك بالباب فَصَرخن الإناث.. أَبعدَ أيديهن القلِقة وهُو يَسْتنشق الأنفاس ببطءٍ وانتظام.. اسْتقامَ جَسده بعد لحظات.. إلا أَنّ رُوحه بَقت جاثية تنظر لذات ابنته المُمرغة بالتراب. هَمَسَ بوعيد أَشْعَل الشرارة الأولى لحرب الانتقام: انحبسي اهني.. وأول واحد يخطبش برميش عليه.. ما لش مكان لا في بيتي ولا في قلبي.. وبظل غاضب عليش لين ما ياخذ ربي رُوحي
,
الوقت الحالي
شُرِعَ باب الطوارئ الرّئيسي فَداعبَ وَجْهه هواءٌ صافَحَ الرّبيع مُنذ أيامٍ قَليلة.. تَراقصت خصلات شعره الناعمة واقْشعر جلده للحظات ثُمّ اسْتكان. تَوَقّفَ أَمامها ويَده تسكن جَيْبه.. يَنظر لها بعينين خاويتين من كُل شيء.. ينظر لها بعُري ذاته التي تَجَرّدت من مَشاعرها قِسْرًا.. يَنظر لها بروح انسلخت منها الراحة وأَفسدت أفاعي الدّهر طَهارتها. كان يَقِف أمامها وهو إنسانٌ مُدَمّر.. شَوّهت صَفحات قصته أحبار والدته الملوثة.. صَبغت البياض بسوادٍ أَقسم أن يَسْكن حَياته أَبَدًا. استعانت بالهواء لتطرد من صَدرها تنهيدة ثَقبتها الغصّات.. هَمَست وهي تَتأمّل أطلال عبد الله تُلَوّح مُوَدّعة ذاته: أسبوع ما جيت البيت... وين تنام ووين تاكل!
أَجابَ بصوتٍ رَتيب.. مُقْفَر من الطبقات المُتفاعلة مع الموقف: اهني
ارْتَفَعَ حاجبها مُسْتنكرة: المُستشفى! "حَرّكَ رَأسه بالإيجاب وهو يُهمهم فأرْدفت برجاء" ارجع البيت عبد الله.. أمي أساسًا ما طلعت من غرفتها من بعد اللي صار
عَقّبَ ببرود: إذا رجعت بتطلع هي من غرفتها وأنا بسامحها وعقب ما أنخرط غصب ويا نفسي الجديدة.. نفسي الناقصة.. بكتشف صدمة جديدة وبينقص مني شي جديد "تَهَكّم بحاجبين مرفوعين" هذا إذا باقي شي للحين!
زَفَرت بحيرة وهي تدعك طرف جبينها.. طلبت منه: مُمكن تقعد؟ أبي أتكلم معاك
جَلَسَ بصمت على المقعد الحجري وهي جلست بجانبه.. نَظرت إليه وهو يَنظر للأمام.. يَنظر للسعادة وهي تَتداعى كخيط طَيْفٍ رهيف.. هَمَسَت بهدوء وبلحنٍ حَذِر: حبيبي أنا فاهمتك.. والله لا يلومك لو قعدت زعلان طول عمرك.. بس هي في النهاية أمك.. مردك لها.. هي غلطت "وبأسى أرخى جِفْنيها" غلط للأسف كَبيــر وفيه تعدّي على الله.. بــس...
أَطبقت شَفتيها فأكملَ هو ساخِرًا وعيناه تتوجهان إليها: بس شنو؟ ها غيداء؟ بس شنو؟ قطعتين كلامش لأن ما في شي ينقال عقب هذي البس.. ما في تبرير.. ما في أسباب منطقية.. ما في شي يشفع لها على اللي سوته.. حتى لو كانت أمي
كَتمت تنهيدة والتزمت الصمت.. فاستدارَ هُو ليَستأنف مُتابعة مَشْهد انهياره. عَيْناها لَم تَبرحان وَجْهه.. السواد يُقيم مَأَتمًا أسفل عينيه.. خطوط التعب رَسمت لها طُرق شَتّى بين ملامحه.. وشعر لحيته بخصلاته الشائبة المُتفرقة قَد أَفصح عن الإهمال. هَمست تسأله: كلمت طلال؟
رَدّ بذات الهمس: لا "أكملَ بعد لحظات وعيناه تستحيلان إلى سَماء سوداء مُدَجّجة بسُحب رَمادية حُبْلى بالبؤس" رحت للبناية اللي فيها شقته.. ظليت ساعة واقف قدامها وأنا في السيارة.. حتى ما نزلت.. خايف... خايف من اللي بيقوله لي
نحنُ نَخاف الحَياة وفي الوقت ذاته نَخاف المَوت.. نُحن أَسْرى عند الخوف... تهرمنا الحياة فنَستنجد بالمَوْت.. وبمجرد اقترابه منا يُكَبّلنا الخوف ويَجُرّنا بعيدًا عنه.. على الرغم من ارتباط الحياة بالموت إلا أن البعض يراهما ضدان.. لكن في الحقيقة هُما وجهان لعملة واحدة.. هُما السب ومسببه.. هُما النتيجة وسببها.. والسبب ونتيجته.. هُما توَأمًا بملامح مختلفة.. فالحياة تُجَهّزنا للموت.. ومن أجل الموت وُجِدَت الحياة.. والرابط العجيب ين هذين النقيضين هُو الخَوْف. نَطَقت بالحقيقة المُسْتَتِر في بطنانها عَلْقمٌ لا ينضب: لازم تكلمه.. أنا بقدر أقول لك إنّه شي صار وانتهى.. واللحين هي مو على ذمتك.. اللحين هي زوجته.. بس ما بتقدر تعيش براحة.. ما بتقدر تعيش في دنيا هُو طلال فيها.. فلازم تكلمه وتفهم منه شنو اللي صار "تفاءَلت" يمكن أصلًا ما صار شي.. فكلمه وريّح قلبك
تَطَلّعَ إليها والتيه الذي يَنخر في عقله وَصَلَ لعينيه واستقر.. تَنَهّدَ بثقلٍ وتنهيدته حَملها الهواء لصدر غَيداء وَجعًا أُخويًا. عَقَدَ ذراعيه على صَدره هامِسًا: بشـووف
قالت بتردد: إذا بتروح بجي معاك "لَم يَرفض فاعتبرتها مُوافقة.. مَرّرت لسانها على شَفتيها لتستطرد بسؤال" ومروة.. شخبارها؟
التَفَتَ إليها سَريعًا وكأنّه تَفاجأ من سؤالها.. تَقَلقلت عدستاه على وجهها لثواني قَبْلَ أن يُشيح هاربًا منها ومن نفسه.. شَدّد من عُقدة ذراعيه ويداه تَضغطان على عضديه حتى شَعر بأنّ أصابعه سَتنغرس في لحمه.. وبهذه الحَركة كان يُجاهد الأَلم الذي يُعربد وَسَط قلبه.. يُضَخ مع الدماء ليُجلّطها ويَشل كُل حواسه. نَطَقت بندم وهي التي استوعبت الوضع من حركته: آسفة عبد الله.. بس توقعت كلمتها
وَقَفَ قائِلًا: بدخل المستشفى.. طوّلت وأنا قاعد
أَومأت بتفهم وهي تقف: ما عليه
سَألها: جاية مع السايق؟
ابتسمت وهي تُحرّك المفتاح في يدها: لا بروحي.. شفت شلون إنت غالي عَلي
لَم يَبتسم.. كان شَبحًا فَقط ذاك الذي مَرّ على شَفتيه للحظات.. قال: انتبهي في الطريق.. وإذا وصلتين البيت كتبي لي
هَزّت رأسها: تمام "أردفت تُذكّره" كلمني إذا بتروح لطلال
رَفعَ لها إبهامه بالموافقة ثُمّ استدارَ عائِدًا لقوقعته.. تَنهدت بتعب على حاله المُتذبذب... تَأمّلت على صفحة ذاكرتها ملامحه المعجونة بالحُزن.. المُتشابهان يَنفران من بعضهما البعض.. ألهذا ترفض السعادة سكنى ذاتك عبد الله؟
استقرت في مركبتها مع ارتفاع رنين الهاتف.. ابتسمت وهي تُجيب بترحيب: هلا والله
بنبرة حماسية مُعتادة: هـلااا أم عبّود.. شلونش؟
ردّت وهي تُحَرّك المقود: الحمد لله.. أسأل عنش.. مختفية
ضحكت: ايـــه كان عندي شغل.. شغل يخصش تحديدًا
عَقدت حاجبيها باستغراب: شغل يخصني! وشنو هالشغل اللي ما أدري عنه؟
لَم تُجِبها وقابلتها بسؤال: أول شي بسألش.. شاركتين قبل في معارض؟
تَضاعفت العُقدة: معارض شنو؟
وَضّحت: يعني معارض للرسم والفنون التشكيلية وهالسوالف
ببطء وعدم فهم: لاا! عمري ما شاركت في أشياء جذي
هَمْهمت: أوكــي
استفسرت بشك: جميلة شنو عندش؟ الواضح إن وراش شي
ضَحكت بعلو: اييي وراي أشياء مو شي واحد.. بس إنتِ لا تحاولين تعرفين شنو.. لأني ما بتحجى إلا في الوقت المناسب
,،
نَطقت من بين أَسْنانها بقهر وهي تُجاهد الأَلم: طَــلال اكــتــب عــدل.. شفيــك!
رَمى القَلم على الكتاب بملل: صَعـــب.. كل حرف له ألف شكل.. بداية الكلمة غير ووسطها غير ونهايتها غير!
