كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلت على الله
الجزء الحادي والسّتون
الفَصل الأَوّل
أتاها الاتّصال.. كعِناق.. كَقُبلة.. كَنظرة تُبزغ من بين غَبش.. كَعودة ولكن ليس كَاسْتقرار. أَجابت بلهفة وهي تَحْتضن الهاتف بكلتا يَديها: ألوو محمــد
بنبرته الهادئة الأَقرب إلى الهَمس: هـلا مَلاك.. شلونش؟
حَرّكت يَدها وكأنّ حالها لا يُهِم لتسأله: إنت اللي شلونك؟ من البارحة أنتظر هالاتّصال "وبَأسى خامرَ صَوْتها" يعني كلش ما يصير أنا اللي أتّصل لك؟
بِتَنهيدته المُنتَزَعة من أَرْض رُوحه المُتَصَدّعة: لا ملاك.. ما يصير.. قلت لش هالتيلفون بس أقدر أنا اللي أتصل منه.. ما يستقبل مُكالمات.. حتى الأرقام اللي أقدر أتّصل عليها مُعيّنة "اسْتَطْرَد" ما جاوبتيني.. شلونش؟ إنتِ زينة؟ محتاجة شي؟
رَدّت وهي تتراجع لتجلس على المقعد بجانب النافذة: أنا زينة.. ومو محتاجة شي
ذّكَرها: أي شي تحتاجينه مُباشرة كلمي هاينز.. هُو قريب منش
بهمس وجانب رأسها يَستند للنافذة: إن شاء الله
عادَ مُكَرّرًا: تقدرين ترجعين ملاك.. بخلي هاينز يحجز لش تذكـ
قاطعته بحزمها المُعتاد حينما تُدار رحى هذا الموضوع: محمـد قلت لك خمسيـن مرة ما راح أرجع.. راح أنتظرك.. أرجـوك لا تطري هالسالفة مرة ثانية
تَمْتمَ: على راحتش "وهُو يُخْفض صوته أكثر" بكلمش في وقت ثاني
حَبست تنهيدة لتقول بتماسك رَكيك: تحمّل بروحك
أخفضت الهاتف على المقعد بجانبها.. رَفعت ساقيها وبيدها سَحبت قَميصه الأَبيض.. آخر ما لامسَ جَسده.. آخر ما تبَقّى منه.. تَدَثّرت به في الوَقت الذي هَلّت فيه مَدامعها.. رائحته تَنضب شَيئًا فَشيء.. وَكأنّها تُريد أن تَلحق به.. أن تَهرب معه.. حينها سَيصبح الغِياب غِيابين.. وأَيُّ رُوح تَستطيع أن تَحْتمل وَجَعَ الغِياب مَرّتين؟ عَيْناها لَم تُفارقان ما وراء الزُّجاج.. السّماء كانت تَبكي معها.. إلا أن بُكائها كان بارِدًا.. كان صَلْبًا.. كان جَليدًا يُناقض النار التي تُلْهب خَدّيها. أَرْخَت رَأسها على رُكْبَتيها والرؤية قَد شَوّشها زُحام الدُّموع.. أَغْمَضت فَتسارعت إلى حَرْثِ وَجْنتيها.. أَبْصَرت فارْتَسَمَ لها على صَفْحة الرّيف البيضاء وَجْهُه.. تلك المَلامح المَعجونة بالغياب قَد اشتاقت إليها وجدًا.. قَريبًا سَيمضي شَهرٌ على ذهابه.. قَريبًا سَيمضي شَهرٌ على صَرْح الخَوْف الذي شَيّدتهُ نَبَضاتها وَسط قَلبها.. رُوحها جامِدة من بعده.. كما لَو أَن الجَليد الذي أذابتهُ بعاطفتها الأنثوية لتُنقذ بَقايا ذاته؛ قَد تَكَلّس فَوْقها. طَرَدت التنهيدة المُعَذِّبة جوفها ومعها فَرّت من أَطرافها رَعْشة.. تَعَلّقت عَدستَاها بشُعاع الشّمس الباهت.. سَألت النور: تُرى هل سَيعود؟
،
على الجِهة الأُخرى والبعيدة بمئات الكيلومترات عن بَرْلين.. في بقعة أَقرب لأن تكون نائية.. بضعة منازل مُتفرقة.. متاجر مُتنوعة وتُعَد على الأصابع.. مدرسة واحدة مُتهالكة يُلاصقها مَشْفى دائمًا ما يكون خارج نطاق الأدوية.. وعلى الزاوية اليُسْرى.. هُناك.. بالقُرب من مَوْطن الأَشجار الذابلة.. كان يَستقر نُزلٌ حَقير.. بطابقين وبأساسٍ عَجوز.. صبغه الخارجي الأخضر بدا كالعَفن.. وبابه ونوافذه الخَشبية لَم تُشَذّب مُنذ أكثر من خَمسين عامًا.. كان ذلك النُزل أَسوأ السيئين في هذه البقعة الذّليلة. عندما تَدخله يُقابلك مُباشرة قَوْسٌ حَديدي لهُ عَمودين على الجانبين.. تَتدّلى منهُ حروف لعبارة "أهلًا وسهلًا" بالألمانية.. عندما تَعبره تَتواجه مع منضدة طَويلة لَيست أفضل حالًا من هَيكله الخارجي.. يَكسوها الغُبار وتَتنافر منها شَظايا إن اتّكأت عليها جَرحتك. يَجلس من خلفها رَجُلٌ عَجور ذَرّف على السّبعين.. بِظَهرٍ أَحنتهُ جُثث سنواته الماضية وذكرياته.. كانَ قَصيرًا وانحنائِه ضاعفَ من قصْره.. أقرب للنحول، حتى أنّ سُتْرته الصوفية الزرقاء كان واضحًا جدًا وِسعها عليه. يَرْتدي فَوْقَ رأسه قُبعة "بيريه" لها لون العَفن الخارجي.. عينيه مَسْجونتين خَلْف نظّارة بإطارين كَبيرين ومُنفِرَيْن.. فأنت إن نظرت لعينيه مُباشرة سَتراهما وكأنّك تُبْصرهما بعدستين مُكَبّرتين. كانت التجاعيد المَنحوتة على جلده تَحْكي بتدلّيها عُمْرًا قاربَ على النهاية.. نَمَشٌ على ظاهر كَفّيه.. شَعرٌ لَم يتبقَّ منه سوى خصلات تَتشبث بوهن بصلعته الشاحبة.. لحية وشاربان كَثيفان يُلتهمهما الشّيب.. صَفْ من الأسنان المُتكسرة والمفقود بعضها.. وصَوتٌ تُصَعّدهُ حَنجرته كما يُصَعّد القطار البالي البخار مُعْلِنًا الرّحيل. كان هذا الرجل الذي يسترق الموت النظر إليه؛ صاحب هذا النزل والمسؤول عن جميع غرفه الخَمْس وباقي مرافقه القليلة.. الردهة.. دورة المياه.. المطعم الضيّق.. وخزانة الأموال الفقيرة. هُو.. مُحمّد.. كان كعادته يجلس على الطاولة المُنزوية في آخر المطعم.. من بين الطاولات الثلاث الأخريات. كان موقعه يُتيح لهُ إسقاط نَظره على النُزل بأكمله.. فيَتسنى لهُ مراقبة الجَميع.. الجَميع بلا استثناء. يُراقبهم.. يَتأمّلهم بدقّة الحاذق.. بعيني المتفحص.. وبذات العَميل السري. كانت طاولتان مَشغولتان.. واحدة يَجْلس فيها رَجُلٌ وَحيد يَقرأ صحيفة.. وَجْهه يُوحي بأنّه في نهاية الأربعين من عُمره.. بصلعة لامعة يُحيط بها كالسور شَعرٌ بُنّي أملس.. نظّارة ألطف من نظارة العجوز تَتكئ على أنفه.. بذلة رسمية بلون شعره تبدو عليها العتاقة.. ربطة عنق أرجوانية داكنة.. وحذاء جلدي. جالسٌ بساقٍ على الأخرى.. يَقرأ ويشرب من قهوته ويتناول إفطاره البسيط. ملامحه تَبعث في النفس المَلل.. لهُ نَظرة باردة وكسولة.. لا يبتسم.. هُو فَقط يَرسم بشفتيه خَطًا يَنم عن التّبلد.. هو تقريبًا لا يُثير الشكوك. أما الطاولة الأخرى.. فكان يتحلق حولها خَمسة رِجال.. بأجسادٍ تراوحت بين الضخامة والنحول الشديد. جَميعهم مُتأنّقين بِبذل رَسمية أرْقى من بِذلة ذلك البَليد.. حَديثهم مَسْموع وضحكاتهم مُجلجلة وإفطارهم مُتَبَجّح. أعمارهم تتراوح بين الثلاثين والستين.. إمكانية أنّهُ واحدٌ منهم كَبيرة وجدًا. اسْتَندَ لمقعده ويداه تسترخيان في جَيبيه.. عَيْناه تدوران على الوجوه ببطءٍ ودراسة.. وعَقله يُعيد على مَسْمعيه شَريط حَديث آستور قَبْلَ ثمانية وعشرين يَومًا.
،
أشارَ بقلمه لموقعٍ في الخريطة قائِلًا: من المفترض أن يكون هُو هُنا.. بحسب المعلومات التي وصلتني فهو سيكون في النُزل إلى حَدٍّ كَبير.. لكن لا نستبعد أنّه في باقي المنازل أو المتاجر أو حتى المَشفى
سَأَلَ وعيْناه مُتَرَكّزتان على الخريطة: ولماذا هُو هُناك؟ المنطقة غير معروفة وكما لَو أَنّها مَنبوذة "وبِشَك" أو أنّه؟
ابتسمَ لفطنته: نَعم.. هُو كذلك.. هي أفضل طَريق للهرب والفِرار من البلد بأقل خسارة وتكلفة
هَزّ رَأسه بتفهّم وهُو يُهَمْهم قَبْلَ أن يُفْصِح عن سؤال آخر: وسأكون أنا في النُزل؟
أَكّد: نعم.. ستَستأجر باسمك غُرفة.. باسم ديمتري موريس.. ستبقى هُناك لتبحث عنه "أخرج من درج مكتبه هاتف أسود لهُ شَكلٌ غَريب وغير مألوف.. وَضعه على سَطح المكتب ثُمّ دفعه لمحمد الذي الْتَقطه.. وَضّحَ له" سوف تتواصل معي عبر هذا الهاتف.. يوجد فيه رقمي ورقم هاينز ورقم رئيس مركز شرطة برلين ورقم زوجتك.. فقط لا غير.. هذا الهاتف للاتّصال على هذه الأرقام فقط.. ولا يستقبل أي مُكالمة
قَلّبهُ وَسَط راحته والإعجاب يُقَوّس شَفتيه: شيء مُميز وذكي "رَفَعَ عَيْنيه لآستور مُواصِلًا سلسلة الأسئلة" وكيف سَأتعرّف عليه؟ "سَخَرَ" بالطّبع لن يَكتب فوق جَبينه أنا رَئيس العصابة ومؤسسها!
