كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الستون
الفَصل الثاني
سَــلام.. تَشْعر بالسلامِ يَمْلأ جَوْفها.. رُوحها وقَلْبها وجميع أعضائِها.. هي تَتَنفس السلام.. تَنظر به وتَبْتسم بسببه.. هُو يُحيط بها من كُل جانِب.. يَحْملها على غَيْمة تَطوف حَوْل المكان بسَلام. هَمَست.. ولا تعتقد أَن هذه الأَجواء يُليق بها صَوْت غير الهَمْس..: أَبدًا ما توقعت بحب المكان "اسْتَنشقت نَفَسًا وَلجَ لجسدها بانتعاشٍ لَذيذ وهي تَشُد حَولها الشال الصوفي.. ثُمّ أَرْدَفت وعيْناها تتطلعان للأمَدِ البعيد اللامع الذي كان يَتأمّله هُو في عَيْنيها" كأنّه جزء مفصول عن العالم.. مفصول عن الفوضى والإزعاج والعشوائية والمناظر المتعبة للعيون "ضَحكت ورأسها يَميل" مَفصول عن الشمس بعد
ابْتَسَم مُؤيّدًا: الشمس بخيلة معاهم.. حرارتها كلها أغدقتها علينا بكرم
نَظَرت إليه وحَنينٌ يُداعب أهدابها: بس لها هيبة والله
هَمهمَ بموافقة: كانت من ضمن الأشياء اللي اشتقت لها طول سنين الغربة
ابتسمت وبضحكة: تستاهل الشوق "أَسْدَلت جِفنيها ليرتفع صَدرها باستنشاقٍ عَميـق أَتبعهُ زَفيرٌ تَذيلته آه الراحة.. وبتعجّب" أنا شلون تنفست هالهوا قبل أكثر من عشرين سنة! ما أتذكره.. ما أذكر الشعور وهو يبرّد روحي ولا أذكر ريحته!
عَقّبَ بهدوء: كنتِ صَغيرة
حَرّكت كتفها: ايــه صغيرة بس مو واجد.. يعني عادي تبقى في بالي هالذكرى "اسْتَطردت وهي تستند لمقعدها المُسْتَقِر خَلْفَ سور الكوخ المُطِل على الرّيف" إن شاء الله إذا انتهى كل شي وتعدّلت الأمور بعزم أمي ويوسف وحور على هالكوخ "سَألته بنظرة استئذان بريئة" يصير؟
رَنا إليها بنصف شرود قَبْلَ أن يَهمس ببحة وبابْتسامة خافتة: أكيد يصير "اعْتَدَلَ في جلوسه وهو يُرجع الصوت في حلقه وبظاهر سبّابته يَمس أسفل أنفه.. وبنبرة مُتأنّية نَطق" مَلاك أنا مابي أعكّر مزاجش "ضاقت عيناه بابْتسامة" أو أعكس الشعور اللي قاعدة تعيشنه حاليًا.. بس لازم تعرفين إن بعد أسبوع بيجيني هاينز.. عشان بنروح للمدينة.. لمكتب آستور.. عشان باقي الشغل
طَرَدت من صَدرها المَملوء بطمأنينة لَحظية تَنهيدة لَن تكن الأخيرة.. حَرّكت عدستيها عنه لليل الذي تَزفّهُ النجوم لعروسه القَمَر.. تَأمّلته لدقيقة أو اثنتين وهي تَسْتشعر تَقَلّص الانبهار شَيئًا فَشيء.. حينها أَيْقَنت أَن المَرْء يُبْصر الجَمال بِعَيْني الرّاحة.. فإن عُمِيَت فَهو سَيرى الجَنّةِ نار. عادت إليه وسؤالٌ مُتَعَلّق بمشذب أهدابها المُهتزّة: وشنو بيصير بعدين؟
صارحها بالحقيقة المُرّة: ما عندي أي جواب لأن مادري.. صدق مادري!
أَخْفَضَت رَأسها قَليلًا وكأنّها تتفحص أغواره بعينيها: ولمتى ما بتدري؟
كَرّرَ: مادري
أَغْمَضت والأَسى يُصدّع ملامحها الناعمة.. والكَمَدُ أَسْرَعَ بفرشاته لِرسم سوادَ كُحله حول مُقلتيها.. فارقها السكون.. كلماته ثَقَبت قَلْبها فَتَسَرّبت منهُ الخِفّة.. وها هي الهواجس تُثقله بشؤمها ورماديتها الضبابية.. آآه كم هُو قَصيرٌ عُمر الفَرح. أَبْصَرت على إثر تشابك أصابع يَده بأصابع يَدها المَخذولة.. فَقد أفلتت من قبضتها الفَرح.. نَحْنُ نُوْلَد بكَفّين مَقبوضتين على السعادة.. كُلّما أَطعمنا الدّهرُ عُمرًا بَسطنا لهُ كَفّ سعادتنا.. غافلين عن حَسرة النهايات ولَوْمها. تَعَلّقت عَيْناها المُمتزج فيهما أَلم الحُزن بقساوة الصَبر بعينيه الغائر فيهما الأسَف.. شَدّت على يَده لتهمس بتماسك: راح نستغل كل دقيقة في هالأسبوع
ابْتَسَمَ وكفّه الحرة ارتفعت لتُعانق وجنتها.. وبنبرة أَحْيت فيها آخر استكانة: عـلى أمــرش
,،
قَبْلَ ساعات
أَنهى المُكالمة ليَضغط على الهاتف بكامل قُوّته قَبْلَ أن يَقذفه في الهواء بِغَضبٍ وتَهوّر؛ ومن بين أَسْنانه قَد فَرّت صَرْخة غَيْظ مَسْجونة.. رَكَلَ الأَرْض وهو يرى كَيْف تَلَقّفهُ العُشْب ليسقط دون إصابات على بعد بِضعة أَمتار منه. زَفَرَ بنفاذ صَبْر وهو يَمشي باتّجاهه بخطوات أَثْقَلها حَديث رائد.. لا وجود لمعلومات عنها.. لا أهل لا أصدقاء ولا شيء.. وكأنّها جاءت من العَدَم.. وهذا يعني أَنّ لا وجود لوَعد أَساسًا. انْحَنى ليلتقط الهاتف وانحنت معهُ أَفكاره لطريق الصّواب.. تدافعت الأَسئلة في عَقله.. كَيْف صَدّقها؟ ولماذا أَصْلًا صَدّقها؟ سَيطرت عليه بقطعة حلوة لذيذة.. ألهذه الدرجة هو ضَعيف! امْرأة كهذه تُسَيّرهُ على هواها دون أن تبذل جهدًا. هُو.. هُو مُثير للشفقة! أَرْسلت لمكتبه طَبق حلوى فحَلّقَ إلى عُقْرها بعد أَن أَسكرهُ المذاق.. حَلّق إليها مُفشيًا عن الكثير من الأسرار.. لكن.. هي أيضًا أفشت.. فرناندو.. والمخدرات.. أَيُعْقَل أَنّ كل ذلك مُفَبرك؟ لِماذا لم تَطأ هذه التساؤلات عَقله من قَبْل؟ لِماذا لم ينتبه لشخصيتها الغريبة من قَبْل؟ لا سلطان.. لا.. أنت انتبهت.. انتبهت إليها.. ولكن.. استقام واقفًا.. ولكن غُشِيَ على عينيك.. استدارَ لِيَصطدم بَصره بها ويَتيقّن من الحَقيقة.. نعم غُشِيَ على عَيْنيه.. جاذبيتها كانت لها القُدرة على شَطب جَميع الشكوك لتجعل تَركيزه لها ولها فقط.. أَجبرته على النظرِ للأمام.. لجمالها الذي جاءَ على مَقاسِ أهوائه.. لذلك تجاهل أي فِكرة من شأنها أن تُزَعْزِع التفاته التام إليها.. فانسَلَبَ لُبّه فتاهت الأَسئلة عن أَرْض عَقله. تَقَدّمت منه وفي عَيْنيها نَظْرة قاتِلة.. كالقوس المُهَدّد بتراشق السهام.. وَقَفَت أمامه.. على مَقْرُبة منه، فاتّضحت لهُ ملامح الصّدمة الكاسية وَجْهها.. فَفَهِمَ أَنّها سَمِعته.. سَمِعت مُكالمته.. لذلك قالَ بثقة وعيناه قَد كشفتا عن قوسهما: وَعد ما لها وجود يــا.. "ضَيّق عَيْنيه وأمال رأسه كما لو أنّهُ يُفَكّر" إلا ما قلتين لي شنو اسمش؟
هَمَسَت بفحيحٍ ناري: تنبّش من وراي! تنبّش من وراي يا سلطان!
أَسرَعَ البرود لوجهه ونظراته وغَلّفَ صوته ليقول: شغلنا حسّاس وإنتِ عاطيتني اسم ومعلومات مغلوطة.. أكيد بنبّش
عَقَدَت حاجِبَيها مُسْتَنكِرة: وهالشغل فيه شي صَح أَساسًا؟ إنت بكبرك معلوماتك جذب في جذب.. بس اسمك صح.. ومو في كل مكان تستخدمه بعد.. أكيد ما بعطيك معلومات صحيحة عني!
أَدخل الهاتف في جيبه وهو يَقول ليُنهي المسألة: خـلاص.. وحدة بوحدة.. ما بتعطيني معلومات.. أنا بعد ما بعطيش معلومات.. مدام الثقة انعدمت.. فالأفضل كل واحد يبقى في مكانه
هَزّت رأسها وهي تَزم شَفتيها: ما عليه.. ما عليه "تَراجعت للخلف خطوة وهي تُرْدِف بصوتٍ حَوْى مصائبُ خَطيرة" تأكد من هاللحظة إنّك جنيت على نفسك سلطان
ما إن تجاوزته حتى فاضَ عُباب عَيْنيها مُغْرِقًا وَجْنتيها المُحْمَرّتين من صَفْعة الصّدمة.. حَشَرت جَسدها في المركبة وهي تُشَغّل المُحَرّك بيد تكاد أن تنفصل عن ذراعها من شدّة ارتجافها.. ضَغطت بقدمها على البنزين غير آبهة بسرعتها.. تُريد أن تخرج فقط.. تُريد أن تَذهب لمكان يَحتوي انهمار دموعها.. لشخص يَتَلَقّى بيديه انكسار رُوحها وموت ثِقتها المَغدورة.. رائد.. رائــ ـد.. المُحقق رائد.. صَرَخَ قَلْبها من جُرْحه الطَري: لماذا... لمـــاذا!
،
الوَقت الحالي
قالَت بأَلم وخَيْبة ولَمْحة عِتاب تطوف عَيْنيها: جيت لك.. لأن ما عنـ ـدي غيرك.. توقعتك.. تصدقنـ ـي!
