كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الستون
الفَصل الأول
رَنينُ الهاتف وَلَجَ إليها مُخْتَرِقًا الفُقاعة المُحيطة بحواسها فانْتَبَهت.. التَفتَت ناحية السرير.. كان قَد انقلبَ إلى يساره لِيَتناول هاتفه القَريب بعينين نِصْف مُغْلَقتين.. أَلغى المُنَبّه ثُمّ أعادَ الهاتف مَكانه قَبْلَ أن يَسْتَريح على ظَهْره ويَزْفر.. نَظَر للسقف لثواني ثُمّ دَعك عَيْنه برسغه وهو يَتثاءب ويَرفع جَسده جالِسًا.. أزاح الغطاء عنه في الوَقت الذي التَفتَت فيه عَيْناه جانِبًا وَأَبصرتها.. عَقَد حاجِبَيه وهو يعود لينظر للساعة.. تَساءَل مُسْتَغِربًا ببحّة النّعاس: ليش مو مداومة؟
أَجابته بخفوت: تعبانة شوي.. أخذت إجازة
اسْتَفسَر: مريضة؟
نَفت: لا.. شوية إرهاق
تَرَكَ السّرير واقترب منها وعَيْناه تَطوفان مَلامحها بتفحّص دَقيق.. كانت تَجلس على المقعد بالقرب من الشُرفة بساقين مَرْفوعتين.. تَرْتدي كنزة صوفية لها لونٌ زُبدي تَمتد لما بعد أناملها وتُغَطّي أصابع قَدميها.. شَعرها قَد جَمعتهُ عند قِمّة رَأسها بفوضوية باهِتة تَنم عن التيه.. كانَ وَجْهها شاحِبًا بطريقة غَريبة.. كَما لَو أَنّها قَد رَأت شَيئًا لَم تَره أعينهم. اتّكأ جانب جَسده بالنّافذة وعَيْناه لَم تَقْطعان رِحلة البَحث.. لذلك حَرّكت عَدستيها بهروبٍ جَلي وعادت لتأمّلها.. أَفْصَحَ بَعْد صَمْتٍ دامَ للحظات: مروة.. إنتِ مو طبيعية.. صار لش جم يوم على هالحال "وبسؤال يُخامره الشك" صاير شي؟
نَظرَت إليه مُطَوّلًا بلا تَعابير وهو بادلها بنظرات الاهتمام.. مَرّرت لِسانها على شَفتيها لتقول بهمس وهي تَلجأ للنافذة من جَديد: مو صاير شي.. لا تحاتي
سَألَ: أكيــد؟
رَدّت وهي تعلم بكذبها: أكيـد
هَزّ رأسه: زين.. الحمد لله "أشارَ لدورة المياه" بدخل أتسبح "وبتساؤل" متريقة؟
حَرّكت رَأسها بالنفي: مو مشتهية
زَمّ شَفتيه حابِسًا الكلمات قِسْرًا.. ضَربَ قَبْضة يُسراه براحة يَمينه بضربات خفيفة مُتتالية: أوكي.. على راحتش "كَرّر" أنا بدخل أتسبح وبعدين بروح الدوام
هَمست بنصف ابتسامة: تمام
ابْتَسَم بخفّة ووَسط مُقَلتيه كانت الأَسئلة تَحوم بَقلَقٍ وحيرة.. اسْتدارَ بَعْدَ أن جَنحت إلى النافذة مُواصِلة تأمّلاتها الصّامتة والتي يَعلم يَقينًا أَنّها تُخفي في جَوْفها الأَجوبة على جَميع أَسئلته. دَلفَ لدورة المياه وهي أَرْخت رَأسها على رُكبتيها وبالتوالي عَبَرت بوابة عَيْنها دَمْعة مَضت حتى اسْتَقَرّت على أَنفها.. الحُلم يَرفض عَتقها.. لا مروة.. هذا ليس بحُلم.. هذا كابوس.. كابوس مُرْهِـق للحَد الذي لا تقواه رُوحها.. لَم تَسْتَطع أن تَنعم بنومٍ هانئ منه.. كُلّما انقَلبت إلى جانب فَتح الكابوس لها فَمه مُكَشّرًا عن أَنيابه.. كُل زاوية تُولي إليها تَتعثر عندها بجسد عبد الله المُنكمش والذي يَتلقى بلا حيلة ضَربات سَوطها القاسي.. أَغمضت تَشد على جِفْنيها تُحاول أن تَمْسح الصورة من ذاكرتها.. أن تَنسفها من مركز أحلامها.. أن تُحَوّرها لحُلمٍ بَهي.. لكن لا فائدة.. فهي عندما يُحيطها الظلام بأي شكلٍ من الأشكال يَزْداد تَرَكّز الكابوس في وِعاء واقعها.. لذلك تُرْغَم على أَن تَرْتشف منه وبالتالي يَزْداد تَعب رُوحها.. فالعلاقة كانت طردية بين الكابوس وبين وَجع رُوحها.. كُلّما تَضاعف أحدهما.. تَضاعف معه بانصياع الآخر. مَسَحت الدّمعة الجافة بحركة مُرْتَبِكة عندما عادَ للغرفة مُنهيًا اسْتحمامه.. أَزاحت الربطة عن شعرها سامِحةً لخصلاتها أن تَسْتر وجهها الفاضح دواخلها عنه.. نَظرت إليه عندما قال بلُطف وهو يُحَرّر خصلات شعره من ثِقل الماء: شرايش حبيبتي تنزلين معاي تحت؟ الريوق بعده موجود.. قعدي على الطاولة يمكن تشتهين شي
وافقَت سَريعًا حتى لا تُثير الشكوك وأَخفضت ساقيها إلى الأرض.. وَقفت وارتفعت بوقوفها الكنزة الواسعة التي كانت بالكاد تُلامس رُكبتيها.. تَحَرّكت لغرفة الملابس وهو تبعها مُلْتَقِطًا قَميصه المُعَلّق.. ارْتداه أثناء ما كانت هي تتخيّر لها مَلابس أمام الخزانة الكَبيرة.. عَلّقَ وهو يَتطَلّع لساقيها المكشوفتين: جنش تدورين المرض دوارة "التَفَتت لهُ باستفهام وهو وَضّحَ" مو متدفية عدل
بذات الهمس الذي لازمَ صَوْتها: عادي مو بردانة واجد
ارْتَفَعَ حاجِبه وَلم يُعَقِّب.. فهي كما لاحظَ وكما أخبرته من قَبْلَ؛ أنّها تَبرُد سَريعًا ولا تتحمّل أجواء هذه الفترة من الشتاء.. غَريب أمركِ مَروة! انتهى من ارْتداء ملابسه.. اقترب منها حتى اسْتَقَرَّ خَلْفها.. كانت تستعد لارْتداء سترة أَثْقَل بقليل من التي كانت تُغَطّي جَسدها.. لكن حَركة يَديها تَجَمّدت من فِعلته.. فهو أحاطَ خِصرها بذراعه.. أَبعدَ خصلاتها عن كَتفها ثُمّ أَخْفَضَ رَأسه وقَبّله.. اقْشَعر جَسدها ولَم يَفُته ذلك.. رَفع رَأسه قَليلًا ليهمس في أذنها: أي وقت تقررين تتكلمين فيه راح أكون موجود عشان أسمعش "طَبَعَ قُبْلة خَفيفة خَلف أُذنها قَبْلَ أن يبتعد عنها ويستطرد" أنا أنتظرش برا
ظَلّت مُتَصَلِّبة في مَكانها حتى بَعد أَن خَرج.. تَكَوّمَت الغصّات في حَلْقها فاسْتوت ثِقْلًا يُعارض مُرور الأنفاس.. هُو يَعْلَم أَن بها عِلّة.. يَعلم أَن رُوحها تنزف بصمت.. يَعلم أن قَلّبها قَد تَضَخم من تكالب المشاعر وتناقضها.. هُو يفهمكِ مروة.. يَستطيع أن يَقرأ الكلمات المُتوارية خَلْفَ صَمتكِ.. حَوَرُ عَينه قَد التقَطَ من بين طَيّات ملامحكِ الدمع المسجون وهو يَصرخ بضياع.. بحسرة.. وبأسف. تَحَرّكت أهدابها بسرعة مُتفادية انهمارٍ تَعلم أَنّها لَو سَمِحت به لَن ينضب نَبعه بسهولة. تَنَشّقت نَفَسًا مُرْتَعِشًا وهي تستر جَسدها على عَجل.. رَفعت شَعرها ذيل حصان ثُمّ تَطَيّبت بعطرٍ خَفيف قَبْلَ أن تُغادر غرفة الملابس لتلتقي به.. ابتسمَ ويَده تُمَد إليها.. رَدّت الابتسامة بأخرى مُشوهّة ثُمّ شَبكت أصابعها بأصابعه لتمضي معه للأسفل. دَخلا غرفة الطعام التي خَلت من الجَميع عَدا والدته.. قَبّلَ رأسها في الوقت الذي كانت تَجلس فيه مروة على مقعدها بعد أن ألقت التحية بخفوت.. اسْتَفسَرَ وهو يَضع له بعض الطعام في طَبقه: وين غيداء؟
أَجابت بعد أَن ارتشفت من كوبها: ترتب برا.. من قعدت هي وتشتغل
عَقَدَ حاجِبَيه وبابْتسامة: توها تسع والجَمعَة ما بتكون إلا المغرب!
حَرّكت كتفها: قلت لها بس على قولتها تبي تخلص قبل الوقت عشان يمديها تريّح قبل لا يجون
هَمْهَم وهو يسكب له الحليب.. التَفتَ لزوجته بسؤال: شنو تبيني أحط لش؟
فَتحت فمها لتُجيبه لكنّ بَلقيس نطقت بضحكة تعرف مروة خَباياها جَيّدًا: حَبيبي عندها إيد.. هي بتحط لها.. إنت تريق
ابْتَسامة مائِلة شَدّت شَفتيه وعيناه تَشابَكتا مع عَيْني والدته وباعتراف صَريح أّضاقَ الاثنتين: أحب أدلعها يُمّه "عادَ وحادَثَ زوجته وهو يتناول طَبقها" شنو تبين تاكلين؟
رَدّت والشّحوب لا زال يغزو مَلامحها: أي شي
اختارَ لها أصناف خَفيفة لا تُرهق مَعدتها.. سَكَب لها الحليب ثُمّ قَرّب الطبق والكوب إليها: بالعافية
شَغلت نَفسها بالطعام وهو أخذ يتناول إفطاره البسيط وبين الفينة والأخرى ينظر لساعته.. شَرَبَ الباقي من الحليب ثُمّ وَقَفَ وهُو يُوَجّه كلماته لمروة: أنا بغسّل وبروح المستشفى" أشارَ لطبقها الذي لَم يحدث فيه تغيير واضح" اكلي
رَفعت الشوكة مُشيرة لقطعة الجُبن: آكل
ابْتَسَم بنصف رِضا قَبْلَ أن يُلَوّح لهما وهو يَبتعد للخارج: مع السلامة
وَدّعته والدته بصوت مَسْموع على عكس هَمس مروة الهزيل: في حفظ الله حبيبي
مَضَت دقائق كانت مروة فيها تَعبث بالطعام بملعقتها وبَلقيس تَتَفقّد رسائل هاتفها.. دَخلت الخادمة لتقف باحترام بالقرب من بلقيس وبتساؤل: هل أنظف الطاولة؟
أغلقت الهاتف وهي تُجيب: نظفيها بعد أن تنتهي السّيدة مروة "وَقفت" سوف أذهب لغرفتي لأستريح قَبْلَ أن أمضي للتسوق.. "وبأمر" لا أُريد أن يَزعجني أحد
أَوْمَأت الخادمة بطاعة ثُمّ انصرفت.. أَلقت نظرة على مروة العاقِدة صَداقة صامِتة مع طَبقها ثُمّ تَحَرّكت باتجاه الباب..