تَنَهّد وظهره يَستند للمقعد: قُلت لك من قبل.. لا أحد يعرفه.. حاول الكثيــر والكثير.. ولكن لَم يتعرف عليه أحد "أخرج رزمة سجائره.. تناول واحدة.. ثَبّتها في فمه وهو يُشعلها.. نَفَثَ الدُّخان قَبْلَ أن يُكْمِل وعدَستيه تَكشفان عن الْتماعٍ واثِق" أنت الرّجل المُناسب لهذه المُهمّة.. أنت الذي ستخالف التوقعات وتتعرف عليه
تَهَكّم من نفسه: أووه.. كم أنا سعيد لامتلاكي لهذه الموهبة الرااائــعة
نَطَقَ ليُعيد إشعال شَمعة أَمل ما هي إلا ضَوءٌ مُرْتَعِش يُعَزّون بهِ أهل فَقيدهم: بمجرد تعرّفك عليه سينتهي كُل شيء مُحَمّد.. سنكون بقربك.. على بعد مسافة قصيرة.. إن حَدث أي شيء سنكون معك
شَدّت شَفتيه ابْتسامة انتزعها من رَحم التشاؤم ليقول بهمسٍ يُشْبه صَرير ريح مُوحِشة: سَـوْفَ نَرى
,
رَمَشَ بِخفّة مُنْتَبِهًا للأَطباق التي اصْطُفَّت فَوْقَ طاولته.. نَظَرَ للعَجوز الذي قال بابْتسامة اعتذار: كنت مشغولًا مع طلبات أولئك الرجال.. فتأخرت عليك
ابْتَسمَ لهُ بتفهّم: ليست مُشكلة.. لستُ جائعًا لذلك الحَد
أَشارَ لأطباقه المكوّنة من قرْص من البَيْض وخُبْزٌ وزبدة.. إلى جانب كوب الحَليب الساخن.. قال: هذا واضح.. لَم تطلب طعامًا كثيرًا.. مثل كُل صباح مُذ نَزلتَ هُنا
هَزّ رأسه وهُو يَضحك: اعتدتُ على ذلك
نَصحه: جَرّب اللحم المُقَدّد.. صَدقني ستطلبه كُل صباح
رَفَضَ الاقتراح: لا شُكرًا لك.. هكذا أفضل لمعدتي وأخف
استنتج: يبدو أنّكَ لا تأكل اللحوم.. فحتى غداءك وعشاءك خاليان منه.. هل أنت نباتي؟
مَسَّ أسفل أنفه بظاهر سَبّابته وهو يعتدل في جلوسه.. تَنَحْنَح قَبْلَ أن يُجيب كاذِبًا: نعم.. شيء من هذا القبيل
أَوْمأ بتفهم: حسنًا "استطردَ" أرجو أن تكون هُنا في المساء قبل موعد العشاء
استفسرَ: ولماذا؟
ابتسمَ وعيناه الكبيرتان تَضيقان من خلف النظارة من وِسع ابتسامته: سيكون هنالك احتفال بسيط.. اليوم هُو آخر يوم تُفْتَح فيه أبواب النُزل.. سوف يُغلق إلى الأبد
عُقْدة استنكار تَوَسّطت حاجبيه: كيـف ذلك! لَم يعلمني أحد.. كيف أتدبّر أمري الآن؟
خَبَت ابتسامته وتَهَدّلت ملامحه ليهمس: أوه.. يا إلهي "سأله" ألم يصل غرفتك الإشعار؟
نَفى: لَم يَصلني شيء
ضَرَبَ جبينه يُوَبّخ نفسه: تبًا لك أيّها العجوز الأعمى.. أنا آسف.. أعتذر جدًا سيّدي.. اللوم يقع على عاتق هاتين العينين.. ظننت أنّي مررت على غرفتك وأدخلت الإشعار من أسفل الباب.. لكن يبدو لي أنّني فعلت ذلك لواحدة من الغرف لمرتين.. أووه.. هذا سيء جدًا.. أعتذر.. أعتذر.. لا تقلق سـ
قاطعه بأدب وبنبرة هادئة: لا عليك.. لا تلم نفسك.. أستطيع أن أتصرف.. ولكن متى سَوف يُغلق باب النُزل؟
أَجابَ وهو يُثَبّت نظارته: غدًا قَبْلَ شروق الشمس بساعة
ابتسم لهُ يُطمئنه: لدي الوقت الكافي للبحث عن نُزل آخر.. هَل يُمكننك تسهيل الأمر عَلي؟
هَزّ رأسه بموافقة سَريعة: أجل أجل.. سوف أكتب لكَ قائمة للنُزل والفنادق القريبة من هُنا.. بعناوينها وأرقام الاتصال.. لا عليك
أَوْمَأ: مُمتاز
التَفَتَ مُحَمّد للضحكات التي ارْتَفعت برعونة وبلا تهذيب من حناجر الرجال الخمسة.. ضاقت عَيْناه مُفَكِّرًا.. من هو الرئيس؟ أو أنّه لا ينتمي إليهم؟ عادَ ونظرَ للعجوز الذي قال بصوتٍ خَفيض وهو يرنو إليهم بطرف عينه: إنهم مَصدر إزعاج.. سوف تَهدأ نفسك منهم الليلة.. سيغادرون بعد الاحتفال مُباشرة
تَساءَل: ومن سَيغادر أيضًا؟
رَدّ: الجميع "عَدّد على أصابعه" هؤلاء الخمسة "أشار للرجل الوحيد" وذلك الرجل فرانك.. السيدة العجوز وجروها.. ليونيل اللاتيني.. والمراهق وحبيبته
ارْتَفَعَ حاجباه: إذن سَأبقى وحدي!
سَأله بارتفاع الحاجبين ذاته: هل أنت خائف
ضَحكَ: بالطبع لا.. ولكنني سأنام بهدوء وسكينة على عكس الليالي الماضية
هَزَّ رأسه: قُلت لك ذلك "أردف يُذَكّره" ماذا عن الحفلة؟ ستحضر؟ سيكون هُنالك الكثير والكثير من الشراب
انكمشت ملامحه: أووه أنا لا أشرب
تَأمّلهُ لثواني وعدستاه الزرقاوان تَدوران على ملامحه.. هَمسَ بعد ثواني: لذلك أنت تتمتع بصحة جيّدة "رَبّت على كتفه بيده المُكتظة بالتجاعيد" فَليحميك الرّب
ابتسمَ لهُ بود: شُكرًا لك سيّد شيرمون
تراجع للخلف ثُمّ استدار ليمشي ببطئه المعتاد.. كان كما لو أنّه يَزحف ماشيًا.. يَخْطو وقَدمَيه تَتوسلان إليه أن ارحمني.. حَملتُ هذا الجسد لأكثر من سَبعين عامًا.. والآن لا طاقة لي. تناولَ إفطاره سَريعًا ثُمّ قَصدَ دورة المياه ليُغَسّل يديه وفَمه قَبْلَ أن يَرْتدي قفازاته ومعطفه.. ويُحيط عُنقه بشالٍ رجالي. وهُو يَهم للخروج استوقفه العجوز شيرمون.. تناولَ المظلّة المُعَلّقة على المشذب بالقرب من الباب وهو يَقول: خذها معك.. البارحة سَمعت في المذياع أنّها سَتُمطِر نهارًا
ابتسم لهُ شاكِرًا: شُكرًا
خَرَج بعد أن أخذ منه المَظلّة.. تَوَقّفَ على بُعد خطوتان عن النُزل.. تَوَزّع بَصره على الأرجاء الهادئة نسبيًا.. فَكّرَ من أين يَبدأ.. وبعد ثواني تَحَرّك باتّجاه المَشْفى المُهْمَل.. زارهُ عندما قَدِمَ إلى هُنا.. كما زارَ باقي المتاجر والمدرسة.. حتى المنازل تعرّف على أهلها.. لكنّهُ سَيعيد الكرة اليوم.. فهو بعد الذي سَمعه من العجوز اضطرَ أن يُغَيّر خطته.. أخرج هاتفه.. اختارَ رَقم آستور.. أتاه التسجيل الصوتي.. هَمَسَ بعدَ أن وصله صوت نغمة التسجيل: النُزل سَوف يُغلق.. جميعهم سيغادرون هذا المساء
,،
مُسْتَقِرًا بكفّيه على خصره.. يَتلفّت يُمنةً وشِمالًا.. يَدور حَوْلَ نفسه.. يَمشي مترًا للأمام ثُمّ يعود مترين للخَلف.. يَنظر هُنا ويتفحص هُناك.. يَتصفح الملف.. يُدَقّق في الصور ويُقارن.. وأخيرًا يَقول: في شي ناقص
عَقّب: أكيد في شي ناقص.. من جذي قاعدين نحقق مرة ثانية في القضية
حَرّك رأسه: لا.. ما أقصد جذي.. أقصد المكان فيه شي ناقص "أشارَ لسلسة المطاعم المُمتدة على يساره" شوف.. المطاعم جديدين
وهو لَم يفهم: أوكــي؟
نَظر إليه وهو يُضَيّق عينيه من الشمس: أنا مو متذكر عدل.. بس يتراوى لي ما كان في اهني مطاعم قبل سنتين أقل شي.. يعني سنة موت عمار مثلًا
وهو يُخرج هاتفه: لحظة "بَحثَ فيه لدقائق قَليلة قَبْلَ أن يُنادي رَفيقه" تعال عزيز شوف
ابتعدَ عزيز عن عمود الإنارة المُفترض اصطدام مركبة عمّار به.. وقف بجانب رائد لينظر للشاشة.. أشار رائد للمطاعم: كان مكانهم مُجمع *** سكروه لجم سنة وانهجر.. وهدموه في نفس سنة موت عمّار
عزيز بتفكير وعيناه مُتَرَكّزتان على المكتوب: وفي نفس الشهر "التقط من الملف صورة السيارة المُحطّمة.. ضَربَ عليها بظاهر سَبّابته وهو يستطرد" مكسرة تكسّر.. وهذا أول دليل على إنها مو حادث "أشارَ لعمود الإنارة" هالليت مُستحيل ويخالف المنطق إنّه يسبب هالضرر كله "نَقَلَ بصره للمطاعم" مجمع وانهدم.. مبنى كَبير بحجم ميتين سيارة يمكن.. أو أكثر
رائد الذي بدا عليه أنّه فَهمَ ما يُفَكّر به صاحبه: مكان الحادث قريب من المجمع.. أقل من عشر أمتار.. يعني إلا كانوا يشتغلون على الهدم مُمكن شافوا شي من الحادث
هَمَسَ ونَظْرة عيْناه يَتأجّج فيها تَهديد: ومُمكن شاركوا في الحادث "اسْتَطردَ بأمر" طلّع لي اسم الراعي لهذا المشروع.. مشروع سلسلة المطاعم.. وراعي المجمع المنهدم.. والعمال اللي اشتغلوا على الهدم.. أبي معلومات مفصّلة.. حتى عناوين بيوتهم أبيها
ابْتَسَمَ لهُ بثقة: ساعات وكل شي بيكون عندك
,،
انْحناء.. انْحناء رُوح وانْحناء جَسد.. بُكاءٌ صامِت تَقْتطعه شَهقات مَبْحوحة.. مُحْرَقة من القَهَر.. بَشَرة وَجْهها تَشَرّبت احْمرار باهت.. تَهَيّجت وها هي توخزها من فَرط انصباب أجاج الدمع عليها. بَكت وبَكت لساعاتٍ طِوال.. بَكت من الفَزع.. من الخَوْف الهيستيري.. بَكت من قَهرها عليها.. وبكت من رِثاءٍ على عُمرها الذي تاهَ يَبحث عن الاستقرار.. عن الحُب والاطمئنان.. كُلّما بَحثَ ازدادَ ضَياعاً بين متاهات والدها المُدَجّجة بالاضطراب.. الكُره والخَوْف. كَفٌّ على كَتفها وهَمْسٌ وُسِمَ بهِ الحَنان واللين: يُمّـه حُور.. صيري أقوى.. أمش محتاجة تشوفش قوية عشان هي بعد تقوى وتتحسن صحتها
أَحنت رَأسها ويَدها بارتعاش ترْتفع ماسّةً برسغها جَبينها.. هَمست بلوعة: مـ ـا أقدر.. ما أقدر عمتي.. شوفيها شلون.. شوفيهـــ ـا!
شَدّت على كَتِفها تُؤازِر القَلْب المَشْروخ من ثِقْل أوجاع تلك الأم المظلومة: أدري حَبيبتي.. والله أدري.. حالها هذا ما يسر.. وقلبنا ما يقوى يشوفها جذي.. بس بعد لازم تصيرين أقوى وتتركين هالدموع
رَفعت رَأسها لتتأمّل بعينيها النائح فيهما البؤس الأَجهزة وهي تُحاصر جَسد والدتها الهَزيل.. تَنَشّقت وهي تهمس بنبرة حَوَت حقدًا لطالما أبكمته قِسْرًا: شوفي من متى احنا اهني.. ولا فكّر حتى يجي يشوفها.. أو على الأقل يتصل ويسأل.. لكن ولا شي.. ولا شي.. هذا هو ما تغيّر.. قلبه حَجـــر
التَفَتَت للباب الذي طُرق.. كانت الطبيبة ومعها بعض المتدربين تستأذن الدخول.. سَمحت عَمّتها بالدخول بعدما رَتّبت حجاب والدتها النائمة.. كانوا شاب وثلاث فتيات.. سَلّمت الطبيبة ثُمّ اتّجهت للمريضة وهُم من خَلْفها.. أمرت إحدى الفتيات أن تَسْرد عليها تاريخ المريضة وآخر ما اسْتَجَدّ من نتائجها. أثناء ما كانت المُتدربة تتحدث كانت حُور المُرْهَقة تستمع.. على الرغم من تعبها وتشوّش ذهنها إلا أَنّها كانت مُنتبهة جدًا لما يُقال.. فهي قاطعتها بحدّة لا تُليق بها: السنة اللي استأصلوا فيها رحم أمي غلـط.. سنوات اللحين ومحد انتبه! شهالمستشفى!
تناولت الطبيبة الملف من المتدربة: أشوف "قَرَأت المعلومات ثُمّ قالت" عذرًا إختي بس السنة صحيحة.. الهيستوري تبع الوالدة متجدد ويتم تدقيقه من قبل أكثر من طبيب.. نسبة الخطأ قليلة جدًا
ارْتفع صوتها: شنو يعني! أقول لش مو هذي السنة اللي صارت فيها العملية.. انتو ملخبطين بين تاريخ عملية الرحم وتاريخ عملية الدودة الزايدة
عادت تتصفح الملف قبل أن تقول بهدوء: إختي.. الوالدة ما أجرت عملية الدودة الزايدة
أَصَرّت: امبــلى.. أمي قالت لي.. انتو ملخطين بين التاريخين.. ما يصير هذا يكون تاريخ عملية الرحم.. أنا انولدت بعد هالتاريخ.. من جذي أقول لكم غلطانين
حاولت الطَبيبة أن تبتسم لتوَضّح: المعلومات صَحيحة.. موقعة من الدكتورة اللي أجرت العملية ومن رئيس القسم ومختومة بعد.. وتم مراجعتها أكثر من مرة
وَقَفت بجسدها الذي تداعى من ضَغط الأيام الماضية.. تَقَدّمت من الطبيبة وبهمجية سَحبت المَلف منها.. قَرَأت.. ثُمّ أعادت القراءة.. ثُمّ أعادتها.. قَبْلَ أن تهتف بصوتٍ اهْتَزّ من ارْتباك النّبضات: وين الدكتورة؟ وين الدكتورة اللي سوت العملية؟ غلطانة.. شلون توقع على تاريخ غلط! أبيهــا.. وينها؟ "عَلت نبرتها واحتقان وَجْهها يَتضاعف.. وعروقها نَفَرت مُهَدّدة بالانفجار" أنا انولدت بعد هالتاريخ بسنتين.. سنتيـــن.. تعرفين يعني شنو سنتين!