ويَدها تَسْتقر خَلْف ظَهرها وهي تَجُر أنفاسًا ثَقيلة: إنت المفروض تعرف هالشي.. دارس جم سنة في الإبتدائي يعني متعلم الكتابة
رَفعَ حاجبيه: أوووه من زماااان.. جم؟ خمسة وثلاثين سنة وأنا ما أكتب؟ أكيــد بنسى
رَنت لهُ بطرف عينها: هذا إنت تعرف تكتب وتقرا وتتكلم إنجليزي
عَدّد على أصابعه بفخر وهو مُسْتَلقٍ على بطنه: وأعرف أُردو وعيمي وفلبيني وإذا تبين بعد فرنسي شوي.. كلــه من السوووق
أَبعدت خصلاتها عن وجهها النابتة فيه بضع زخات عرق: والسوق ما علمك شلون تكتب بلغتك الأم؟
ببراءة أجابها: لا.. إذا بيننا وبين بعضنا ما نحتاي نكتب وايد "اسْتَطَردَ وعيناه تَتفحّصان ملامحها بدقة" نُور إنتِ بتولدين؟
زَفَرت بضيق قَبْلَ أن تُجيبه: لا
عَبّرَ بذهول وهو يَتأمّلَ حالها: ويهش يخوووف!
ضَرَبت كَتفه بغيظ: مالت عليــك.. شنو يخوف هذي بعد؟!
ضَحكَ وهُو يقول مُبَرّرًا: والله مو قصدي يخوف يعني بَشِع.. أقصد يخوف من كثر التعب "اعتدَلَ جالسًا ليقترب منها.. مَسَح العَرق عن جبينها بلمسة حانية مَلأت عَينيه وهو يقترح بهمسٍ مَلِق" حبيبي شنو رايش نروح المستشفى؟ يمكن ولادة
نَفت: لا مو ولادة.. أعرف إذا ولادة "حَرّكت رأسها بضيقٍ ونرفزة وهي تتأفف" شعري صاير يحر يحــر.. خاطري أحلقه كله
شاكسها: عاد لو تحلقينه صدق بتصيرين تخوفيـــن
مالتَ شَفتاها والتَمعت دموع صَغيرة وَسط مُقلتيها: طـلااال عاد لا تحرني زيادة
هَمسَ لها بضحكة ويداه تفكان ربطة شعرها: حياتي صايرة وااايد حساسة "جمعَ خصلاتها وثبتها عند منتصف رأسها ثُم احتضن وجهها بكفّيه.. تَأمّل التصدعات المنحوتة بين ملامحها والدمعتين اللتين عَبرتا عينيها إلى خَدّها.. مَسحهما بسؤال" ليـش؟
رَدّت ببحّة عَثّرتها الغصة: قلبي مقبوض.. خــ ـايفة
ارْتَفعَ حاجبه: من الولادة؟ "هَزّت رأسها بالإيجاب فاستنكر" إنتِ دكتورة المفروض ما تخافين!
عارضت هذه الفرضية: لاا.. لأني دكتورة فلازم أخاف.. أنا شايفة الولادة من قبل طلال.. رعــب إنت مـ
قاطعها ووجهه يقترب من وجهها: أُشش.. لا تفكرين بهالطريقة.. فكري في اللحظة اللي راح تسمعين فيها صوت البيبي واللحظة اللي بيحطونه فيها على صدرش.. إذا على لحظات الولادة فغيرش مليون مراة عاشوها وكرروها بعد.. توكلي على الله وكل الأمور بتعدي على خير.. بس إنتِ شيلي هالخوف
قَبّلَ جبينها ثُمّ ضَمّها وهي أَرخت رأسها على كتفه هامسة: إن شاء الله خير
,،
كانَ الليلُ يَعْتَلج في صَدرها.. لَيْلٌ اصطبَغَ بسوادٍ تَعلمُ جَيّدًا من أَيِّ مِحْبَرةٍ صُبّ عَليها.. لَيْلٌ إن قابَلَ المرآة لَرَأتَ فيها انعكاس تَأنيب الضمير. ذلك هُو الليل الذي يَقتات على دواخلها مُذ بَصَقَت في وَجْهه كلماتها النتنة. تَكره نَفسها.. تَكره ضعفها المُتَوَشّح بخِمار الغرور.. تَكره هَشاشة ثقتها.. تَكره الذات التي وَلدتها المواقف وألقتها على عتبات الزّمن. هي للمرة الأولى تُشْرِع أَبْواب قَلْبها وتُفْصِح إليه.. تَكلمت وتكلمت.. تَكلمت عن كُل شيء.. أخبرته عن طفولتها ووحدتها في المنزل.. عن إجهاضات والدتها المُتكررة وحُزْنها.. عن أخت والدتها التي لَم تَربط بينهما وَشائج من دماء.. وإنّما وَشائج من مَشاعر صادقة لَم يَنْهبها المَوْت كما نَهَبَ وَجْهها. هي نَكأت جِرْحها بقوّة مُتَضعضعة لتستفرغ ما تَعَفّن من الذكرى.. حُب راشد المزعوم وإهانته المأساوية لها.. رسائله وهداياه.. وأَخيرًا قَصَدت أَرْض بَسّام الغَنّاء.. حَدّثته عن لُطْفه الذي لَم يَرْوِ عَطَشَ أُنوثتها غَيره من قَبْل.. عن تَفَهّمه العَجيب.. عن قَلْبه الذي وَرِثَهُ من تلك الأم النائمة في قَبرها.. عن صَبره.. ابتسامته وحُبّه. تعتقد أن في تلك الجلسة أَفرغت كُل ما في جُعبتها.. حتى أَن الكلمات نَفدت منها.. وذلك وبغرابة لذيذة أَشعرها بالخفّة.. وكأنّها كانت تَحْمل في صَدرها أسمالًا من كَلام. وَضعت فرشاة الشعر على المنضدة.. أمسكت بأطراف شَعرها المُبَلّل تَتأمّل من خلال المرآة عِناق خصلاتها لجسدها.. فشعرها قَد تجاوز منتصف ظهرها وهذا الطول هي لَم تعتد عليه قَط.. بالكاد يَصل لكتفها أو أطول بقليل فتهرع لقصّه.. لكنّها وبعد العاصفة المُفاجِئة التي اجتاحت حياتها لَم تنتبه إليه.. ولَم تنتبه لأي شيء آخر غير صَغيرها. ابْتسامة حَنان لاطفت شَفتيها المُفْتَقرتين إلى قُبْلة.. حَرّكت مَقعدها إلى سَرير الصّغير.. نائم بذراعين مَرْفوعتين كَطَيْرٍ حُر أَبيض.. ثَغرة صَغيرة تنتصف شَفتيه النّديتين.. وصَدره يَرْتفع ويهبط برتمٍ يَبعث في النفس السكينة. أَفرغت تَنهيدة اقتطعها طَرْق الباب.. التفتت ناحيته وهي تَسْمح بالدخول.. كانت جيني وهي مُحَمّلة بطبق فواكه شَهي وكأس ماء راهٍ.. تَقَدّمت من الطاولة الصغيرة أمام الجلسة البسيطة في زاوية الغرفة.. أخفضت الطبق والكأس فوقها ثُمّ استدارت لتُغادر الغرفة.. لكن نِداء حَنين أوقفها. تَقَدّمت بمقعدها إليها وعلى مَلامحها قَرْفَصَ استنكارٌ عَظيم.. تَساءلت بصوتٍ مُنخفض ولكن مَسْموع عندما قابلتها: ما بكِ؟ منذ فترة وأنتِ لا تتحدثين معي! وإن تحدثتِ نَطقتِ بنعم أو لا.. ماذا هُناك؟
انتظرَت جَواب ولكن جيني خالفت توقعاتها والتزمت الصّمت بجفنين مُرْتَخيين، كما لَو أَنّها تُخفي داخل عَيْنيها جوابها. شَدّت على ذراع المقعد بقهر بانَ في ملامحها وهي تهمس من بين أسْنانها: جـيـني تكلمــي
نطَقَت بعد ثواني دُون أن تَرْفع عَيْنيها: لن يُعجبكِ ما سَأقوله
عُقْدة عَدم فهم تَوَسّطت حاجبيها: ماذا تعنين؟ ما الذي ستقولينه؟ "وهي التي استنتجت من كلماتها مَعنىً آخر" أنا لَم أُسيء إليكِ!
أَزاحت الجفنين.. ثَبّتت عَيْنيها في عَيْني حَنين الحائرة.. قَذَفتها بنظرة لاسعة وهي تقول: نعم لَم تُسيئين إليّ.. لكنّك أسَأتِ للسيّد بسّام
اسْتنكرت: مـاذا! "عَلا حاجبها ونبرتها غَمرتها الحدّة والغُلظة" ومــا دخــلــكِ أنــتِ ببسّام!
أَجابت بتعاطف اسْتَفَزّ حَنين: هُو لا يَسْتحق أن تُعاملينه بتلك الطريقة
ارْتَفَع صَوْتها وعِرْقٌ نَفَرَ في صدغها يُنذر بالانفجار: ومــا دَخــلــكِ أنــتِ!