رَدّ بهدوء يَشْرح لها واقعه: وأنا أكثر من ثلاثين سنة كل ما أحس إن ما عندي أحد، التفت وألقاه.. مُستحيل أَصَدّق أي كلمة سوء عنه! هو مو صَديق ولا أخو.. هو أنا.. هو نَفْسي.. أنا عادي أصَدّق على نفسي الغلط بس ما أصدقه عليه
كَرّرت من بين أَسْنانها بصوتها المشروخ من البحّة: قـلـت لـك سَمـعـتـه.. قال رائد.. المحقق رائد.. من يكون غيره اسمه رائد ويشتغل في التحقيق والأفضل بين زملائه وفوق هذا كله مرتبط بسلطان؟ من؟ قول لي من؟
بمنطقية: في أكثر من تفسير للي سمعتيه.. وترى تظلمين رائد إذا رحتين مع التفسير اللي يطلعه الريّال المو زين!
أَحْنت ظَهرها مُتّكئةً بمرفقيها على فَخذيها.. غَرست أصابعها بين خصلاتها وهي تضغط على رأسها كما لَو أَنّها تَدعس الأفكار الحائمة بعشوائية داخله.. هَمَسَت بتيه: شسـوي؟ شســـوي! يـا الله
أخفضت يَديها لتُمرّرهما على جانبي وجهها وعُنُقِها قَبْلَ أن تقف وهي تَزْفر التباسات روحها المُضطربة.. أخذت تَقطع غرفة الجلوس جيئة وذهابًا والتوتر قَد رَاكمَ داخلها جِبالًا ترتفع قِمّتها دقيقة بعد أخرى.. نَظرت لأخيها عندما قال: قعدي لا تفرين راسش.. اللحين بيي
رَدّت بنفاذ صَبر: متى متــى! صار لك ساعة من اتصلت فيه
: الشوارع زحمة والناس رايحة لدواماتها.. أكيد بيتأخر
تَوَقّفت مُقتطعة شوطها السادس لتقول بحرج: آسفة طلال ما خليتك تروح دوامك
استند براحة للخلف وعلى شفتيه ابتسامة: عادي مدامني أشتغل في شركة أبو رائد.. لو أشتغل عند أحد غيره جان من زمان تفنشت "وَقَفَ مُسْتَطردًا وهو يُشير لوجهها" بروح أسوي لش ريوق.. ويهش أصفر وشفايفش بيضا.. لا تطيحين عَلَي
حَرّكت رأسها رافضة: لا طلال مابي.. كلش مو مشتهية كلـش
ارْتفع حاجبه: عصير عالأقل
أَكّدت عدم رغبتها: والله مابي شي.. أحس بستفرغ لو أكلت من اللوعة
مَشى للمطبخ: عيل بييب لش حليبة باردة حق اللوعة
دَلفَ للمطبخ وهي لمَ تُعارضه وواصلت أشواطها وتوترها واصَل بُنيانه الذي طالَ حتى انتصف رئتيها؛ مُنَبّئًا عن اختناقٍ قَريب. دَقّ الجَرس.. التَفتَت كالبَرق ناحية الباب في الوَقت الذي خَرج فيه طَلال من المَطبخ وفي يَده كأس حَليب.. أَلْقى نَظْرة على الباب ثُمَّ أَلْقى نَظْرة على فاتن التي أَصْبَحت كالخرقة البالية. عادَ الرّنين.. وَضَعَ الكأس على الطاولة الصغيرة ليخطو إليه.. فَتَحهُ فاندَفعَ رائد للداخل وهو يهتف: شصاير؟ وينها فاتن؟ "التَقت عيناهُ بها فناداها وقدماه تَفُرّان إليها" فــاتــن
تَراجعت للخلف هامِسةً بصوتٍ رَهيف يكادُ أن ينقطع: لا.. تقـ ـرب... لا تلمسـ ـنـ ـي
تَجَمّدت خطواته وملامحهُ انكسفت من كلماتها الغريبة.. تَقَدّم خطوة فكان لخطوتها الرجوع.. لذلك تَساءَل وأوداجه تَنبضُ تَوَجّسًا: فــاتــن.. شنو صاير!
تَكَلّمت بما كان يُمليهِ عليها لساعات قَلْبها المَكسور: وَثَقت فيـك.. أَمّنتك على سري ونفسـ ـي.. وآخرتها.. تطعنّي في ظهري! "حَرّكت رياح الأَسى رَأسها" حَرام عليـ ـك.. والله حــرام
احْتَقَن وَجْههُ وانفجارٌ مُدَوّي زَلْزَل دواخله وصوته يعلو: إنــتِ شـقـاعـدة تـقـولـيـن! استخفيتين ولا شنو!
صَرخت في وجهه والدموع تَصرخ على وجنتيها: لا ما اسـتـخـفـيـت.. ما استخفيت يا الخايــن.. سمعت كل شي.. كــل شـي.. بأذوني.. سمعته وهو يحاجيك.. طلعت تشتغل عنده يا الحقيــــر "نَسَفت المسافة بينهما لتمضي إليه تَضربه بقهَرٍ مَجْنون وحنجرتها تكاد أن تُقْتَلع من فَرط صراخها" يا الحقيــر.. يا الكلــ.. يا الـ..
أَسْرَعَ إليها طَلال مُكَبّلًا بيديه الرّجولتين ساعديها.. استطاع أن يُسَيْطر عليها بسهولة بسبب ضعفها الأنثوي وبسبب انهيارها الذي خَلّفته الصدمة.. احْتضنها عندما تَمَسّكت به وهي تبكي وبكاؤها يُقِلُّ لمَسامعهما حَسْرتها.. تَطَلّعَ لرائد الذي ألجمهُ الموقف الغَير متوقع.. وجهه مُتَشَبّع بالاحمرار والعَرَق.. وأَنفاسه تَشخب من صَدره وهي تُصْدِر صَوْتًا يُشْبه صَفير قِطار مُعَطَّل.. هَمَسَ يَستجدي فهمًا: طلال.. أنا مو فاهم.. مو فاهم شي! ليش جذي حالها!
رَفعت رأسها لترد بصوتٍ يَغُصُّ بالوجع: سمعتــ ـه.. سمعت سلطان وهو يكلمك.. كنت تبي تعطيه معلومات عني.. تبي تفضحني قدامه!
اتّسَعت عيناه وغَضبه رَكَّزَ على الموضوع الثانوي بالنسبةِ لها: إنتِ كنتِ عنده! شلون تروحين له من غير ما تقولين!
تَدَخّلَ طلال مُتفاديًا شرارة جَديدة: كلّمتها عن هالموضوع وهاوشتها وزفيتها بعد.. اللحين هي اللي يهمها الريّال اللي سمعت سلطان يكلمه.. المحقق رائد مثل ما قال
عُقْدة تَوَسّطت حاجبيه وصوتهُ خَرَج مُسْتغربًا: المحقق رائد!
أَكّدت وهي تُبْعد عن عينيها خصلاتها المُلتصقة بوجهها: ايــه.. المحقق رائد.. ولا تسوي روحك بريء وما تدري بشي
أَشارَ لنفسه وحاجِباه يرتفعان بتعجّب: اللحين يعني إنتِ.. شاكة إن أنا رائد اللي كان يكلمه!
هاجمته: ومن غيرك له علاقة بسلطان؟ مسوي روحك تشتغل عشان تقبض عليه وإنت تشتغل معاه
شَزرها بعينه ليقول داقًا ناقوس ضَميرها: وإنتِ على طول تشكّين فيني؟ ما عطيتيني حق البراءة؟ سيدة أثبتين إدانتي!
وهي تُشيح عنهُ بتبلّد: كل شي واضح
قالَ بقهر: في غيري ألف رائد
رَنت إليه بحدّة: ما أظن في غيرك محقق رائد وله علاقة بسلطان
صَمَت لثواني وعدستاه تدوران على وجهها المُرْتَدي قناع المُبارزة.. هي شَنت عليه حَرب من اللا شيء.. شَنتها عليه بسببِ شَكٍّ يُستحال أَن يُزيل اليَقين.. واليَقينُ هو براءته وطهارة نيّته.. فكُل رائد سينطق باسمه سلطان سَيكون هو أوّل المُحَتَمَلين؟ فقط لأنّه مُحَقّق فالتّهمة موجهة إليه! قَد يكون هناك عشرة أشخاص أو أكثر يحملون اسم رائد ومحققون في الوقت ذاته.. فليس هنالك رائد واحد في هذا العالم.. رائد واحد ومحقـ.. لحظة.. لحظة رائد لحظة.. نَظَرَ إليها وهي التي كانت تُراقب تَقَلّبات ملامحه.. تسارعَ نَبْضها عندما سَأل ببطءٍ نصفه تركيز: تقولين كان يكلّم رائد.. وأشار له بإنه مُحقق؟
رَدّت بخفوت: اي
تَقَدّم خطوة مُسْتَفسرًا باهتمام: شنو اللي سمعتيه بالضبط؟
ارْتَفَعَ حاجبها: أعتقد تدري شنو عدل!
تَحامَل وهو يستنشق هواء يُصَبّره ليُعيد السؤال: شـنـو اللـي سـمـعـتـيـه فـاتـن؟
أَجابت وهي تُرْخي جِفْنيها.. لا تَستطيع أن تنظر إليه وهي تَنطق بالكلمات التي كَشَفت قُبْحه: قال.. إن هو يقدر يلغي التعاون اللي بينكــ ـم.. وإن هو اللي سمح به.. هو طلب منك تنبش ورا وعـــ ـد.. بما إنّك كنت الأفضل بين زملائك.. بس إنت ما لقيت شي.. فيعني إنت استعجلت على نهايتك
هَمْهَم وهو يَهُزّ رأسه بالإيجاب.. رَفعت بَصرها إليه لتَلتقي مع عَيْنيه البادي عليهما التفكير.. سَألَ طَلال المُتفرّج: في شنو تفكر؟
أَجابه ووعيه بين الحاضر والماضي: أعتقد إنّي اكتشفت شي مهم يخص قضية عمّار
ارْتَفعَ حاجِباه مُتفاجِئًا: والله! وشنو هالشي؟
وهو يتراجع للخلف: ما أقدر أقول قبل لا أتأكد
استدار مُمسِكًا بقبضة الباب ليفتحه إلا أَنّ نداء طلال أوقفه: رائــد!
نَظَرَ إليه بتساؤل فأشارت عينا طلال بصمت إلى فاتن.. شَخَرَ ساخِرًا وهو يَقول بحدة وعتابٌ قاسي: ما بيني وبينها كلام.. أنا في نظرها خاين وجذَّاب.. خلها تنظر لي بالهنظرة مثل ما تبي.. ما بتعب نفسي أصحّحها لها
أنهى جُملته ثُمّ فتح الباب وَخرج تارِكًا فاتن تَغرق في دوّامة لا أبواب لها ولا نوافذ.. دوّامة ضياع وندم لا مَفَرّ منها.