: أنا مستغربة!
التفتت بانتباه لكلمتها.. عُقْدة عَدم فهم قَرّبت ما بين حاجِبَيها وباسْتفسار مُسْتَنكِر: شنـو؟
كَرّرت وهي ترفع بَصرها بهدوء لتكشف عن نَظرة ثاقِبة: أنا مستغربة.. مستغربة شلون إنتِ قادرة تواصلين حياتش بكل أريحية بعد اللي سويتيه!
دارت عدستاها على وجهها بريبة وجسدها يَستدير بالكامل لها.. قَبَضت يَدها وفقرات ظَهرها تَسْتقيم بالتوالي مع ارْتفاع ذقنها.. مُتّخذة بذلك دَوْر المرأة الواثقة والمُتَصَلِّبة.. رَشّحت صَوْتها من لحن التّوجس لتتساءل: إنتِ شنو تقصدين؟!
تَركت مروة المقعد وخَطت إليها.. وَقَفت أمامها ترنو لها بعقدة خَفيفة وعَيْنين غائمتين.. عَيْنين مدفونٌ في لحدهما ذِكرى والدتها المَظْلومة.. رَمشت ببطءٍ به شيء من تَبَلّد قَبْلَ أن تُجيب بوجْسٍ نَفَذَ إلى صَدر بلقيس سَهْمًا قاتِلًا: أقصد.. اللي سويتيه في أمي.. وفي طلال.. وفي نور!
ألقت قُنبلتها التي أعلنت بدء الحرب بين الاثنتين ثُمّ تَجاوزتها لتقصد الحَديقة حيث تعمل غيداء بحماس.. هي تعمّدت ألا تصعد لشقتها.. لا تُريدها أن تلحق بها وتُواصل النقاش الحامي معها.. لذلك التجأت لغيداء حتى لا يتسنى لها مُحادثتها بوجودها.. تُريدها أن تُجرّب الجنون قَليلًا.. أن تتقلّب على الجَمر وأن تشُم نتانة صَبرها وهو يَحترق.. فَلتَتعرّف على القَلق.. فَلتلعق الرّعب ولتُقَيّد وَعْيها الوساوس.
,،
قبل يومين
أَرْخَت حِجابها على كَتفيها وبتساؤل: وين حُور؟ نايمة للحين؟
نَفت: لا.. طلعت من قبل السبع رايحة لأمها
عَقَدت حاجبيها: ليش شنو فيها؟ تعبانة بعد؟
هَزّت رأسها: لا والله.. مكلمتها البارحة.. صحتها زينة وتحسّنت "وبتنهيدة يخامرها الهَم" بس حُور من صار اللي صار وهي تتهرب مني.. على طول في بيت أمها.. وإذا جت تقعد معاي شوي بعدين تركب.. حتى إذا تكلمني ما تحط عيونها في عيوني
عَقّبت: أنا كنت حاسة إن بتصدر منها هالتصرفات.. أعرفها.. أكيد محسسة نفسها بالذنب والفشيلة
: أنا أقول خلها اللحين.. بعدها مصدومة من الخَبر
نَطقت بتردد وعَيْناها تُناظران والدتها بحذر: لكن إنتِ يُمّه ما حسيتش مصدومة واجد
أَفْصَحت بابتسامة أَمالها الأَسى: لأن أبوش سَبق وحذرني منه.. بس بطريقة غير مُباشرة
ارْتَفعَ حاجِباها: شلــون! شنو قال لش؟
أَجابت بجفنين مُرْتَخيين وكأنّها تَسْترجع مَلامحه وصَوْته فيما مَضى: كان على طول يقول لي لا تثقين في أحد غير نفسش.. لا تقولين أبوي أو أمي.. لا أخو ولا صَديق ولا عدو.. توقعي أي شي.. أي شي.. لو صار ومت.. أو انقتلت.. لا تستبعدين أي شخص إن يكون هو قاتلي.. لا تقولين مُستحيل.. أنا تعلمت إن المُستحيل من السوء في هالدنيا يصير.. سواء اللحين ولا بعد سنين "رَفعت عَينيها لابنتها مُرْدِفة بنبرة أَخْفَضها تعاضد الأَلم بالحَنين" والمُستحيل كان إن سُلطان يقتل رفيق دربه.. يقتل صالح.. بس صدقته.. لأن صالح نفسه قال لي إنّه بيصير
بحشرجة وفؤاد مُتَضَخِّم: الله يرحمك يُبه "ابْتسمت لوالدتها بحُزْنٍ يُلاطفه امتنان ويدها احْتَضنت كَفّها القَريبة" كنتِ إنتِ معاه في الوقت إلا الكل تخلى عنه
بادلتها الابتسامة مُضيفةً: كان يبيني أتخلى عنه.. عشان جذي طلقني.. عشان يحميني طلقني
ضَغطت على كَفّها: بس بعد ما خليتيه
ضَحكت بخفّة وبحاجب أَرْفعتهُ الثقة: طبعًا.. قبل لا تخلص العدة خليته يرجعني "أَكْمَلت بلحنٍ مُرتاح" مع إنّ مُستحيل أشبع من وجوده قبل فَقده.. بس الفترة اللي قضيناها وأنا على ذمته صَبّرتني على فراقه.. كل ما أشتاق له تكون ذيك الفترة الدوا اللي أَسكّت به وجعي " تَمْتَمت بآه مَخفية" الله يرحمك يا صالح
هَمَست: الله يرحمه "استدارت ناحية المَدخل بانتباه لقدوم شَقيقها.. رَحّبت به بابْتسامة بَعْد أَن طردت الرمادية عن مَلامحها" هـلا حبيبي يوسف
ابتسم بخفّة: السلام
ردّت الاثنتان: وعليكم السلام "استفسرت والدته بحذر وعَيْناها تَتفحّصان مَلامحه" شخبار جلسة اليوم؟
بهدوء وبذات الابتسامة: الحمد لله الأمور قاعدة تتحسن
تَمْتمت براحة: الحمد لله
سادَ الصّمت لنصف دَقيقة قَبْلَ أن تُنهيه مَلاك بسؤالها الحَذِر: يوسف.. كلمتك حُور؟
تَقَلّصَت ابتسامته وبَهتت ملامحه بطريقة شَاغبت قَلق والدته التي هَتفت بعدم فهم: شنو؟ عن شنو تكلمه؟
تَطَلّع لها لثواني ثُمّ حَرّك عَدستيه لشَقيقته ليُجيب بخفوت: اي.. كلمتني
كَرّرت الوالدة المُسْتَقِر صَبْرها على مَوْقَد من نار: شنــــو؟ عن شنو تتكلمون! خوفتونـي
مَرّر لسانه على شَفتيه ثُمّ أجاب باختصار وبنبرة مُنخفضة: مَلاك ومحمد شاكين إن الخدامة.. انترجن.. من صوب سلطان
عُقْدة تَوَسّطت ما بين حاجبيها دلالة على عَدم استيعابها: شنـو؟ يعني شنو من صوب سلطان؟ أكيد هي من صوبه.. هو اللي جابها تشتغل اهني
نَطقت مَلاك تَشرح لها: لا يُمّه.. احنا شاكين بدرجة كبيرة.. مُمكن نكون حتى متأكدين.. إنها تشتغل لصالحه.. يعني هو زرعها اهني وسط البيت عشان تضر يوسف
أَحاطَ مُقلتيها اتّساعٌ مَصْدوم وبصوتٍ يَكادُ أن يغيب: شــ ـ...ـشلون!.. شدراكم!
اعترفت مَلاك: قبل فترة سوت لنا عصير اهني.. أنا شربت منه واعتفست حالتي.. لدرجة إن محمد اضطر يوديني المستشفى.. وهناك سووا لي تحاليل.. وطلع في النتيجة إني شاربة مادة خطيرة تهاجم الوعي والأعصاب
شَدّت بَكفّها الراجفة على ذراع المَقعد وهي تَسأل بأنفاس سريعة: انتو.. متأكدين.. إنها.. حطت شي في العصير؟
بثقة منقطعة النظير: اي يُمّه متأكدين.. التحاليل ما تجذب.. يعني من وين بتجي لي هالمادة؟ وأنا ما دخل بطني غير العصير اللي هي بنفسها عصرته.. هذا غير اسمها
عُقْدة وسؤال: شفيه اسمها؟
وَضّحت وهي تُخفض من صَوتها: يُمّه محمد قال لي إن انترجن اسم ألماني.. معناه مكيدة.. أو دسيسة.. يعني هو جابها لوسط بيت أخوي مكيدة لنا
واصَل عنها يُوسف ومَلامحه قَد غارَت فيها ذكرياتٍ سوداء لطالما كانت مُبْهمة: يُمّه أنا صدق ضريت حُور واجد.. وضريت غيرها بعد.. بس بعض الأحيان كنت أحس إن في شي غلط.. أشوفها مجروحة.. أشوف وجعها وأشوف الدم.. بس إحساسي يقول لي هذا مو أنا.. مو أنا اللي تسببت بجرحها.. أكون كأنّي ضايع.. تايه.. شلون وصلت لها؟ شلون ضريتها! شلون قدرت! " أَرْخى طَرْفه" أنا الأوقات اللي.. جرحتها فيها.. أذكرها.. أعرفها.. ما أقدر أنساها لأني للحين أتألم منها.. إذا هي وَقّف نزفها.. أنا نزفي ما وقف.. لكن بعض المواقف ما أذكرها.. وكأن تفاصيلها مَمسوحة من عقلي.. أو.. أو كأن في شي في النص ناقص.. حَلَقة مفقودة أو طرف خيط ضايع! "رَفَعَ جِفْنيه لينظر لوالدته ويُكْمِل بتيه" هذي المواقف.. دايمًا إذا تصير أكون فاقد وعيي.. يعني أوتعي وأشوف إنها صارت.. متى وشلون.. ما أدري!