انتبهت لحركة ابنها.. نَظرت إليه من مكانها حتى تَأكّدت أَنّهُ اسْتكانَ مُجَدّدًا.. زَفرت بقهر لأن صوتها أَزعج نَوْمه. عادت ببصرها المُتّخم برصاصاتٍ قاتِلة لجيني.. هَمَسَت من بين أَسْنانها: ما يجري بيني وبين بَسّام ليس من شأنكِ.. التزمي حدودكِ ودعكِ منّا "وسَبّابتها تُلَوّح بتهديد" وإلا أُقسم يا جيني.. سَوْف يَكون لي تصرف آخر معكِ
تَجاهلت تَهديدها وأَفصحت عما خَبّأتهُ لسنواتٍ طِوال في مُسْتودع أسرارها: أنا لا أدري لماذا السيّد بسّام لَم يعترف إليكِ.. كنت أنتظر اعترافه يومًا بعد يوم.. لكن يبدو لي أنّ الفراق سيحول بينه وبين هذا الاعتراف "اسْتقامت في وقوفها لتُكْمِل بثقة" لكنّني سَأعترف بدلًا عنه.. لرُبّما تستفيقين قبل فوات الأوان
تَراجعَ ظهرها للخلف بحركة نفور لا إرادية.. بلا إدراك منها كانت تحمي نفسها من حقائق الماضي التي تَجاهلت نسائمها الدافئة.. حتى حَوّرها الزّمن لحُمَمٍ تَصهر غرورها. تَساءلت بتلعثم وأنفاسها تتسارع استجابةً لجَري نبضاتها المُتَعثّر: مــ ـ...ــماذا.. ماذا.. تعنين بكلامكِ هذا؟
أَجابت بإسهابٍ أَهرم بقايا حَنين المُشَوّهة: هُو يُحبّك.. منذ سنوات.. وأنا شاهدة على هذا الحُب.. الرسائل والهدايا التي كانت تصلكِ.. كانت منه.. هُو.. السيّد بسام.. فأنا التي كُنتُ أستلمها منه وأوصلها لغرفتكِ بسريّة تامة طوال تلك السنوات.. كان صادقًا.. تزوجكِ وكوّن معكِ عائلة.. مثلما كان يتمنى تمامًا.. في كُل مرة يعطيني الرسالة أو الهدية.. كان يقول لي: أنا لا أتسلى.. سوف تكون لي.. هي حبيبتي وستصبح زوجتي وأم أولادي "مَرّرت عَدستيها عليها لتُردف بإحباط" وأنتِ للأسف تُقابلينه بكُل هذه القسوة والغرور.. هُو لا يستحق ذلك أبدًا.. لا يستحق هذه المعـ
قاطعتها بأنفاسٍ تَشْخب: اصْــمتي
واصلت: عليكِ أن تُفكري جيّدًا قبـ
شَدّتها من ذراعها ثُمّ دَفعتها للباب لتهمس بصراخ مَحبوس: اغربــي عن وجهـي
برجاء: سيدتي.. دعيني أكمل لـ
أَشارت للخارج وهي تأمرها بالعربية من بين المعركة المحتدمة وَسط رُوحها: بــرا.. اطلعي برااا
خَرجت مُسْرعة وآخر ما رَأتهُ عَيْناها وَجْهَ حَنين وهو يَسْتحيل إلى جَمْرة مُشْتَعِلة.. احْمَرَّ حتى ظَنّت أنّهُ بَدأ يُولّد دُخانًا.. دُخانًا مُحَمّل برائحة خسارتها. حَرّكت رأسها بالرفض.. والدموع تَنسكب على وجنتيها بقسوة كَصفعات صَحْوة.. الرسائل.. الرسائل حَنيــن.. لا.. مُستحيل.. الهدايا والرسائل.. أين هم؟ حَرّكت المقعد لتبحث بجنون عن الصندوق.. تتذكر أنها أعادته إلى هُنا بعد الذي حدث بينها وبين بسّام.. تُريد أن تُعيد قراءتها.. أن تجترع عينيها الكلمات وهي تعلم أنّ يَدُ بَسّام خَطّتها.. تُريد أن تجلد ضَميرها لعلّهُ يَسْتوعب ما انفلت من بين أصابعه... تُريد أن تتأكّد أنّه هُو.. هُو.. بَسّام. كانت تبحث وتبحث.. بساقين عاجزتين تَبحث عن الحقيقة المُغيبة عنها لأعوام.. تمنّت للحظة أن تكون جيني كاذبة؛ حتى لا يؤلمها عِتاب الماضي الذي هي مدينة إليه بكُل حياتها. تَكاثرت الدّموع في عَيْنيها مُشَكّلَةً غِشاء طُبِعَت فيه صُورة وَجْهه.. مَلامحه الأخيرة التي هَدّلها طُوفان كلماتها.. تلك الكلمات الدّميمة التي رَشَقت قَلْبه بها.. كَسَرته.. أحدثت في رُوحه شِرْخًا لا تعتقد أنّ وَجعهُ يَنتهي.. فهو سَيَظل يَخزه كُلّما عادت حُروفها لذاكرته.. وأي ذاكرة تلك؟ فهي لَم تَزرع فيها سوى ذكرياتٍ بجذورٍ خَبيثة لا تنتمي لأرضه الطيبة. هي أَجهضت أحلامه عنوةً.. وَشَوّهت اللوحة التي رَسمها بسنوات انتظاره.. هي أعرضت وَأشاحت بغرورٍ بَغيض عن الحُب النّقي المُتَأصِّل في ذاته. هي وببساطة.. وببرودٍ قَبيح.. رَكلت النعمة بقدمها! رَفعت يَدها لفمها تَكْتم جَيْشًا من شهقات أخذ يُهاجر مملكتها الموبوءة؛ وبين يديها قَد وقع الصندوق المُدَجّج بمشاعره.. ارْتعشَ نصف جَسدها الحَي وهي تَتحسّس سطحه بأنامل مُتَرَدّدة دون أن تفتحه.. زَعق سؤال بين جُدران روحها.. إن كان فعلًا هُو، فكيف سَيُسامحها.. كَيـــف!
,،
إنّها تَفقد الألفة يَومًا بعد يوم.. لَم يَعُد هذا الكوخ قَريبًا من قَلْبها.. لَم يَعُد يَنتمي إلى رُوحها.. فَصاحبهُ غائب.. وبغيابه أَخذَ معهُ دِفء الكوخ وحَميميته. البرودة في ارْتفاعٍ مُسْتَمِر.. وهي تَوَقّفت عن تَهيِئة المدفأة.. وَترتدي قَميصه فَقط.. كما لَو أَنّها تُنادي البرد إليها.. لَعَلّ الأوار المُحتدمة في جَوفها تَهدأ.. لكن على العَكس.. تَجَمّد كُل ما فيها عَدا قَلْبُها.. فَهو باقٍ باشْتعاله يُصَعِّد النّبضات على هَيئة زَفرات أَرْهَقها جَرّ الصّبر. ارْتَفعَ رَنين الهاتف.. هَبّت من مقعدها والتقطتهُ من على الطاولة القَريبة.. هَدّلَ ملامحها الإحباط عندما واجهها اسمُ والدتها.. رَدّت بنبرة خافتة: نعم يُمّه
أَتاها صَوْتها المغمور بالقَلق: يُمّه ملاك.. شلونش يُمّه؟ إنتِ زينة؟
أَجابتها وهي تعود لاسْتلقائها: اي يُمّه زينة.. الحمد لله
برجاء طَفَرَ مع كلماتها: حبيبتي يُمّه ملاك ارجعي.. ارجعي يُمّه.. مو زينة قعدتش في هالغربة بروحش.. ارجعي واخذي عدتش اهني في بيت أخوش
رَفعت جسدها بحدة لتقول بقهر: يُمّــه.. شهالحجي! أي عدة هذي "وبصوتٍ يُحارب الانكسار" مــحــمّــد ما مات.. مــا مـــات.. ورجعة ماني راجعة.. أنا قلت له راح أنتظره اهني.. ورجعتي راح تكون وياه
باعتراض مُتَرَدّد: بس مـلاك
قاطعتها وهي تُحاول السيطرة على طبقة صوتها: يُمّه أرجوش سكري الموضوع ولا تفتحينه مرة ثانية.. ما أبي أنفعل وأرفع صوتي عليش "اسْتَطردت سَريعًا" أنتِ شخبارش؟ وشخبار يوسف وحور؟ جم يوم ما كلموني
بتنهيدة اقتلعتها من قُعر جَبلِ هُمومها: الحمد لله.. بس حور المسكينة مشغول بالها بالسالفة الجديدة اللي طلعت لها.. وأمها مسكينة ما عندها أي معلومة تعطيها إياها
دَعكت صدغها وبتساؤل: هي قريبة منش اللحين؟
: مع أمها في الغرفة.. تبين أودي لها التيلفون؟
اعتدلت في جلوسها: اي إذا ما عليش أمر
وافقت: لحظة
مَرّت دَقيقة سَمعت خلالها صَوْت انفتاح باب.. ثُمّ هَمْهمة.. تَلاها صَوْت انغلاقه.. وأخيرًا هَمس حُور المَبْحوح: هـلا ملاك
سَألتها ومن نَبرتها كانت تعرف الجواب: شخبارش؟
شَخَرت مُتَهَكّمة: شخباري! والله ليل نهار مقابلة أمي المريضة اللي اكتشفت إنها مو أمي أداريها وأسألها من هي أمي اللي جابتني.. هذي أخباري
صَمَتت للحظات قَبْلَ أن تُناديها: حُور
رَدّت ببرود نصفه تَبَلّد: نَعم
أَفصحت بهدوء وببطء: كلمي نُور.. نُور بنت خالة حَنين.. كلميها وقولي لها إنش تبين تعرفين عن أمش
عُقْدة شَديدة تَوَسّطت حاجبيها وغَزت ملامحها: نُــور! وشنو يدخلها نُور!
بتحفّظ: إنتِ كلميها وبتعرفين كل شي.. أنا ما عندي المعلومات
عَلا صوتها قَليلًا: زيــن نُور شنو يدخلها! ليش هي عندها معلومات بخصوص هالموضوع!
كَذبت: مادري حُور.. مادري.. بس قبل لا أسافر خبرتني بمـ
قاطعتها بصرخة مَصْدومة: وليــش توش تتكلميــن! من متى أنتِ مسافرة وتوّش تتحجين!