,،
تَبْدو القُلوب مَعْطوبة.. هَكذا كانت ولا زالت.. مُشَرّعة الأبواب ونازِفة.. كأَنّما تَسْتفرغ الفَرح وتَلفظ الرّاحة. هذه الفكرة التي تبادرت إلى ذهنها وهي جالسة فَوْقَ رُكبتيها أمام خزانة ملابس جنى.. بآلية تَتَحَرّك يَداها تطويان مَلابسها.. تنتهي من قِطعة.. تَصُفّها في مكانها.. ثُمّ تلتقط قطعة أخرى وتُعيد حَركات الطّي التي حَفِظتها يَداها عن ظَهر قَلْب.. فَحواسها وفِكْرها كانوا بَعيدين جدًا عن هذا العَمل الروتيني.. كانوا هُناك.. فَوْق الهَضبة الخَضراء اليانعة التي لَم تَقْسمها صَخرة عَشْوائية هَوَت فَوْقها من اللا شيء.. صَخرة لَم تَكُن كخَطَئها الساذج الذي قَسَم ظَهْرَ سَعادتها. زَفَرَت رَيْبًا جَديدًا وهي تلمس شاشة هاتفها القريب لِتَستَعلم الوَقت.. التاسعة وتسع وأربعون دَقيقة.. مَضَت قُرابة التسعِ ساعات مُذ فارقَها.. لَم يَتّصل ولَم يَكُتب ولَم يَعُد. باتَ عندها.. رُبّما هُو صالحها.. قَبّلها وتَوَسّد صَدرها.. هُما بالطّبع عَوّضا شَوْقهما بعد ليالي البُعد.. لا بُد أنَّ التعبير تَجاوز الكلمات إلى الأفــ ـ... أَغْمَضت وهي تَشد على القطعة التي بين يَديها.. يا الله.. هي تَحْترق.. تَحْــترق فعلًا وبلا مُبالغات.. تَستطيع أن تَشعر بتوهّج جلدها.. فَتَحت عَيْنيها تنظر لانعكاس وَجْهها في مرآة الخزانة.. أَحْمَر.. مُتَهَيِّج من أُوار رُوحها.. فالغيرة لا تنفك عن زَجّ الخَشب إليها.. تَرْكنهُ بين زواياها ثُمّ تُشْعله إلى أن يَتَرَمّد.. فَتعود من جَديد إلى جَمع الأَخشاب لتبدأ حَفلة حَريق جَديدة. كانت هذه دورة حياتها مُذ نَطَق باسمها عند اتصالها وحتى هذه اللحظة. لَم تدخل الغرفة إلا من أجل ملابس النوم وحاجياتها الخاصة.. فهي لَم تَنم هُناك.. شاركت ابنتها سَريرها.. غَفت لساعتين رُبّما ثُمّ اسْتَيقظت على ضَربات قَلْبها.. نَبَضاتها كانت مُتسارعة جدًا.. كما لَو أَنّها تَركض هاربة من الوِحشة التي خَلّفها غِيابه. يا إلهي، لَيْلة واحد عَبَثت بها هكذا.. فكيف بالليالي الآتية؟ وهل فعلًا هناك ليالي أُخرى سَيكون البُعد سَيّدها؟ أَم أَن المُستقبل يُخبّئ لها مُفاجـ
: صار لي ساعة واقف!
التَفَتت للصوت بشَهقة خافتة.. بشَهقة اللقاء.. شَهقة العِتاب.. بلا إرادة منها تَكاتفت الدّموع وأَغرقت مُقلَتيها.. أَشاحت عنه وهي تَزدرد الغَصّة لِتَتكسّر مع الأنفاس في صَدرها.. اقترب منها حتى جَلس بجانبها.. فَوْق رُكبتيه مثلها.. قالَ بهمس وبَصره يَطوف مَلامحها الظاهرة له من خلف تموجات خصلاتها: من زمان واقف وإنتِ عيونش ما نزلت من على المنظرة.. تفكرين في شنو؟
اسْتَنكرت دُون أن تُغَيّر من وَضعيتها: ما تدري!
ارْتَفَعَ حاجبه وبملل كان نصفه نعاس: وأنا شدراني؟!
اسْتدارت إليه والدّمعُ قَد عَبَر البوّابتين لِيَسْتَريح على الخَدّين.. نَطَقت بارْتجاف بلسان غيرتها: من طلعتك لها البارحة ما كلمتني.. ولا حتى كتبت تصبحين على خير.. ما سألت... وولا شي.. من هي اتصلت إنت نسيت نفسك ورحت لهـ ـا!
عَقَدَ حاجبيه والاستنكار هذه المرة كان منه: اللحين كل مرة بروح لها بتسوين لي هالفيلم!
اتّسَعت عَيْناها مَصْدومة: يعني بعد في مرة؟ في مرّات جاية بتروح لها!
أَجابَ بهدوء كان بالنسبةِ لها برودًا مُسْتَفِز: أكيـد.. مو هي زوجتي وحالها من حالش؟
نَظَرت إليه وفَوْقَ جِفْنَيها اتّكأت خَيْبة أَمل لَم يَرَ لها فَيْصَل أَيُّ داعي.. وَقَفت بَعْدَ أن انتصرت عليها الشهقات وأَخذت تَتدافع بقهر من قَلْبها.. تناولت سَلّة الغَسيل الفارغة وهي تُغلق باب الخِزانة بقوة لتُغادر غرفة جنى وصوت بكاؤها يَتبعها.. تَأفف بتعب مَرْسوم على وَجْهه وهو يَقوم ليلحق بها.. كانت قَد تَركت السلة في الغرفة الخاصة بالغسيل لتدلف لغرفتهما حيث استقرت على السرير مُواصِلةً سمفونية بُكائها المُزعجة بالنسبة له.. فهو لَم يَنم منذ أكثر من أربعة وعشرين ساعة.. حتى صوته هو نَفسه يُزعجه. اسْتَلقى على جانبه بثقل وهو يَتكئ بمرفقه ويُسْند رأسه بيده.. يَنظر لها من مكانه بصمت وحَركة أهداب بَطيئة وهي تُخفي وَجهها بكفيّها وتَنتحب.. لوهلة شَعرَ أنّه من المُمكن أن يغفو على موسيقى بُكائها. اسْتَمرَت مُشاهدته لدقائق قَبْلَ أن يقول بضيق تَصَدّعت منه مَلامحه: بَس عــاد
صَرخت بصوتٍ أَكتمته غَصّاتها وكَفّاها: خَلْني.. خَلْنــــي.. حابسة الصيحة من يوم عرسك.. خلني اللحين أطلعها يمكن أرتاااح
تَثاءَب وهو يَعتدل ليستريح على ظَهره ويقول: زين إذا خلصتين قعديني
أَبْعَدت يَديها سَريعًا لتُبصرهُ مغمض العَينين مُسْتَعِدًّا للنوم.. ضَربته فَوْقَ صَدره بغيظٍ بقبضتيها: قوم فيصل قوووم.. لا تحرني أكثر مما أنا محترة "هَزّته من كتفه" قـوووووم
تَمْتمَ وأصابعه تَتخلل خصلات شعره: إنا لله وإنا إليه راجعون "سَألَ وهو ينظر لها بعينين نصف مُغلقتين" شتبين مني؟ "أكْمَلَ بكلماتٍ اسْتفزّتها وهو الذي لَم يَكُن في نيّته اسْتفزازها" إنتِ بتصيحين.. عملية تقدرين تسوينها بروحش.. ما تحتاجين مُساعدة مني.. فليش أقوم؟ أنام أحسن لي صح؟
وجَسدها يَرْتعش من رأسها حتى أخْمص قَدميها: فيــصل لا تقهرني.. كفاية الضو اللي شابة داخلي.. قوم قول لي شنو صار وشنو بيصير في الأيام الجاية.. أنا ما أقدر أتحمل فكرة إنّك تكون لها.. مو بعد تهدني وتروح تنام عندها وتنساني!
أَرْخَى حاجبيه يَتَوسّلها من أَعماقه: حَبيبتي أرجوش.. أرجوش خليني أنام.. بنام وبعد ما أقعد بنتناقش في كل شي.. حتى الحيوانات المهددة بالانقراض بنتناقش فيها.. بس خليــني أنــام
تهافتت الدّموع على وَجْنتيها المُلتهبة: تتطنز.. قاعد تتطنز عَلي وأنا أحترق.. أحترق وإنت ولا حـاس
هَزّ رأسه: امبلى حاس.. والله حاس فيش.. بس بنام وبقعد وإحساسي بيكون في قمته وبنتفاهم.. اللحين بس اشفقي عَلي وخليني أنام.. والله قعدتي من قبل لا نروح المطار أمس.. من الفجر يعني.. احسبي إنتِ عاد جم ساعة مو نايم
تَهَكّمت: وليش مو نايم؟ سهران مع الحَبيبة؟
رَدّ بجدية وهو الذي لَم يَبرحهُ الاستغراب: لا والله، هدتني ونامت.. ظليت سهران بروحي
صَمتت للحظات تنظر إليه بملامحها المُمطرة أُجاجًا.. مَرّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تسَأله ببحّة ونبرة تُصافح الهدوء: يعني.. هي هدتك.. يعني قصدك ما عطتك وجه؟
أَجابَ بتحفظ: تكلمنا وتفاهمنا وبعدين نامت
رَدّدت بنظرة سارحة: تفاهمنا.. تفاهمنا "رَفعت عيْنيها إليه وبسؤال مُتَعرّج يَشي باقتراب الصّيحة" يعني خـ ـلاص.. تفاهمتون تظلون مع بعض للأبد.. وتجيبون عيـ
رَفعَ يَده إلى فَمها مُقاطعًا تَدفّق الكلمات المُبَلّل.. قال برجاء: جِنان واللي يرحم والديش خلاص.. ترى حتى صوت أَنفاسي قاعد يزعجني.. مو بعد صياح وحالة.. خليني أنام وعقبها صيحي وصرخي على راحتش
أبعدت يده بنرفزة: زين إذا إنت نمت أنا شسوي بروحي؟ أظل محترقة مكاني لين ما حضرتك تقعد؟
اقترح: قعدي مع جَنــ "سَكت فَجأة مُسْتوعبًا قَبْلَ أن يَتلَفّت في الأرجاء مُتسائِلًا باستغراب" إلا تعالي صدق.. وين جَنى؟ ما شفتها تحت ولا هي اهني!
وهي تمسح دموعها بظاهر كفّها: راحت مع خالي السوق المركزي
ضَحكَ مُسْتنكرًا: شتسوي هناك! "استطردَ" وأبوي ما عنده إلا هالرحلة من يوم احنا صغار! "انكمشت ملامحه لكن الابتسامة ظَلّت على شَفتيه وفي عَيْنيه" نرجع ريحتنا سَمج على لحم على خضرة.. مزيج عجيب
ابتسمت بخفّة وذاكرتها تَحِن بها لتلك الأيام: رحت وياكم جم مرة.. كنا نستانس هناك.. وإذا الجو زين كان يودينا الكُورنيش.. ونرجع حالتنا حالة من التعب.. بس تعب حلو والله
قالَ بتردد وهو ينظر لها بانخفاض: ايــه.. كان تعب حلو.. عكس تعبي اللحين إلا كلــش بعيد عن الحلاوة
نَظَرت لهُ مُطَوّلًا ونسائم الهدوء تُرَفْرِف حَوْلها وتَطرد غوغاء البُكاء عن وَجْهها المُرْهَق.. حَرّرَت تنهيدة كانت مَسْجونة بين ضِلْعيها بألم.. تَراجعت للخلف حتى استقرت في مكانها.. تَمَدّدت أَسْفَلَ الغطاء ثُمَ نادته بخفوت: تعـال
اسْتجاب لها بلا تَردد.. فالتّردد في جَنّتها مَكروه.. مُحَرّم.. غير مُباح.. عَليك أَن تخلعه قَبْلَ أن تدخلها وإلا أُثِمت. اسْتكانَ في حضنها وهو يَكشف عن تنهيدة طَويلة بطول التعب الذي يُلازمه.. شَدّ عليها دافِنًا وجهه في عُنقها سامحًا لرائحتها الطبيعية بأن تَطرد الثقل الجاثم على دواخله. هَمَست وأناملها الرقيقة تُداعب خصلاته القَصيرة: بس.. ما يحتاج نتكلم
رَفعَ رأسه ليُقابلها بوجهه العابس: شلون يعني ما يحتاج نتكلم؟ والمناحة اللي سويتيها!