مَلاك بخفوت وهي تُراقب وَجْه والدتها المُضطرب: احنا فكرنا في السايق بعد.. إنّه يكون متعاون معاها
أَغْمَضَت وهي تَشْعر بقواها تَنسل من أَطْرافها.. مالَ جَسدها بإعياء وَلّدتهُ السموم المُترسبة من بين الكلمات التي نَطقا بها.. وَضعَت يَدها على أُم رَأسها وهي تهمس بصوتٍ غالتهُ الرّعشة: يا الله... يا الله "أبصرت لتنظر لهما بلَوْم" ليش توكم تتحجون! ليش ما خبرتوني من قبل؟ وليــش ما طردتونهم من البيت!
شَرحت لها ملاك وجهة نظرهم: يُمّه احنا ما نبي نتصرف بطريقة تثير شكوكهم وتخليهم ينقلون الأخبار لسلطان.. اللي علينا اللحين إن نكون حذرين ومنتبهين لهم.. وأهم شي ما يظل أحد بروحه معاهم.. أقل شي يكونون اثنينه مع بعض في البيت في نفس الوقت
ضَربت فخذها بضربات مُتتالية.. رَتيبة.. لَحُنها القَلق.. هَمست بصوتٍ غَشاهُ الخَوْف: يا ربي.. يا ربي الطف بحالنا.. يا ربي رد كيده في نحره.. رد كيده في نحره.. شيبي فينا؟ شيبي؟ صالح وأخذ منه روحه.. عذبه وذله وحرمه عياله وحياته.. بهذل ولدي وبهذل عيشته.. شيبي زود؟ شيبــ ـــ ـي!
مالت عليها بسرعة واحتضنت كتفيها وهي تتوسّلها: يُمّه لا تصيحين.. لا تزيدين تعب قلبش.. والله احنا ما كنا نبي نقول لش.. بس من خوفنا عليش.. نبيش تحذرين منهم وتاخذين احتياطش.. ما ندري شنو ممكن يسوون " شَدّت على كتفها بيد وبالأخرى أَزاحت دموع الخَشية والقَهر عن خَدّيها" حَبيبتي يُمّه.. عمري إنتِ.. لا تخافين.. صدقيني ما راح يقدر يسوي شي زيادة.. الشرطة قاعدة تشتغل على نهايته.. قريب راح يحصّل جزاه ونرتاح من جنونه.. قريــب
بوَجْسٍ يَتَطَلّع لمُسْتَقبَلٍ مَجْهول الخَطر: الله يستر.. الله يستر
على الجهة المُقابلة كان يُوسف يُتابع المَشْهد بظَهرٍ مُنحني وَأصابع يَد ضائعة بين خصلات شعره.. لا يدري لماذا هو يَشعر بالذنب.. على الرغم من أنّه أكبر المُتضررين.. إلا أَنّ إحساس الذنب لا ينفك عن جَلد ضَميره.. وكأنّهُ آَسِفٌ على سوء حاله الذي مَنعه من احتواء هذه العائلة بجنحي رجولته. كان في تلك اللحظة والبنتُ تَحْنو على الأُم الباكية؛ مُسْتأنِسًا بثقل الذنب.. فتلك البريئة لا تقوى على وَجعه.. فلو كانت هُنا لانهارَ كَيانُها من فَرط الَألم.. فهي ومُذ انكشف الذي انكشف، لَم تتوقف عن إطعام ذاتها النّدم غَصْبًا.
,،
الوقت الحالي
سَألت وهي تُسْنِد جانب جَسدها بِإطار الباب: ما بتنزلين تتغدين؟
هي المُسْتَلقية وَسَط السّرير فَوْقَ بَطْنها أجابت بهمس ويدها تُقَلّب الهاتف: مو جوعانة
عَقَدت ذراعيها ورأسها يَميل بكَلل: صار لش يومين على هالحال.. بس تقلبين في هالتيلفون من غير ما تتصلين
رَنت لها بحدّة وهي تقول: بتّصل
اسْتَفسَرت ساخِرة: وشنو راح تقولين؟
أشاحت عنها مُعيدةً بَصرها للهاتف المسكين وبنبرة بها شيء من برود مُصْطَنع: اللي بقوله شي خاص بيني وبينه
حَرّكت يَدها في الهواء بعدم اهتمام وجَسدها يَسْتقيم: ما لنا دخل "استطردت تُنهي النقاش" راح أرفع لش على صوب من الغدا.. وقت اللي تبين تاكلين بتشوفينه في المطبخ
ابتعدت عن الغرفة لتهبط للأسفل حيث تتحلق عائلتها الصغيرة حَوْل المائدة.. أَما شَقيقتها المُسْهِبة في الضياع؛ فَلم تَترك سَريرها ولَم تَفُك وَثاق الهاتف.. فتحت قفله لتبحث بين التطبيقات.. لَجأت لتطبيق "الانستقرام" للمرة العاشرة لليوم أو رُبّما أكثر.. قَصدت حسابه الخاص لتتطلع على آخر صورة تَمّ تَحميلها.. تَضاعفت الفَجْوة وَسط قَلْبها فَبدا كما لَو أَنّهُ يَتآكل.. من الغيرة. ضَغَطَت على الهاتف بكلتا يَديها وأَنفاسها تَتسارع بغيظٍ وقَهر.. مُنذ الصّباح وهي تَحوم بعينيها على هذه الصورة.. صورة بسيطة في ظاهرها ولكن فحواها كان عَميـق جدًا.. يُشير لخفايا يَرفضها واقعها المُبَعثر.. كانت الصورة تَجمع بينه وبين ابنته.. هُو فيصل مع جَنى يقرفصان بالقرب من ثَلاثة بطاريق قَصيرة وَسَط مُنتجع التزلج الكائن في مَدينة دُبَي.. قَد تَسَرْبَل المكان من حَوْلهم ببياضٍ ناصِع أَضفى صَفاءً على بَشرتيهما القَمحية.. ابْتسامته كانت أَصْلًا للفَرع النابت فَوْقَ شَفتي جَنى.. العَينُ تُفْصِح عن سَعادة لها ضَجيج وَلَج إلى رُوحها نَعيقًا يُهَدِّد بالخَطر.. هذه الراحة.. وهذا الجَذل وذلك الألَق يُحيطون بهما كهالة بَرّاقة.. تَشي بعودة النّهر إلى مَصَبّه.. والجِنان إلى مملكتها الخاصة. هُو سافر مع جِنان وجَنى إلى دُبي ليومين فقط.. لَم يخبرها ولَم يُحادثها حتى.. وكأنّ هُجرانها أعجبه وأتى مُفَصّلًا على مقاس هواه ونوايا جواه.. هي بالصدفة عَلِمت بسفره.. فبما أَنّها تُراقبه على حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة به.. تَبيّن لها أَنّهُ مُسافر من خلال إحْدى التغريدات التي غَرّدها.. فموقع مُسْتَقرّه كان واضِحًا أَسْفَل التغريدة. في البداية ظَنّت أنها رحلة عَمل.. لكن عندما شاهدت هذه الصورة انشطَرت أَمانيها وبُصِمَ بدمائها أَنّه غادَرَ البلاد برفقتها.. برفقة حَبيبته! أَلَقت الهاتف على الوسائد بِغَضَبٍ مَكْتوم وحارق.. يَتصاعد لَهيبه في جوفها ساعة بعد ساعة.. غبيّة.. غبيّـــــة.. ابتعدت عنهُ باختيارها، رَفضت مُقابلته ورَفضت الحَديث معه.. تَجاهلت مُكالماته ورسائله عَمْدًا ظَنًّا منها بأَنّهُ سَيأتيها وهو من فَرط الشّوْق زَاحفًا.. نَست.. نَســـت بأنّ حتى جِنـــان خَسِرت أمام غُروره العَتيد.. فكيف بها هي التي لَم تَملك من القَلب شيء! تَرَكت السَرير بحركات سَريعة وحازِمة.. مَسَحت وَجْهها بجلافة حتى احْمَر ثُمّ ارْتَدت لها غطاء رأس واسع يَصِل حتى أسفل رُكبتيها.. غادرت الغرفة إلى الطابق الأرضي.. تساءَلت شَقيقتها بحاجب مَرْفوع وهي تُراقب نزولها من السّلم: ها غيرتين رايش وبتتغدين؟
لَم تُجِبها، فهي وقفت بجانبها وبَسَطَت كَفّها تحت نظرات أَحمد والأبناء.. وبجفنين مُنخفضين: عطيني تيلفونش
مالت شَفتاها بيأسٍ من تصرفاتها المُراهِقة: ياسمين ما خلصنا من هالحركات؟!
كَرّرت من بين أسْنانها ومَلامحها تَتَجهّم أكثر فأكثر: عــطــيــنـي تيـلفونـش
زَفَرت بضيقٍ منها وعَليها وباسْتسلام تناولت هاتفها من على الطاولة لتضعهُ في يَدها.. تراجعت ياسمين للخلف وهي تستدير باتجاه غرفة الجلوس.. وَقَفت عند إحْدى الأرائك وحواسها جَميعها مُندمجة معها.. كما لَو أَنّها تَفك شيفرة ما أو تُبْطِل مَفْعول قنبلة مُدَمِّرة.. لكن الذي كانت تفعله أبسط من ذلك بكثير.. فهي كانت تُراقب حساب فيصل في برنامج "السناب شات" من خلال حساب شَقيقتها. تَسارعت نَبضاتها عندما ظَهرَ لها اسمه بين القِصص.. ضَغطت على الدائرة لتمتلئ الشاشة بالصورة التي يُشاركها.. دَقّقت جَيّدًا في المكان.. المَطار.. إذن هم عائدون؟ أم أنّ لهم وجهة ثانية؟ تجاهلت أَسْئلتها ومَرّرت عَدستيها على باقي مُحتويات الصورة.. كانت صورة شخصية له ولجنى النائمة بتعب جَلي على المقعد الذي بجانبه.. ويبدو بوضوح أن رأسها يَتَوَسّد فخذ أحدهم.. أو إحداهن.. فَطَرف عباءتها كان ظاهرًا.. وعلى الجانب قَد كَتَبَ تعليقًا بالإنجليزية مُشيرًا إلى ابنته "هكذا يكون حالك بعد رحلة سَريعة غير مُخَطّط لها!". بعد فترة تأمّل تجاوزت الدقيقتين رَفعت بَصرها لأعلى الشاشة.. الصورة مُنذ ثلاث ساعات.. إذن لو كانوا عائدين فلا بُدّ أنّهم الآن هُنا.. أي هُو هُنا. أغلقت الهاتف وهي تجلس بهدوء وعَقلها مَشْدوهًا للفكرة التي بَدأت تتَبلور على سطح عقلها بلا مُقَدّمات.. اتّكأت بمرفقها على فخذها وأَسْنَدت يدها لذقنها لتغوص بين تلاطم أمواج رحلتها "المُخَطّط" لها.