بَرّرت: حُور كان وضع يوسف متذبذب.. وأمش بعد ومرضها.. قلت لها نأجل الموضوع شوي لين تستقر الأوضاع.. وانشغلت بالسفر وبسالفة محمد.. فنسيــت
بقهَرٍ عارم ولَوْم: شـلـوون تنسين؟ شلـووون ملاك! هذا موضوع الواحد ينساه؟
زَفَرت وهي تغمض للحظات وبأطراف أناملها تَدعك جَبينها: حُور آسفة.. والله آسـفة.. فعلًا نسيت ما أهملت الموضوع.. كنت خايفة من صدمتش خصوصًا وإنتِ تعيشين حالة من القلق والتوتر بسبب يوسف وأمش
اهتَزّ صَوْتها من اتّكاء الغصة عليه: أحسني أنا القلق وأنا التوتر وأنا الخوف.. ما قمت أحسهم كشعور.. قمت أحسهم إنهم أنا!.. أنا حُـ ـور نظير لكل هذي المشاعر
أَفرغت تَنهيدة مأهولة بالكَمدِ والضّيق قَبْلَ أن تقول بتَسليم: شنسوي.. هذا قضاء الله وقدره.. الحمد لله على كل حال "أَرْدفت" أنا عندي رقم نور.. بطرشه لش وكلميها
تساءلت ونَبضها يَقرع باب قَلْبها: هي يعني.. تعرفها؟
نَطقت بكلمة: اي
أَطْبَقت حُور شَفتيها سادّةً الطريق في وجه أسئلتها.. لماذا نُور بالذات تعرف والدتها؟ ومنذ متى وهي تعرفها وتعلم أن حُور ليست ابنة أمّها؟ لماذا الآن كَشفت عن الحقيقة؟ كيف تعرفت على والدتها؟ ولماذا نُور تَحديدًا المُطلعة على هذا السر الكَبيـر! لماذا وكيف ومتى وغيرها من الأسئلة التي بَدأت تجول داخلها بحيرة.
,،
ها هُما مُنذ ليلتين يَبحثان عن طَرَفِ خيط يُؤكّد على تَوَرّط رائد بجريمة قَتل عَمّار.. تَعرفا على الشركة التي كانت مسؤولة عن المجمع القَديم وعن هَدمه.. اطّلعا على قائمة العاملين في تلك الأيام.. حَددا العناوين وقَصداها.. وحتى الآن لَم يعثرا على شيء. قالَ وهُو يَصفع باب السيارة بقهر: يمكن أستخــف إذا ما حصلنا اهني شي بعد.. ما باقي إلا هالعامل وعامل أخير غيره
بتفاؤل استفَزّ عَزيز: بنحصله.. صدقني بيكون آخر واحد.. مثل إذا كان عندك شدة مفاتيح.. آخر واحد هو اللي يفتح لك الباب
رَنا لهُ بطرف عَيْنه وبغيظ: تنكت حَضرتك؟
ضَحكَ: لا والله من صدق أتكلم
تَجاهله وتَقَدّم للمنازل القَديمة القابعة في زِقاق عَكِر الرائحة تنتشر فيه الأوساخ من كُل جانب.. تساءَل وهو ينظر للوحات المُعلّقة على يسار الأبواب: أي بيت فيهم
أجاب وهو ينظر لشاشة هاتفه: خمسمية واثنين
أخذَ يَتَلَفّت يُمنةً وشِمالًا قَبْلَ أن يَهتف وهو يُشير للزاوية اليُمنى: هذا هُو
تَوَقّفَ أمام الباب المَطلي بلونٍ أزرق أكلَ عليه الدّهر وشَرِب.. طَرَقهُ بقبضته القوية لمرتين.. قَبْلَ أن يأتيه صوت يطلب الانتظار بإحدى اللغات الآسيوية. اتّكأ بساعده على الجدار الجانبي وهو يَميل في وقوفه ويُسراه تسكن جَيب بنطاله.. ثواني وفُتِح الباب. مَرّر بَصره على الشاب الواضح أنّه لَم يتجاوز العشرون من عمره.. بملابس داخلية بيضاء وإزار يَستر الجزء السُفلى من جسده.. تَساءَل بفضول: نعم.. ماذا هناك؟
كَلّمه بلُغته: هل كابي سوري موجود؟
هَزّ رأسه: دقيقة "وهو يتراجع للخلَف خطوة ويُدير رأسه ليُنادي بعلو" سُـوووري
أتبعَ النّداء صَوتٌ مُجيب أعقبهُ نقاش ليس بقصير بين الواقف أمامهما وبين ذاك الذي أجاب.. قَبْلَ أن يظهر أحدهم وعلى وجهه أمارات الاستغراب.. اسْتَفسَرَ وبصره يدور عليه وعلى رائد: ماذا تُريدان؟
سَألهُ عزيز: هل أنتَ كابي سوري؟
أَكّد: أجل
ثَبّت رائد الهاتف أمام عينيه وباسْتفسار: هل كُنت أحد العمال الذين هدموا هذا المبنى قبل عامين؟
طَفت الرّيبة على سَطح عَيْنيه بوضوح، حتى أن عَدستاه أخذتا تتحركان عليهما باضطراب.. ازْدَرَد ريقه ثُمّ أجابَ ببطء: لا.. لم أكن.. معهم
عَزيز بشك ونظرة ثاقِبة: هل أنتَ مُتَأكّد؟
أَطْبَقَ شَفتيه والارتباك بَدأ يتسلق حواسه.. التَفتَ لرفيقه المُتفَرّج قَبْلَ أن يَعود بصره إليهما وفي ثواني غافلهما ودفع رَفيقه ليركض لداخل المنزل كالفار من العقاب.. عزيز ورائد اللذان استوعبا الوَضع تَبعاه بجريٍ سَريع وهما يصرخان يُطالبانه بالتّوقف. أخرج عزيز سلاحه وهو يَركض من خلفه بسرعة مَاراثونية والغضب كالصقر ناشرًا جَناحيه على قارعة وَجهه. رَكِبَ للطابق العلوي حتى وَصَلَ للسطح وبدأ يتنقل من منزلٍ لآخر والاثنان من خَلفه.. كان بجُل خَوْفه وبعثرة أفكاره وضعف قدماه؛ يُحاول الهرب منهما.. يُحاول أن ينفذ بجلده الذي لا محالة سَوْف تُطبع عليه آثار القيود إذ هُما قَبِضا عليه. يَركض والشمس من فوقه تُلاحقه مُسَلّطةً ضَوءَها عليه.. وكأنّها تُشير بشعاعها لجريمته.. فهو مُتَورّط بجريمة قَتل بطريقة غير مُباشرة. ارْتَعدت فرائصه واهترأت الأرْض من خلفه ودارَ المجال من حوله؛ عندما عارضه منزل بسطحٍ أعلى بأكثر من ثلاثة أمتار من السطح المُستقر عليه حاليًا.. أدارَ رأسه ينظر إليهما.. على بعد خطوات قَليلة.. عادَ ونظرَ لحائط المنزل.. ازْدرد رُعبه ودون أن يُطيل التفكير ثَبّت يَديه وقَدميه عليه مُحاولًا تَسَلّقه.. لكن قدماه الحافيتان.. وجَسده المفتقد للياقة.. ورجفته المجنونة.. خانوه جميعًا ولم يَرْفعوه مقدار سنتيمتر واحد.. وفي لحظات كانت يَدا عزيز ورائد تقبضان على ملابسه لتُلقيان على الأرْض الجرداء جَسده السابح فيه العَرق.. انحنى عليه عَزيز وهو يتنفس بلهاث ووجهه المُتَسَكّعة عليه الشمس قَد احتقن باحْمرار الغَضَبِ والتعب.. لوهلة شَعرَ العامل أن هذا الرجل سَيُحرقه باللهيب الناعق وسط مُقلتيه. هَمَسَ عَزيز وهو يَقبض على ملابسه ويُوَجّه السلاح لرأسه: سَوف تعض أصابعك ندمًا حتى تُدميها لأنّك قَصدت هذه البلد.. وسَأذكرك بذلك
,،
جَلست بجانبه.. احْتَضنت جانب وجهه وبأناملها داعبت شَعْر لحيته وهي تهمس: لحيتك صارت كبيرة.. من زمان ما حلقت "ارْتَفعت يَدها لخصلاته مُكملة" حتى شعرك طَوَل.. مو من عادتك "انتظرت منهُ تَعقيب لكن هُو حتى لَم يَصفق بأهدابه.. نادتهُ بَتعب" فيــصل
نَظَرَ إليها بعينين تَتوشحان بشتاءٍ باتَ يبني قِلاعًا من جَليد فَوْقَ صَدرها.. عادت واحتضنت وجهه وهذه المرة بكلتا يديها وهي تقول بانفعال لَم يرتفع معهُ صَوتها: فيـصل ما يصير جذي.. صار لك أسبوع على هالحال! لا تاكل لا تتكلم وحتى نوم نفس الأوادم ما تنام.. ما يصير تقابل المشكلة بمشكلة أعقد.. لازم تسوي حل
نَطَقَ وبحته الطبيعية كانت مُتضاعفة: وتعتقدين في حل؟ إذا عندش حل قوليه لي.. يمكن تسامحني "كَرّرَ بتشاؤم طاغٍ" يمــكن!
أغمضت للحظات وهي تَسْتنشق أنفاسٍ تُعينها على التّجلد.. قَبْلَ أن تُبْصِر لتَقول: فيصل انتو لازم تتكلمون.. لازم تتفاهمون.. ردة فعلها طبيعية جدًا ومو غريبة.. اللحين المفروض تكون هدأت.. فتقدر تتكلم معاها
سَألها: وإذا هاجمتني مرة ثانية وقالت لي ما بسامحك.. أنا شسوي في عمري؟
شَدّت على ساعده: ما عليــه.. حاول مرة وثنتين وعشر.. يعني ما بتظلون طول العمر جذي.. لازم بتتكلمون وبتتفاهمون
أَصْدَرَ صوت رافض من بين شَفتيه وهو يُبعد يَدها عنه ليستلقي على سريره ويتدثر بغطائه.. أَمرها باقتضاب: اطلعي وسكري الباب
بحنقٍ طَفيف بانَ احمراره على جوانب وجهها: فيصل اعتكافك في الغرفة ما بيرجع الزمن ولا بيخليها تسامحك.. لازم تقوم وتتحرك وتقول وتفعل.. مو حالة هذي!