: حــ ـور
استدارت للصّوت الوَهِن.. للهمس المجروح.. للتغريد المذبوح.. كانت قَد أخفضت عن أنفها وفمها الكمامة لتستطيع أن تتحدث.. تَقَدّمت منها وهي تقول ودموعها دون أن تشعر تنساب من عينيها كالماء العابر صِدْع كَهْفٍ مُوحِش: يُمه.. رجعيه.. مو زين.. عشان تقدرين تتنفسين
حَرّكت رأسها بالرفض قَبْلَ أن تنطق بحشرجة ووسط مُقْلَتيها لَوّح الماضي: اسمعيني يُمّه
شَدّت على يَدها وقَشْعريرة عنيفة تَجتاح أوصالها حتى اصطكت منها عظامها مُعْلِنة عن موسم التّهشّم.. هَمَسَت بتأتأة: شــ ـ ــِشنو.. شنو.. يُمـ ـه؟
نَطَقَت لتسكب عليها حَقيقة آسنة أَحرقت رُوحها حتى أحالتها رمادًا: التاريخ.. تاريخ العملية.. صَح.. شالوا رحمي قبل ولادتش بسنتين
حَرّكت رأسها بقوة ترفض هذه الكلمات القاتلة: لااا..لا يُمّه.. ما يصيــر.. ليش يُمه تقولين جذي! ما يصير.. أنا شلون.. شلون جيــت!
خَطَت إليها عَمّتها تُحاول أن تحتوي هلعها وهي ترى كيف ترتعد بصورة مُخيفة: اهدي حُور.. اهدي يُمّه
دَفعت يديها عنها دون وَعي لتتمسّك بسرير والدتها وهي تنطق بحروف متعثّرة وأنفاس لاهثة: يُمّـه.. يُمّـــه شلون؟! شلـوون! لازم.. واحد من التواريخ غلط.. تاريخ العملية.. أو تاريخ ولادتي.. شلون تقولين إنّه صح.. ما يصير يُمّـه.. ما يصـيــر!
أكملت في كشف ما انطوى لأعوامِ: التاريخين صح.. أبوش يوم يجيبش لي.. كنتِ مكملة السنتين
صَرخت بعينيها الجاحظتين حتى انجرح حلْقها: يــجــيــبــنــي من ويـــن! يجيــبنــي من ويــــن!... يُمّـــه إنتِ شنو تقولين! "التفتت لعمّتها تُطالبها بالنّجدة.. بالرّحمة.. بالرّفق برُوحها المصدومة" عَمّتــي.. تسمعينها؟ تسمعينها شنو تقول؟.. عمّتي قولي لها إنها غلطانة.. شلون تقول هالحجي! من وين يجيبني أبوي.. هي أمـي "صَرخت بهستيرية وهي تَضرب على صَدرها بكلتا يَديها" أمّي أمي.. أمـــــي... هي اللي حملت بي وولدتني وربّتني.. شلون تقول أبوي جابني لها وأنا عمري سنتين.. شلــووون!
نادتها وفيضها يُغرق وجهها أسَفًا: حُـــور "أردفت لتُجرّدها من كيانها.. ولتقلب وجودها رَأسًا على عَقِب" إنتِ مو.. بنتـ ـي
,،
فَترة ما بَعد الظهيرة كانت تَجمع بين أَرْبعِ نِساء.. لَيلى وابنتيها.. ومعهن ياسمين تَتفتح بينهن بخَجَلٍ عَلى مشارف الاعتياد. تناولت طعام الغداء مع العائلة بوجود عَمّها ناصر وزوجها فيصل الذي غادر قَبْلَ رُبع ساعة إلى النادي الرياضي. فَبيقن هن الأربع من أجل الاستئناس بأكواب الشاي بأنواعه الباعثة على الاسترخاء.. بأطباق الحلوى الشهية.. وبالأحاديث اللطيفة. عَلّقت جُود مُشاكِسةً شَقيقتها التي تَلتهم قِطعة الحلوى باستمتاع: مو شايفة خير! شوي شوي لا تغصين
ابتلعت ما في فَمها ثُمّ مَرّرت لسانها على شَفتيها الصغيرتين قَبْلَ أن تُعَقِّب ببرود: كيـــفي.. عَلي بالعافية
بَسَطَت يَدها أمام وجهها وهي تُغَضّن ملامحها: مالت عليش.. ذا الصحن الثاني.. لا يجيش السكري على نهاية حملش
شَزرتها والدتها بعينها: خليها تاكل على راحتها.. قطعة صغيرة ما بتسوي شي
مَرّرَت بَصرها على جَسدها وهي تُتَمْتم بصوت خَفيض سَمِعته نُور: يا ليت بعد يبين على جسمها هالأكل
قَرصت ذرعها: جــب.. اذكري الله لا تحسديني "قَوّسَت شَفتيها وباستعطاف" كفاية الثقل اللي قاعدة أحس فيه
اسْتَفسرت ياسمين: إنتِ اللحين في التاسع؟
أَكّدت بابْتسامة: ايـه.. توني من جم يوم داخلة التاسع
بادلتها الابتسامة: الله يسهل عليش
أَمّنت: يــا رب
أضافت لَيلى: دخلت التاسع وهي للحين ما تدري شنو فيها.. بنت ولا ولد
ارْتَفعَ حاجِبَي ياسمين بتعجّب: ليــش! ما تبون تعرفون يعني؟
ضَحكت وهي تبعد خصلتها عن عينها: لا والله ما كانت هذي نيتنا.. بس كل مرة نروح حق الفحص ما يكون واضح.. يا عاطنا ظهره.. أو مسكّر رجوله.. وبعدين قامت تقول لنا الدكتورة مرة ولد.. والمرة الثانية بنت.. حيرتنا.. فقررنا أنا وطلال إن ما نعرف.. ونخليها مفاجأة في الولادة
ضَحكت ياسمين وهي تتخيل الجنين يُشاكس والديه: مسويها لعبة هالنتفة
شاركتها الضحكة جود: أقول لهم قاعد يلعب عليهم.. بايــخ من قبل لا يشرّف "اسْتَطرَدت بإسْهاب وبنيّة صافية" إن شاء الله عاد ولد فيصلوه ما يسوي مثل حركاته.. أنا قايلة لجنان من تعرف شنو جنسه تخبرني أول وحدة.. بعد عمته على الفاضي! ما يصيـ
قاطعتها والدتها التي لَم يَفتها كَيْفَ تَحَنّطَت ياسمين الجالسة على يِسارها: اي اي على خير
انتبهت جُود وعَضّت على طرف لسانها تؤنّب نَفسها المُتسرّعة.. ازْدَردت ريقها وعيناها تَتفحصان وجه ياسمين الذي احْتَقَنَ بحُمْرة غَريبة.. كما لَو أَنّها تَلَقّت صَفْعة لاسعة.. التَفتَت لشقيقتها التي أَرْخت بَصرها عَمْدًا.. فهي لَم تَرْضَ لياسمين أن تلمح في عينيها نَظْرة الشفقة. تَطَلّعت لوالدتها عندما وقفت وهي تُمْسِك بيد ياسمين وتقول: تعالي يُمه براويش شي في المجلس
وَقفت ياسمين.. بَل أوقفتها والدتها.. فجَسدها قَد تَحَوّرَ لكائن هُلامي يُسَيّر بلا إرادة منه. دَلفت الاثنتان إلى المجلس.. جَلست لَيلى على الأريكة وأجلستها معها وهي تَضم بين كَفّيها يَدها التي استحالت إلى قطعة ثَلج. قالت وبصرها قَد تعرقل عند بوّابتي مُقلتيها الجاحظتين: يُمّه ياسمين.. حَبيبتي إنتِ.. هذي إرادة رب العالمين.. كله مقدّر ومكتوب.. حتى لو زواجكم كان قبل.. عادي لو هي حملت قبل.. وإنتِ إن شاء الله ربي بيرزقش في الوقت المناسب "وهي تَسْتعين بضحكة هَشّة" وبعدين انتو توكم معاريس.. استانسوا.. وعلى قولة جود عقب سنة الوقت بيكون تمام للأطفال.. اللحين ارتاحوا بروحكم
حَرّكت رَأسها بحركاتٍ مُتتالية.. نافية.. رافضة للحقيقة الخاطئة.. هَمَسَت بصوتٍ مبهوت: لا... لا عمتـ ـي
ضَغَطَت على كَفّها الذي أصابهُ مَسٌّ أَرْعشه كعصفور وهي تهتف بقلق: ياسمين.. يُمّه سمي بالله.. ما عليه حَبيبتي.. لا تخافين.. راح يجيش رزقش وقت ما ربي كاتب
كَرّرت ونبرتها تَرْتفع بغصّة: لا عمتي.. لااا.. هُو قال لي "ودمعةٌ تَهوي من بحرها الآسن" قال لي عشان.. عشان جَنى.. بس عشانهــ ـا.. شــ ـــ ــشلون.. شلون اللحين.. هي حامـــل!
ازْدَرَدت ريقها مُرْسِلة إشارة تنبيه للكلمات لعلّها تُعينها بتبريرٍ رَكيك: تعرفين يُمّه.. يعني هم الاثنين كانوا متزوجين.. يعني بينهم ماضي.. وهو بعد تدرين.. رجّال.. وهي بنية.. وزوجته
أَشارت لنفسها والدّموع تَتساقط على الوَجْنتين تُعَزّيها: وأنــا! أنـا شنو! أنا شنو قدامه!.. مو بنية؟ مو أنثـ ـى؟.. رجولته قدامي.. وين تروح! ويــن!
ليلى التي لم تفهم شيء أعادت: رزق يُمّه رزق.. محد يقدر يحرمش منه.. الله بيعطيش إياه
سَألت وسيوفٌ تُلَوّح أمامها وبدَمِ ليالي الهَجْر والتجاهل تُذَكّرها: شــلون!
عَقَدت حاجبيها: شنو شلون ياسمين؟ رزقش محفوظ عند الله مثل ما رزق جنان محفوظ.. كل وحدة بتحصله في وقته
انتحبت ويديها ترتفعان لفمها سَدًا يَمْنع استفراغ الآهات.. ليلى التي بَدأ يُخامرها شَكٌّ له رائحة نتنة تساءلت بتوجّس: ياسمين.. في شي أنا ما أعرفه؟
شَهْقة عَنيفة ومُسَنّنة فَرّت منها وأجبرت يديها على الانخفاض.. شَهْقة لَم تكن سوى آه صَرخَ بها فؤادها وهُو يُعاين جِرْحه النازف.. توالت الشهقات ووجهها قَد استوى مَسْرحًا تتنافس فيه الدّموع لرسم أَبْشَع لوحة للذُّل.. نَطَقَت بصوتٍ خَرَجَ مُتَعَكِّزًا.. مَخْنوقًا.. ومُحْرَجًا: عَمــتـ ـي... أنـ ـا.. أنــا للحين... مثــل.. ...مثل ما أخذنــ ـي من بيت أبووي "سَترت اللوحة المنشورة على أرض ملامحها لتهمس بالحقيقة التي ارْتَطمت صَخْرة برأس ليلى " فيصل ما لمسنـ ـ.... .. ما لمسنــــي!
،
زِياراتٍ كَثيرة.. مُتَعَدّدة.. مُتتالية.. وغَريبة! في الأَشهر الأولى من زواجهما كانت تَزورهم "حَسَب قَوْل جُود" مَرّة كُل أسبوعين.. أمّا الآن فهي تزورهم كُل أسبوع مرة أو بعض الأحيان مَرّتين! لماذا ومن أَجل ماذا؟ لا أحد يعلم. عَمّتها "أم فيصل" سَعيدة بهذه الزيارات بالطّبع.. هي تَسْتقبلها بحفاوة وبابْتسامة حُرّة من اصطناعٍ أو مُجاملة كالتي تَحْتَكِر شَفَتي جُود. حتى خالها ونُور كذلك.. سَعيدون بزياراتها وباشْتداد العلاقة بينها وبينهم. هي عندما تَعْلَم بقدومها إما أَنّها تَعْتكف في شقتها.. أو أَنّها تقصد منزل والدها، أو تَتفق مع نَدى لتخرجان معًا أو حتى لتزورها في منزلها. اليوم اختارت أن تَخرجان للتسوّق.. تُريد أَن تستعد للأشهر المُقبلة من حَملها.. فَوزنها بالتّأكيد سَيبدأ بالازدياد. كانت الساعة تُشير للثامنة مَساءً عندما عادت إلى المنزل.. عادت بَعْدَ أن تَأكّدت من مُغادرة ياسمين.. لا تُريد أن تُقابلها.. لا تُريد لأن تُحْمى النّار داخلها.. فَلتبقى خافتة.. تُحْرِقها للحَد الذي تَسْتطيع فيه تَحَمّل الأَلم وتَجاهله. غُرفة الجلوس كانت خالية.. لذلك صَعدت للأعلى مُباشرة ليصلها صَوْتا خالها وعَمّتها.. صَوتان مَكْتومان ولكن الحِدّة كانت واضحة عليهما.. نَظَرت للباب بريبة وهي تُواصل رُكوبها حيث شِقّتها.. أَيَتشاجران؟ دَلفت للداخل وهي تخلع حجابها وتفتح أزرار عَباءتها.. تَركت حَقيبتها على مَقعد المرآة لتخطو إلى غُرفة الملابس وهي مُحَمّلة بالأكياس.. انشغلت في ترتيب الملابس حتى أَنّها اندمجت وتَحَمّست وبَدأت بعَزل المَلابس التي سَتضطر لهجرها مُفْسِحَةً المَجال للأخرى الجَديدة، حتى تلك التي سَتشتريها في الأشهر الأخيرة. وأَثناء ما هي تَعْمَل وَصلها صَوْت انفتاح وانغلاق باب الشقة، ثُمّ أَعْقبهُ صَوْت فيصل وهو يُناديها.. بالطّبع عَلِمَ أنّها عادت عندما رأى مركبتها في موقفها.. كانت سَتخرج إليه ولكن انفتاح الباب والزَجرة التي تَبعته جَمّدتها.. أو لِنَكُن أكثر دِقّة.. صاحبة الزَجرة هي مَن جَمّدتها.. كانت عَمّتها.. أم فيصل.. ليلى. لَم تُكن تريد أن تسمعهما لذلك انزوت في غرفة الملابس.. لكن وعلى الرغم من المسافة التي تفصلها عنهما، إلا أن صَوْت ليلى كان يصلها من شِدّة علوّه.. فبلا إرادة منها حَمَلتها قَدَماها لخلف باب غُرفة النوم.. كانت تَسْمع وتَسْمع ورَجفتها تَتضاعف..