,،
ماضٍ
تَرمقها بنظرات الصّدمة.. الاسْتنكار.. التكذيب والضّحِك أيْضًا.. نَعم كان من بين قَبائل نظراتها المُتناقضة لَمْحة ضحِك تُتَرجم عَدم الاستيعاب الذي سَيْطَرَ عليها.. فَتحت فمها للحظات كما لو أَنّها تَسْتعين بالهواء لتنطق ببطء شديد: إنــتِ... تـمـزحـيـن! صَـح بلقيس؟ إنتِ تمزحين
بَلقيس بوجهها المُتَصَلِّب المَلامح وبِعَيْنيها المَغْمورتين بشيءٍ لا تُعلَم خَفاياه؛ رَدّت بنبرة هادِئة ومُسْتَقيمة، لا فيها انخفاضات ولا ارتفاعات.. نَبرة عَبَرت نواياها على وَتيرة واحدة: لا ما أمزح.. أنا جادة أكثر من أي وقت ثاني في حياتي
هَزّت رأسها تَرفض كلامها وترفض انغراس بذوره في تُربة عَقلها الطاهرة: لا.. مُستحيل.. إنتِ.. إنتِ تمزحين.. مُستحيل تهدمين بيته.. مُستحيل تهدمين بيت ولدش بإيدش!
عَلا حاجبها والنَبرة اعتلت: أهدمـه! "صَحّحت لها بثقة تَكاد أن تحجب لهيب الشّمس" إلا قولي بانقذه قبل لا ينهدم فوق راسه وهو مو داري.. هــذي إذا تركتها على ذمة ولدي راح تدمر حياته واحنا متفرجين.. أنا بانقذه قبل لا تنهي لعبتها
فَزّت واقِفة وبانفعال: أي لعـــبة! أي لعبة بلقيس؟ لا تخلين الماضي يأثر عليش ويجبرش تتصرفين تصرفات ما بتكون نتيجتها إلا الندم.. وقتها صدقيني بتتمنين الموت وما راح تلقينه
عَقّبت بجُملة واحده أطعمتها بعض من ثِقتها: الماضي ما له دخل
عُقْدة تَوَسّطت حاجِبَيها لتُردّد بتهكّم: الماضي ما له دخل! الماضي ما له دخل وإنتِ تبين تنتقمين منه؟ من ناصر؟
حَرّكت يَدها في الهواء بعدم اهتمام ظاهري: مو ملتفتة له ترى.. لا انتقام ولا هم يحزنون
ارْتَفَعَ حاجبها وبذات الأسلوب: مدام مو مهتمة له هالكثر فليش تبين تضرين بنته؟ ليش تبين تكسرين ظهره بنفس الطريقة اللي كَسر فيها غرورش وجذبش؟
أَرْسَلت لها من أسفل أهدابها سِهام مُهَدّدة عاضدتها كلماتها الحادة: سَـلـمى حاسبي على كلامش
بجدية والغَضبُ أَخذ يَزحف إلى أوصالها التي تَرْتجف: لا ما راح أحاسب.. إنتِ اللي حاسبي لأفكارش ولضميرش.. إنتِ ما تخافين من الله؟ ما تخافين من انتقــام الله؟ تبين تنتقمين من الرجال ليش لأنه ما حبش؟ ما تزوجش؟ تبين توجعين قلبه على بنته وشرفهــا لأنه كان صادق مع أبوش وما خان الأمانة؟ رميتين عليه التهمة زور ولولا رحمة الله ورجاحة عقل أبوش الله يرحمه جان المسكين انذبح.. واللحين عقب كل هالسنين وعقب كل اللي سويتيه فيه مو مكتفية؟! بعد تبين تواصلين جورش وجذبش على بنته؟ زوجة ولدش!
انْتَصَفَ حَديثهما صَمْتٌ قَصير ولكنّهُ كان ثَقيلًا جدًا كثقل ساعات الصّمت التي تعقب حَرْبًا تلتهم الأوطان.. كانت سَلمى بأنفاسها المُتسارعة ونَبْضها المُضطرب وجَسدها الذي تسكنه الرّعشة؛ تَقِف على بُعد ثلاث خطوات من بَلقيس الجالسة.. كانت تنظر لبلقيس بانْتباه وبمُحاولة لسَبر أغوار نَفْسها المُشوّهة.. تُريد أَن تُحِل العُقَد المُتشابكة داخلها لرُّبما استوعبت الطريقة التي تُفَكّر بها.. لرُبّما تَفَهّمتها.. تَفَهّمت أَسْباب شَرّها! عندما طالَ الصّمت ظَنّت سَلمى أن صَديقتها أَحجمت عن قرارها الشيطاني.. لكن ظنونها خابت سَريعًا عندما أَرْخت بَلقيس ساقها على الأخرى ولسانها المَسْموم نَطَقَ بسؤالٍ كان شاذًا عن موضوع النقاش المُحتدم: شخبار مروة؟ من زمان ما سألت عنها وعن دراستها
أَجابت بعدَ لحظات بصوتٍ خاثِر مُتوجّس: زينة.. الحمد لله
هَزّت رأسها: زين زين "تَغَضّنت ملامحها وارْتَخى حاجِبَيها وبنبرة مُشْفِقة اَرْدَفت" المسكيــنة.. زين حلمها تحقق ودرست طب.. متخرجة بتسعة وتسعين وما حصّلت بعثة الطب! من حقكم إنتِ وأبوها تدفعون دم قلبكم عشان تحققون لها حلمها اللي كان بيضيـــع
ارْتَدّ جَسدها للخَلف بحذر من الأسلوب الجَديد الذي ارْتَدتهُ كحرباء.. ارْتَفع صَدرها بنفَسٍ عَميق قَبْلَ أن تَتساءَل وفي عَيْنها نَظْرة مُرْتابة: بلقيس إنتِ لشنو تبين توصلين؟
تناولت حَقيبتها.. وَقَفت وهي تُرَتِّب عَباءَتها فوق رأسها ثُمّ خَطت إليها.. هَمَست والشَّرُّ يَسبح وَسَط مُقلتيها: إنتِ تدرين إن عندي معارف في كل مكان "بابتسامة جانبية" معارف راسهم عُوود وأصحاب مناصب.. يعني أقدر بمُكالمة وحدة أهدم حلم بنتش وأخليها تنطرد من الجامعة
اتّسعَت عَيْناها وحواسها تَخَبّطت من هَوْل الحقد الذي طَغى على إنسانيتها.. تَحَرّك لسانها بتيه وعشوائية.. لَم تَكن تَدري بماذا تنطق.. ماذا تقول أو بماذا تصرخ في وجهها المُسْتَنسخ من عَبث الشيطان ومَكره.. بتأتأة والقَلْبُ يَكادُ أن ينتحر من سَقْفِ حَلْقها: إنـ... إنـ ـتِ.. إنتِ مـ
قاطعتها بحَزْمٍ وحدّة ضارية: عندش أسبوع.. أسبوع بـس.. إذا ما وصلوني الأدوية.. فترحمي على حلم بنتش الميّت
,،
حاضر
التَفتَت للباب الذي فُتِح.. ابَتسمتَ لهُ ابتسامة خالية من اللون وفارغة من أي إحساس.. اقترب منها وهي تخلع حجابها وعباءتها.. وبعتابٍ قال: حُور ما يصير جذي.. كل يوم تطلعين من الصبح لين المغرب.. ترى أمي حست إنش تتجنبينها
جَلست على مقعد التسريحة وهي تفصح بإرهاقٍ تهدّلت منهُ ملامحها الرقيقة: يوسف والله مو قصدي.. صدق أنا متفشلة منها بس والله مو متعمدة.. بس ما أقدر أترك أمي بروحها.. تشوفني ما أنام طول الليل مثل الأوادم بس أنتظر الصبح.. من تطلع الشمس أركب سيارتي وأروح لها
قَرْفَصَ أمامها وباهتمام: اللحين هي شنو فيها بالضبط؟
غَطّت وجهها بيديها مُجيبةً بضياع: مادررري.. مادرري يوسف "أخفضتهما تَشرح" بالغصب تتنفس.. ووزنها كل ماله وينزل ووجهها يشحب أكثر وأكثر
استنكرَ: انزين ليش ما تروحون المستشفى!
ضَربت على فخذها بقهر: مو راضية.. حاولت فيها تقول لي ما له داعي.. وهي مو طفلة عشان بسحبها لو بحملها للمستشفى "تَأففت وأصابعها تتخللان خصلاتها لتضغط على رأسها بحيرة مُقيتة" مـادري شسوي يوسف مادري!