تنهدت بارتعاش وبصدق فَرّ من أعماق رُوحها: ما أقدر فيصل.. ما أقدر أسمعك وإنت تتكلم عنها وعن حياتك الجاية معاها "وبحشرجة" خلنـ ـي.. خلني بالأفكار اللي في بالي أحسن لي.. لا تجيني فكرة جديدة وتزيدني قهر وغيرة
حَرّك كتفه وهو يُعَقّب قَبْلَ أن يُعيد وجهه لمخدعه: على راحتش
سادَ الصّمت من جَديد.. فَقط صَوْت أنفاسهما التي تَلتقي وَسَط الهواء وتتعانق حتى تمتزج مُكَوّنة عِطْرًا خاصًا افتقدته جُدران الغرفة لأعوام. بالكاد غَفت عَيْناه إلا أَن ندائها سارعَ وانتشله من غفوته اللذيذة: فيصل "هَمْهَمَ فأفصحت عن سؤالها" عندك صور، لجنى.. وهي صغيرة؟
لا تدري لماذا شَعرت بأنّ شفتاه المُلامسة عُنقها تَبْتسمان! حتى أن نبرته المُسترخية كان بها لحْنُ ابتسامة: اي أكيد عندي.. صورها من أول يوم لين قبل لا تشوفينها.. صور وفيديو بعد "أَرْدَفَ " في بعد شنط مدعوسين في المخزن فيهم كل ثيابها.. ما رميت شي
عُقْدة بانت بين حاجبيها عاضدها سؤالها المُتعجّب: وليش؟!
ضاعفَ من تَمَسّكهُ بها ووجهه يَكادُ أن يَحفر عُنقها الأملس.. وبكلمات حَملت إليها الجَواب دون جَواب: لا تسألين يا جِنان وإنتِ تعرفين الجَواب.. لا تسألين
,،
تَقِفُ على سَفْحِ الذّكرى.. تُشَرّحها لتستنبط من جَوْفها نَوْعها.. أَهي ذِكرى جَميلة أم بَشِعة. ببساطة هكذا.. تُريد أن تَمْنح ذكرياتها وَصْفًا يَكون تُرجمانًا لماضيها.. هي لا تنكر أنّها عاشت واجترعت لحظاتٍ بَهيجة.. لكن لَحظات البؤس والتعاسة كانت أَضعافًا وأَضعاف.. لكن الغريب.. والغريب جدًا.. أَن مؤسس التعاسة وغارس البذرة المسمومة في حياتهم لَم يُطعمها الحُزن مُباشرة.. فهي اقتاتت عليه من الفُتات الباقي من لُقَم والدتها. لَم يَضربها والدها قَط.. لا تتذكر أنّهُ صَرخ في وجهها أو غَضِب.. وكانت نَظرة الرّحمة المَمزوجة بالأسف عنوان عَيْنيه دائمًا.. حتى عندما تزوجت.. كان عذابها منه عن طريق زوجها.. أَهرمَ يوسف مما أدّى لهوانها.. أَيَحِنُّ عليها إذن؟ أَيُحِبّها؟ لكن.. من أين لإنسانٍ مثله.. بل من أين لقلبٍ مثل قَلْبه الرّحمة والحَنان؟ هُو لَم يحتضنها من قَبْل، حَسب أرشيف ذاكرتها هُو لَم يَحتضنها احتضان يَمُد أوصالها بالدّفء.. حتى القُبَل لَم تعثر على أَثَرٍ لها فَوْقَ جَبينها أو على خَدّيها.. لا تعتقد أَنّه لَم يَمنحها فِعْلًا أبويًا طوال حياتها.. ولكنّها مُتَيَقّنة أن سواد أفعاله المُشينة أَصمت كُل ذلك.. فكان للذكرى التعيسة الهَيمنة. رَمَشت بخفّة مُنتبهة لقدوم أحدهم.. رَفعت عينها لتُبصر عَمّتها مُقبِلة.. ابتسمت لها بود وهي تقول بنبرة ذات معنى: مساء الخيـــر
ضَحكت عندما فهمت مقصدها: أدري متأخرة.. بس ما كنت نايمة.. بس طوّلت في السدحة... وعقبها قريت جم جزء من القرآن على ما يأذن الظهر.. وهذاني صليت ونزلت
اتّسعت ابتسامتها والحُب يَغمر حواسها: الله يتقبل
: منا ومنش يُمّه "استطردت باقتراح" شرايش نروح لأمش نتغدا معاها؟ أنا وإنتِ ويوسف خل يمرنا طلعته من الشغل
أَيّدتها سريعًا: والله فكرة عمتي "أشارت للمطبخ" الغدا جاهز من قبل.. بنحمله معانا.. أكيد هي مو طابخة
وقفت: إنتِ روحي اجهزي وأنا بنجبه عشان لا نحمل قدور
بحماس للفكرة: تمام
صَعدت لغرفتها لتتجهز في دقائق بسيطة.. فاقتراح عمّتها أسعدها جدًا.. والدتها وحيدة هُناك في منزل كبير وكئيب.. هي تزورها بالطبع وفي الأيام الماضية كانت تقضي النهار والمساء عندها.. لكن لا تستطيع أن تواصل على هذا المنوال.. فلا بُد أن تستقر في منزلها الخاص.. وكذلك في ذهابها قلة ذوق تجاه عمّتها.. تعلم أنّها تتفهمها.. ولكن ليس من المعقول أن تتركها هي الأخرى كل يوم لوحدها.. لذلك أَسرّتها الفكرة ومُتأكّدة أنها ستسر والدتها المريضة. في تمام الساعة الواحدة وسَبعة وثلاثون دَقيقة أَرْكنت حُور مَرْكبتها في الموقف المُخصص لها في منزل والدها.. غادرتها مع عمّتها في الوقت الذي اقتربت فيه الخادمة لتساعدها على حَمْل أَطْباق الغداء.. دَلفت الاثنتان للداخل.. قالت قَبْلَ أن تتجه للمطبخ: تفضلي عمتي ارتاحي.. وشيلي دفتش أبوي مو اهني.. أنا بودي الأكل المطبخ
قَصدت المطبخ مع الخادمة.. سَألتها وهي تَضع الأطباق على الطاولة الصغيرة: وين ماما؟
أشارت للأعلى: في غرفة
أَزاحت حجابها: زين أنا بركب لها وإنتِ جهزي صحون وقفاش في غرفة الطعام
أَوْمأت الخادمة بطاعة فابتسمت لها حُور بشكر ثُمّ غادرت للأعلى حيث غرفة والدتها.. طَرَقت الباب فَلم يأتِها رَد.. طَرقته من جَديد وهي تُناديها: يُمّه؟
ولا رَد أيضًا.. فَتحت الباب بهدوء وهي تقول بمُزاح: يُمّه بدخل خشي اللي عندش
خَطت للداخل وعيناها تطوفان على المكان.. الأضواء مُغلقة والستائر تَحجب الشمس.. المُكيف مَفتوح على درجة حرارة منخفضة بالنسبة لهذا الجو.. رَكّزت بصرها على السرير.. والدتها مُستلقية أسفل الغطاء وظهرها لها.. أَسرعت خطواتها إليها برهبة وهي تهتف بهمس: يُمّــه
أمسكت بكتفها وأدارتها لِتُفْجَع من مَنظرٍ انتزع رُوحها من جذورها ليُهوى بها على أَرْضٍ مَسيكة كَسَرتها.. تَجَمّدت أَطْرافها وعيناها نالَ منهما جحوظ الفَزع مع اعتلاء صَرْخة جَرحت صوتها وهَبطت لأُم يُوسف وانتصفت قلْبها: لااا يُمّـــــه
,،
شَكَرَ النادل بهمس ثُمّ التَفتَ لرفيقه الذي ارْتشفَ من قهوته ليقول بملل: تفضل أخ رائد.. تحجى
ارْتَفَعَ حاجبه: وليش تقولها جذي!
أَفْصَحَ بغيظ: لأني كنت باخذ قيلولة قصيرة لطيفة تريح مخي.. اتصلت إنت وخربتها عَلَي
مالت شَفتاه بثقة جَذَبت اهتمام عزيز وهو يقول: إذا سمعت اللي عندي بتبوس راسي لأني حرمتك من قيلولتك
اقتربَ من الطاولة: وشنو اللي عندك؟
رَفع هاتفه من على الطاولة.. بحثَ فيه لثواني ثُمّ أداره إليه لينظر للشاشة.. تَأمّل عزيز الصورة ورائد يسأله: تتذكره؟
أَجابَ مُباشرة: اي.. رائد الــ... كان في دفعتك ودفعة
أكمل عنه: دفعة عمار.. كانوا حتى الدكاترة في الجامعة وبعض اللي صادفناهم في المراكز يتلخبطون بيننا بسبب الاسم
هَزّ رأسه: اي أذكر "اسْتفسرَ" شنو دخله باللي راح تقوله؟
رَدّ بارتفاع حاجبين: هو أصلًا أساس اللي بقوله "أغلق الهاتف وأرجعه لمكانه وهو يُرْدف باسترسال" رائد هذا اشتغل مع عمار في أكثر من قضية.. بعض الأحيان كانوا يلتقون حتى برا الشغل.. ما كونوا صداقة.. بس زمالتهم كانت قوية.. وأنا كنت منتبه لهذا الشي بس كان عادي في نظري.. لأن فعلًا شي عادي.. بس اللي استنكرته إن رائد قدّم استقالته مُباشرة بعد مقتل عمّار.. فتساءلت هالكثر هم كانوا قراب وأنا ما انتبهت! فكرت أكلمه وأسأله.. بس انشغلت في القضية وفي أمور ثانية ونسيت الموضوع لأنه ما كان لذيك الدرجة مُهم.. ونسيت رائد نفسه ومن ذيك السنة ما طرى على بالي.. لكن اليوم انطرى قدامي.. انطرى على لسان فاتن "احْتَدّت نظراته حتى ظَنّ عزيز أنّهما سوف تشتعلان" انطرى على لسان سلطان تحديدًا
نَفَرَ عرْق في صدْغه ووجهه مَسّه احمرار: شــتــقــول!