،
: أنا شفتها.. انخطف لونها يوم سمعت حجوة جود.. قلت آخذها على صوب.. أحاجيها وآخذ بخاطرها.. هذي إرادة رب العالمين.. وبيرزقها في الوقت المُناسب.. ما توقعت ولا للحظة إنها بتصدمني بالحقيقة! "أشارت إليه ليُبْصِر وللمرة الأولى في حياته الاحتقار وهُو يَسْعر وَسط عَيني والدته" إنت شنو؟ إنــــت شنو؟ لو ما عندك بنت.. ولو ما جنان اللحين حملت من أول شهر من زواجكم.. جان قلت هذا فيه بلا.. هذا مو رجـــال
قَبَضَ يَده وعُقْدة بانت بين حاجبيه حتى استحكمت من ملامحه: يُمه شهالحجي! أنا مو متعمد.. اسمعيني وافهميــ
قاطعته بحدّة ضارية ووجهها الأحمر يكاد أن يُبصق عليه جَمرًا: شنــو أفهم! بَــــس.. هذا إنت.. تغلط واحنا المطلوب مننا نسمعك ونفهمك؟ إنت تجهّز الأعذار والتبريرات قبل لا تغلط.. عشان إذا غلطت تجي وترميها علينا وتفضلوا سامحوني "حَرّكت رأسها بخيبة ونَدَمٌ سَحيق" لكن كله مني.. كله مني.. أنا اللي دلعتك ومسحت عليك.. أنا اللي سمحت لك تتمادى.. الشره مو عليك.. الشره عَلَي أنا اللي خليتك تاخذ البنية وإنت عقلك مو في راسك "رَفعت إصْبعها أمام وجهه تُلَوّح بها سَيْفًا مُهَدّدًا، ولسانها يَرْشقهُ بكلماتٍ مُسَنّنة" شـــووف.. عدّل هالخراب اللي سويته أحسن لك.. لو تحفر الأرض وتشق السما سَو حَـل لهالبهذلة.. ولا ما راح يطيح لساني على لسانك.. ولا تقول أمي وبتحن عَلي.. طلعت ما تستاهل الحنيّة
خَطى خطوة ناحيتها إلا أَنّ يَدها أوقفته وقَسْوتها جَلَدت رُوحه: لا تقرب مني ولا تكلمني.. مابي أشوف رقعة وجهك "اهْتَزّ صَوْتها وتَرَقْرقَت في عَيْنها دَمْعة اختلطت فيها مشاعر شَتّى" ذنب البنية في رقبتي.. خليتني أحمل ذنبها.. خليتني أتذممها.. والله خايفة رَبّي ما يسامحني
اسْتدارت لتخرج بعدَ أن طَعنت قَلْبه شهقة مَكْتومة فَرّت من صَدرها المُثْقَل.. شَدّ من قَبْضَتيه وهو يَكز على أسنانه حتى اسْتمع لصوت احتكاكهم.. تَعَثّرت أَنفاسه وهُو يَشْعر بالسماء والأرض تَتعضدان وتُطْبقان عليه.. لَن يستغرب لو أَنّه بعد ثواني تَحَوّل إلى فُتات. مَشى باتجاه غرفة النوم.. دَخل لِيَصطدم بها.. بوجهها الشاحِب المُتَجَهِّم، وبعينيها المُتَوَسّعتين من فَرط حَفْر الدموع وَوخزها. هَمَست بتعَثّر وبأنفاسٍ أَخنقتها الصّدمة: إنــ ـ... ــ ـت.. إنـ ـت.. مــا... مـا.. ما لمســ ـ... "اقتطعت كَلمتها وأجْفانها تَصطبغ بالأحمر ثانية بعد أخرى. أردفت بذات الكلمات التائهة.. المُستنكرة" سبع.. ســـ ـبـع.. شهور! أو ثمان؟ "حَرّكت يدها في الهواء" شهور.. صار لكم متزوجين.. وإنت.. ما لمستــ ـ "أَغْمضت وهي تنحر الكَلمة للمرة الثانية.. لا تستطيع أن تنطق بها.. لسانها لا يقوَ على نُطْقها.. فهي مُوْجعة.. مُوجعة لحد الشفقة على ياسمين. هُو بوجهه المُطْفأ الملامح نَطَق بحدّة ونظرة مُحذّرة: لا تتدخلين.. الموضوع ما يعنيش
تَجاهلته وتجاهلت التهديد المُوارب في عينيه: بـس.. سؤال.. سؤال واحد.. إنت "مَرّرت لسانها على شَفتيها ثُمّ أكملت" إنت.. تنام معاها؟ تنام معاها في نفس الغرفة.. وعلى نَفس.. السرير؟
عُقْدة تعاضدت فيها العَصبية مع الاستنكار: شهالسؤال! شلون تتجرئين تسألين هالسؤال!
عَلا صَوْتها والغَصّة تَبْتلعه: جــاوب فيصل... جـــاوب... إنت تنام معاها؟
مالَ في وقوفه ويداه تستقران على وسْطه.. أَجابها ببرود ظاهري يُناقض زلزال الضمير الذي بَدأ يَستعد في باطنه: ايــه.. أنام معاها في نفس الغرفة.. وعلى نفس السرير.. وين بنام يعني؟!
انْقَبَضَ قَلْبه عندما لاحَ لهُ شُحوب مَلامحها المُفاجئ.. تَهافتت الدّموع لإغراق وَجْنتيها وهَمْسها خَرَج كالصفعة لاسِعًا ضَميره: حـرام عليك فيصل.. والله العظيم حــ ـرام عليك.. حــرااام
تَقَدّمَ منها يُهاجمها بغيرته.. بقهره.. وببقايا رَماد جُزء قلبه المُحترق: ليش تصيحين! مو المفروض تستانسين؟ تستانسين إن كنت ولا زالت وفي لش؟ "شَخَرَ ساخِرًا" ولا تبينها تكون تعادل عشان يرضى ضميرش؟ مثل ما كنتِ لأحمد أنا أكون لياسمين!
أَحاطت وَجْهها بيديها ورَأسها يَرْتفع كما لَو أَنّه يُناشد السّماء وهي تصرخ بلوعة: الله يـــاخذ الساعة اللي عرفت فيها أحمـــد.. الله يـــاخذ اليوم اللي عرفته فيــه
ارْتَفَعَ حاجبه والسُخرية تَتخذ دور الدرع الذي يَحميه من الصّحوة: لا تحاولين.. ما راح يرجع الزمن ويتبدل عشانش
نَطَقت برجاء مُنْهَك: فيصل حِس.. حِــــس.. كفاية اللي سويته فيني.. كفاية بنتي.. كفاية جَنـ ـى.. كلنا سامحناك مع إنّ سماحك صَعـ ـب.. كنت تستاهل مننا أكثر وأكثر.. بس طبطبوا على بلوتك.. وأنا غصبت نفسي أنسى.. حتى الصور والثياب اللي قلت لي عنهم.. مانعة نفسي أشوفهم.. خايفة إذا شفتهم يصحى وجعي وأكرهــك.. إنت ضريتني وضريت بنتك.. ما كفاك ورحت تجاوزت حدودك وضريت بنت الناس!
تَعَجّبَ: ضَرّيتها! أنا ضَرّيتها!
صَرخت بانفعال: وشنــو تسمي اللي سويته فيها! فيصل إنت مو بس ضريتها.. إنت ذَبحــت أُنوثتها.. كَســرتها!
تَقَدّمَ منها ليُقابلها بالصراخ ذاته: وإنتِ شنـــو يدخلش! أنا ماني فاهم ليش متعاطفة معاها! المفروض تفرحيــن.. مو إنتِ تكرهينها!
أَكّدت: ايــه أكرهها.. وعمري ما حبيتها.. بس ما يعني إنّي أتمنى لها مثل هالكسرة "تَنَشّقت وهي تُبْعد خصلاتها عن وجهها والغَصّة تَتخذ مُنْحنى الماضي" فيصل أنا.. اللي كنت في ذيك الفترة أدري إنّك تتعمّد تتجاهلني.. تتعمد تكسرني وتجرح أنوثتي.. كنت ما أنام الليل لأنّي أحترق.. أحــ ـترق.. أتقلب على جمر هجرك لي.. شلون هي!
مَسّ صِدّغه بأطراف أصابعه: أنا ماني مستوعب.. إنتِ شنو! ما تغارين! ما يحرق قلبش إنّي أقرّب من بنية غيرش؟
انتحبت وهي تحتضن يديها بالقرب من قَلْبها: أنا من زمان أغار.. من يوم ما كانت تلاحقك.. وحتى لو ما قربت منها بظل أغار وأحترق وأسكّت ألم قلبي اللي يتقطع.. بس هي زوجتــ ـك.. مثل ما لك حقوق هي بعد لها.. اللي سويته غلط وحرام فيصل "عاتبته ورياح أسى تُحَرّك رأسها بإنكار" شلون قدرت؟ شلون طاوعك قلبك تجرحها بهالطريقة!
أَجابَ بجُل قَهره المُسْتَعر في ذاته المُقَيّدة بها: لأنّــي ما أقدر.. ما أقــدر.. ما أقدر أطالعها بنفس النظرة اللي أطالعش فيها.. حاولت.. والله حاولت "رَفعَ كَتفيه بقلّة حيلة أَبْصَرتها في عَيْنيه" بس ما قدرت! جِنان أنا بقربي منها مو بس أحس نفسي أخونش.. أنا بقربي منها أحس إنّي أخون نفسي.. أخون الطفل والمراهق والشاب اللي تربى على حبش.. أخون ماضيي!
مالَ رَأسها والعتابُ يَجْلده.. يُفري ضَميره ويُقَطّعه: ليش تزوجتها مدامك ما تقدر؟! ليش بإيدك رميتها في هالمعمعة؟ "شَهْقة تَكَسّرت وَسَط صَدرها" بــ ـس عشان تقهرنــي! "خَطَت إليه لتقف أَمامه وبقبضة يَدها ضَربت صَدره" كان في إيدك كل شي.. كـــل شي.. حتى لو هي كانت تحبك.. كنت تقدر تصدها بسهولة.. كنت تقدر تحميها منّك.. من ظلمك "رَمَشَت أهدابها المُبَلّلة لتُرْسل لَهُ سَهمَ خَيْبة انْتَصَفَ فؤاده المُعْتَل" فيصل إنت ظلمتها.. لبست دور الظالم وظلمتها!
تَسَمّرت عيناه في عينيها المأهولتين باللوم.. ازْدَرَد ريقه فتَأَلّم.. فَقَد اخْتَنَقَ الضّميرُ وَسَط حَلْقه.. لا هُو قادر على إعادة تَثبيت جذوره في رُوحه.. ولا هو قادر على استفراغ أشلائه.. حتى أَصابع النّدم بُتِرَت بسكين الأوان الفائت قَبْلَ أن يَتَسَنّى لهُ عَضّها. هُو قال لها قبل دقائق.. قال لها بأنّ الزمن لن يَعود ليتبدّل من أجلها.. فكيف سيعود من أجله؟! فهل يَسْتطيع الظالم أن يَسْتقل قطار الزّمن عائِدًا إلى ماضي اسْتبداده؟ هل يَستطيع أن يعود للمفترق ويقصد طَريق الأَمان؟ هل يَستطيع أن يعود للحظة التي نَحَرَ فيها عقله ليُجْلِس على العَرش كبريائه؟ هل يَستطيع؟ كان الجَواب يَطْفو وَسَط مُقْلَتَي حَبيبته.. لا يُمكن العَوْد فيصل.. فَالأرضُ بَعد تَدميرها تَتَبرأ من مَوطئ قَدمي ظالمها.. انهار كُل شيء.. كُــل شيء.. لَم يعد هُنالك مَجال للإصلاح.. الكَسْرُ لا يُجْبَر.. والخَطأُ تَمادى حتى اقتلع آخر فرصة.. لا فُرص أمامه.. بل لا عُمْر آخر يُسْتَنزف باسم الفُرَص.
: مـامـا!