هَدّأها وكَفّه تُحيطان ساعديها بلُطف وتخفضان يدها: ما عليه حور ما عليه
بحشرجة والدّمعُ يُشاغب مآقيها: خايفـ ـة عليها
شَدّ على يَديها الباردتين وبتفهّم: أدري حُور ومن حقش.. حتى احنا خايفين عليها.. عشان جذي باجر أنا وأمي راح نروح معاش بيتكم.. وما بنطلع إلا وهي معانا وبناحذها للطبيب
أَشاحت بضيق: ما راح ترضى
أَكّد: راح ترضى.. صدقيني "وَقَفَ ليحتضنها وكَفّه تُناغي شَعرها ولسانه العَذب يُطمئن عَطَش فؤادها" راح نوديها للطبيب ويكشف عليها ويقول لنا شنو فيها.. نتمنى أكيد تكون بخير.. بس لو فرضًا كانت فيها علة.. إن شاء الله بتكون شي خفيف وبتتعالج منها وبترجع مثل قبل وأفضل
أحاطت خصره بكلتا ذراعيها وهي تهمس بتضرع: إن شاء الله يا رب.. إن شاء الله "رَفعت رأسها مُستطردة بسؤال" كلمت ملاك؟
ابْتَسمَ وهو يُزيح خصلة عن جانب وجهها: اي كلمتها.. سلمت عليش وتشره تقول من وصلت ما كلمتيها
أغمضت للحظات بتعب وهي تعترف: أدري إنّي مقصرة معاهاب.. بس راح أكلمها الليلة
هَزّ رأسه: اي كلميها "استطردَ مُقترحًا" مدام إنش اهني.. خل نطلع أنا وإنتِ وأمي.. نتعشى برا.. نغيّر جو شوي
وافقت سريعًا وكأنّها تَبحث عن أي شيء للاعتذار: أوكــي
سَألَ: الساعة ثمان تمام؟
ابتسمت بموافقة: تمـــام
,،
ارْتَوى وَجْهها من ضَياء القَمَر وانْتَشَت عَيْناها من التماع النّجوم والتوى فَوْقَ جِفْنيها لَيْلٌ أَسْود ساحر.. لا لا.. لنبتعد عن المُبالغات.. فالسّماء لَم تَهبها زينتها.. بَل الحُب هو الذي جَمّلها.. حُب نَجى من أَسْفَلِ أنقاضٍ ما كانت إلا نَتاج أفعال مُراهِقة ساذِجة ورَجُل ذو كِبرياء سَخي، لا يَبْخل على مَشاعره أَبدًا. بادلت جُود التّلويح وهي تَضحك بسعادة لا زالت رَطِبة من أَمطار العشق والشّوق والصّبابة والوَله التي أَغدقها عليها في الأيام الماضية.. مَنحها المَزيد والمَزيد ولكن سَتنتهي السطور وعطايا قَلْبه لن تنتهي. تَمَسّكت بذراعه بكلتا يَديها ورَأسها يَرْتفع إليه لتهمس بإحساسٍ رَفْرَفَ من جِرح رُوحها الذي شُفي: أحس إنّي أبي أطيـر
التَفتَ إليها لِيَلتقي بعينيها المُتَكَحّلتين والمغمورتين بكُل المعاني الجَميلة.. ابْتَسَم ليقول بصدق: إنتِ قاعدة تطيرين
ضَحكت بزهو وهي تَشد على ذراعه.. انتبهت لصوت جُود القَريب وهي تُحادث جَنى: الحمد لله على السلامة.. وحشتيــنا "شَهقت بتمثيل وهي تضع يَدها على صَدرها" شلون جذي جَنى ايدش فاضية؟!
نَقلت جَنى نظراتها بين يَديها الصغيرتين وبعدم فهم: شنو؟ شفيهم؟
رَفعت حاجبيها مُواصلة تعجّبها: وين صوغتي؟ لا تقولين ما جبتين لي صوغة؟
تَقَوسّت شَفتاها بحيرة قَبْلَ أن تُشير لوالدتها باستنجاد: ماما اشترت.. أنا معاها
حَرّكت رأسها: لااا.. لازم صوغة من عندش وصوغة من عند أمش وصوغة من عند أبوش
ضَربها فيصل على كَتِفها بخفّة مُعَلِّقًا: ايــه لأن احنا نصرف عليش
بجدية مُصطعنة: ما أستاهل
ضَحَك: أقول جَـب وتعالي سلمي
قَبّلت خَدّيه: الحمد لله على السلامة "وهي ترنو لهُ بطرف عَيْنها بخبث" هــا؟ قَدرت عليك أم جُنى؟ استسلمت؟
رَدّ ساخِرًا منها: اي.. رفعت الراية البيضا
غَمزت له: واضح جدًا "احْتَضنت جنان وهي تهمس في أُذنها بمُشاكسة" زين جان خليتون جنى ورحتون اثنينكم بس.. شَهر عسل جديد من غير كائنات طُفيلية.. عشان تاخذون راحتكم عـــدل
اتّسعت عَيْناها من مقصدها الوَقِح.. قَرَصَت زندها وهي تهمس بتوبيخ: اسكتــي يا قليلة الأدب
اعتلت ضحكتها بشقاوة حتى أن زوجها اقترب قائِلًا: جُود حاسبي على ضحكتش.. احنا مو بروحنا "التَفت جهة وقوف فيصل وجنان.. صافح فيصل بابْتسامة" الحمد لله على السلامة.. شهالسفرات الفجائية؟
: الله يسلمك "أكّد" بدون تخطيط والله
ضَحكَ: وااضح من سرعتها.. بس يومين
هَزّ رأسه: ونصهم ضايعين في المطار والطيارة.. بس استانسنا
: ايــه تغيير جو "انحنى لجنى مُقَبّلًا خَدّها" الحمد لله على السلامة قَمَر
بادلته الابتسامة بخجل: الله يسلمك خالي
اسْتقامَ واقِفًا وهو يسأل جُود: نور وطلال بيجون؟
أجابته وهي تنظر لهاتفها: المفروض "سألت جنان" أنا بروح داخل لغيداء بتجين معاي؟
: إنتِ روحي وأنا شوي وألحقش
انتظرت حتى ابتعدت جُود لتُحَرّك عَدستيها إلى شَقيقها.. تساءَلت بلحنٍ آيِس مُقاطِعةً خطواته: وأنا ما لي الحمد لله على السلامة؟
تَطَلّعَ إليها ويَداه تلجآن لجيبي معطفه باخْتباء.. مَرّر لسانه على شَفتيه وما انطوى داخله يَمنعه من إباحة الحَديث معها من جَديد.. لذلك أَرْخى جِفْنيه واستدار مُبْتَعِدًا دون جَواب.. تَنَهّدت بإرهاق من حاله معها.. إنها المرة الأولى التي يُعاملها فيها بهذه المُعاملة.. صَحيح أن نظرة الاحتقار التي كانت تَسْكن عَيْنيه قَد انطفأت.. لكن تَجنبه الصريح والصوم عن الكلام معها يَقسوان عليها بشدّة.. اشتاقت إليه وجدًا.. فهو رَفيق دربها الوحيد الذي لَم يُحِد عنها طوال المسير. تجاهلت الواقع المُر قِسْرًا حتى لا تُعَكّر جَمال هذه الليلة.. قالت لابنتها: ماما امشي نروح داخل لخالو غيداء عشان تشوفين بيان "ابتسمت بشحوب لفيصل" أنا داخل
أَوْمأ لها بابْتسامة أنقى وهو واقفٌ في مكانه.. ما إن استدارت حتى تَقَلقل بصره على المكان باحِثًا عن علي.. مَشى إليه بعد أن وَجده بالقرب من إحدى الشجرات يعبث في ورقة ساقطة منها.. بحدّة وهو يقف أمامه: عَلي شهالحركات؟ شلون جذي تعامل إختك؟
ارْتَفَعَ حاجبه مُسْتَنكِرًا: يعني شلون تبيني أعاملها بعد اللي عرفته؟
شَدّ قَبْضته: عَـلي الشي اللي صار بيني وبينها.. غلط مني ومنها.. أنا غلطت بتركي لها وهي غلطت بزواجها منه.. إنت انصدمت وزعلت وخلاص.. ما له داعي تسوي هالحركات!
بقهَرٍ نَفَرَت منه عُروق عُنقه واحتقن منهُ وَجْهه: شـــلون ما له داعي؟ شلووون! فيصل لا تنظر للموضوع على إنّه يمسّك إنت وبـس "وبحرقة بانت في احْمرار مُقْلتيه" اللي سوته يمسنا كلنا.. من أكبرنا لأصغرنا.. حتى جَنى يمسها.. يعني شنو تروح تتزوج بالسر! وبكل قواة عين جاية تقولها لنا.. جنه شي تفخر فيه! وأرجوها لا تحمّل أغلاطها واستهتارها أمي وأبوي.. لأن تبريرها واجد ركيك وتافه وسخيـف.. هذا أنا عشت نفس عيشتها.. وأنا رجـال أقد آخذ بدل الوحدة أربع.. ما سويت سواتها!
اقترب منهُ مُتَبَنّيًا لسان حال جِنان: أحد وعدك إنّه راح يكون معاك للأبد وما راح يتركك؟ أحد ضَرب على صدره وقال بيبقى معاك بكل عيوبك وأخطائك؟ أحد قال لك أحبـــك ونسى الكلمة من أول غلطة ورماك؟ "رَفع سَبّابته أمامه يُذَكّره" وأرجوك إنت بعد.. لا تقارن عيشتك بعيشتها.. إنت عشت وأمك جنان وأبوك جنان وإختك وأخوك جنان.. لكن هي عاشت بأم وأبو وأخو غير.. وجيت أنا كملت اللي هم بدوه
نَقَل عَدستيه بين ملامحه وباستغراب شَديد: شلون إنت.. نسيت اللي سوته!