واصلَ رائد: فاتن سمعته يكلم شخص باسم المحقق رائد.. ويلومه ليش ما حصل معلومات تخص وعد
دَارت عدستاه وَسط البياض وأنفاسه تثاقلت حتى باتت مسموعة.. رائد.. المحقق رائد.. ارتبط مع عمّار الوَفي.. عمّار المُسالم الذي أراد أن يُنهي عَصر سلطان الظالم.. قُتِلَ عَمّار ورائد استقال واختفى.. سلطان يُحادث رائد ويلومه.. العَبْد لم يُرْضِ سَيّده.. رائد وسلطان.. وعمّار! عادَ بصره لرائد بعد أن أوصل النقاط في عقله واكتملت الفكرة التي أراد أن يوصلها له؛ وبهمسٍ فحيحي مُتأهّب للانقضاض: والله.. والله لو اللي تقصده طلع صح.. ما بتغمض لي عين إلا وأنا فاصل راسه عن جسمه
شَرحَ له الخطة: لازم أول شي نطّلع على الهيستوري ماله.. نشوف كل القضايا اللي اشتغل عليها.. وبنبحث عن مكانه اللحين وشغله وبيته وحتى عايلته.. وبعد ما نجمّع كل المعلومات بنفتح ملف عمّار من جديد وبندرسه ويا المعلومات اللي عندنا
وَقَفَ بهيجان حتى أن المقعد سَقطَ من خلفه.. قال والنار تعتري باطنه وظاهره: قــوم المكتب.. ما أقدر أقعد في مكاني.. مابي شمس باجر تطلع وأنا ما عندي جواب
,،
حَديقة صَغيرة مُتَدَثّرة بعُشْبٍ أَيْنعته أَمطار الأيام الماضية.. زُهور تَتراقص بزَهو وشَجرتان ونَخْلة.. وعلى الأَرْض قَد افْتُرِشَت سَجّادة صُنِعَت من قُماشٍ خَفيف وحَميمي.. يَتناغم مع الشتاء ولحظاته الباحثة عن الدفء.. كانت السجادة تحمل جيني الخادمة.. وحُسين الذي أَصْبح جَسده الصّغير قادِرًا على الجُلوس.. ومن حَوْله قَد تناثرت ألعابه ذات الألوان الزاهية المُلفتة للنظر. أمّا هي فَأجبرها المَرَض أن تُسْجَن بين عَجَلتين ومَسندي ذراع وظَهْر.. أن تُسْجَن في مقعدها البغيض. أَغْمَضَت ورَأسها يعلو حتى خالتهُ السّماء أَنّهُ يَطالها.. أَخذت تَجُر الأَنفاس واحدًا تلو الآخر.. تَبْحث من بينها عن نَفَسٍ رَقيق لا يَخدش أضلاعها أثناء ولادته. عَطّلَت جَميع حواسها ولَم يَتطلب منها جُهد كَبير.. أَنْصَتت لتغريد العصافير المُرَحِّبة بالمَساء.. اسْتَشَعرت تَقبيل نَسائم الغُروب لوجهها القُطني.. وسَكَبَت على رُوحها آخر أنوار الشّفق. فترة استجمام بسيطة ولكن إلى الآن يبدو أَنّها مُجدية.. هي طَلبت من والديها أن يَخرجان من المنزل للترويح عن النفس.. فلقد مضى زمنٌ طَويل مُذ انفرد الاثنين بذاتيهما بعيدًا عن مشاكلها وهُمومها الجلية عليها مَلامح الأبدية.. لَم يوافقان في البداية.. ولكنّها أَصَرّت وساندتها جيني في ذلك. وها هُما الاثنتان يُمارسان ترويحهما الخاص. أَزاحت الجِفنين عندما داعبت قَلْبها ضِحكة صَغيرها.. ابْتَسمت وهي تَراهُ شارِعًا يَديه وقدماه الصغيرتان تَتحرّكان باحْتكاكٍ حَماسي لاحَ في عينيه المُتَوَسّعتان.. كان يُراقب بفم فاغر الكُرة المطاطية ذات اللون البرتقالي الفاقع وهي تُجاهد الهواء الذي يأبى فَكاكها.. كُلّما استكانت عادَ وزَعْزَعَ سكونها.. وكانت هذه لُعبة مُسَليّة جدًا لحُسين. ضَحكت عندما مَدّ يَده يُريد أن يُمسك بالكرة وهي تقول بتشجيع: يلا ماما.. أشوف من بيغلب إنت ولا الهوا
حارَبَ الطّفل من أجل الظفر بكُرته.. لكن كانت الغلبة للهواء الذي اسْتَغَلّ جُل قُوّته لدفعها وإرسالها إلى الجهة المُقابلة.. حينها تَرَقْرَقت الدّموع في عَيْني حُسين.. وتَقَوّست شَفتاه الصّغيرتان.. فارْتَفع صَوْت بُكائه الذي أَضحك جيني بشدّة.. حملته لوالدته وهي تُعَلّق: يا لك من طِفل شَقي
احْتَضنته حَنين وأجلسته في حجرها وهي تمسح دموعه وبنبرة حَانية حَوَت حُبًّا شَهِيًّا: حبيبي حبيبي.. عُمري هالدموع "قَبّلت عيْنيه المُبَلّلتين" خلاص يا ماما خلاص.. اللحين نجيب الكرة لعندك "تَناولت الكُرة من جيني ثُمّ قَرّبتها منه وهي تقول" هاك.. حلالك
دَفعها بيده وهو يَدعك عينه ويَتململ في جلوسه مُصْدِرًا صَوْتًا ضائِقًا.. ضحكت: خلاص زعلت منها يعني؟ "أَرْخى رَأسه على صَدرها وهو يُحَرّكَ وجهه كما لو أنّهُ يَبحث عن شيء.. لذلك حادثت جيني" فلندخل.. الهواء أصبح أكثر برودة مع اقتراب المساء.. والواضح أنّه جائع ويُريد النوم
وافقتها: هذا صحيح.. أنا سوف أجمع ألعابه ثُم أتبعكم
ابتسمت لها: شُكرًا
أَدارت المقعد بأداة التحكّم.. ابتعدت بمسافة قصيرة اقتطعها رَنين الجَرس.. التَفتت ناحية الباب الذي قَصدته جيني.. تراجعت قَليلاً إلى الشجرة حتى تتوارى خلف جذعها لو كان الطارق رَجُل.. وكانَ فعلًا رَجُل.. ولكنّه رَجُل لا يجب عليها أن تتوارى عنه.. رَجُل يُحَلُّ له رؤيتها.. هو لا غيره.. بسّام. اضطربت نَبَضاتها وهي تراه يَدخل بعد أن دَعتهُ جيني بترحيب.. خَطَى معها وهي تسمع سؤاله: أَمُسْتَيقظٌ حُسين؟
أَجابت وهي تُشير لحَنين: آه إنّه هُناك مع والدته
رَفَع رَأسه بانتباه ليَصطدم بَصره المَحروم بوجودها.. تَبَاطأت خطواته في الوقت الذي تَقَدّمت فيه العجلات مُقتربة.. تَحَرّك الصغير ببهجة عندما قابلهُ وَجْه والده الذي ابتسم لهُ بحُب.. رَفَعَ ذراعيه إليه كأنّما يتوسّله فَحَمله بَسّام بضحكة وهو يقول: شلونك بابا؟ أشوفك اليوم طالع برى ومُتكشت!
ضَحكَ الصغير وكأنّه فَهِم ما قاله.. قالت جيني بتعجّب: للتو كان يبكي لأن الهواء أبعد عنه كرته.. والآن وكأن شيئًا لم يحدث!
قَبّلَ خَدّه ثُمّ قالَ بزهو: يُريد والده "نَظَرَ لحنين مُتسائِلًا بابْتسامة خَفيفة" شلونش حَنين؟
ارْتَفَعَ حاجبها كبداية لثورة الجنون: توّك تفكّر تسأل!
عُقْدة تَوَسّطت حاجبيه ورأسه مالَ مُستنكرًا: عفوًا؟
ارْتَفَعَت نبرتها: أقـول لـك تـوّك تفكر تسأل! وينك ما سألت في هالشهرين اللي طافوا؟ ولا جني آدمية اهني
والعُقدة لَم تبرح وَجْهه: إنتِ اللي اخترتين تجين اهني.. وإنتِ اللي اخترتين ما تقابليني وما تكلميني.. أنا أخاف يصدر مني أي تصرف ويضايقش.. فكنت أنتظر منش المبادرة
تجاهلت كلماته المنطقية لتَقذف عليه سؤال لَم يتوقعه: ليش ما جيت العزيمة؟ شنو الشغل اللي جذّبت على عبد الله وقلت إنّه عندك؟
انفكّت العُقدة ولكن ملامحه بَقت مُتَجلّدة.. استنشق نَفس ثُمّ أجابها بهدوء: أولًا أنا مو جذّاب.. وثانيًا كنت مرتبط مع ولد عمي أناقشه في خريطة بيته
تضاعف اعتلاء الصّوت حتى أَن وَجْهها احْمر من ضَغطها على عروقها: فَشّــلتني مع أهلي.. كل وحدة هناك معاها زوجها إلا أنا بروحي ما جنه عندي رجّــال
كَرّر بوجْسٍ سَمِعت فيه رَنّة الصّبر: إنـتِ اللي تبيــن جـذي
صَرخت: لا ترميها عَلي... أنا مريضة ونفسيتي تعبانة.. وإنت على طول جبتني اهني ورميتيني.. تبي الفكّـــة.. عشان تهيـــت على كيفك
زَجرها بنبرة مُنخفضة ولكن باردة.. كعادته: حَنيــن شهالحجي!