هَمَسَ بحدّة وظهرهُ لها: برا جنان.. بـــرا
ضَربته على كتفه بقهر: خلّــك.. طول عمرك جبان تسوي المصيبة وتشرد عنها
وَقَفت لتخرج من الغرفة وتغلق الباب من خلفها بقوة أحدثت ضَجة مُتَعَمَّدة.. غادرت الشقة للأسفل حيث التقت بخالها وليلى في غرفة الجلوس يُشاهدان التلفاز.. تساءَلت وهي تجلس بجانب ليلى: عمتي ما بتكلمين فيصل؟
أجابت بهدوء دون أن تنظر لها: لا.. قلت لش من قبل ما بكلمه
بخواء رأي وضياع: بس عمتي ما يصير.. صار له أسبوع على هالحال "تَهَدّجَ صَوتها وبصعوبة استطاعت أن تُكبح لجام الغصة المُهَدّدة بالبكاء وهي تُرْدِف" عمتي أنا ما أقدر أشوفه جذي.. هو غلط صح.. بس هي بعد غلطانة.. كفاية تأنيب الضمير اللي ياكله أكال.. وبعدين حتى جنى.. ما أبيها تتوتر من هالوضع.. المسكينة مو فاهمة شنو فيه.. وأنا خلّص جذبي وما أبي أجذب عليها زيادة
عَقَدت حاجبيها وبغضب حاد قالت لتُنهي النقاش: جنان سدي السالفة وهذي آخر مرة تجين تقولين لي كلميه.. أنا حلفت ما أكلمه لين يحل هالبلوة.. تعرفين يعني شنو حلفت؟
بمحاولة: بـس عمتي هـ
قاطعتها بزجرة وهي تلتفت إليها: خـــلاص
ابتلعت كلماتها ومعهم ابتلعت شهقتها وكَتمتها في قلبها المُتَضَخّم.. ارتعشت شفاهها وأهدابها تصافقت من تكالب الدّموع وَسط مُقلتيها.. نَظَرَت لخالها باستنجاد.. فهو اعتادَ أن يُظهر حِكمته في مثل هذه المواقف المُعَقّدة.. لكنّه رَفعَ كَتفيه ويَديه وهو يُقَوّس شَفتيه للأسفل ليشرح لها بحركته أنّ لا دخل له.. فيصل هو الذي أجرم بحق ياسمين وأجرم بحق نفسه وهو الوحيد المسؤول عن تطهير الاثنين من هذا الجُرم. تركت المكان لتبتعد لإحدى الزوايا.. أخرجت هاتفها واختارت الرقم.. ثواني وأتاها صوتها: هلا جنان
تساءلت باهتمام وببحة: شخبار جنى؟
: هذا هي تلعب.. بصورها لش
طَلبت: تحملوا فيها ولا تروح عيونكم عنها.. وخل تتعشى عدل
طَمأنتها: أكيد لا تحتاين
هَزّت رأسها: زين.. إذا تبي شي خل تكلمني
: أوكي
وهي تنهي المكالمة: مع السلامة
أخفضت الهاتف تنظر لشاشته.. حَرّكت إبهامها لخيار لوحة المفاتيح.. أدارت الإبهام على الأرقام دون أن تَمسّها.. كما لو أنّها كانت حائرة.. زَفَرت ونبضها مُتَأهّب للفكرة التي تحوم في عقلها منذ الصباح.. مَرّرت لسانها على شَفتيها وهي تُبعد خصلاتها عن وجهها.. تَلَفّتت من حولها قَبْلَ أن تعود للشاشة.. تَشجّعَ إبهامها وضَغط الرقم الأول.. الثاني.. الثالث.. إلى أن اكتملت الأرقام الثمانية.. زَفرت من جَديد نَفَسًا ثَقيلًا.. وقَبْلَ أن تضغط على زر الاتًّصال...: جنان
استدارت بشهقة: بسم الله
ضحكَ بخفة: ليش يبه خفتين؟ "أشارَ لغرفة الجلوس" أمش جاية وتسأل عنش
أخفضت يدها وهي تضغط على الهاتف وحواسها للتو تنتبه للتهور الذي كانت هي مُقدمة عليه.. رَدّت بتيه: زين.. أوكي.. اللحين
هَزّ رأسه ثُمّ عادَ من حيث أتى وهي عادت لتنظر للشاشة ولرقم المصائب المتربع فيها.. همست تُوَبّخ نفسها: غبية غبيــة.. يعني إنتِ ناقصة مشاكل يا جنان!
,،
مِرْآة.. انْعكاس صُورة.. انْعكاس خَسارة.. انْعكاس نِهاية.. لَم تَكُن تَنظر لانعكاسها، وإنّما كانت تنظر لكُل ما سَبق. مُنذ أسبوع والمرآة صَديقتها.. تَجلس بساقين مُرْتَفعتين.. تَحتضنهما لتَستطيع أن تَتَوسّد رُكبَتيها.. كما لَو أَنّها تَتَوسّد لَحْدها الأخير. مُسْنِدة ظَهرها إلى السرير بَعد أن هَجرته.. فهي لَم تنم مُنذ آخر غفوة قَضتها وهي بين أَحضانه.. تُغني لها نَبضاته تَهويدة تُشْبِه الطّبطبة.. وتَصنع لها الأنفاس وِشاحًا يُغْنِيها عن أي دفء. هي تَخشى لو أن باسْتسلامها لسلطان النّوم سَتُفنى أَحاسيس تلك الغفوة القَصيرة التي عاشتها بين قَلبه ورائحته. بَكت وبَكت وحتى هذه اللحظة هي تَبكي.. لَو أَن الدّموع تَعرف كَيف تَصنع رَغيفًا لأشفَقت عليها وأطعمتها.. فَفمها لَم تعبرهُ لُقمة.. كانت تَشرب الماء فقط لِتَبقى على قَيْد الحياة.. لا لأنها مُغرمة بهذه الدّنيا.. بل لأنها مُقَيّدة بذاتِ ذاكَ البريء.. عبد الله. رَفعت رَأسها وهي تَمسح أَنفها بظاهر كَفّها.. نَظَرت للمرآة.. تأَمّلت حالها المُزري.. خرائط الدّمع رَسمت مُدن كَمد على وَجْهها.. العَيْن تَشَرّبَت زُمَرّدها رَمادية آسنة شَوّشت يَنعها.. الاحمرار دَمٌ عَبيط يَكاد يَتفَجّر من عُروقها.. وشَفتاها جُفّ مَنبع الارْتواء الذي لطالما أَطفأ عَطَشه. أغمضت باحثةً من بين آهات قَلْبها عن الراحة.. عن الرّضا.. عن ذلك الشيء الذي كانت تَطمح إلي طوال السنوات الثلاث الفائتة.. لكنّها لَم تعثر على شيء.. كُل الذي وَجَدتهُ كان حُطامًا وبقايا للثقة التي أعمت ضَميرها المُضطرب. هي ومُذ غادرت المنزل خلسةً تَيَقّنت أن الانتقام لَم يكن حَلًّا أبدًا.. كان عِقابًا ها هُو يُدَمّرها شَيئًا فشيء.. عَذابًا يَستنزف وُجودها لحظة بعد لحظة.. وهي مُستسلمة بُكل ما فيها.. لا مُقاومة ولا مُحاولة للنجاة.. ولماذا النجاة ومن أجل ماذا؟ فالذي يهواهُ الجَوى غابَ عن سمائها.. وهذا الأفول سَيظل للأبد.. فالفَوضى التي أحدثتها بيديها يُستحال أن يَهزمها السّلام.. فهي أقوى وأكثر نفوذًا منه. التَفتت جهة الباب الذي يُطْرَق.. تَسَلّلَ من خَلفه صَوْت والدها المَحْشو قَلقًا: يُبه مَروة افتحي الباب.. ما يصير جذي طول اليوم حابسة نفسش في هالغرفة
: مروة إذا ما تبين تطلعين من الغرفة بس افتحيها وخلينا ندخل.. أو حتى واحد مننا.. نبي نتطمن عليش
كانت صاحبة الاقتراح هي أختها مرام.. فَتحت فمها تُريد أن تخبرهم أنّها لا تُريد رؤية ولا مُحادثة أي أحد.. لكن صوتها لَم يسعفها.. فهو قَد دُفِن أسفَلَ أنقاضٍ من غَصّات وبَحّات.. لذلك أطبقت شَفتيها وأسدلت جِفنيها مُفسِحةً المَجال للبُكاء ليرفع صَوته.. لعلّهم إذ سَمعوه يَتيقنون ببقائها وبأن المَوْت لَم يَزرها إلى الآن. انتحبت بصمتٍ وقَلبها يَعتصر بوَجَعٍ سَحيق.. هي تمنّت لو أنّ الفراق تَرَك لهُ ذكرى معها.. طِفل أو طِفلة.. لكن لَم تُغرَس في رَحْمها أية بذرة.. أُمنية نمو كائن مخلوق من صُلْبه ودَمه بين ظُلماتها الثلاث لَم تَتَحقّق.. لذلك سَتُعاشر الفِراق لِوَحدها.. دُون أن تؤنسها نسخة من عَيْناه أو ابتسامته. لَم يُشبعني الوِداع عبد الله.. لَم يُخرس أوار ناري.. لَم يُهدّئ رَوْع شَوْقي.. فلا راحة من بعدك حَبيبي.. لا راحة ولا استكنان.. أنا فقط أنثى تَجوس أزقة الدنيا باضطراب.. تُنَبّش عن آثار خطواتك وصَدى صَوتك المحتفظة به تصدّعات الجدران.. ففي صوتك الشفاء.. وفي لَمساتك الربيع والحَنان.. كُل ذلك حَرّمتهُ بنفسي عَلى نَفسي.. آه كم أنا قاسية يا عزيزي.. عَلي.. وعلى ذاتك المُقيدة بي.