اسْتقامَ وهو يُجيبه: ما نسيت.. وهي تدري إنّي ما نسيت.. بس تقريبًا ما قمت أحس.. أنا يوم اكتشفت إنها تزوجت ما عصبت ولا صرخت ولا هاوشتها.. كتمت وكتمت لين انحرقت.. أنا انحرق جزء من قلبي عَلي.. انكوى.. مات.. ما قمت أحس فيه.. أنا عايش بقلب ناقص.. عشان جذي تشوف إنّي قادر أواصل حياتي معاها
استنتج من اعترافه: يعني حبها قَل في قلبك؟
أَنكر بابْتسامة مائلة: بالعكس.. اكتشفت في هالأسبوع إنّي كل يوم كنت أحبها أكثر وأكثر.. حتى بعد اللي صار وبعد اللي هي سوته.. حبها ما نقص، زاد.. أنا أحبها أكثر من نفسي.. أحبها لدرجة إني سمحت لنفسي أنكسر عشانها.. أنا يا علي إذا قلت إنّي أحبها بقلبي فأنا أبخسها حقها.. أنا أحبها بتكويني.. أحبها بذاتي.. يعني حتى موتي ما راح ينهي حبي لها
بَرّر وهو يُحرّك رأسه بالرفض: إنت غير وأنا غير.. ما أقدر أسامحها بسهولة
طَلبَ منه: بس على الأقل حاول.. كلّمها.. سلام بس.. مو تتجاهلها جذي وتكسر خاطرها
باقتضاب: بحــاول
,
تَمشي مَعه وبجانبه على أَرْض المَنزِل الذي شَهِدَ على استباحة شَرَفِها.. على الأَرْض التي دَفَنت بين شُقوقها نَظرات التيه العابرة عَيْنيها الزائغتين.. على الأَرْض التي طَهّرها صَبيب السّماء من نَجاسة ما أخَفت وسَتَرت.. فالمَطر أَمحى خطوات الجَريمة التي انتعلتها قَدمي بَلقيس.. غَسَلَ استفراغ رُوح نُور المُسَيّرة.. واختلطَ مع دُموعها لألا تموت الأرض من حُزنها المالح.. فالحقُّ يُريدها حَيّةٌ تُرْزَق لتنطق بالشهادة. قالت بخفوت وهي تَتأمل الأرجاء.. فَخَرجَ صَوتها يَرتجف كما لَو أنّ الهواء البارد يُغَلّفه: من زمان ما جيت.. ما أذكر متى "صمتت للحظات ثُمّ أكملت بعقدة خَفيفة" يمكن من آخر موقف صار بيني وبين غَيداء "التَفتت إليه وهي ترفع بَصرها لوجهه مُوَضّحة" ليلة اللي اتصلت لك ورد عَلَي رائد
وَجّهت بَصرها إلى حَيثُ تَقِف غَيْداء.. عند الطاولات المُرَتّبة بعناية.. دارت عَدَستاها على المكان بتقييم.. الاهتمام بالتفاصيل جَلي.. عدّة الشواء وبجانبها جَميع المُستلزمات.. أنواع المشروبات الباردة والساخنة مصفوفة بعناية في قوارير وفي الثلاجات بالقُرب من المسبح الذي شُرّعت أبوابه.. وبالقرب منه استقرت أطباق المُقبلات والسلطات والحلويات.. زهور مُنعشة نُسِّقت حَوْل الطاولات.. بساط طَويل مُمتد على الأَرْض العُشبية لِمن يهوى الجلوس المُنخفض.. ومقاعد خشبية فَرْدية وُزّعت بطريقة عشوائية مُريحة للنّظر. عَلّقت بابْتسامة وخطواتهما البطيئة تقترب من مكان التجمع: الترتيب واضح إنّه متعوب عليه.. شكلها غيداء اشتغلت بضميــر
انتظرت منهُ كَلِمة ولكنّهُ لَم يُنهِ عَقده مع الصّمت.. وهذا ما أثار استغرابها.. فهي للتو تنتبه أَنّه لَم ينطق بحرف مُذ غادرا السيارة! نَظرت إليه لتقول باستنكار: طلال ليش ساكت؟ "لَم يُجبها فنادتهُ من جَديد" طَلال؟... طَلال؟
كان وكأنّه لَم يَسْمعها! كانت عَيْناه مُتَرَكّزتان على شيء.. تَتبّعت نظراته حتى انتهى بها المطاف إلى غرفته.. غرفته السابقة.. ابتسمت باستيعاب وهي تَتساءل: اشتقت لها؟ "لَم يأتِها رَد.. لذلك نادته وبيدها ضَربت على ذراعه بخفّة" طَـلااال "التَفتَ لها بنصف انتباه مُهَمْهِمًا فارْتَفعَ حاجِباها تَعَجُّبًّا" شفيــك! أناديك ما ترد.. في شنو سرحان؟
رَدّ بهدوء وهو يُحَرّك رأسه للأمام: مو سرحان في شي "استفسرَ" ليش كنتِ تناديني؟
أَشارت بعينيها للغرفة وهي تبتسم: أقول لك اشتقت لها؟ لغرفتك
نَفى سَريعًا وهو يَستدير لها: لا لا.. ما اشتقت لها "مالت ابتسامتها وعَيناها تَضيقان بنظرة تقول فيها أَنّني أفهمك.. لذلك كَرّرَ مُؤكّدًا" ما اشتقت لها ولا شي.. بالعكس ارتحت منها
ارْتَفعَ حاجِباها وعَيْناها كَستهما في ثواني لمحة شقاوة لَم يُبصرها مُنذ سنوات.. قالت وخطواتها قَد تَغَيّرت وجهتها: بَس أنا اشتقت لها
ناداها بعلو: نُــور "انتبه لمكان وقوفه.. تَلَفّت ليرى إن كان قَد سَمِعهُ أحد.. لكن المُتواجدون كانوا مشغولين بالحَديث ولَم يُزعِج صَوتهُ حَديثهم.. خَطى إليها بخطوات واسعة وهو يَهمس من بين أَسْنانه" نُور ارجعي.. لا تسوين لنا سالفة
استنكرت بحاجبين مُرتفعين: سالفة شنو! هذي كانت ولا زالت غرفتك.. شبيصير يعني لو طليت عليها! "ابتسمت بثقة وأحد حاجبيها ينخفض ليُبقي القِمّة للآخر" واللحين أنا زوجتك.. عادي لو دخلتها.. محد يقدر يقول شي "وبتفكير" أصلًا يمكن مقفلة
هَزّ رأسه رافِضًا كلامها وملامحه انعقدت بطريقة أَثارت استغرابها: نُور كلش ما لها داعي دخلتش للغرفة.. خلي الليلة تعدي على خير
ضَحكت غير مُستوعبة حالته: طـلال شفيـك! ليش مكبّر الموضوع هالكثر؟ "عادت واستدارت مُواجِهة الغرفة وهي تُرْدِف بمُشاكسة" زين ما بدخل لا تصيــح.. بس بطل من الدريشة
دارت حَوْلَ الغرفة لتقف عند النافذة.. قَرّبت وَجهها من زُجاجها ويَدها تَسْتقر فَوْقَ حاجبيها تَتفقّد الداخل بدقّة.. ناداها بنفاذ صَبر وهو يُراقب الأوضاع من خَلفه: نُــوور.. امشي
تَمْتمت بإحباط: ما يبين شي.. ظلام والستارة منزلة
أَشارَ إليها بيده: زين تعالي
مَشت إليه وهي تُلقي نَظرة أخيرة على الغرفة الشبيهة بالشقة الصغيرة.. عندما مَرّت على الباب التَفتت تنظر لزوجها.. كان يُوزّع بَصره على الأرَجاء بحَذر وكأنّهُ خائفٌ من أن يراهما أحدٌ ما.. استغلت انشغاله وخَطت على أطراف أصابعها إلى الباب.. أمسكت بالمقبض وعَيْناها لَم تُفارقان طَلال.. أخفضته لتنتصف شَفتيها الصغيرتين فرجة.. استدارت سريعًا وهي تهتف بحماس: مفتـــوح.. الباب مفتوح
التَفتَ ناحيتها بعدم استيعاب.. نَقَل عَدستيه بين وَجْهها السّعيد وبين الباب المُشَرّع.. تَعَثّرت أَنفاسه عند بداية حلقه وتَكَوّمت من فَرط ما ضُخّ من قَلبه من دماء مَرْعوبة.. لوهلة شَعرَ بأنّه يَختنق.. وبأن الشتاء استحالَ إلى صَيْف حارق يُبْصِق على جلده ألفَ شَمسٍ وشَمس.. ارْتَعدت فرائصه والذكرى المشؤومة تحوم أَمام ذاكرته بخبث.. حاولَ أن يَفتح فَمه لِيَنهرها لكن الأنفاس المسجونة كانت كالسّد المَنيع في وَجْه صَوْته.. قَدماه تَسَمّرتا على العشب فَلم يَكُن قادِرًا على الوصول إليها ومنعها من الدخول.. الْتوت السماء من فوقه ودارت الأَرض من تَحته.. وجُرْمه ها هُو فاغرًا فاهه الأسود في وَجه سعادته.. ستتذكر.. ستتذكر كُل شيء.. حَتمًا سَتنهش الذكرى الآسنة سكون ذاتها.. سَتعيد تَلويث طَهارتها ووأد فَرحها... سينكشف كُل شيء طَلال وستكرهك.. سَتكرهك وستــ
: يُبه وش لش بالمشاكل وعوار الراس؟
بصعوبة استطاع أَن يُحَرّك عَيْنيه بَعيدًا عن الباب الذي أُغْلِق.. لِيَمضي بهما إلى صاحب اليَد التي أَغلقته.. تَنَفّسَ الصّعداء في الوقت الذي سالت بارْتياح على جانب وجهه حَبّة عَرَق كانت مُتَشَبّثة بصدغه.. ازْدَرد ريقه وبالتوالي تَدافعت الأنفاس من فَمه وأنفه كالحُر الطّليق.. ورُوحه نيابةً عن جَسده المُسْتَقيم انحنت واستفرغت هَلعه. نَظرَ لنُور ولملامحها الطاغي عليها الاستنكار وهي تقول: ليش سالفة وليش مشاكل؟ هذي كانت غرفة زوجي.. مو غرفة رجال غريب!
عَقّبَ: قلتيها.. كانت غرفته.. كانت غرفته في الوقت اللي ما كان فيه هو زوجش
عَقَدت حاجبيها بعدم اقتناع: شدخل يبه!
وَضّح بلطف وهو يقترب إليها وصوته أَقرب للهمس: بابا حبيبتي إنتِ تعرفين زوجة عمش وتعرفين أطباعها عدل.. إنتِ واحنا بنظرنا الشي عادي وما فيه شي.. لكن هي ما راح تشوفه عادي.. بتكونين كأنش عطيتيها بكل سهولة سبب عشان تشكك فيش وفي أخلاقش وتربيتش.. وأعتقد إنش فاهمة شنو أقصد
رَدّت بنبرة بالكاد تُسمع: فَهمت
أَوْمَأ لها: عَفية دكتورة "استطرد بابْتسامة واسعة" شوفي.. كلمتش من غير ما أحس وأنا كنت أتجنبش الأيام اللي فاتت من بعد آخر كلام دار بيننا
أَرْخت طَرْفها هامِسةً بحَرج: يُبه أنا ما كان قصدي أحسسك بشعور كريه.. أو أخليك تتجنبني وما تكلمني.. كانت لحظة صدمة.. وكنت أبي تفسير منك.. بس بعد ما تجاوزتها اقتنعت إن اللي صار خيرة حتى لو عرفت السبب وما حصلت تفسير.. وخلاص الخوض في الموضوع ما منه فايدة
عاتبها بمَلق وذراعه تُحيطان كَتفيها ليُقَرّبها إلى صَدره: وليش ما قلتين هالكلام من قبل وريحتين ضميري؟
ضَحكت بخفّة وخَجل: استحيــت أحاجيك.. كنت متفشلة من كلامي ومن ردة فعلي
سَأل ليُطَمئن قَلْبه: خَلاص يعني طاح الحطب؟
رَدّت وهي ترفع رَأسها إليه لتُنير رُوحه بابْتسامتها: من زمــاان طاااح
قَبّلَ رَأسها: كَفــوو "وبمُزاح وهو يرنو لطَلال المُتَجَمّد" آخر زمن طلالو يخرّب بين نُور وأبوها
ضَحَكت بعلو وهي تُلقي نظرة على زَوْجها الذي كان يُرسِل من عينيه امتنان عَميق لناصر الذي بدوره أشاح بِصَمتٍ عنه دُون أَن يُبادله بكلمة أو نَظرة.
مَضت إلى حيث تَجتمع العائلة.. سَلّمت على البنات ثُمّ جَلست على المقعد بجانب جُود التي قالت باعتراض: ما يصير جذي.. واااجد متأخرين.. الساعة عشر إلا!