التَفَتَ كلاهما للصّوت.. كانت تَقف عند الباب وَوْجهها البَريء قَد التهمَهُ الرُّعب.. الواضح أَنّها شَهِدت الشجار وسَمِعته.. أَفْرَغت تَنْهيدة مُثْقَلة قَبْلَ أن تَمْسَح دُموعها وتُناديها ببحّة: تعالي ماما "أشارت إليها بالاقتراب وهي تَسْتعين بابْتسامة ذابلة" تعالي حبيبتي
لَجأت لوالدتها بخطوات واسعة تَشي بالخَوْف.. اسْتَقَرّت على رُكْبتيها واحْتضنتها في الوَقت الذي خَرَج فيه فَيْصَل من الغرفة ليرتفع بعد ثواني صوت إغلاق باب الشقة الذي أرجفَ الاثنتين. ابْتَعدت جَنى لتنظر لوالدتها بخشية سائلة: ماما إنتِ ليش تصيحين؟ وبابا ليش معصب؟ سمعته يصرّخ "شَدّت على كتفيها بيديها الصّغيرتين وهي تُكْمِل بتوجّس" راح يرجع.. الديفورس؟
نَفَت سَريعًا وهي تعود لتحتضنها مُحاولةً بَثّ الأمان في رُوحها: لا لا ماما.. ما في ديفورس.. بس أنا شوي زعلانة من بابا.. عادي.. مثلش يوم إنتِ تزعلين منه
سَألت: وين راح بابا اللحين؟
أَجابت بعد صَمْتٍ قَصير ويَدُها تَمْسح على شَعرها: راح يتمشى ويفكّر شلون يراضيني
نَظَرت لها بعينيها الواسعتين مُتسائلة: يعني بيشتري حقش هدية؟
ابتسمت وهي تُحَرّك كتفيها: يمكن "ثَبّتت خصلاتها خلف أُذنيها مُسْتَطردة" يلا ماما بنسوي لنا عشا عشان تتسبحين وتنامين
وَقَفت معها وسؤال آخر: زين متى بيرجع بابا؟
شَدّت على يدها وهي تُحاول أن تُقنع نَفسها قَبْلها: مادري حبيبتي.. بس ما بيتأخر "تنهيدة أخرى" ما بيتأخر
,،
شَدّت على يَده المُحتضنة يَدها وهي تَهمس لهُ وعَيْناها تَرْنوان لِعَيْنيه: ما أبالغ إذا قلت إنها أحلى سَفرة في حياتي
ابْتَسَمَ برِضا مازَجهُ حُب لَطيف يُدغدغ مشاعرها المُضطربة.. نَظَر لها هامِسًا: إن شاء الله تنعاد
تَنَهّدت ثُمّ ابتسمت ابْتسامة يَعتقد أَنّهُ لَمح فيها أَحْد ألوان المَوْت.. بخفوت وعدستاها تنسحبان عنه: إن شاء الله
جاءَ ليستفسر عن غرابة ابتسامتها لكن النّداء المُتَحمّس قاطعه.. التَفَت ناحية الصوت ليُبْصِر عبد الله الصغير وبيان يَرْكضان ناحيته وهُما يَصرخان باسْمه بسعادة مَنشورة حوْل ملامحهما البريئة.. انْحنى قَليلاً ليتلقّف الاثنين ويحملهما بين ذراعيه.. قَبّل خَدّيهما ثُمَ قال بمُشاكسة: شهالإزعاج هـا؟ وليش للحين مو نايمين؟
أجابَ عبد الله الصغير: ما رضينا ننام.. قلنا لأمي بننتظرك
وهُو يَمشي بهما للباب الداخلي حيث تَقِف غيداء بابْتسامتها المعهودة: هالكثر مشتاقين لي؟
رَدّت بيان وهي تُعانقه: واجد واجد "تساءَلت باهتمام طفولي" شنــوو اشتريت لي؟
ارْتَفعَ حاجباه ضاحِكًا قَبْلَ أن يُعَقّب: شووف العيارة.. تقول مشتاقة لي وهي همها الصوغة "أشار برأسه لمروة مُرْدِفًا" أول شي سلمي على خالو مروة وبعدين بقول لش شنو اشتريت
مالَ رَأسها بخجل على كتفه ويدها ترتفع إلى شَفتيها.. تَطَلّعت إليه بتردد وعيناه تَحثّها.. حَرّكت عدستيها لمروة التي تنتظر سَلامها ببسمة ناعمة.. أَرْخت طَرْفها لتهمس بصوت بالكاد سُمِعت كلماته: سَلام خالو مروة
ضَحكت وهي تُداعب خَدّها القطني: وعليكم السلام حبيبتي.. شلونش؟
أجابت وهي تغوص في حضن خالها: زيــنة "رَفعت عينيها إليه هامسة" شنو اشتريت؟
ادّعى التورط: أووه يعني ما نسيتين!
دَخلوا المنزل بترحيبٍ وسلام حار من غيداء التي قالت معترضة: عبد الله نزلهم.. ما يصير تحملهم اثنينهم مرة وحدة
شَدّهما إليه: خليــهم.. مشتاق لهم.. إن شاء الله السفرة الجاية باخذهم معاي وإنت قبلهم
ضَحكت: يصير خيــر
تقابلوا مع والديه ولَم يَفتها الارْتباك وهو مُحكم قَبضته على حواس بلقيس القَلِقة.. لَم تمنع نَفسها من ارْتداء نظرة سُخْرية بان أثرها مُباشرة على ملامحها الكريهة.. هي تعلم ما بها.. هي خائفة من أن تكون فَضحت سوئها عند عبد الله.. تعتقد أَنّها طوال الأسبوع الذي غابا فيه.. لَم تغفو لها عَيْن ولَم يَهْدأ لها بال.. هذا أقل مما تستحق.. أقل بكثيــر. جَلست معهم لدقائق معدودة كان الحديث فيها مُتركز حَوْل الرّحلة وأجوائها.. شاركتهم الحديث ببضع كلمات قصيرة قَبْلَ أن تستأذن من أجل الذهاب للأعلى. دَلفت لجناحهما المُنَظّف والمُرتّب بعناية.. رائحة البخور مُنتشرة بين الأرجاء بطريقةٍ أضفت على المكان حَميمية لها دفءٌ خاص.. قَصدت غرفة النوم تركت حقيبة يَدها.. هاتفها.. ساعتها وعَلّقت حجابها.. أخرجت لها ملابس نوم مريحة تَصد عن جسدها المُتعب نَسمات البرد.. استحمت وطال استحمامها إلا أَنّه حتى بعد انتهائها منه لَم يكن زوجها قَد عاد. اندمجت بتدليل بشرتها مُتّبعة خطوات روتين عنايتها المسائي.. حادثت شَقيقتيها.. وأثناء ما كانت تُحادث والدها دَخل عبد الله مُحَمّلًا بالحقائب.. تَركهم في غرفة الملابس قَبْلَ أن يَرْمي بجسده على السرير وهُو يَتأوه بتعب. أنهت المُكالمة لتقترب منه.. كان مُسْتَلقٍ بطريقة عَرْضية وساقاه لا تزالان على الأرض.. جَلَست عنده على رُكبتيها وهي تَتأمّل وَجْهه ببطء شَديد.. كَما لَو أَنّها تَخْشى أن تُفسد وَسامته بخطوات عَيْنيها الوالهة.. سَأشتاق لهذه الملامح.. سَأشتاق لمَنبع الطّيبة والسّماح.. حتى خطوط التعب المُحاصرة عَيْنيك المُغْمَضتين، والشّيب المُتطفل على شعر لحيتك الأسود.. كُل ذلك سَأشتاق إليه. تَحَرّكت يدها إلى شَعره.. مَرّرت أصابعها بين خصلاته الناعمة ثُمّ هَبطت إلى جبينه.. عَينيه وأهدابه الكثيفة.. أنفه ووجنته.. شَفتيه وذقنه.. عُنقه ونحره.. قَبْلَ أن تَسْتقر فَوْقَ قَلبه. أَزاحَ جِفْنيه فابْتَسَمت.. ابتسامة الموْت ذاتها.. لكن هذه المرة شَيْئًا آخر لَفت نَظره.. زُمُرّدتيها كان يَشوبهما ماءٌ آسن.. ماءٌ احْمَرّت منها مُقلتيها.. هي نَطَقت.. بَل نَطقَت رُوحها بأمرٍ من قَلْبها والعَين في العين: أَحبـــك
هُو الذي بَدأ يَجوس بين حَناياه التّوجس فَتح فَمه: مَـر
قاطعتهُ وإبْهامها يُطْبق على شَفتيه: أُشش "انْحَنت عليه.. مَسّ طرف أنفها خَدّه وهي تُكَرّر بصدقٍ تَمَلّك منها" أحبك.. أحبك عبد الله
قَبّلته وهُو اسْتَطعم في قُبلتها كلماتٍ مَكتومة.. كلماتٍ كَشيفرة سريّة تَرفض الإفصاح عنها.. وكأنّها تُخَبّئ أَسْفَل لسانها الخَطَر. ابْتَعدت عنه.. تَطَلّعت لشفتيه لثواني قَبْلَ أن تتجه لعينيه.. قَرَأ رَغبتها.. صَحيح هُو مُتعب من بعد السفر والطيران الطويل.. ولكن من المُسْتَحيل أن يُرجعها خائبة حتى ولو لَم تنطق بـ"أحبّك".. فكيف وهي نطقتها بكل تلك الرّقة العذبة واللذيذة؟ فعلى الرّحب والسعة حَبيبتي!
,،
حاولَ أن يَتَصَوّر الحال الذي سَيلْقَاها عَلَيه.. أَن يَسْتنسخ حال والدته وجِنان ويُضاعف من سوئه.. أن يَبْقَر صَدرها في خياله مُنْتَزِعًا قَلْبها تارِكًا الرّوح تَتَعذّب.. بلا ضَمير.. ولا عَطْفٍ.. ولا شَفقة.. حاولَ وحاولَ ولكنّ خياله فَشَل في مُجاراة قُبْح حالها. كانت وببساطة.. مَـقـبـرة.. فَلاة تَقْتات على تُربتها جُثث نَتِنة.. كانت شَبَحًا مَكسور القَلْب مَذْبوح الرّوح. وَجْهها تَبَرّأ منهُ النّور فعاثَ فيه الظّلام.. كانَ أَحْمرًا.. أحمرًا باسْوداد.. عَيْناها غائِرتان والدّمعُ جُزءًا لا يَتجزأ منهما.. وشِفاهها انتحر يَنعها فَعرْبَد الذّبول.. كانت صَحراء بَلْقَعًا من ياسمين. وَقَفَ أمامها.. كالمُذْنِب.. كالقاتل السّفاح.. كالنّادم. وَقَفَ عاريًا من كلمات والعينُ منه تعتذر بصمت.. ولكن أَيُّ اعتذار؟ هل لذلك من نَفْع؟ أَحيانًا نحنُ لا نعتذر لا لأنّنا على حَق.. بل لأنّنا نَخافُ أن نعترف أَمام أنفسنا بأنّنا أخطأنا. والآن بَعد أَن اضطر أن يُجابه الخَوْف.. كَيْفَ سَيعتذر.. وبأي الكلمات سيَعتذر؟! فَتَحَ فَمه.. عاقبهُ الهواء فَفَرّ منه حَتّى جُفّ حَلْقه واختنق. ازْدَرَد ريقه.. عادَ وفَتَحَ فَمه.. هَمَسَ بفكٍّ يَهْتَزُّ ارْتباكًا: يــاسـميـ ـن
ارْتَفَعّت يَدها وبإصْبعها أَشارت إليه بالسّكوت وهي تَرْتجف من رَأسها حتى أخمص قَدميها.. رُوحها كانت تَرْتجف.. وصَوْتها أَيْضًا الذي خَرَجَ من قَلْبها نَبْضة باكية: اسكـ ـت.. لا تنطق باسمـ ـي.. مابي أسمع اسمي بصوتـ ـك
تَقَدّمَ خطوة فَصَرخت تَنهره: لا تــقـــرب.. كفاية.. كفاااايــة فيصــ ـل.. لا تقرب وتدمر اللي ما تدمر
هَمَسَ يَرْجوها: اسمعيــني
فَتَحت يَديها تَسْتفسر باسْتنكارٍ حـادٍ وعَنيف: أســمع شنو! شنــو فيصل؟ بتقول لي اصبري؟ بتقول لي بعدك مسجون في الماضي؟ شنو؟ شنو اللي بتقوله ولازم أسمعه؟ عذر جديد وجذبة جديدة؟ ولا تبيني أفهمك؟ "تَهَكّمت وسيول عَيْنيها تَرْسم على خَدّيها طُرق خسائرها" أفهم حبّـ ـك وعشقك لهـ ـا.. لجنان!.. فيصــل.. إنت ذَبحتني.. ذَبحتنــ ـي! ضَربت على صَدرك إنّك تصوني وفي النهاية شسويت؟ نَهبت من عُمري شهور وشوّهتها!.. ليش تركتني أحبّك؟ ليش دليتني لطريقك؟ ليـــش "مَسَحت وَجْهها بجلافة وهي تُكْمِل وبَصرها يَتعلّق بالشرود" ساعات أقعد أفكّر.. وأنا نايمة على يسارك.. ظهرك لي "وبغصّة مُحْرَجة" وأنا بكل غبــ ـاء.. متزينة لك.. أفكّر.. أقول أنا الغلطانة "ضَرَبت على صَدرها.. فَوْقَ قَلْبها.. تُعاتبه" أنا الغبية.. غَبية.. غبيـــــة.. أنا اللي سمحت لك تجرحني.. أنا اللي سلّمتك قلبي وشهدت عليك وإنت تذبحه!