,،
أَنهت الاتصال فَسَألَ مُباشرة: هذي حُور نفسها بنت سلطان؟
رَدّت وهي لا زالت تحت تأثير التوتر: اي
سؤال ثانٍ: يعني قالت لها زوجة محمد؟
رَفعت كَتفها وهي تُمسك بملعقتها: مادري.. بس أتوقع اي.. ليش يعني بتتصل تقول لي تبي تقابلني في أقرب فرصة! فأكيد عشان هذا الموضوع
تناولَ هاتفه: عيل بخَبّر فاتن
أَمسكت يَده بسرعة: لااا طلال.. انتظر.. لا تتسرع.. خل نشوف شنو تبي أوّل
استنكرَ: شنو تبي يعني! توش قايلة أكيد بخصوص هالموضوع
هَزّت رأسها: ايـــه أدري.. بس أقصد إن ما ندري شنو تكون ردة فعلها.. ما نبي نأمّل فاتن وبعدين تنصدم من رفض حور أو عدم تقبّلها
تَأفف قَبْلَ أن يقول على مضض: انزيـــــن
غَرَست الشوكة في قطعة اللحم في الوقت الذي دُقّ فيه الجرس.. مَضغتها وهي تنظر لطلال باستغراب والذي تساءَل: تنتظرين أحد؟
ابتلعت ما في فمها لتُجيب: لا!
نَفَضَ يَديه قَبْلَ أن يترك مقعده مُتَوَجّهًا للباب.. فَتحه ليصلها بعد لحظات صَوته المُرَحّب بحماس.. عَقَدت حاجبيها عندما نطق باسم عبد الله.. لِمَ هُو هُنا! اتّجهت إليه بخطواتها البطيئة.. وقفت خلف الباب فقال لها: البسي عبايتش عبد الله بيدخل
قَبْلَ أن تتحرك لغرفتها دَخلت غيداء فقالت هي بمفاجأة: غيداء! "ابتسمت بسعادة" أهليـــن.. ليش ما قلتين لي بتجين؟
بادلتها الابتسامة بأخرى لَم يَفت نُور لونها الباهت.. عَقّبت بهدوء بعد أن صافحتها وقَبّلت خديها: عبد الله اللي يبي يجي.. وقلت له بجي معاك
أشارت لها للداخل: حَيّاكم "وهي تتراجع للخلف وتُحدّث طلال" طلال خل يدخل أنا بروح ألبس عبايتي وبجي
دَخلَ عبد الله بعدَ أن دلفت نُور للغرفة.. وَقَفَ وَسط غرفة الجلوس وغيداء تبعد عنه خطوتان من اليمين.. تَبادلَ معها النظرات لثواني تحت مرأى من طلال الذي بَدأ التوجس يَنفذ إليه.. سَألَ بشك وعدستاه تتنقل بينهما بحذر: فــي شــي صايـر!
أخفضت غيداء رأسها وبظاهر سَبّابتها مَسّت أسفل أنفها.. أجابت بعد لحظات بهمس دُون أن ترفع عينيها: لا.. مو صاير "دَعَكت خَدّها وبارتباك أكملت" هُو يعني.. صاير.. بس.. مو اللحين.. من قبل.. من زمان
أَرْجَعَ جذعه للخَلف وعلى أهدابه تَعلّقت نَظرة رَيْبة.. نطق بتردد: مــا... فهمت!
: شفيكم واقفين! اقعدوا ارتاحوا
استدارَ لزوجته التي عادت بعد أن سَترت جَسدها وشَعرها.. ازْدَردَ ريقه وهُو يُعيد بصره لعبد الله والأفكار السوداء أفاعي تَحوم حول رأسه.. فلماذا عبد الله يأتي في مثل هذه الساعة من المساء وعلى وَجهه تُقرفص ملامح غَريبة.. مُخيفة.. تَشي بجُرم الماضي؟ نُور التي دَقّ ناقوس حَدسها هذا الجو المملوء بالخَطر والغرابة؛ تساءلت بقلق: صاير شي عبد الله وغيداء؟ أحد من أهلنا فيهم شي؟
نَفت غيداء: لا نُور.. محد فيه شي.. الكل بخير
ارْتَفعَ حاجبها مُتَعَجّبة: زين ليش جذي وجوهكم تخوف! جنه صايرة مصيـ
: تذكرين يوم تمرضين وأنا مسافر؟
نَظَرت إليه.. إلى عبد الله.. وقَبْلَ أن يَسْتقر بَصرها تَمامًا عليه وَجّهته لطلال الذي ارتفع من صَدره صَوْتًا أَشْبه بصوت الرّيح وهي تخترق الأَفق.. تَطَلّعت إليه لترى الرماد وهُو يُصَمّد عَيْناه.. كان يَرمش بسرعة وعشوائية.. وكأنّه يُحاول أن يهرب ببصره بعيدًا عن ذكرى مَشؤومة.. ذكرى لا خيرَ في عَوْدِها. عادت لعبد الله الذي واصَل طَرح الأسئلة: كنت مسافر لمؤتمر.. وإنتِ مرضتين حتى ما كنتِ تقدرين تداومين.. ما تذكرين إذا كان في شي غريب وقتها ولا لا؟
أَرْخت جفنيها وعدستاها تَموجان وَسَط مُقلتيها.. شيء غريب.. شيء غريب نُور.. شيء غريب! توقفت العدستان.. فذاكرتها قَد قَبَضت على تلك الغرابة.. ازْدَردت ريقها ثُمّ رَفعت عينيها إليه.. نَطَقت ببحة: اي.. أذكر
تَقَدّمَ خطوة وعيناه تضيقان بتركيز شَديد: وشنو هذا الشي؟
أَجابت بتردد: أمّك
هذه المرة غيداء سألت ونبضها يستجيب: شنو فيها أمي؟
وعدستاها تنحرفان لزاوية عينيها تَطُلّان على الذكرى: تحسنت علاقتها معاي فجأة! هي اللي اهتمت فيني.. وهي اللي كانت تعطيني الدوا
سؤال آخر من عبد الله وهذه المرة طلال تَسَلّق رعبه وأصغى لنور باهتمام: وشنو كان الدوا؟
حَرّكت كتفها: مادري.. بس أكيد يعني بانادول أو مضاد أو شي جذي "استغربت" ليش تسأل؟!
استقامَ في وقوفه ليُجيبها بقهر مكبوت: لأن الادوية ما كانت بانادول ولا غيره.. كانت حبوب هلوسة
رَنت إليه دون أن يَرف لها رِمش.. حتى شَهقة طلال الخافتة لَم تُعرها انتباه.. ظَلّت مُثَبّتة عينيها في عيني عبد الله وذاكرتها تُبصق في وجهها مُقتطفاتٍ مُدَمّرة....
"في أحد يطلع ويترك زوجته وهي بهالحالة! وهذا وهو بعد يحبش ويموت عليش وجذي.. لو ما يحبش شنو كان بيسوي!"
"ضحكت ورأسها يَميل من غير اتّزان: خل يستانس.. عادي.. أنا صرت زينة.. ما فيني شي."
"قومي تجهزي له.. راح عنش المرض.. قومي لبسي وتعدلي عشانه"
"عَقدت حاجبيها وببطء ونبرة تفتقد للتركيز: شلون! قال أسبوعين وبيرجع!"
"طلال.. زوجش.. اللحين بيجي.. قومي خل أساعدش تتجهزين له"
" تساءلت بتيه: من هو؟ عبد الله؟"
"وهي تستعرض أمامها ثوب النوم: خذي هذا.. لبسيه له
كَشّرت بملامحها: عبد الله ما يحبه
قَبضت على ساعدها وهي تقول بهمسٍ حازمٍ وحاد: طـــــلال.. طلال زوجش.. اللحين بتلبسين هذا وبتروحين غرفة زوجش طــلااال وتنتظرينه.. إنتِ مشتاقة له.. راح تستقبلينه أحلى استقبال
سَألت ببلاهة: من هو؟
بنفاذ صبر: طـلااال.. طلال عسى الله ياخذ طلال.. طلال زوجش.. حبيبش
كَرّرت من خلفها: طلال.. طلال زوجي.. حبيبي!
أَكّدت: ايــه.. طلال"
": أبي استشعر كل لحظة إنت فيها لي وأنا لك"
"تدري ريحتك هذي تنسيني نفسي، تزلزلني "طَبَعَت قُبْلة لم تَعلم أنَّها أحْرقته وأيْقَظَت الشيطان داخله" دوم كنت أتمنى إنها تلزق فيني.. ريحتك وريحة البَحر حبيبك"
انتفضت والمشاهد الضبابية تُحاصرها كالشّبح.. بسؤالٍ يَرتعش خَوْفًا: أنا نايمة.. أنا نايمة.. صح؟ "دارت عَيْناها على وجوههم المُختنقة بالصمت.. عَلت نبرتها قَليلًا ولسانها يُعيد السؤال" أنـا نايمة صح؟ قولوا لي إنّي نايمة.. هذا كابوس وأنا نايمة.. اللحين المفروض أصحى منه.. هذا كابوس.. كابوس مو راضي يعتقني
هَمَسَ بأسف: مو كابوس
هَزّت رأسها ترفض بقوة: لاا.. امبلى.. هذا كابوس.. كابوس نحيس ووصــخ
كَرّر: مو كابوس
ناداه يتوسّله أن يَقطع الحَرب قبل أن تبدأ: عبد الله.. مو اللحين
تجاهله.. تجاهله كُليًّا وواصل حَديثه مع نور المُتخبّطة: هذا مو كابوس.. هذا حقيقة.. كنتِ مريضة وأمي عطتش حبوب خلتش تهلوسين.. زرعت في عقلش إنش زوجة طلال وخلتش تدخلين غرفته.. وهناك "تَطَلّع لطلال والحدّة تنطق من عينيه" ما في غير طلال يدري شصار بينكم هناك.. في غرفته
تَخلّلت أصابعه خصلات شعره برجفة عَظيمة ظَنّ أن عظامه سوف تنفصل عن بعضها البعض بسببها.. استقرّ باطن يُمناه على حلقه.. فوق حنجرته المُقَيّدة بالغصّات.. اقتربت منه نُور والموتُ في مُنتصف زَحْفه لغزو ملامحها.. سَألته وفي نبرتها سَمع الرّجاء: طـلال.. قول له إن ما صار شي.. مـا صـار بيننا شي
عبد الله بحدته المُميتة: شــنــو صــار بينكم طلال؟
ارْتفعت يَده الراجفة فاصطدمت بخدّه باضطراب قَبْلَ أن تزور شعره بتيه وهلع كبيرين.. كان يَشعر بقلبه مُتَضَخّم كالجَبل.. وكأن صَدره لَم يَعُد يَسعه وهو قَد امتلأَ بكُل مَشاعر السوء.. تلك المشاعر الذي قَضى عُمره يَهرب من سَطوتها. نَبضاته من فَرط جنونها باتَ يَسمعها في أذنيه.. حتى الدماء كان مُنتبهًا لتخثّرها في عُروقه.. فلقد كان واعيًا وبشدّة للحظات ذَبحه. أَخفضَ بَصره لنُور عندما توقفت أمامه.. التقطت قُبّة قميصه بكلتا يَديها وهي تَهزّه وتأمره بارتعاش: قــول.. قول ما صار شي "تَعَثّرَ صَوتها بموجة البُكاء الجَلل" الله يخليك.. عشان ولــ ـدك اللي في بطني.. قول ما صار شي.. قــ ـوول!