أَشارت للباب والغَضَب مُحْكِم قَبْضته على ذاتها.. مُكَمّمًا فَم الرغبة التي تَرْجو احتضانه وتقبيله: اطْـــلع.. اطلع برا.. هاملني شهــووور ومنزّل من قدري قدام الناس واللحيــن بكل برود تسألني شلوني! "خَبَى صَوْتها لتُبْصِق عَليه كَلمة لَسَعت ذاته" إنت ما عندك إحساس بسّام.. تفهم؟... مــا عـنــدك ذرة إحــســاس
شَعرت بصخرة تَجثم فَوْق صَدرها عندما تَهَدّلت ملامحه بخَيْبة عَظيـــمة أجّجت دموعها.. إلا أَنّها حَبَستها قِسْرًا. لماذا حَنين.. لماذا؟ عندما أَهدتكِ الشّمس بعضًا من ألَقِ ألوانها.. لماذا أَسرَفتِ بالقُبول وتَبَنّيتي حُممها؟ لماذا تَكسريني وكأنّي الليل الذي يُصارع نهاركِ؟ لَم أكن لَيْلًا لكِ.. وإن كُنت.. فأنا سآتيكِ والقَمَرُ مَعي.. فلماذا القَسوة؟ لماذا الهَجْرِ.. ولماذا جَلْد الحُب وقَهره؟ فقط.. لماذا! أَشاحَ عنها ناحِرًا العِتاب.. خَطى بقدمين تنتعلان الخذلان.. توقّف عند جيني التي تَسَمّرت عند باب المنزل بعينين مصدومتين تُراقب المشهد.. هي لَم تفهم كَلمة واحدة.. ولكنّها استنتجت من الصراخ والنظرات والحركات المضمون.. انتبهت لبسّام الذي قَرّب منها الصغير.. أخذته بصعوبة بسبب تمسّكه به.. احتضنته وهو يَبكي ويُحاول أن يُلقي بجسده على والده.. هَمَسَت له برجفة قَبْلَ أن يخرج ووَسط عينها حارت دمعة مُشْفِقة: أنا آسفة سيّد بسام.. أنا آسفة.. أنت لا تستحق ذلك أبدًا
,،
دَخلَ المنزل لتصله الأصوات المُمتزجة بلحن ابتسامة وضحكة.. حاولَ هُو الآخر أن يَرْسِمَ ابتسامة لِيُقابلها فيها ولِيُطرد آثار التّعجّب عن ملامحه.. فالبارحة فقط عادت إلى الشقة.. والليلة ها هي تزور منزل والده! وكأنّها تُؤكّد على قرارها.. تؤكّد على خَوْض بِداية جَديدة مَعه. هُو كان للتو يَرْكن مركبته أمام النادي الرياضي عندما اتصلت به والدته تُخبره بزيارة ياسمين.. لذلك أدار المقود ليعود.. قَد لا يكون وجوده مُهمًا أثناء تواجدها.. فهو في الأخير منزل والد زوجها.. كمنزل أبيها.. وهذا أيضًا رأي والدته.. ولكنّه أصَرّ على القدوم.. فهو يَخشى من تَصادمٍ بينها وبين جِنان. أَلْقى السلام فالتفتن لهُ بانتباه.. ابتسمت وعيْناها تَمُرّان على ملابسه وبتساؤل: كنت في الجيم؟
أَجابَ وهو يتّجه للأريكة المُنفردة الجالسة عليها جَنى: اي بس ما دخلت "اسْتَقَرّ في مكانها وهو يُجلسها فوق فَخذيه" قالت لي أمي إنش اهني وجيت على طول
نَظَرت لوالدته التي قالت: قلت له ما يحتاج يجي.. البيت بيتش وفي أي وقت حيّاش.. بوجوده وعدمه
اتّسعت ابتسامتها وبود: تسلمين عمتي
رَبّتت على يدها: وعشاش عندنا ها يُمّه
ضَحكت بخفّة: ما بقول لا
تَأمّلها وهي تندمج في الحديث مع والدته ونُور وجُود الواضح من تعابير وجهها المُجاملة.. كانت تَضحك وتبتسم وتُلقي الأسئلة وتُجيب.. بكل سَلاسة وانسيابية.. كما لو أنّها تُحاول أن تَخلق ارتباطات معهن.. أن تُوثق جذورها في تُربة العائلة.. وهذا بديهي بعد الذي أَفصحت عنه البارحة. تَعَلّق بصره بفراغٍ عشوائي جَرّهُ لساعات الفجر الماضية.
،
وَصَل للشقة في وقتٍ قياسي.. فهو كان مُسْرِع والشوارع كانت شبه فارغة.. فالساعة قَد تجاوزت الواحدة صَباحًا.. تجاوز غرفة الجلوس وعيناه تَبْحثان عنه.. خَطَى لغرفة النوم وقَبْلَ أن يدخلها انتبه لحركة على يَمينه.. التَفَتَ لتُراوغه ريح أُنثوية تَحمل بين جَنباتها خبايا لها وَجْهٌ جَميل.. ومُثير. هُو لا يستطيع إنكار جاذبيتها الواضِحة للأعمى.. ولا جَمالها المُغري جدًا.. خاصّة مع هذه التغيير الرائع.. صبغة شَعر جَديدة.. لون فاتح يُليق ببشرتها البيضاء المُتورّدة.. ملامحها أكثر أَلَقًا وارْتواء.. وجَسَدها بقوامه المَمشوق قَد عانقته أمواج بَحرية.. كانت ترْتدي ثوب نوْم أخاطهُ البحر لإغواء رُجولته.. ولكن.. ولكنّه لا يَسْتطيع أن يَركع لكُل ذلك.. شَيءٌ داخله يَرْفض أن يَنظر لها بذات النظرة التي يُطالع فيها جِنان.. هُو.. هُو لا رغبة له فيها! زَمَّ شَفتيه مُحاولًا أن يَستعين بابتسامة خَرجت مُثيرة للشفقة.. هي أغلقت مصابيح المطبخ وتَقَدّمت إليه وعلى شَفتيها الزهريتين ابْتسامة ناعِمة.. وقَبْلَ أن يتَوقّع أي كلمة أو فِعْل.. جَمّدتهُ بعناقها وهمسها التائق: وَحــشــتــنـــي!
شَدّت عليه وهو لا زال مُتَخَشّبًا في مكانه وذراعاه مُسْبَلتان على الجانبين.. قالت وأناملها تَزوران عُنقه ومن ثُمّ شَعره: كنت غبية.. اللي سويته غبي.. حرمت نفسي منك.. ما توقعت هالكثر بشتاق لك!
أَغْمَضَ وقُبْلتها الرقيقة جَمْرة لَسَعت جانب وجهه.. تشابكت نظراتهما وهو نَطَق ببحّة مُضاعفة: إنتِ بعد وحشتيني "وبصدق" كنت أحاتيش وخايف عليش.. بس قلت أخليش على راحتش مدام تبين هالشي
هَزّت رأسها: ايـه... كنت محتاجة أبتعد شوي وأصَفّي عقلي.. وأعرف أنا شنو أبي
سَألَ ونَبْضهُ يَجري بتحفّز كَبّل أطرافه: وعرفتين.. شنو تبين؟
أَلْصَقَت جَسدها بجسده وابْتسامتها تتحوّل لشيء آخر.. تَتحوّل لثقة.. لتصميمٍ ولحرب.. هَمسَت ورائحتها الطبيعية تُحاصره: أبيـك "ارْتَعد قَلْبه وانْحنت رُوحه بإحباط وهي تُكْمل وعيناها تُلاحقان عينيه" أبيـك وما أقدر أعيش بدونك.. بتغاضى إنها زوجتك وبسوي روحي ناسية.. لأنّي أحبـك.. إنت حلمي لسنين.. مو معقولة أتنازل عنّك من أول عقبة!
ارْتعشت شَفتاه من نياح الابْتسامة التي أَبَت أن تبزغ.. لذلك قَبّلَ جَبينها ثُمَ عادَ واحْتضنها حتى لا تُبْصِر العزاء الذي بَدأت ملامحه بعقده تأبينًا لذكرى الأمل الراحل.. فلقد كان يَسْكن صَدره أَمَلًا صَغيرًا.. صَغيرًا جدًا.. بأن كُل هذا سَينتهي.. بكلمة منها سَينتهي.. وسَيعود هُو لكَنِف جِنان.. لكنّها فاجأتهُ وذَبَحت الأَمل من الوَريد إلى الوَريد.
,
: بابا.. بابا؟
تَطَلّع لابنته بانتباه: نعم بابا؟
أَشارت لهاتفه الصامت: ماما تتصل
أخفض بصره للهاتف وكان اسم جنان على الشاشة.. رَفعه لأذنه مُجيبًا بهمس: نعم جنان؟
هي الأخرى كانت تهمس: إنت تحت؟
: اي
هَمهمت ثُمّ قالت: زين خل جنى تركب عشان تتعشى وتنام "بَرّرت اتصالها" اتصلت لجود ونور وحتى عمتي.. محد منهم رد.. فاتصلت لك
وعيناه تَطوفان على النساء المشغولات بالكلام: اللحين بقولها تركب
سَكتت للحظات قَبْلَ أن تفصح عن سؤال: بتنام اهني ولا بتروح معاها؟
ابتسم وفي نفسه تمنى لو أَنّه يستطيع أن يضحك على وضعه الحالي.. رَدّ بتنهيدة: لا بنام اهني "تهكّمَ" البارحة نمت عندها.. اليوم دورش
بصوت يكاد أن يختفي: أوكي
أَنهى الاتصال وهو يُحادث ابنته: بابا ماما تقول لش اركبي عشان تتعشين وتنامين
هَزّت رأسها ثُمّ قَبّلت خدّه قَبْلَ أن تترك حضنه لتقصد جدتها التي تساءلت: بتركبين يُمّه؟
: اي ماما ليلى.. بتعشى وبنام "قَبّلت خَدّيها" تصبحين على خير
بادلتها القُبلات: وإنتِ من أهل الخير بعد عمري "استطردت بعد أن ركبت الصغيرة" احنا بعد اللحين بنتعشى "وَقفت وبأمر لطيف" جود يُمّه تعالي معاي
اقترحت ياسمين: عمتي خليني أساعدكم
رفضت سريعًا: لا لا حبيبتي.. إنتِ قعدي وارتاحي
مَشَت للمطبخ مع ابنتها التي قالت بنبرة مُبَطّنة: أشوف العلاقة حليوة بينش وبين مدام ياسمين
اسْتَنكرت وهي تُخرج الأطباق: وليش ما تكون حليوة على قولتش!
وَضّحت وهي تغرف الطعام: لا يعني جنان وو
قاطعتها بحدّة: شفيها جنان؟ معززة مكرمة وأحبها حالها حالكم.. ما أعتقد بيضايقها لو عاملت البنية بالحسنى.. هي ما ضرتني وتحترمني وإنتِ تشوفين بعيونش.. معاملتي لها ما راح تزعّل جنان لأنها أكبر من هالتفكير "وهي ترنو لها بطرف عينها" ويا ليت إنتِ حضرتش بعد تكبرين عقلش
,،
أَخبرتهُ ألا يَتأخّر في العودة.. أي أَنّهُ يَأتي إلى المنزل مُباشرة بعد خُروجه من المُستشفى.. لا مشاوير بينهما. سَألها لماذا فأخبرتهُ أنّها اليوم أعَدّت طعام عشاء شَهي جدًا بَذلت من أجلهِ جُهْدًا ليس بقليل.. وكذلك هُناك مُفاجأة له! تَحَرَّكت عَدستاه على الطاولة المُرَتّبة بعناية والمُزَيّنة بشموع وزهور بيضاء وقُرمزية؛ كانت توأمًا للون الفستان القصير الذي تَرْتديه. عَلّقَ وهو يَجلس في المكان الذي أشارت إليه: شهالسفرة الحلوة شِف مَروة!