دَنا منها فعَلا صَوْتها بجنون والاحمرار يلتهم ملامحها كما يَلتهم الدّم عُنق الضّحية: لا تقـــرب مــنــي.. ما أبيــك.. ما أبيك ترجعني لحياتك للمرة الثانية وبعدها ترفسني.. ما أبيك تعمي قلبي بكلمة.. لو بحضـ ـن بارد منك
مَسَحَ على وَجْهه وارْتعاشها الهيستيري تَخَطّى جَسدها حتى طالهُ ونَفَذَ إليه.. تَخَلّلت أصابعه خصلات شَعره وهو يَهمس بحيـرة لطالما كانت حاديه: ياسمين والله.. والله.. ما كان قصدي جرحش.. والله "رَفَعَ كَتفيه" بَــس
ارْتَفَعَ حاجبها: بَس شنو؟ اكتشفت إنّك ما تقدر تمثّل كرهك لها؟ تقبّلت خسارتك قدامها وخلاص وسيلة الانتقام اللي اسمها ياسمين ما صار لها داعي.. خل أرميها حالها حال أي شي بالي
أمَسكَ كَتفيها فَدَفَرت يَديه وهي تصرخ ببحّة مَجروحة: قــلــت لــك لا تـلـمـسـنـي.. لا تلمسنــي "دَفَعته مرة.. واثنتان.. وثلاث حتى اصطدم ظهره بالحائط من خلفه ولسانها يُرَدّد بأسَى مرير" الله لا يسامحــ ـك.. الله لا يسامحك على اللي سويته فيني.. وفي قلبــ ـي "سَألتهُ ومن صَدرها هَربت حَمائم الحُب تَنوح" شلون بنسـ ـى! شلون قلبي بينسى جرحك فيصـ ـل! والله.. والله مو قادرة أتحمّل وجعه.. أحسه يعاقبني.. يعاقبني لأنّي حبيـ ـتك! "حَرّكت رَأسها والعِتابُ يَجْلد ضَميره المشروخ" حرام عليــ ـك
أَغْمَضَ وَوسط حَلْقه تَحَجّرت عَبَرات.. وبهمسٍ يغص بالبحة: والله ما نويت جرحش.. والله
قابلتهُ بهمس آيس: وشنو يفيد؟ بينتهي وجعي؟ بترجع لي كرامتي؟
فَتَح عَيْنيه عندما سَمع ضِحكتها.. نَظَرَ إليها.. كان وَجْهها يُناقض الضحكة تمامًا.. كان مَكْتوبًا على جَبينها أنّ هُنا أَرْض الانكسار.. هَمَسَت ومن عَيْنها اليُسْرى هَبَطت دَمعة تَعزف مع كلماتها لَحْن مأساتِها: تدري إنّي متفشلة من نفسي؟ أنـا.. شفقانة على نفسي.. أتخيلني في زاوية.. وتحت رجولي أنوثتي اللي إنت دستها.. أتخيلني ومستحـ ــية أطالعني! متخيّل لأي درجة إنت ذبحتني؟!
أَطْبَقَ شَفَتيه وأَشاحَ عنها.. فَبأيِّ وَجْهٍ سَيَتسَوّل السّماح؟ في تلك اللحظة.. وهُو مُكَبَّلٌ بقيود عِتابها تَمنّى لو أَنّهُ يَعرف طَريقَ البُكاء ليبكي.. يَنحني عند قَدميها ويَبكي مُسْتَجديًا الغُفران.. هُو ظالم.. مُتَكَبِّر.. أناني.. وقاتِل. ذَبَح الياسمين وأَحالَ أَرْضَها يَبابًا. نادتهُ: فيصل
لَم يَلْتَفت فأعادت النّداء وأناملها قَبَضت على ذقنه بقوّة لتُدير وجهه إليها.. ثَبّتَت عَيْنيها في عَيْنيه فارْتَعَدَت دواخله من اهْتزاز الدّمع الأَشْبه برمحٍ مُسَنّن انطلقَ من مُقلتيها باتّجاه ضَميره.. هي هَمَسَت بنبرة حَوَت جُمودًا قاسٍ ما كان إلا نَتاجَ الأُنثى التي صَنعها باضطهاده: مـا راح أسامحك ليوم الديــــن
،
تَجلس فَتَهْتَز ساقها اهتزازًا يُنافس ذاك الذي تُباهي به السّماء.. الرّعد. أَمطار غَزيرة تُبَلّل الأرْضَ وتغسلها لتُطَهّرها من دَنس بني البَشر.. هَلّا تَرحمها وتأتي لتُصَب فَوْقَ رُوحها لتُطفئ النار المُستعرة داخلها! مُذَ خَرَج لَم يَعد.. لا تدري إلى أين ذَهب.. اتصلت بهِ أكثر من عَشر مرات.. أرسلت ثلاثون رسالة.. كَلّمت شَقيقها عَلي.. حادثت نُور.. جُود.. ولكن لا أحد يَعلم أين هُو.. فاهتدت أخيرًا إلى فكرة ذهابه إليها.. إلى ياسمين. لكن.. هل من المعقول أن يَقصدها بَعد الذي انفضح؟ ماذا سَيقول؟ وبأي وجه سَيُقابلها. هي.. كيف سَتستطيع أن تُواجهه دُون أن تقتله؟ ودون أن تَسْتَفرغ على ذاته العَرجاء غضَبها الجنوني؟ كَيْف؟! تَقِف.. فَتحرث الأرْض بقدميها القاطعتين غرفة النّوم ذهابًا وإيابًا. يَصطفق الباب من شَراسة الهواء فتَثِب رُوحها ظَنًّا منها بأنّه عاد.. لكن الصَمت المُهيب الذي يَعقب جَلجلة الرياح يُخَيّب آمالها. تَنَهّدت وهي تزفر بقلق وعيناها تَتفقدان الساعة المُعَلّقة.. الثالثة وثمانية عَشر دَقيقة صَباحًا.. يا إلهي.. أين هُو؟ أين أنتَ فيصل! إن كُنتَ معها أخبرني.. بمُكالمة أو برِسالة.. فالليلة ليلتي.. لا يُعقل أنّك سَتبيت عندها! دَعكت ذراعها حتى شَعرت بجلدها يحترق من احتكاك السترة الثقيلة به.. تَحرّكت باتّجاه النافذة وهي تَتأفف.. نَظَرت إلى السماء المَصبوغة بزُرقة مُرْمَدة.. طَردت من صَدرها تنهيدة انضمت مع باقي أخواتها المُتراكمين في زاوية الغرفة المُكتظة بالبؤس.. هَتَفَ السؤال من جديد بين جُدران رُوحها.. أين أنتَ فيصل؟ أخفضت بَصرها للأشجار المُتفاعلة بحماس مع سَهْرة السّماء وغيومها.. كما لَو أَنّها بأغصانها الطويلة وأوراقها الكثيفة تَتراقص بإغراء. حَرّكت عَدستيها بضيق.. وفي أثناء ابتعادهما عن لوحة الغيث المُتناقضة لَفتها شيء.. لا.. بَل لَفتها شَخص.. إنســان. شَهـقة حارقة ارْتَفعت منها عندما استوعبت أَنّه هُو.. هُو لا غيره.. فيصل. تَحَرّكت بخطوات واسعة ومتخبّطة إلى غرفة الملابس.. التقطت المظلّة سَريعًا وخَوفها بَدأ يُمطر على جَسدها عَرَقًا.. غادرت الشقة وهي تركض بلا حواس للأسفل وطُبول نَبَضاتها الهلعة قَد صَمّت أُذنيها. فتحت الباب لتُبصره وهُو جالس باستناد للباب الخارجي من الداخل.. خطت إليه بقدمين حافيتين وبروحٍ مَصْدومة.. جَلَسَت أمامه والرّعشة قَد استحكمت منها.. مَرّرت بَصرها المذهول عليه.. ساق مرفوعة والأخرى مُمتدة نصف امتداد.. خصلات شعره مُسْتَسلمة بذبول فوق جَبينه.. عَيْناه مُتَشَبّثتان بالخواء.. وكانت فيهما نَظْرة لها زَعيقٌ عَتيق.. بعُمر خَطيئته الأولى. ارْتفعت يَدها المُرتجفة إلى خدّه.. مَسّته بحذر إلا أَنّ برودته لَسعتها.. شَدّت عليه وصَوْتها الضائع بين عَرصات الخوف يُناديه: فـ ـ.. ـ فــيـ ـصل.. حَبيبي "مَسَحت على خَدّه تُحاول أن تَبث إليه دفء رَهيف والمظلة تَمنعان عنه هُجوم السُحب" فيصل قوم.. قُوم حبيبي "لَم يَنتبه ولَم تصدر منه نصف حركة.. لذلك نادته برجاء وهي تَضرب وجنته تُوَعّيه" فيــصل.. فيصل.. حَبيـــبي!
رَمَشَ.. تَصافقت أهداب العين النادمة.. رَفع عَدستيه إليها.. هَوَى قَلْبها من الذي أَبصرته.. فمن على شُرفة أهدابه رَأت كبريائه مُنتحرًا. تَعَثّرت أنفاسها من شهقة كَتمتها قِسْرًا.. وقَد تعاضدت سيوف الدّمع لوخز مُقلتيها.. ازْدردت ريقها وهي تُكَرّر ببحة: قـ ـوم فيصل.. خل ندخل عن المطر لا تمرض
هَمَسَ بصوتٍ مُكَفّن وعَدستاه تَتطلعان إليها بشعواءٍ وتيه: ما راح تسامحني!.. قالت لي.. ما راح أسامحك ليوم الدين
طَعنتها دمعة وفَرّت من عينها إلى خَدّها.. شَدّتهُ من ذراعه وجسده المُنهك مُباشرة استجاب إليها: خل نركب فيصل
أعادَ وكأنّ لسانه طَلّق كُل المعاجم مُكتفِيًا بجُملة واحدة: ما راح تسامحني.. ما راح تسامحني
وَقَفت وأوقفته معها.. أحاطت خصره بذراعها وهي تمشي معه ومن فوقهما المظلة تُجابه انهمار السماء.. خَطت معه للداخل وهمسه لَم ينقطع.. وصلا لشقتهما.. هي تبكي بصمت وهو يُرَدّد عنوان نهايته.. خَلّصت جسده من ملابسه المُثقلة بالمطر.. ساعدته على الاستحمام بماء دافئ ثُمّ دَثّرته بمَنامة ثَقيلة وجوَربين لقدميه المُتجَمّدتين، قَبَل أَن تَسْتلقي معه على السرير وتُوَسّده صَدرها. ساعتها وهو مُجَرّد من كيانه شَعرت وكأنّه طِفلٌ ضائع أَلقتهُ الدّنيا على باب جنانها. شَدّت عليه وهي تغمض وبُكاؤها الأبكم يَسْتمر في نحت الكَمد على ملامحها.. أما هُو فَقد خَبى صوته.. لكن كلماته لَم تخبو.. لا زالت تشتعل لتحرقه وتحرقها. مَضت الدقائق وهما على الحال نفسه.. إلى أن بَدأ جلدها الرقيق يَستشعر حرارة جَسده.. وحواسها المُضطربة استوعبت هذيانه.. جاءت لتُبعده عنه لتأتي بالدواء إليه.. لكنّه تَمَسّكَ بها دافِنًا وَجْهه في صَدرها ناطِقًا باستحالة السّماح؛ وكأنّها الأَرْض التي يُواري فيها سوء جُرْمه. لَحظتها بَكت.. بَكت وكان للبكاء صَوْتٌ أَزْعَجَ سمفونية السماء المُغازلة الأَرْض.. بَكتهُ وبَكت نفسها.. بَكت تَعَنّته.. وبَكت طَيْش مُراهقتها الأرْعن.
,،
هَدَأت السّماء واسْتكانت السُّحب.. والقَمَرُ المُتَواري قَد انبلج ليَمنح العابرين ضَوء هُدى واطْمئنان. كان يَغرس آثار قَدميه على بساط الثلج الرّفيع المُمتد حَوْله ولِما بَعده. يَمشي بهدوء ويَده اليُمنى قابضة على المَظلة ليَجُرّها من خَلْفه راسِمًا خَطًّا مُتَعَرِّجًا. أما يُسْراه فكانت تَسكن جَيْب معطفه الثقيل.. يُقَلّب بها هاتفه الذي نَفذت بطاريته بَعْد نقاش طَويـل وثَقيل على النفس مع آستور.. فهو أخبرهُ بأن الرّئيس لا بُدّ أن يكون في النُزل.. فكما اتّضح من خلال جولاته بين المنازل وباقي مرافق البلدة الصغيرة؛ بإن جَميع المتواجدين فيهم بَشَرٌ مُعْدَمين.. لا حَوْلَ لهم ولا قوة.. يُحاربون من أجل كسرة خُبْزٍ يابسة وقَطْرة ماء نَجت من عاصفة تُهَدّد بتجميدها. آستور كان مُصِرًّا على أن الرئيس معه في النُزل.. وأنّهُ الآن أصبح مُتَيَقّن بعد أن كان يُراوده بعض الشك.. وإن كان المُستأجرين قَد غادروا.. فعليه أن يَلْحق بهم.. أن يَكتشف وجهتهم ويلحق بهم.. ليُنبّش بين عَرصات شِتاء برلين الشَرس عن بؤرة المصائب. تَوَقّف عند باب النُّزل.. رَفعَ رأسه يُدير عَيْنيه في الفضاء.. السماء زرقاء داكنة.. النّجوم قَليلة ولها ضَوءٌ فَقير.. أَما القَمر فكانَ مُكْتَمِلًا.. قرْصٌ فِضي يُراقب الأَرْضَ بصمت. أَخْفَضَ رَأسه ومن صَدره حَلّقت تنهيدة لها نَعيق غُراب يُنذر بالشؤم.. أَخرج يُساره من جَيْبه ثُمّ دَفَع الباب الخَشبي. تَقَدّمَ خطوتين ليتمكّن من إلقاء نَظْرة شاملة على المكان.. ظَلامٌ باهت يَبْتلعه.. ما عدا ضَوْءٌ أَصْفَر مُوْحِش يُسْقِط إنارته تَمامًا فَوْقَ منضدة الاستقبال الخاصة بالعجوز شيرمون. أَرْفَعَ التّعجب حاجبيه.. هل انتهت الحفلة! ابتسمَ بعد لحظات.. فهذا جَيّد.. حتى يكون لديه مُتّسع من الوقت لينام براحة وهدوء. تَقَدّم خُطْوتان مُناديًا بهمس: سيّد شيرمون.. ألا زلتَ هُنا؟
تَوَقّفَ عند المنضدة وهو يَتّكئ على سَطحها بساعده الأيمن، بَعد أن وَضع فوقها المظلة.. نَظَرَ لِما خَلْفها.. أوراق مُرَتّبة كَحُزَم فوق بعضها البعض.. دفتر لتسجيل المُسْتأجرين.. هاتف أرضي.. قَلم مع مِحْبرة.. كُوب قهوة مشروب أكثر من نصفه.. وأخيرًا نظّارته الكبيرة. عَقدَ حاجبيه.. فهو لا يستغني عنها أبدًا.. فكيف لهُ أَن يتركها هُنا ويَمضي وَسَط هذه العُتمة! رَفَع رأسه فَجأة وعيْناه تَحْتَدّان.. أَأصابه مَكْروه؟ فالسكون الغاص به المكان غَريب.. وغِيابه غَريب.. وإهماله لنظارته أغرب! تُــ.... .. صَوْت إغلاق الباب.. التَفَتَ بانتباه ليَتقابل مع العجوز شيرمون.. تَنَفّسَ الصّعداء قَبْلَ أن يَقول وهو يُحَرّك المظلة التي في يده: كُنت أريد أن أشكرك عليها.. لكنني لم أجدك.. ظَننت أَنّك لست بخير.. فلقد تركتَ نظارتك هُنا
عَقّبَ شيرمون الذي لا زال يُوْليه ظَهره بصوتٍ مُنخفض: لا أحتاجها
عُقْدة استنكار: كَيْفَ لا تحتاجها!