أَغمضَ بَأسىَ مَرير.. انكشفت السماء من فوقه لتَرجمه بتهوّر أفعاله وسُدى نَدمه.. فَلو لامَ نَفسه في الدقيقة ألف مرة، فَلن يمنحه الزّمن فرصة العودة لتطهير الماضي من خَساسته.. ولو جَلَد ذاته في الدقيقة ألف مرة، فَلن يَغفر لهُ طَلال الذي هوى نُور مُنذ النظرة الأولى. لا طائل من أي شعور يَنبت في صدرك طَلال.. فَلن تستطيع أن تُصْلِح ما كَسَرهُ عَبثك. فَتحَ عَيْناه على صوت عبد الله القريب.. نَظَرَ إليه وهو يَقف على يَمينه والسؤال يَرفض أن يبرح لسانه: شنو صار بينكم؟
شَدّت نُور على قُبّته وهي تُقَرّبهُ منها وتهمس من بين أسنانها بأنفاسٍ لاهثة: قـــول لــه مـا صار.. شـي
طَلال الذي صَمت دَهْرًا فَتح فَمه لينطق بالفاجعة: كنت.. أحبش.. وإنتِ ما كنتِ في وعيش.. أنا.. أحبش.. وإنتِ جيتين لي.. قربتين مني.. وأنا.. اســ... ــتغليـ ـت.. حالتش.. وو
بعينين أَطّرهما جحوظ الفناء: وشنو "صَرخت وهي تهزّه" وشنــوو طلااال وشنووو!
أغمض من جديد رافضًا رؤية الثقة وهي تُعْدم من على مقصلة رُوحها.. وبصوتٍ اختلطت فيه الغصّة بالتردد: وو.. قربت.. منش.. جنش.. حـ ـلالي
انْحَسَرت يَداها عن قميصه ببطء وعدستاها مُتعلّقتان بوجهه المخسوف.. تَقهقر جسدها حتى اصطدمت بالمقعد من خلفها.. تَمَسّكت به بكفّها المُرتعشة وبصرها ينزح عنه شَيئًا فشيء.. تَنَشّقت بصعوبة.. كانت تَسْتل النفس من بين الضيق الذي أخذ يَحشر جواها ورُوحها الذي هَطلت عليها الحقيقة أسقامًا لا شفاء منها.. نَفذت من صدرها شَهْقة فارْتعدت.. هَوت الدموع على الخدّين وشهقة ثانية جرحت حلقها وغادرت.. اضطربت حدقتاها على الأرض بضياع وشعور الغثيان يُحاصرها.. شَهقة ثالثة وفَوجٌ من دموع مالحة. تَقَدّمت منها غيداء.. أمسكت بذراعها تحاول أن تُسندها: نُور خليني أساعدش تقعدين
دفعتها بضعف وبحواس غائبة وهي تهمس لذاتها: كنت زوجته.. كنت زوجتـ ـه! "نَظرت لطلال وصوتها ارتفعَ مُجَلْجلًا " كــنــت زوجــتــه... زوجــة ولـــد إخــتــك "لَطمت خَدّيها بهستيرية بحركات مُتتالية وقوية ولسانها يُرَدّد" كــنــت زوجتـ ـ ـه... كنت زووجتـــــه.. زوجة عبد الله.. زوجة ولد إختـ ـك "ومن بين نياحها عاتبته" أمّــنك عَلــ ـي.. أمّنك عَلي وسافر.. حـ ـ... ـحــ ـرام.. حـ ـرام عليك "ويداها تضربان صَدرها بوَهن" لكن كله مني.. كله منـ ـي.. أنا اللي جبته لنفسي.. أنـــا!
اقتربَ منها يُريد أن يَحتضن شَتاتها: نُور حبيبــ
قاطعته بغضبٍ ناري وبصرخة أَرجفت رُوحه: لا تــلــمــسنــي.. لا تلمسني يا الخاين.. يا الحقيــــ ـر "تأوهت وجسدها المسلوب القوى يَميل.. وبهمسٍ يخبو كالشمعة" لا تلمسـ ـنــ ـي.. ما أبيــك.. يا الخايــ ـ آآه
انقباض قوي قاطعَ كلمتها.. وكأنّ طفلها يُعاقبها على هجومها الضاري تجاه والده.. أمسكت ببطنها في الوقت الذي هتفت فيه غيداء بقلق: نُـــور.. ولاااادة
غافلها البلل.. تَأمّلت برهبة قَطرات الماء من أسفلها.. رَفعت رأسها باستنجاد وهي تشعر بصخور تهوي فوق رأسها من كل جانب.. مالت بإعياء إلا أنّ غيداء تلقّفتها بحماية وهي تُحاول أن تُطمئنها: اللحين بنروح المستشفى.. كل شي راح يكون تمام.. راح تتألمين أكثر كل ما مر الوقت.. بس إنت راح تتحملين
هَمست بصوتٍ مذبوح: أحـ ـ..ــس.. راح أمــ ـ.... أمــوت
مَسحت وَجهها المُحتقن باحمرارٍ تُمازجه صُفرة كَئيبة وهي تُبصر بخوفٍ مُقيّد شَفتاها وهما تستحيلان إلى أكفان: اذكري الله حبيبتي.. سمي بالله وصلي على النبي وكل شي راح يمر بسلام "استدارت تصرخ في وجه الاثنين المُتخشبين" واحد منكم يتحرك ويجي يساعدني.. لازم تروح المستشفى اللحيـــن
تَحرّك عبد الله ببعثرة وهو يقول: أنا بنزل أقرّب السيارة وإنتِ وطلال نزلوها "كان سيخرج لكن حال طلال أوقفه.. خطى إليه يُناديه" طلال.. طلال "أمسك كَتفيه يهزّه لينتشله من غرقه" طــلال أوعى.. طــلااال "نَظرَ إليه بتيه فأكملَ" أنا بنزل أقرب السيارة وإنت وغيداء نزلوها.. خلاص هي ولادة.. لازم نروح المستشفى قبل لا تتعسر حالتها "رَكّزَ عينيه في عيني طلال" فهمتني طــلال؟
حَرّك رأسه بالإيجاب ببطء.. غادرَ عبد الله وذاك المُحطّم جلس عند زوجته.. كانت تبكي والخوف يُعربد بين طيات ملامحها.. تَحتضن بطنها بكلتا يَديها وهي تهمس بجزع: يا ربي لا تاخذه مني.. يا ربي لا تحرمني من شوفته.. لا يموت يا ربي لا يموت "تَمَسّكت بيد غيداء وهي تنحب" غيداء ولدي.. ولــ ـدي
شَدّت على يدها تَمدها بالسكينة: بعد عمري إنتِ ولدش في وداعة الله.. ما راح يصير فيه شي
ناداها ببحة وحشرجة: نُـ ـ ـور "تحمحم ليُكمل وذراعه تُحيط كَتفيها" خل نروح
أشاحت عنه دافنة وجهها في صدر غيداء وهي تهمس: لا تلمسنـ ـي
حادثتها بُلطف: حبيبي نُور أنا فاهمتش.. ومعاش حق.. بس اللحين إنتِ في وضع صعب وكلش ما عندش قوة حتى توقفين.. خليه يشيلش عشان نروح المستشفى وما نتأخر أكثر.. عشان البيبي حبيبتي "هَمست لطلال بعد أن استشعرت ارتخاء عضلات نُور" شيلها
حَملها ليستقيم واقفًا وهي بين ذراعيه.. تَمسّك بها بقوة وهي أحاطت كتفيه وخبأت وجهها في عُنقه.. تُواصل بُكاءها وجلده يمتص دموعها ليكوي بها رُوحه حتى يرمدها.. لعلّ عذابه ينتهي. لكن العذاب لا يعرف للاستسلام طريق.. فهي هَمست في أُذنه لتبصم على شهادة وفاته الأبدية: بعد ما أولد.. راح تطلقنـ ـي.. خلاص.. النفس عافتـ ـك
,،
طَردها من غُرفة النوم.. لا يُريد أن يَراها أو حتى أن يَسمع صوت أنفاسها.. أَخبرها أن وجودها بقربه وحوله يؤزّمه ويؤرقه أكثر.. فهي تُذَكّره بدناءة أفعاله تجاهها.. وتجاه ياسمين. وها هي الآن تبكي بصمت في دورة مياه غرفة طفلتها.. لا حيلة لها.. كُل الطرق التي لَجأت إليها سُدّت في وجهها.. ولا مجال للعودة.. هي الآن عالقة في المنتصف تنظر إليه بكفّين خاويتين وهُو مُقَيّد بندمه.. ولا تملك المفتاح الذي يُحَرّره من عقابه. مُحاسبته لنفسه طالت مدّتها أكثر من اللازم.. هُو الآن باتَ يَسْتنزف عُمر رُوحه.. تعتقد أَنّها الآن ذَرّفت على الثمانون.. أي أن موتها قَد اقترب. يا إلهي.. ماذا ستفعلين جنان.. ماذا ستفعلين! رَفعت يدها.. نَظرت للذي بين راحتها.. كان هاتفها.. فتحته.. اختارت الأرقام السابقة التي كتبتها قبْل ساعات ولكنها جَبُنت.. لكن هذه المرة أَلقت الجُبن بَعيدًا عنها.. ضَغطت زِر الاتّصال ليبدأ الرنين الذي يَفصلها عن آخر طريق للنجاة.. الطريق الذي لَم يخلو قَط من آثار قدماها اللاجئة إليه.. انقبض قلبها عندما أتاها الرد بلحن تعجّب: جِنــان!