قالت وهي تجلس أمامه: ترى عندي مواهب واجد بس إنت ما تعرفها
ارْتَفَعَ حاجباه وبابْتسامة خَبيثة لَم تُبصرها بسبب انشغالها في بسط المنديل في حضنها: عرفيني عليهم.. اللحين صار لنا جم شهر مع بعض ولا شفت شي منهم.. بس أنا اللي كل يوم والثاني أعلمش موهبة من مواهبي
عَقّبت باستغراب: مواهبك! "رَفعت عينيها إليه ونظرة البراءة تسكن زُمردتيها" ما شفت شي غير السباحة.. لا تجذب عَلَي
ادّعى الخيبة: أفـا أفـا.. بعد كل هالتعب تقولين ما شفتين شي؟
مالَ رأسها بحيرة بالتوالي مع مَيلان شَفتيها.. رَكّزت بصرها به تُحاول أن تتذكر بعضًا من مواهبه التي يُشير إليها.. لكن عَيْناه المأهولتان بالمَكر وابتسامته اللعوبة وَجّها عَقلها لمقصده الذي احْتَقَن منهُ وجهها بغيظ وخجل.. هَمست وهي تُشيح عنه وتغرف في طبقها: وقح وقــــح "اعْتَلَت ضحكته وهي أشارت لطبقه قائلة برفعة حاجب" اترك عنّك هالضحك وكِل.. عشان لا أكنسل المفاجأة
اسْتَفسَر وهو يغرس الشوكة في قطعة الدجاج المُغرقة بالصلصة الشهية: وشنو نوع المفاجأة؟
رَفعت كأسها بابْتسامة وقَبْلَ أن تَشرب همست: بعدين بتعرف
هَزّ رأسه بانصياع ثُمّ واصلَ تناوله والأَعين كانت المُسيطرة على زمام الحَديث الصامت.. كان يَأكل وفي نَفس الوقت يَتأملها.. يَتأمّل الْتواء الكُحل على جِفْنيها.. وَرْد خَدّيها الطبيعي.. دِقّة أنفها الصغير.. واكتناز شَفتيها اللتان يُقبّلهما اللون القرمزي أيضًا.. ابْتَسَم ومُقلَتاه تنتشيان من ملامحها الآسِرة.. أشار بيده المُمسكة بالسّكين لأقراطها الزّمردية وهو يهمس: حلو التناغم بين لون عيونش ولونهم
تَرَكت السكين والشوكة في الطبق ثُم شَبكت يَديها واستقرت بهما أسفل ذقنها لتقول بغرور يُليق بها: ملاحظة إنّك واجــد تطري عيوني.. بغزل صريح ومُبَطّن.. هالكثر عاجبك لونهم؟
أَرْخى جِفنيه وبظاهر سَبّابته مَسّ أسفل أنفه كاتِمًا ابْتسامة لَم تفتها.. تساءَلت سريعًا بشك: شنو سبب هالابتسامة؟!
مَسَح فمه بالمنديل قَبْلَ أن يسأل وهو يُقَرّب جَسده من الطاولة: تبين الصدق؟
ارْتَفعَ حاجبها المرسوم: طَبعًا!
ضَيّق عينيه وملامحه انكمشت مُفْصِحًا: طول عمري ما أحب الشقران وما يلفتوني كلش كلش وعمري ما توقعت إنّي بتزوج وحدة منهم
ضَحكَ عندما رأى كيف اهْترأت ملامحها بصدمة.. لَم تتوقع ذلك بالطّبع.. كان وجهها غاصًّا بالحالمية وكلماته كانت كالصخرة الهادمة. همست بقهر وهي تُخفض يديها: مالت عليــك.. لازم تسجد لله كل يوم تشكره إنّك تزوجت وحدة مثل جمالي
دافعَ عن نفسه: ترى أشكره كل يوم.. ولعلمش إن تغيّر رايي بعد ما قابلتش
شَخرت ساخرة: لا والله؟ تصدق إنّي بمووت من الأناسة
بَرّرَ: بعد الناس أذواق "استذكر مواقف ماضية" غدير بنت خالتي.. ما أعتقد تذكرينها.. جذي نفسش.. بس ذيك عيونها زرقا.. كنت كله أقول لها واحنا صغار مُستحيل أتزوجش.. جنش شمس فيها عيون
حَرّكت رأسها: سخيف والله سخيف.. وإن شاء الله حضرتها تسكت عنّك؟
ضَحكَ: طبعًا لا.. كانت ترد عَلَي وتقول لي عالأقل أحسن من واحد أجلح أملح جنه تراب
ابتسمت باسْتفزاز: صادقة والله
كَرّر: غيّرت رايي بعد ما شفتش "وبرومانسية مُصطنعة" اللحين الناس له شمسهم بروحهم.. وأنا لي شمسي
ببرود: هـا ها ها.. ضحكتني "استطردت" شكلي فعلًا بكنسل المفاجأة
تراجع للخلف مُسْتَنِدًا قائِلًا بملل: ما تحسين إنش ذليتيني بهالمفاجأة؟ إن شاء الله عاد تطلع تسوى
وَقَفت تتوعّده: أوكي.. أوكي عبد الله.. بخليك تشوفها.. وعقب ما تشوفها بحرمك منها.. مو هي ما تسوى؟
رَفَعَ حاجبه يُشاكسها: راوينا خل نقرر تسوى ولا لا
تَبِعها بنظراته حتى دخلت غرفتهما.. ثواني قصيرة ثُمّ عادت إليه وفي يدها علبة صغيرة بيضاء.. بطول كفّه.. مَدّتها له وهي تجلس: تفضّل
تناولها مُعلّقًا باستهزاء: مفاجأة ومفاجأة وفي النهاية علبة كُبر ايدي!
أشارت إليها وبثقة منقطعة النظير: إنت افتحها أوّل
أزالَ الغطاء لتتضح لهُ وَسطها ورقتان مطويتان على اتّساعها.. أخرجهما وهو يفتحهما.. وقبل أن يقرأ المكتوب لَفت نظره ورقتان ثانيتان.. تناولهما وأخذ يُقلّبهم جَميعًا في يده.. هَمَس بعدم تصديق بعد أن استوعب: لا تقوليــن!
استندت وعلامات الرضا تكسو ملامحها وهي تنطق مُؤكّدةً على الذي بين يديه: تذكرتين لبرشلونة وباريس.. ووياهم تذكرتين للكلاسيكو.. أول شي بنمر برشلونة لثلاثة أيام وبنحضر المباراة.. وبعدها بننتقل لباريس لمدة خمسة أيام
بإعجاب: إنتِ شعرفش بهالسوالف! شدراش أصلًا إن في هالتاريخ في مباراة!
وَضّحت: زوج مرام خبّرني.. هو ساعدني في الحجز
حَرّك رأسه بالرفض: ما يصيــر.. كان لازم أنا اللي أخطط للسفرة
تباهت بنفسها وذقنها يرتفع بزهو: وأنــا سبقتك "سَألته بنظرة تفيض ثقة" هـا.. تسوى ولا ما تسوى!
الْتقط يَدها بين يَديه ليُهديها قُبْلة ثُمّ قال وعيناه تُناغي عينيها الوامضتين: ينقص لساني لو قلت إنها ما تسوى
,،
مَرّ الأسبوع المُتفق عليه.. مَرّ بَيْن الجَبِلِ والأَرض.. بَيْن السُّحبِ والمَطَر.. بَيْن السّفوح المُلْتَحِف عُشْبَها بالجَليد وليالي القَمر.. الليلُ هُنا أَكثر وِحشة وهدوء.. السّماء لها لَوْنٌ واحد.. وكأنّها ارْتَدت ثَوْبًا طُرِّزَ بالنّجوم.. أَحبّت النهار أكثر.. على الرّغم من هَشاشة شَمْسهم إلا أَن نهارهم كان أَكثر دِفئًا وحَياة.. الأكواخ تَتخفّف من الأجساد التي تَحملها الأَرْض برحابة.. في بَعض الأحيان كانت تُسَجِّل الشمس انتصارًا على الثلج.. فيذوب بَعضه.. لكن في أحيانٍ أخرى كانت الغَلبة للوْن الأبيض ولرجل الثَلج الواقِف بابْتسامة. ابتسمت وهي تَرى الأَطفال يَهدونه ملابسهم.. قُبعة صوفية مُلونة.. معطف طويل.. شال وقفازات.. وكأنّهم لا يعلمون أَنّهُ صُنِعَ من رَحم الجَليد.. مما يَعني أَنّ دِفئهُ اسْتحالة.. كالذي يُولَد من رَحمِ الحُزْن.. يُسْتَعصى عَليه أن يَنفصل عنه حتى لَو جَثت السعادة أَمامه على رُكبتيها.. فَهُو يَرفضها وفاءً لأصله. تَجاوزت الأَطفال وبهجتهم لتمضي إلى الشَجرة التي تُسْنِد ظَهره في كُل صَباح ليَشرب قَهوته. وَقَفت بجانبه وهي تَشِدُّ المعطف حول جَسدها النّحيل.. تَعْتقد أَنّ الأسبوع الذي انقضى حَمَلَ معهُ جرامات من وزنها.. حتى ملابسها التي أَتت بها أَصبحت أَوسع قَليلًا.. على الرغم من أَنّها كانت تأكل جَيّدًا!
: من المحاتاة
نَظرت إليه بعدم فهم وهُو الذي كانت عَيْناه مُسْتَقِرّتان على الأَطفال: شنـو!
ارْتَشَف من قهوته ثُمّ التَفتَ إليها مُوَضّحًا: البارحة كنتِ مستغربة ليش ثيابش وسعوا.. واللحين قاعدة تتحسسين خصرش.. فقلت لش إن وزنش نازل من المحاتاة
أَطْبَقت شَفتيها للحظات وهي تنظر إليه بريْبة قَبْلَ أن تنطق بما يجول في خاطرها: إنت تخوّف ترى
ضَحكَ رافعًا حاجبيه: ليـش عاد!
رَدّت بصراحة: جنك تقرا الأفكار.. مو بس أفكاري.. أي أحد.. تفهم للواحد من نظرته وقعدته.. إنت.. إنت تحـس أكثر من اللازم باللي حوالينك!
ابْتَسَم ببؤس وعيْناه تَهربان منها وهو يهمس: ما سعيت لهذا الشي.. جاني غصبًا عني وامتزج بشخصيتي.. للأسف يعني!