بَرّرت: كنت في الدوام.. وقلت لكم تعشوا لا تنتظرونا "أشارت لطبق جُود" هـا هذا إنتِ تاكلين
وهي تغرس الشوكة في قطعة لحم صَغيرة: اللقمة ما تنبلع إلا بوجودش
ضَحكت: عَيّـارة
سَألتها غيداء وهي تنظر لبطنها: شخبار الحمل وياش؟
بَسطت يدها فوقه مُجيبةً بابْتسامة ناعمة جَليٌّ عليها السرور: الحمد لله تمــام.. أحس إني خفيفة "وبضحكة" ومن أقول جذي ماما تزفني.. تقول لي ما يصير تمشين وتقولين ما تنسّيت وأحس بخفة لا أحد يحسدش
أَيّدتها غيداء: وهي الصادقة.. في ناس ما ترحم.. يطالعون الواحد حتى في مشيته
حَرّكت رأسها بعدم اقتناع: محصنين نفسنا الحمد لله "تَلَفّتت" وين الأكل جوعانة.. ترى آكل عن اثنين
وَقفت غيداء: إنتِ قعدي وأنا بحط لش.. بندلعش مدام حامل وتوش راجعة من الدوام
استرخت في جلوسها وبابتسامة عريـضة: ما راح أقول لا "جالت ببصرها على الترتيبات والتفاصيل مُعَلّقة بإعجاب من جديد" شغل عدل والله.. تعبانة على المكان غيداء
أَضافت جنان: عجيــب المكان.. الحمد لله وافقت على اقتراحها وخلينا الجَمعة اهني مو في بيتنا.. لأن أدري ما راح نسوي المكان حلو جذي
رَمشت بتعب: ايــه أشوى.. في بيتنا محد بيسوي شي والشغل بينرمي على وحدة وهي نفسها ما بتعرف "تقوست شفتاها" وأنا أراكض في المستشفى ببطني من جناح لجناح وما أقدر أساعدكم
اسْتَفسرت مروة بهدوء: ما تفكرين تنقلين لمستشفى خاص؟ على اللي أسمعه من زميلاتي إن أريح
نَفت الاعتقاد: مو شَرط.. ساعات يكون الضغط أكثر.. وأنا أساسًا مو مقررة أطلع من المستشفى عشان الدكاترة إلا فيه والخبرة الكبيــرة والعظيمة اللي ما بحصلها في أي مستشفى خاص "مال رأسها وبابتسامتها الناعمة" يعني التعب والضغط يسوى
بادلتها الابتسامة وبعفوية: نفس كلام عبد الله
بثقة قالت: وراح يكون كلامش بعد "استطردت بسؤال" شنو راح تتخصصين؟
أجابت بصراحة: للحين ما قررت.. بس أشوف نفسي ميّالة أكثر للبيدياتركس
أَوْمأت بتشجيع: مُمتاز.. حلــوو ودقيق ويبي له شغل.. مو مثل ما البعض يتصور
أَيّدتها: ايــه.. الأغلب يشوف إنهم أطفال فيظن إنّه سهل وبسيط "ارْتَفعت عَدستاها للحظات قَبْلَ أن تَبْتسم بخفّة.. قالت وهي تقف" عن إذنكم
دارت حَول الطّاولة لتتجاوزها باتّجاه أحدهم.. استدارت نُور لتُبْصِر عبد الله يَقِف مع طلال يَتحدثان باندماج واضح قَطعهُ عبد الله عندما انتبه لوقوف مروة.. استأذن من طلال ثُمّ تَقَدّم إليها بابْتسامة مائلة ونظرات مُتَفَحّصة.. أَحاط كَتِفيها بذراعه وأقدامهم تَحَرّكت إلى عُزْلة تُخَبئهما عن الأعين. اعتدلت في جلوسها وهي تَتنهد بابْتسامة راحة عَلّقت عليها جُود: ليش هالكثر مستناسة؟
رَدّت وهي تُحَرّك كتفيها: بَـس "التَفَتت إلى يسارها حيث حَنين الصّامتة والعاقِدة صَداقة نَظر مع الباب البعيد" شنو فيش؟ ليش ساكتة؟
انتهبت لها.. نظرت لها للحظات ثُمّ أجابت بضيقٍ حاولت أن تُخَبئه ولكنها فشلت فَشلًا ذريعًا.. فهو كان مُتّكئًا على جِفْنيها بجُرأة: ما فيني شي.. عـادي
سؤال آخر: وين حسّون؟
أشارت برأسها للداخل: نايم داخل.. معاه جيني
: تفضلي دكتورة نُور
نَظرت للأطباق ثُمّ نظرت لغيداء بصدمة: غيداء شنو هذا! حلفي هذا كله حقي؟
ببراءة أجابت: والله.. إنتِ قلتِ تاكلين عن اثنين
: باكل عن اثنين مو عن خمسة! "وضّحت" يعني باكل أكلي الطبيعي ونتفة زيادة حق البيبي
ضَحكت: وأنا شدراني.. كنت أحط وفي مخي إنش تاكلين عن اثنين "مَدّت لها طَبق قريب ونظيف" فرغي الزيادة اهني واتركي لش الكمية اللي تبينها
تناولت منها الطبق: وهذا اللي بسويه
ابتسمت: بالعافية
التَفتت لحنين التي تساءلت من غير مُقدّمات وكأن سؤالها كان يُحْمى على مُوقد لساعات فانفجر فجأة: غيداء عبد الله عزم بسّام ولا لا؟
صَمتت للحظات تستوعب ثُمّ أجابت بتردد: أي.. عزمه.. بس اعتذر
عُقْدة بين حاجبيها ونَبْضها يَسْتجيب: ليش اعتذر؟
بصدق: ما أدري.. بس قال له إنّه مرتبط بشي ثاني ضروري
هَمْهَمت وهي تَنطوي على ذاتها وتنغلق لتُقَلِّب أفكارها في صحراء عَقلها القاحِلة.. تَعلم أَنّ أَسئلتها سَتتمرغ بالتراب حتى تَختنق ولَن تَظفر بجوابٍ واحد يُطفئ غَليلها.. فالأجوبة عندهُ هو فقط.. فالواحة العَذْبة تَتوارى في فمه.. أَسْفَل لِسانه.. بين نبرات صَوته ومع قُبلاته.. أَغْمَضت بِصَبْرٍ مَشْروخ وهي تَضع يَدها على فَمها بارْتباكٍ ورَجْفة وأَنفاسها تَتسارع.. لا تدري إلى متى سَتصمد أَمام هذا الصّد الذي اسْتَهَلّتهُ هي بغباء وأَكمله هُو باحْتراف!
،
على الجهة الأخرى.. جِهة العُزْلة الحَميمية.. حَيثُ كان القَمر المُتَلصِّص الوَحيد.. أَمْسَكت بطرَفي معطفه المفتوح وهي تَشدّهُ إليها بخفّة لتُحْدِث تَماسًا تارة وتُلغيه تارة أخرى.. أَحاطَ خِصْرها مُتسائِلًا وعيْناه قَرأتا الكلمات المُتعثرة على بوابة فَمها: شنــو؟
عَضّت على شَفتها وضِحكة قَصيرة انفلتت منها قَبْلَ أن تهمس وعيناها تهفو إليه: آسفة "ارْتفع حاجبه باستفسار فأكملت" على وضعي اليوم والأيام اللي راحت.. ما كان قصدي أخليك تحاتي أو أعكّر مزاجك وأضايقك "كَرّرت بصدق" آسفة
قَرّبها مِنه وعَدستاه تَطُلان عليها من عُلوّه.. هَمَسَ بَعْدَ أن مَرّر شَفتيه على طَرف عَيْنها: زين مُمكن أعرف شنو كان سبب ذاك الوضع؟
تَمْتمت: صراحة ما أدري.. يمكن من ضغط الشغل وتغير روتين حياتي "ابتسمت ويَداها تُحيطان بعُنقه لتهمس بلحنٍ مُسْترخٍ" بعد اللحين صار عندي زوج وبيت
ابتعد قَليلًا لينظر لها بقلق طَفيف مُتسائِلًا: يعني إنتِ متضايقة من حياتش الجديدة؟
ضَحكت وهي تُعيده لوضعه السابق: لااا.. ما فهمت قصدي "داعبت خصلاته " أقصد يا حبيبي إن كنت حاسة بالتغيير بس ما برمجت نفسي عليه.. فكنت أحس في شي غلط.. فتدودهت شوي "وبتنهيدة طويلة ونبرة أَحْناها الشّوْق للناجين من الدّنيا" وبعد أمي.. مشتاقة لها بشكل مو طبيعي.. كنت.. "أسدلت أهدابها" كنت أتمنى إنها تشاركني هالفترة "ابْتَسمت بعبوس" حسيت بحاجتي لها أكثر من أي مرة
مَسَحَ على ظهرها كما يَمْسح الرّبيع آثار الشتاء عن وَجْه الأَرْض الرّقيق.. ثَبّت ظاهر سَبّابته على ذقنها ورفع رأسها بخفّة ليُعيد الزّمرد إلى مَخدعه.. إليه.. هَمَسَ بحنيّة لَذيذة: هالحاجة طبيعية.. وراح تظل تلازمش على طول.. واتركيها تاخذ وقتها داخلش.. استشعيرها ولا تمنعينها لأنش بتتعبين في محاولتش للتمرد عليها "ضَغطَ على ذقنها وهو يَبتسم ويُضَيّق عينيه" بس عاد ها.. ما يصير تغرقين فيها بروحش.. اخذيني معاش "داعبَ أنفها بأنفه" أحب السباحة ترى
تَأمّلتهُ لثواني لتَرى الكلمات تنصهر والحروف تَنهار.. لا شيء يُضاهيك عبد الله.. لا شيء.. لذلك التزمت الصّمت وأَمرت شَفتيها أن تسلك طَريقًا آخر.. طريق القُبلات.. فهي اختارت أن تختزل جُل مشاعرها في قُبلة. ابتعدت عنه فاتّضحت لها ملامحه المُتفاجئة.. ضَحكت وبإبهامها مَسحت عن شَفتيه بقايا أحمر شفاهها الفاتح.. نَطقَ بعد أن امتصت جوارحه الموقف: والله كان في بالي أسويها بس خفت تقولين لي "وهو يُقلّد صوتها" عيب وكلهم اهني ومدري شنو!
دارت عدستاها على البقعة المُنزوية: محد حولنا.. حتى أصواتهم بعيدة
غَمَزَ لها: زين شرايش نركب فوق ونخليهم.. مو جوعان والله
ابتعدت عنه وهي تمسك يده وتقول ضاحكة: لا عاد هالمرة صدق عيــب.. شنو بيقولون!