استدار إليه بعد أن أقفل الباب وحَشَرَ المفتاح في جيبه.. أَجاب بابْتسامة لها رائحة استطاع حَدس محمد أن يستنشقها: صَحيح أنا عَجوز.. ولكن عَيْناي صَحيحتان.. أستطيع أن أرى بوضوح وأُمَيّز ما أراه بسهولة
تَساءَلَ بشك: إذن لماذا تَرْتديها؟
خَطَى إليه ببطء وهُو يُزيح قُبعته عن رَأسه ويقول: لأنّها تتناسب مع الشخصية التي خَطّطت لتقمّصها "وبسخرية وثقة منقطعة النظير أضاف" ظَننتك أذكى من ذلك موهاميــد!
تَصَلّبَ عموده الفقري فاسْتقام في وقوفه وبصره يَرْشقه بنظراته البتّارة.. فالذي كان أمامه طوال الأيام الماضية.. يُعامله بود واحترام وتَبَسّم.. لَم يكن سوى السّبب الأوّل.. والرّأس الأكبر للعاصفة التي اقتلعت منهُ ذاته وأَهرمتها.. هُو بلائه.. هُو مَرضه ومنحدر المستحيل المُطِل على علاجه. قَبَضَ يَده والغَيْظ المُتَخَثّرة منهُ دمائه كان على نفسه.. هُو مُغتاظ من نفسه ومن خبرته التي اختارت أن تخذله عند نهاية الطريق.. لماذا لَم يَنتبه؟ لماذا الشّك لَم يُخامره تجاهه؟ لماذا أعرض عن احتمال سوء باطنه، وأن حُسْن النية لَم تكون سوى قِناعًا بالٍ؟ لمـــاذا! رَمَشَ بخفّة عندما قال شيرمون وهُو يُشير بعينيه إلى عُنقه المُختفي أسْفَل شاله: استطعت أن ألمح رَقمك عدّة مرات.. وأنت لَم تنتبه لنظراتي ولو لمرّة! هل هذا يعني أن آستور فَشِل؟ خَذله عَميله الذي يثق به أكثر من نفسه حتى!
رَدّ بصوته المُتَبنّي من الجَليد صَقيعه: لا.. بل يعني أَنّي أَحسنتُ الظن بك
مالت ابتسامته ورأسه يَتقدّم للأمام قليلًا ليقول بوجسٍ حاذق: من أولى قواعد عَملك.. ألا تثق بأي أحد.. حتى
ولو كان طِفلًا في مهاده.. لا تثق به.
ارْتَفَعَ حاجبه: وبماذا سيؤذيني هذا الطِفل؟
كان جَوابه فِعْلٌ استجابت لهُ حواس مُحَمّد ببراعة.. فهو رَفع ذراعه يُريد أن يَلْكمه بقبضته المُتجَعّدة.. لكن مُحَمّد اصطدَ بساعده للكمته.. وقَبْلَ أن يُخطّط لحركته التالية فاجَأهُ بضرباتٍ مُتتالية وسَريعة كالبرق.. بيديه وساقه.. كانت ضَربات مُقاتل مُحترف.. بالكاد استطاع مُحَمّد أن ينجو من بعضها.. فهو وبعد أقل من خمس دقائق سَقَط على بَطنه من ضَربة وَجّهها إلى فِكّه عن طريق قَدمه. ارْتمى في مكانه لثواني وأَنفاسه تُغادر صَدره بارْتعاشٍ وعشوائية أَرْهبت صَمت الفَجْر. بَسَطَ كَفّيه على الأرضية الخشبية وَرفع جسده.. أَلمٌ ينبض عند فِكّه.. نَظَرَ بغبش عَيْنيه المُتضاعف للدماء وهي تَتقاطر من فَمه.. استدار وهو لا زال جالسًا لشيرمون.. وَقَفَ.. ولكن الوقوف اختارَ أن يُطَلّقه.. أن يَبيعه بثَمنٍ بَخْسٍ للانحناء والرّضوخ الذليل.. فذاك هاجمهُ بركلاتٍ يَعتقد مُحَمّد أنّها كَسَرت عظامه وأَدمت جَوْفه.. كان يَشعر من شِدّة الوَجع وكأنّ فُوّهة تَتَوسّط بَطنه.. فُوّهة اجتمعت فيها الدّماء وتَجَلّطت. اسْتَقَرّ على رُكبتيه وَبَصقَ الدماء من فَمه.. يَسْعل ثُمّ يَبصق.. والذات تَتمنى لَو أَنّهُ يَبْصق رُوحه معها. قَدما شيرمون أمامه.. رَفعَ جِفْنيه وعدستاه تتسلقان الهواء لتصلان إلى الذي بين يَديه.. ابْتَسَمَ.. ابْتسامة وُلِدَت من رَحْم العذاب الذي شاخَ في نَفْسه.. فَهذا العذاب عُمْره أكبر من عُمرك يا شيرمون.. هذا العذاب جَمع عُمْر الغُربة.. الظُلم.. الوحدة.. والانسلاخ عن الذات.. هذا العذاب إن لَم تَذبحني سَوْفَ يُعَمّر.. سَيَتّخذ من رُوحي ملجأً.. سَيبني من حجرات القلب مَسْكنًا لجراحاته.. وسيَصنع من الأَنفاس عُكّازًا يُعينه على الاتّكاء فَوْق صَدري.. حَتى يَجيء المَوْت. هَمَسَ وفي عَيْنيه امْتَدّ البَحْرُ ليَسْبَح غُروبه.. غُروب مُحَمّد: افعلها.. أطْلِق الرصاصة.. أَطْلقها.. سَتتخلص أنتَ مني.. وسَأتخلص أنا من ذاتي
ارْتَجت حنجرته ليكشف عن ضحكة جَهورة وغليظة.. قَبْلَ أن يُعَقِّب بذات الهمس وهو يُرْسل لهُ نَظْرة تعاضد فيها المَكْر مع الاستمتاع: ليس بهذه السهولة
أَنهى جُمْلته ليَتبعها برصاصة فَرّت من السلاح لتستقر في كَتِف مُحَمّد الأيَسر.. مالَ جسده بخفّة والقوّة تنسل منهُ بإرادته.. نعم بإرادته.. فالاستسلام صُبّ عليه صَبًّا حتى أغرقه.. وكأن السماء كانت تُمْطِر عليه هَزائمه. أَمْسَك كَتفه.. خَضّبَ يده بدمائه.. رَفعها ونَظر إلى باطنها.. شهادة وفاته كُتِبَت على خُطوطها.. إنها النهاية مُحَمّد.. فالطلقة التالية قَد تَنفذ إلى قلبك.. وبعدها سيكون الخلاص. تَحَرّكَ شيرمون.. تابعَ مُحَمّد خطواته دُون أن يَتَحرّك.. ملامحه مُقفرة من كُل شيء.. لا مَشاعر.. لا تصدعات ألم.. لا خطوط ذكريات.. ولا حَياة.. فهو كان يَتهيأ لاستقبال المَوْت. شيرمون تَجاوز المنضدة.. سَمع مُحَمّد صوت انفتاح أحد الأدراج قَبْلَ أن يعود ليقف أمامه.. تَطَلّع للذي في يده.. شيء مُستطيل الشكل.. كالجهاز اللوحي.. قالَ وهو يُقَلّبه أمام وجهه: كم الوقت الذي تحتاجه؟ هــا؟ أو أنّني أختار بنفسي؟ "لَم يأته جواب من محّمد فأردفَ" حسنًا.. سأختار سَبعة.. كالرقم الموشوم على عُنقك.. سَبع دقائق لانتظار الموت.. مُمتاز جدًا "ارْتَفعت زاوية شَفتيه بابْتسامة وهو يَسْتطرد" أعتقد أنّك مُتحمّس لفنائك.. لَم أتلقى منك أي مُقاومة! أنت حتى لَم تُحاول الهرب عندما ابتعدت عنك للمنضدة "مالَ رأسه وهو يَرْفع السلاح" أو أنّك خَشيت أن أطلق على رأسك قَبْلَ أن تنفذ بجلدك؟
تجاهله مُحَمّد وملامحه تستحيل إلى بياضٍ ما هُو إلا كَفَنٌ غَزَلهُ له جِلده.. ليُعينه على رحلته الأخيرة. شيرمون لَم يعجبه هذا الصمت المطبق.. لَم يُرْضِ شخصيته التنافسية استسلام محمد.. لذلك تَحَرّكَ للقَوس.. ثَبّت على أَحد عَموديه الجهاز.. ثُمّ عادَ لمحمّد السابح في التّبلد.. قَبَضَ على ذراعيه وسَحب جَسده حتى ضَرَب جانب رأسه بالعمود.. ثُمّ أخرج من جيبه قَيْد في ثواني أحاط رسغي مُحَمّد اللذان سُجنا حَوْل العمود.. العمود الذي ثُبّت عليه الجاهز الذي لَم يَكن سوى قُنبلة موقوتة. انحنى ليهمس لمحمد بفحيحٍ لهُ رائحة شراب نتنة.. ومن عَيْنيه كان الجُنون فاغِرًا فاهه: ها هي السبع دقائق تلتمع وَسَط الشاشة.. بلمسة من إصْبعي سَيبدأ العد التنازلي.. وبعدها لَن يَعد لك وجود
هَمَسَ ببرود والغَبَشُ قَد استوى عَمى: شُكــرًا لـك
لَكمة أخيرة كانت من نصيب أنفه الذي هو الآخر نَزف.. تَراجع للخلف خطوة وبصره يدور على المشهد الأخير.. رَجُلٌ عَربي غَريب مُقَيّد بعمودٍ ثُبّتت فوقه نهايته.. لا خَوْف.. لا ربكة.. لا قطرة عَرَق.. ولا حتى آه ألم.. كَيْفَ له ألا يَتألم وهُو يَنزف بأكمله! بظاهره وبباطنه.. بروحه وبقلبه.. وبذاته.. كَيـف! اسْتقام وهو يهمس بكلماتٍ أخيرة مُبَطّنة: لَو كنتَ خَصْمًا شُجاعًا للموت لأنهيتُ عذابكَ برحمة.. لكنّك صافحت الخسارة بسهولة ومن غير أي مقاومة! "ضَغطَ على زِر البداية وهُو يُرْدِف" لذلك أنت تستحق هذه النهاية
أنهى مُهِمّته ثُمّ غادرَ مُقفِلًا الباب من خلفه.. أقفلهُ تارِكًا مُحَمّدًا بقيده وحيدًا.. يُنازع المَوْت بلا أهلٍ ولا سَنَد.. مُنْطَوٍ على نفسه يُراقِب مُرور الذكريات السريع أمام عَيْنيه.. والثواني تَطْرق بابَ كِفاحه من فَوْقه. الثواني تتقلص.. ها هُو يُوَدّع عائلته وعلى ظَهره الأحلام وبين ملامحه الحَماس.. ست دقائق ونصف.. الشمس تكره برلين في الشتاء.. فهي تصنع من السحب خِمارًا يَستر عنها تناقض هذه المدينة.. ست دقائق.. اليوم الدراسي الأول.. رائحة الكُتب الجديدة.. جدوله لهذا الفصل.. أساتذته.. المكتبة.. هاينز وانفصاله الروحي عن والده.. إطلاق نار.. متجر وسَطو.. استجواب.. لحظة التعرف على الوحدة المُمتزجة بالخَوف.. برد بَرْلين.. خمس دقائق وخمسون ثانية.. إطلاق آخر.. مُطاردة.. رُعْبٌ يُشَوّه صَدر ذلك الشاب الصغير المأهول بالأحلام.. اختطاف.. انتهاك ذات.. صَدر الأحلام أمسى سجنٌ لأشياءٍ لا تُقال.. خمس دقائق.. تدريب.. تدريب.. سلاح.. تدريب.. ديمتري موريس.. تدريب.. سَفرٌ لروسيا.. الصَدر صَيّرتهُ السنين قَبْرًا دُفنت فيه أضلاعه المُهشمة.. القَلب أعلن هَزيمته.. الرّوح أشاحت عنه.. تدريب.. شهادة جامعية مزورة.. بُعْد.. غياب.. اشتياق.. دارٌ بلا أحباب.. غَريب.. ثلاثون عامًا من العُمر.. أربع دقائق وثوانيها.. عودة واستقبالَ فاقَ في بروده زمهرير بَرْلين.. مُحاولة انسحاب.. تردد.. ضَياع.. ثُمّ... نَفَسٌ عَميــــق.... ثُمّ.. نَجــــاة. ارْتَعدت فرائصه من شَهقة الحياة التي عَبرته وهي مُحَمّلة بجُل حطامه.. هذه الشهقة.. هذا النفس العَميق.. هذه النجاة.. جَميعهم هي.. هــي. أَشْرَقَ من بين غَبشه وَجْهها المُتسَربل بالنعومة.. احْتَضنت وحدته بوطن عَيْنيها.. وطَبْطَبت على جراحه بابْتسامتها.. أخبرتهُ بصمت.. أَرْسَلت لهُ النبضات كلمات.. سَمعها بقلبه: أنا في انتظارك مُحمـد.