تَنَهّدت وفي داخلها تَشتم نفسها المُتسرعة دومًا.. قالت بنبرة مُعتَذِرة: آسفة محمد.. ما قصدت أضايقك
ابَتسمَ وهو يَعقد حاجبيه: على شنو آسفة؟ كلامش صَح ترى "رَفَعَ عَيْنيه بانْتباه لتنفك العقدة وتتسع الابتسامة" وَصَل هاينز
اسْتَدارت لتَرى هاينز مُقْبِلًا إليهما وعلى وَجْهه استراحت ابْتسامة واسِــعة ولطيفة أَجبرتها على الابتسام.. أَصْبَحَ أقرب فكانت ملامحه واضحة.. لَم يتغير وجهه عن الوجه الذي احتفظت به الصورة المُعلّقة على مرآة محمد.. ولكن النضج كانَ باديًا عليه.. تَوَقّفَ أَمامهما باستقامة ثُمّ أَومأ رأسه باحترام ليُحَيّيها بإنجليزية تُثقلها اللهجة الألمانية: صَباح الخير سيدتي.. أهلًا وسهلًا بكِ هُنا.. نتشرف بوجودكِ بيننا
أَوْمَأت إليه: وأنا كذلك.. شُكرًا لك
نَقَلَ بصره بينها وبين مُحَمّد قَبْلَ أن يقول بالألمانية التي لَم تفهمها ملاك: ذراعك يجب أن تُحيطان بها حتى تكتمل الصورة التي حَلُمَ بها عقلي لسنوات
انكمشت بخجل عندما أحاطت كتفيها ذراع مُحَمّد ليُقرّبها لصدره ويقول بذات اللغة وبابتسامة مائلة: هل تقصد هكذا؟
ضَيّقَ هاينز عَيْنه وهو يُهَمْهم نافيًا: لا ليس كذلك.. وكأنّك تحتضن شقيقتك أو والدتك.. الاحتضان يحتاج إلى قليلًا من الحَميمية.. عليك أن تُخفض ذراعك إلى خصــ
قاطعهُ بحدّة ونظرة مُحَذّرة: انتبه لكلماتك هاينز.. ليس كل الكلمات جائزٌ قَولها
رَفَع يَديه بتدارك: أووه أووه.. أعتذر.. لقد نسيت أنا أمام من "نظر لملاك" أعتذر
هَزّت رأسها بالإيجاب دون أن تفهم شيء مما قاله أو قالاه! تساءَل مُحمّد وذراعه تُحرّرها: هل نذهب الآن؟
أَكّد: نعم.. هو ينتظرنا في مكتبه "وبحماسٍ ضاري يَجهل خَفايا المُستقبل" إننا نقترب من النهاية.. سينتهي كُل شيء قريبًا وسنعيش في هناء
شَدّت شَفتيه ابْتسامة كانت كَخَطِّ النهاية المُتَذبذب.. ذاك الذي تَحسبه من شِدّة تَعب الرحلة أَنّهُ الخَلاص.. إلا أَنّه حَقيقةً ليس أكثر من خَط التقاء السّماء بالأَرض.. أي خَطٌّ وَهْمي.. لا وُجود له.. بمعنى أنّه لا وُجود للخَلاص. هذه الابتسامة تَركت أَثَرًا على الاثنين.. هاينز وملاك.. والاثنان اعتصما الصّمت مُحاولان تَجاهل الأَثر.. وتَجاهل ما ورائه من مَجهول. اسْتدارَ إلى زوجته.. تَأمّلها لثواني ما هي إلا سنواتٍ من عُمر النبضات.. ففي الحُب يُصْبِح الزّمنُ أَطول.. فالدقيقة قَد تصبح سَنة.. في الحُب تَهرب نَبْضة من القِلَب إلى ذاكرة الرّوح مُباشرة.. لا خسارة للوقت في الحُب.. فهو باقٍ ومُسْتَمِر في الرُّوح.. حتى ولَو شاخَ المَرءُ وكَبر. هَمَسَ مُوَجِّهًا البوصلة للواقع المُتَدَثّر بعباءة الغموض: لازم أروح
احتضنت كَفّه بكلتا يَديها.. احتضنتها بلهفة قَلبها.. وبفرار طَيْر رُوحها المَذعور.. هَمست وعلى أَعتاب كلماتها لَوّحَ الرّجاء: خذني معاك
أخفض كوبه على الأرْض لتستريح كَفّه الأخرى على يَديها ليُصْبح هو المُحْتَضِن.. شَدّ عليهما قائِلًا ليُذَكّرها: قلت لش من قبل لا نجي إن ما يصير تكونين معاي
أَفْصَحت عن السؤال الصارخ في قَلبها: بتتأخر؟
ضَمّ شَفتيه بتفكير قَبْلَ أن يُجيب: اليوم ما أعتقد بتأخر.. بس الأيام الجاية يمكن أتأخر "خَبت نَبرته وهو يُكْمِل وعيناه تَبُثّان لها بعضًا من تشاؤم لا مَفَرّ منه" ويمكــن حَتــى.. مـا أرجع
احتوى يَديها اللتان باغتتهما رَجْفة الخَوْف.. رَفعهما لِفَمه ليَتُرك بين خُطوطهما قُبْلة لَو نُثِر دِفئها على برلين لذاب جَليدها وانصهر. أَطبَقهما بَعْدَ أن أَوْدَع جُزء من روحه بينهما.. كأنّما يَقول لها احتفظي بها حتى أعود.. أو رُبّما لَن أعود.. فَلتكن هذهِ الوَديعة ذِكرى منّي لكِ بعد الفراق.. أو بعدَ المَوْت! ازْدَردت رُعبها المُتَخَثِّر وَسَط حَلْقها وهي تَجتذب من بقايا غَبَشِ عَينيه حَديثٌ يُنْذِر بالمأساة.. تَرَقْرَقت الدّموع في مُقلتَيها فَأجبرت أهْدابها على الشّلل حتى تَمنع البُكاء من العبور.. فلا داعي له.. مُحَمّد سيعود.. هو قال أنّه سيعود اليَوْم.. لا داعي للبكاء.. أما الأيام القادمة فقَد تتغيّر الأحوال ويُصبح لا حاجة لها.. لا وقت للبُكاء مَلاك.. تَجلّدي.
تَنَشّقت برعشة طارِدةً من صَدرها أَسْمالَ القَلق.. أَلبست شَفتيها تلك الابتسامة المُميزة.. الابتسامة التي يُحِب.. فبادلها بواحدة شاحبة.. هَمَسَت وفي الفؤاد ألف كَلمة وكلمة: بتوحشني
أَكّدَ من جَديد: راح أرجع
هَزّت رأسها وبثقة لَم تكن حَديثة المولد: أدري إنك بترجع
خَطى خطوة للخَلف فانسحبت يُسراه من عناق الأيدي.. نَظرَ لهاينز الذي ابتعد قَليلًا مُنذ أن أمسكت به ملاك.. كان يقف بالقرب من الرّجل الجليدي يَتحدث في الهاتف.. عادَت العينان للتي يهواها الجَوى.. طَلَبَ منها بوجْسٍ شَجي: انتظريني
بحشرجة والدّمع المُتلألئ قَد كَوّنَ غشاءً على بصرها: أنا اهني
خطوة أخرى ويُمناه انحسرت عن كفّها حتى استقرت عند أصابعها.. شَدّ عليها كآخر وداع.. قَبْلَ أن يَمُر بَصره على وَجْهها بأكمله.. في ثواني قَصيرة سَلّمَ على ملامحها ليُعلّقها صُورة على جدار رُوحه الذي اعتاد أن يكون فارِغًا.. إلا أَنّها مُذ أقبَلت على حياته أَصْبَح هذا الجدار مُتَرعًا بالذكرى الجَميلة بجميع أشكالها.. من صُور ومشاعر وكلمات محفورة.. حتى النَظرات سَكنت شُقوقه وسَدّت حاجته. انفصلت اليَدُ عن اليَد.. تضاعفت الخطوات والمسافة اتّسعت.. تَأمّلته والضيق استعدّ للهجرة إلى صدرها.. قالَ أَنّهُ سَيعود.. لكنّها لا ترى في مَلامحه شَمائل العَوْد.. إلا أَنّه عادَ وكَرّر: راح أرجع.. انتظريني
ثُمّ استدارَ عنها لتُهدي الحُريّة إلى أهدابها التي تَصافقت بجنون مُطلِقةً سراح دُموعها.. مَشى دون أن يَلتفت إليها.. لا يُريدها أن تَرى النهاية في عَيْنيه.. لا يُريدها أن تَرى قَباحة كَذِبه.. فهو يعلمُ يَقينًا أنّه لَن يعود.. من اليوم هو لَن يَعود.. فَمُحَمّد ليس بعائد.
,،
أَغلقَ باب الشقة بعد يومٍ طَويل مُثقَل بالاجتماعات.. خَطى خطوتان ثُمّ توقف مُلْتفتًا لانفتاح باب غرفة ابنته الذي خرجت منه جنان بابْتسامة ومن خلفها جَنى تحمل الابتسامة ذاتها.. بادلهما الابتسامة وهو يَقترب ليترك قُبْلة على وجنة كُل واحدة قَبْلَ أن يَسْتدير مُواصِلًا سَيره لغرفة نومه.
: فيصل وين بتروح؟
أَدارَ رأسه إليها وهو يمشي: بروح أتسبح
عارضته جَنى: لا بابا لحظة
تَوقّف وجسده يُقابلهما بانتباه: شنو؟
سَألت جِنان وابْتسامتها التي بَدت لهُ غَريـبة تَتّسع شَيئًا فشيء: مو ملاحظ شي؟
رَدّ بنظرة تنم عن الجَهْل: لا!
ارْتَفَعَ حاجبها وبَسْمتها طالت عينيها: كلش كلش؟
تَقَلقل بَصره عليها.. لا شيء مُختلف.. انتقل لجنى.. هي الأخرى كما هي.. دارَ على الشقة حتى أَنّهُ أخَذَ يدور حول نفسه مما جعل الاثنتان تضحكان.. قالت جَنى مُلقية عليه طرف الخيط: بــابــا.. ثيابي
رَكّز على ملابسها.. بنطال من الجينز الفاتح و "تي شيرت" أبيض.. لا شيء مُميز.. عاد ونظر إليهما.. ما بهما! لماذا هذه الابتسامة وهذا البريق في العيون؟! نَطَقَ بتيه: ترى مو فاهم شي!
ضَحكت جنان: معذوور.. عقلك مسكّر من تعب الشغل
أشارت برأسها لجنى التي أمسكت "التي شيرت" من طرفه السُفلي وهي تقول: بابا اقرا المكتوب
اقتربَ أكثر وهو يُضَيّق عَينيه بتركيز.. احتاج أن يُعيد القراءة لثلاث مرات حتى يستوعب.. انفلتت منهُ شهقة مُفاجأة خافتة وحدقتاه تراقصتا وَسط المُقلَتين بانشداه.. أَغمض للحظات وهو يُحرّك رأسه ويقرفص أمام ابنته.. قَرأ المكتوب للمرة الرابعة ونَبضاته تتحوّر لحماماتٍ تُرَفْرف جَذلًا.. فالمكتوب لَم يكن سوى كلمات طُبعت بالإنجليزية لتقول له: "بعد سَبعة أشهر سأصبح أخت كَبيرة!"
ضَحك.. وضَحك وضَحك.. حتى خالَ أن رُوحه تضحك معه.. احْتضَن جَنى بسعـادة عَميـقة لا قاع لها وهو يَقف ليحتضن جِنان معها ويَسأل ومشاعر الدهشة لا زالت تَعتريه: مــن متـــى!
أشارت لجنى: عندها كل المعلومات
نَظَر لصغيرته التي شَرحت بحماسٍ وسرورٍ باسِم: عمر البيبي اللحين ست أسابيع "أشارت بأنملتها" كُبر حبة البازلاء أو العدس
تَحَرّكت يده إلى بَطْن جِنان ليضغط بحنو وعَطف وحُب أبوي عَميــق: عُمري عُمـري النتفة.. الحمد لله رب العالمين.. الحمد لله
تساءَلت وهي تتعلق بكتفه وعيناها تهيمان في الحنان الفائض من مُقلتيه: مستانس؟
ضَحكَ بابتهاج: حــدددي مستانس.. كلش ما توقعت ولا كان في بالي
شاركته الضحكة: واااضح
أَفْصَح لها: بس تدرين شنو أحاتي؟
عُقْدة خفيفة: شنو؟
اتّسعت ابتسامته: أحاتي جودو.. شيفكنا من لسانها!
انتهى
|