تَلَفّظَت باسْمه المُشَيّع بالبُكاء وبألحانِ استنجاد: أحمـــ ـد
,،
زَهْرةٌ ذابلة.. غَيْمة انقطعَ نَسْل أمطارها.. شَمسٌ ابتلعها الظلام.. وابتسامة انكسرَ مَيْلها الجذّاب. كانت رُوحها تذوي ساعة بعد ساعة.. كُلّما تضاعفت مُدّة غيابه.. تضاعفَ انهيارها.. كانت تموت في كُل ثانية.. وكان هو يغيب مع انقضاء كُل ثانية. تَكوّمت في مكانها وهي تَشد قَميصه على جسدها أكثر.. قَرّبته من أنفها.. استنشقت بقايا الرائحة المُقاربة على النضوب.. احتفظت بها في قارورة وَسط رُوحها.. ثُمّ أغمضت عينيها لتحمي ملامحه من الانفطار. ارْتَجفت في مكانها على إثر ارتفاع طرق الباب.. هَبّت من مكانها إليه وهي تَسأل بعلو وأنفاس مُتسارعة: مــن.. مـــن؟
صوتٌ لَم يَخطر صاحبه على بالها قط: أنا.. يوسف
صَفعَ وجهها الإحباطِ الذي يبدو أَنّه سَيُلازمها إلى الأبد.. فتحت الباب وهي تُرجع خصلاتها خلف أذنها.. سَلّم من مكانه: شخبارش ملاك؟
صافحته وبنبرة باردة: زينة "سألته مُباشرة" ليش جاي؟
رَدّ بهدوء: جاي عشان أرجعش معاي
قَبَضت على الباب تكظم غيظها وهي تَقول من بين أسنانها وببصر مُنخفض: يــوســف قــلــت لــكــم خمسيــن ألف مرة مــا راح أرجـــع.. يعني شسوي في عمري عشان تستوعبون!
لَم يُعَقّب على كلامها وقال: رُوحي البسي عبايتش
ارتفع صوتها: مـا راح ألبسها.. أنا ما برجع.. ضيعت وقتك وتركت أمي وحور وقطعت علاجك وجيتني.. وأنا مُستحيل أرجع.. قلت لكم وعدت محمد أنتظره اهني.. ما أبيه إذا رجع ما يشوفني وافية بوعدي
أَوْمَأ بتفهّم: ما عليه حبيبتي فاهمش.. بس إنتِ روحي البسي عبايتش لأني مو جاي بروحي
عَقَدت حاجبيها باستغراب: من معاك؟ هاينز؟ او آستور؟
كَرّرَ بإصرار: روحي البسي
تَطَلّعت إليه بشك للحظات قَبْلَ أن تستدير ناحية غرفتها.. نصف دقيقة وخرجت وهي تُثَبّت حجابها على رأسها.. وَقفت أمامه بذراعين معقودتين وملامحها يملأها الفضول.. يوسف التفت للخارج مُناديًا: تعال
ثانية.. أو ثانيتان.. أو لحظة رُبما.. لا تعلم.. لكن الذي تعلمه أنّ في لمح البَصر بُثّت الروح في الزهرة ونَضُجَت.. وحَملت الغيمة بالأمطار مُجددًا.. وانقشعَ عن شَمسها الظلام.. وارْتدت بزهوٍ الابتسامة ثَوْب مَيلانها.. هي استعادت رُوحها بمُجَرّد أن أَطَلّ عليها وجوده. هَتفت بشهقة خَلّفت بُكاءً بَلّل خَدّيها: مــحـــمـــد
هَرعت باتّجاهه بلهفة اقتطعتها ذراع شَقيقها.. التفَتت إليه مُسْتنكرة: اتركنـــي.. خلنـ ـي أروح له
حَرّك رأسه بالنهي: انتظري ملاك.. خليني أفهمش
بقهــر وأعصاب مُضطربة: تفهمنـــي شنــو!.. اتركني أروح لزوجـ ـي.. قلت لكم.. قلت لكم ما مات.. راح يرجــ ـع.. بس محد صدقني
بهدوء وهو يُحاول السيطرة على انفعالها الطبيعي بكلتا يديه: أول شي اسمعيني ملاك
ضَربته على صدره: مــابي أسمـ ـع... مابي مابي.. اتركني يوسف "زَعقت" اتركنــ ـي
هو الآخر صرخ في وجهها: مـــلاااك اعقلي واهدئي وخليني أفهمــش
دفعته بقوتها البالية وبتمرّد: مابي أسمع شــي.. ولا أبيــك إنت.. أبيــه هُو.. انتظرتـ ـه كل هالمدة.. ليـش ما تخليني أروح لــ ـه! "نَظرت إليه تُناديه تَسْتعطفه" محمــد.. حَبيــبي
لكن مُحمد لم يَتحرك.. ولَم يتكلم.. ولَم تصدر منه ردة فعل واحدة.. هو حتى لَم يَكن يَنظر إليها!
: ملاك "نظرت إليه بفكر مُشَوّش فأكمل مُوَضّحًا" أنا مو قصدي أمنعش عنه.. بس في شي لازم تعرفينه
سَألت بحذر وأنفاس مُتصادمة: شـ ـ ــشـــنو!
نَطَقَ ليفصل رُوحها عن جَسدها بجُملة واحدة: محمد طَلقش
الجُمود الذي كانت تَطمح إليه في الأيام الماضية الخالية منه؛ ها هُو يَتمكّن منها.. تَجَمّدت كُل حواسها وأجهزتها.. حتى ذلك الذي اسْتمرَ يَعد بنبضه ثواني غيابه؛ خَبَت حَرارته وانطَفأت نار شَوْقه.. مات فيها الإحساس.. والنبض والنّفس في لحظة واحدة. هي بلا إرادة منها وَضعت حاجِزًا بينها وبين الواقع.. فَضّلت أن تكون كائًنا أجوف.. هُلامي.. لا يَقوى على نزاله شيء.. ليبقى ميّت الشعور. أَبعدت يَدا شَقيقها وعَيْناها لَم تُفارقِان وَجه مُحَمّد بملامحه القديمة.. تلك التي وَرثت صَعيق بَرْلين. استدارت وبخطوات بطيئة مَشت لغرفتها.. بآلية أفرغت الخزانة من الملابس لتحشرها وَسط الحَقيبة.. تَتحرّك وتعمل وهي واقفة في المنتصف.. لا في السماء مُحَلّقة.. ولا في الأَرْض لها مُسْتَقر. أغلقت الحَقيبة.. نَزعت عن جسدها قَميصه.. مثلما نَزعها عن عصمته.. عادت وارتدت عباءتها وحجابها.. ثُمّ غادرت الغرفة إلى حيث بَقي يوسف يَنتظرها وحيدًا. مَشت إليه وهَفيف الرياح وصَرصرة الليل ما كان يَلِج لمسمعيها.. أفكارها.. صَدمتها.. استنكارها.. صُراخ قَلْبها.. وآهات رُوحها.. كُل ذلك أَصمتهُ اللا وعي ليحميها.. لينقذها من الضيف الخبيث.. المَوْت. تناول منها يوسف الحقيبة وتَقَدّمها للخارج.. تجاوزت الباب وعند العتبة الخَشبية وَجدته.. جالسًا وهُو مُقرفص وكَفّاه قَد اتّخذتا من خصلات شعره مَسْكنًا لها. وَقَفت أَمامه وهُو انتبه لِقَدميها القريبتين.. رَفَعَ رَأسه ببطء ويداه بالتوالي انخفضتا.. تَشابكت الأعين لتستهل سِجالًا هُدوئه يُنذِر بالعاصفة.. مَدّت يَدها إليه.. انتقلت عدستاه للذي فيها.. كان قَميصه الأَبيض.. حَرّك يَده يُريد أن يَستلمهُ منها لكنّها أَلقته على الأَرْض بتعمّد.. وكأنّها تُلقي النور الذي أَضاءَ بَصيرتها أَمَلًا أثناء وحدتها الكئيبة. تَراجعت للخلف خطوة.. حَرّرت بُنصر يُسْراها لتُلقي عَليه آخر وِصال بينهما قَبْلَ أن تستدير مُبْتعدة، بلا وداعٍ ولا عِتاب.. وإنّما بصمتٍ مُهْلِك. رَمَشَ بخفّة وبصره يَبحث عنه على الأَرْض البيضاء.. وهُناك.. على بُعد فراقٍ أبدي عَثَر عليه يُومِض بوَهْن.. كما لو أَنّ بريقه كانَ يُنازع المَوْت الذي استبَدّ من ذاته.. ذات مُحَمّد المُقيّدة بملاك.
انتهى
|