,،
السّتائر البيضاء تَتمايل بنعومة على إثر مُداعبة نَسائم الصّباح إليها.. السُّحب أخذت تَتَبَدّد تَبجيلًا للشّمس التي سارعت لتُهدي الأَرْضَ دِفئًا بَعد ليلٍ من المَطَرِ والبَلل. الهدوء يَعُم الأَرجاء.. في الخارج والداخل.. هُو أَيقظهُ هذا الهدوء الذي بَدا غَريبًا عَليه. فَتَحَ عَيْنيه لتضيقان من الشُعاع القَوي المُخترق النافذة.. تَثاءَب وهُو يَدْعك اليُمنى منهما برسغه.. التَفتَ يَمينًا ليَتفقد زَوجته لكنّها لَم تَكن هُناك.. عَقَدَ حاجبيه مُلْتَقِطًا هاتفه ليستعلم الوقت.. العاشرة ودقيقتين.. تُرى مُنذ متى وهي مُستيقظة؟ أو أَنّها دَلفت لدورة المياه؟ جَلَس وبيده أبعد الغطاء عنه.. وَقَف وبوقوفه مَرّ كالومضة بين أوصالهِ شُعور.. رَفع كَفّه لجبينه.. مَسّه بخفّة وحواسه تُحاول أن تستوعب.. يَعتقد أَنّ شَفتيها طَبعتا على جَبينه قُبْلة أَثناء نومه! أو أَنّهُ يَتوهّم؟ تَحَرّكَ لدورة المياه.. طَرَقَ الباب وهُو يُناديها: مروة؟ "لَم يَأتِه رَد فأعاد الطرق والنداء" مروة؟ إنتِ داخل؟
انتبه للمصابيح المغلقة.. لذلك فتح الباب ليَلقاها خالية.. دَعك صِدغه.. رُبما هي في غرفة الجلوس أو حتى في الأسفل. دَخلَ ليُغَسّل وجهه ويُفَرّش أسْنانه قَبْلَ أن يَخرج باتّجاه غرفة الجلوس التي كانت فارغة أيضًا. بحثَ عنها في المطبخ.. في دورة المياه.. في المجلس والغرفة الثانية.. لكن لَم يَعثر عليها. استنتج أَنّها نَزلت لتتناول طعام الإفطار مع عائلته. لذلك قَرّرَ ان يُبْدِل ملابسه ليَنضم إليهم. قَصَد غُرفة الملابس.. جَرّ باب خزانته.. وأثناء ما كان يَتَخَيّر إليه لِباس لَفتَ نَظره شيء غَريب في خزانتها المفتوح نصف بابها.. ضَيّق عَينيه وعُقْدة خَفيفة تَوَسّطَت حاجبيه.. اقتربَ منها.. فَتحها بالكامل ليصْطدم بخلوّها.. اتّجه للخزانة الأخرى.. أرفف حقائبها وأحذيتها.. عباءاتها ومعاطفها.. لا شيء لا شيء.. استدار لحقائب سَفرهما ليتعثّر بَصره بحقيبته وحيدة في الزاوية. خَرَجَ إلى غرفة النوم وقَلْبه قَد شُلّت نَبضاته حتى ظَنّ أَنّها تَوَقّفت.. مَرّر عَدستيه على سَطح منضدة المرآة.. قوارير عطورها اختفت.. فرشاة شعرها غائبة هي الأخرى.. مستحضرات العناية بالبشرة.. مجوهراتها اليومية.. فَتّشَ الأدراج.. مساحيق التجميل.. ساعاتها وحاجياتها الخاصة.. كُلّها تَبَخّرت.. كَما لو أنّ عاصفة الفَجْر انتزعت كُل ما يعنيها لتُلقي بهِ إلى حَيْثُ لا يعلم. غادر إلى غرفة الجلوس من جَديد وهُو يُناديها.. يَصرخ بحنجرته التي لَم تزل تَلْتَحف ببحّة النوم.. خَرج وقدماه تَحملان جَسده المُجاهد رَجفة الهَلع.. لا يُريد أن يهلع.. لا يُريد أن يُعِدّ للخَوْفِ مُتّكأً داخله.. وَصَلَ للطابق الأرْضي مُناديًا بعلو: مـــروة... مـــروة... مـــروة
: بسم الله.. عبد الله شفيك تصارخ!
التَفَتَ لوالدته وهُو مُتَصَلِّبٌ وَسَط الصالة الواسعة.. سَألها بِوَجْهٍ مُعْدَمِ الملامح: وين.. ويـن مروة؟ شفتينها؟
أَجابته بعقدة خَفيفة: لا.. ما شفتها!
اقتربت منهُ غيداء التي غادرت مَرسْمها بعد أن أرهبها صراخه.. وبسؤال: ليش هي مو في المستشفى؟
ازْدَرد ريقه وهُو يُحاول ألا يُنصت لوساوس قَلْبه.. حَرّكَ رأسه بالنفي: لا.. اليوم هي إجازة.. باجر بتداوم.. أنا بس اللي عندي دوام الظهر
غيداء بتفكير: يمكن راحت بيت أبوها
ارْتَفَعَ حاجب بلقيس وبحدّة: وليش إن شاء الله تروح من غير ما تعطيه خبر! يرضيها يعني يقعد من نومته ما يدري وينها ويحاتيها
هَمَسَ: لا "عَلا صوته" لا لا.. أغراضها "كَرّرَ ومن بين ضِلْعيه الباقي فيهما أثر كَسْرٍ مَنسي؛ بدأت تشخب أنفاسه الضعيفة" أغراضهــا.. ما في شي.. مــا فــي شــي!
استدارَ يركض للأعلى وهَو يَشْعر بالدّنيا تَسْتَحيل إلى دَوّامة رَمادية تُديره باسْتهتار ثُم تُطْرحه فَوقَ أَرْضٍ لطالما احْتَرفت الطّعن من الخَلف.. بَعدما كانت تَتَسَرْبَل من أجْله بجِنّة من الحُب المُزَيّف. عادَ إلى جَناحهما.. الْتَقَطَ هاتفه المُلقى على السرير.. ضَغطَ أرقامها بأصابع غَزتها الرجفة التي انتصرت عليه.. رَفعهُ لأذنه يَنتظر الرّنين.. لكن الذي ولَج إلى مَسْمعيه لَم يكن سوى صَوْتًا كَئيبًا يُعلمه بأن الهاتف مُغلق.. كالسُّبل إليها. أعادَ الاتصال.. مرتين وثلاث وعَشَر.. مُغلق.. مُغلق.. ومُغلق. انحسرت أصابعه عن الهاتف.. وَهنت حواسه وأعصابه تَهَدّلت باستسلام.. ارْتَفع صَوْت مَكْتوم كان نَتاج سقوط الهاتف على الأَرْضية الخشبية. دارَ حَوْلَ نَفسه وفي جَوْفه رُوحه تَدور بين ظُلمات بَحْرٍ يُهَدّده بالغَرق.. يدور ولحظات البارحة تَصفعه من جَميع الجهات.. ابتسامة المَوْت التي كَفّنت شَفتيها.. النَظرة المأهولة بشعبٍ من الدّموع.. القُبلة المُدَجّجة بالأسرار.. نَهْر أحبّك العَذب.. وأخيرًا.. امتزاجهما الحَميمي الشاهدة عليه السّماء وغَيثها. كُل ذلك.. كُــل ذلــك.. كان.. كــان وداع! تَوَقّفَ فَجْأة.. صَدره يَرتفع ويهبط بصورة سَريعة ومُخيفة.. كما لَو أَنّ ما في جَوْفه سَينفجر.. رُوحه وفؤاده المُتضخم. غَثيان يُحاصره.. يحموم كان يَجثم فوق أضلاعه.. ولَوْعة الضياع تَشدّه ذات اليمين وذات الشمال.. مالَ جَسده حتى سَقطَ على جنبه الأيسر فوق السرير.. ارتعشت أنفاسه وعدستاه تَقَلقلان وَسط البياض المُحْمَر بتيه؛ تَبحثان عن البؤرة التي وُلِدَ منها هذا الكابوس.. عن الثُقْب الأسود المُنتصف جِدار الماضي. شَدّ بيده على قَميصه عند قَلْبه ومن جَواه دَوى أنينٌ تَقشعر منهُ الأبْدان.. لا يُريد أَن يُصَدّق.. لا يُريد أن يَمُد يَديه للموت مُجدّدًا.. لا يُريد لروحه أن تُجلَد بسوط الخيْبة.. لا يُريد أن يُدْفَن جاهِلًا أسباب اغتياله.. لكن، هذه المرة كانت الدّنيا أكثر حَنانًا عليه.. فهي قَرّرت أن تُهديه الجواب بعد أن غَلّفته بأشواكٍ سامّة.. انتبه للطرف البارز أسفل وسادتها.. اعتدلَ وهو يَسْعل ويُحارب بوّابة الأنفاس المُصرة على الانغلاق.. رَفع الوسادة سامِحًا لنفسه بأن يُقابل الماضي وَجْهًا لوجه.. فَمروة قَد تَركت من خَلْفها مُذَكّرات والدتها وهي مُشَرّعة.. تَحْديدًا على صفحة الذكرى ذات الأبطال الثلاثة.. طَلال.. نُور.. وبَلقيــــس.
,،
طَرْقٌ على الباب.. قَدمان حافِيتان تُهرولان بتعثّرٍ ملَهوف.. وَجَوْفٌ بجناحين أبْيَضين حَلّقَ لاستقبال قَلْبه. أَمْسَكت بالمقبض وقَبْلَ أن تَفتحه استوقفتها كلماته "لا تفتحين لأي أحد الباب.. بس هاينز أو آستور.. وطبعًا اتأكدي إنهم هم قبل لا تفتحين".. لذلك سَألت بهمسٍ مُرتبك بالإنجليزية: مَن؟
انهارت توقعاتها عندما أجابها: إنّهُ أنا.. هاينز
تَنَهّدت وهي تكتم غَصّة الخَيبة.. قالت بخفوت: دقيقة واحدة
ذهبت للغرفة وارتدت معطفها الطويل وحجابها.. عادت وفتحت الباب ليُقابلها ظَهره.. نطقت بهدوء بَعدَ أن رَسمت ابتسامة باهتة: مرحبًا هاينز
لَم يَسْتدر إليها ولَم يَرُد التّحية.. عَقَدت حاجبيها مُستغربة.. رُبما هُو شارد ولم يَسمعها.. فَتحت فَمها لتُنَبّهه لكنّه اسْتدار إليها قَبْلَ ذلك.. اسْتدارَ ليُأجّج في نَفْسِها فَزَعًا.. فَقد انطوت بين ملامحه أخبار كانت تَرْفع عَلمَ السوء.. سَألتهُ بتوجّس وهي تتقدّم إليه: ماذا هُناك؟
أَرْخى جِفْنيه كاشِفًا عن تنهيدة بَعثرت كالريح أفكارها.. بحدّة وهي تَسْتل كلماتٍ مُرْتعشة من بين أسْنانها: تـكـلـم هاينز.. ماذا هناك؟ هل أُصيب محمد بسوء؟
مَسَح على جانب وجهه قَبْلَ أن يَحشر كَفّيه في جَيبي معطفه وكأنّهُ يُخَبّئ ألغام أجوبته. لذلك صَرخت في وجهه مُتجاهلة المكان والزمان.. ورَجفة عَظيمة قَد صُبّت عليها من رأسها حتى أخمص قَدميها: أجــبـــنــي هــايــنــز.. أجـــبني!
مَرّر لسانه على شَفتيه يَسْتعد لإطلاق رَصاصته.. وهي جَمّدت كُل ما فيها مُسْتَعِدّة لاستقبالها.. رَفعَ عَينيه ونَبَضاتها أخذت تتصادم بجنون بين حجرات قلبها المُتهالكة.. فَتَحَ فوّهة المدفع ليهمس بصوتٍ بارد.. مُتَبَلّد.. وكأنّه يَسرد عليها نشرة أخبار التاسعة: انفجر النُزل الذي يقيم فيه محمد بفعل قنبلة.. أثناء ما كان محمد داخله.. ولَم تعثر الشرطة سوى على أشلاء لجثة مُتفحّمة.. صاحبها كان مُكَبّل اليدين.. مثلما كان مُحَمّد تمامًا
انتهى
|