عَقّبَ بزعل: اييي.. لو إنتِ تبين نركب جان حطيتين عذر مُقنع وركبتيني غصـب
رَدّت بحاجب ارتفع بثقة: طَبــعًا.. أنا مروة مو حي الله
ابتسم لها راضِيًا وقَانِعًا بهذه الحَقيقة التي لا خِلاف عليها ولا نقيض لها.. هي مروة واللا أَمامها تَنحني لِتَكون مَدَاسًا للنعم. سَمحَ لها بأن تَجرّهُ إلى حيث أَرادت.. غَرفت لهُ في طَبق ثُمّ قالت وهي تُشير بعينيها ناحية الرجال: روح معاهم وتعشى عدل.. فشلة طولت عليهم والبيت بيتك "مَسَحت فَوْقَ كَتفه وكأنّها تُزيح شَيء لتهمس بنظرة لَعوبة جَذبت فضوله" وترى قَريب راح أعوضك عن الأيام اللي راحت
ارْتَفعَ حاجبه بالتوالي مع ارْتفاع زاوية فَمه بتعجّب: وشنو التعويض؟
أَجابت قَبْلَ أن تتجاوزه: بتعرف في الوقت المُناسب
,،
ماضٍ
تُراقب وَجْهَ الطّبيبة وهُو يَتفاعل مع المَلف الذي بيدها.. كُل العلامات التي كانت تَطأ مَلامحها سَلبية.. أَسى.. ضيق.. حُزْن.. وشَفقة.. وهذا طَبيعي ومُتَوَقّع بالنسبة لها.. فالملف الذي بيدها مَلف والدتها.. مَلف زوجة سلطان.. فكيف سيكون مَلفّها الصحي؟ رَمشت بخفّة عندما زَفَرت الطّبيبة وهي تقول بقهَرٍ بالغ: إنتِ كان لازم من أول مرة مد إيده عليش تشتكين عليه.. بس لأنش تكتمتين قام يتمادى "تَصَدّعت ملامحها وهي تُشير إلى ذراعها المكسورة وَوجهها المَرْسومة عليه خارطة العذاب" شوفي شنو سوى فيش.. وعادي إذا بعد التزمتين السكوت بيسوي الأعظم
تَمْتمت بخفوت واستسلام: هذا قدري ونصيبي
رَفضت بشدّة: لا هذا مو نصيبش.. إنتِ تستاهلين الأفضل.. تستاهلين حياة تكونين فيها معززة مكرمة
قالت بنبرة حَوت رَجاءً خَفي وعَدستاها تُشيران للجالسة بصمت.. الطفلة أو المراهقة التي لَم تَتجاوز السادسة عَشر: ما عليه دكتورة.. أنا ما جيت عندش إلا لأني أدري إنش بتساعديني من غير تعقيدات
تجاهلت حديثها واستفسرت: مُمكن أعرف هالمرة شنو سبب الضرب؟ المرة اللي طافت كان عشان ذهبش وذهب بنتش اللي يبي يبيعه.. لا يكون بعد هالمرة عشان نفس السبب؟
أَجابت بابْتسامة أَحْناها الانكسار: أخذه وباعه وأخذ فلوسه من زمان "مَسحت على جانب وجهها وهي تُفرغ تنهيدة مُطَعّمة بالهم" هالمرة ضربني لأنه شاك إني خاشة عنه سلسلة الألماس اللي هداني إياها أبوي الله يرحمه.. ثمان سنوات ومو مصدق إنّها مو عندي؟
سألت بشك: وهي صدق مو عندش؟
أَكّدت والصدق يُؤطّر عينيها: والله مو عندي.. ما أدري وينها.. مرة وحدة اختفت! قلت أكيد هو أخذها.. بس من بعد ما جا يسأل عنها اتأكدت إنها ضاعت.. بس هو مو مصدقني.. مُصر إنّي خاشتها وأجذب عليه
حَرّكت رأسها بإحباط بائس: عشان سلسلة كَسّر عظامش! من شنو مخلوق هذا! "قطعت حديثها لدقيقة وهي تَتصفح الملف من جديد قَبْلَ أن تستطرد بكلمات مُحَذّرة ومُكَلّلة بالنصيحة" يا أم حُور إذا في أحد من أهلش يقدر يساعدش اشتكي عليه.. ارفعي عليه قضية.. والله تقدرين ترفعين عليه أكثر من خمس قضايا من سواياه.. كفاية رحمش السليم اللي غصبش تشيلينه من قبل ثمنتعش سنة.. هذا بروحه قضية شكبرها!
عَقَدت حاجِبَيها باستغراب من الذي سمعته، في الوقت الذي هَزّت فيه والدتها رأسها بحركات سَريعة وكأنّها تُريد أن تنهي الموضوع: ما عليه ما عليه "وقفت" أقدر أمشي اللحين
أغلقت الملف وهي تُسَلّمها وَرقة: اي بس خلاص.. تقدرين ترجعين البيت.. وهذي الأدوية اخذيها من الصيدلية "ضَغَطَت على يَدها لتبث كلماتٍ دافِئة" اتحملي بروحش وببنتش.. لا ترضين على نفسش السوء.. إنتِ تستاهلين تعيشين عيشة كريمة
ضَغطت على كَفّها المُسانِدة وبابْتسامة ودودة يقبع بينها الامتنان: مَشكورة دكتورة
أشارت لذراعها المُجَبّرة: اخذي موعد لبعد أسبوعين عشان نجيكها
أَوْمأت: إن شاء الله.. مع السلامة
رافقت والدتها إلى الصيدلية لاستلام الأدوية.. وبعد أن استقرَّ جَسداهما المُنهكان في السيارة كَشفت عن سؤالها الحائم في صَدرها بلحنٍ مُستنكر: ماما.. شلون الدكتورة تقول إن رحمش شالوه قبل ثمنتعش سنة؟ ما يصير! أنا عمري ستعش اللحين!
دَعكت خَدّها وهي تَلتفت لها بضحكة وببصرٍ مُشيح: ماما حُور تعرفين المستشفيات.. واجد عندهم أغلاط.. وأكيد حاطين في الملف تاريخ غلط "مَثّلت أنّها تُفَكّر وأردفت" أو يمكن الدكتورة اختلطت عليها التواريخ.. لأن قبل ثمنتعش سنة كنت مسوية عملية الدودة الزايدة
هَمهمت باقتناع: يمكن "سَألت بتردد وهي تقبض على إصبعيها" ماما إنتِ راح تشتكين على أبوي مثل ما قالت الدكتورة؟
عَقَدت حاجبيها: أكيد لا يُمه
ازدردت ريقها تمنع الغصّة التي بَزغت وَسط مُقلتيها على هيئة دموع.. وببحّة: بس يُمّه.. أنا أخاف يجي يوم ويسوي فيش شي أكبر "واصَلت تُفْصِح عن هواجسها المُقَيِّدة صَحوها ومنامها" أخاف يضرش ضرر ما يتصلح.. هالمرة ذراعش.. يمكن مرة ثانيـ ـة راســ ـ
قاطعتها وهي تقبض على ساعدها وبثقة غريبة تَمنّت لو أنّ خوفها المُتخبّط في جوفها يلتف بها ليستكين: ما راح يسوي شي.. ما راح يصير فيني شي "مَسحت دمعتها بحزم" لا تصيحين.. لا تصيحين حُور.. احنا الثنتين ما لنا إلا بعض.. لازم كل وحدة تقوّي الثانية.. كل وحدة تشيل الثانية إذا انكسرت.. أبوش راح يضرب مرة ثانية وثالثة وعاشرة.. استعدي لهذي المرات.. كوني أقوى عشان تقدرين تتحملين وجعها
سَألت بخيبة من بين تَنشّقها: زيــن لمتـ ـى! لمتـى بنتحمل؟
شَدّتها إليها لتحتضنها بين حنايا صَدرٍ هَشّمتهُ بلايا الزّمن.. وبتنهيدة تَتطلع لغدٍ أَرْحم: لين ما الله يفرجها يا بنتي
,،
حاضر
انحنى عليها من الخَلف هامِسًا في أُذْنها: مو تعبانة؟ ما تبين نرجع البيت؟
أَدارت رأسها إليه وهي ترفعه لتُجيبه بذات الهَمس: لا مو تعبانة "احتضنت يَده" بس إذا إنت تعبان عادي بمشي
أنكرَ بابْتسامة: لا مو تعبان بس كنت أبي أتأكد منش "حَرّك عدستيه لوالدته مُتسائِلًا" يُمّه متى بتمشون؟
حَرّكت كَتفيها: ما أدري حبيبي.. على أبوك
أَشارَ لوالده بعينيه: الوالد من جينا وهو يهذر مع طلال "اتكأ بيده على مقعد جِنان وهو يَميل في وقوفه ويُكمل وبصره يرنو لنور" ساعات أحسه يحبه أكثر مني
عَقّبت جود بحالمية: شتبي بحُب أبوي.. عندك جنان بكبرها.. أعتقد حبها يكفيك عن أي حُــب
ارْتَفع حاجبه وبعينه شَزرها مازحًا: إنتِ ما تستحين!
هاجمته بإسهاب: يعني إنت ومرتك اللي تستحون؟ من المغرب لازقين في بعض وكل واحد يرمي على الثاني نظرات.. غير الهمس واللمس والابتسامات.. واللحين واقف عندها باقي شوي تقعد في حضنها
أَنّبتها والدتها وعاقبتها بزجرة حادة: جُــود خلاص.. إنتِ قاعدة تحاجين أخوش العود مو وحدة من صديقاتش.. شهالحجي الماصخ!
تَقَوّست شَفتاها بعدم رِضا وعَينها تَمران على فيصل الذي حَرّكَ لها حاجبيه باسْتفزاز مُتَشمّت.. صَرخت بقهر: يُمّه شوفيــه.. قاعد يحرني السخيــف
قالت غيداء بضحكة: جود شتبين عاد؟ خليهم في حالهم توهم معاريس.. يسوون اللي يسوونه
مَثّلت وهي تضرب على صدرها: ياختي مقهورة.. مقهووورة.. سبع سنين معورين راسنا بمشاكلهم وتفاهتهم.. ما أبيه وما أبيها.. عفته وعفتها.. وهم عيايرة كل واحد ميت على الثاني واحنا جابوا لنا الهــم "رَنت لجنان بطرف عينها وبنبرة مُبَطّنة" حتى الهواش هاوشونا.. واللحيــن باردة مبردة رجعوا لبعض وغرقانيـــن في العسل.. قدامنا وورانا
ضَربتها نور على كتفها: خليــهم غرقانين شنو يضرش؟ وإنتِ اغرقي مع علي بروحكم وفكيــنا
بجدية مُصطنعة: اللي يضرني السنين اللي راحت وأنا من واحد لواحد أحاول أصلح فيما بينهم.. وفي النهاية ما في تقدير لتعبي وتضحياتي ولا حتى كلمة شُكرًا.. لا وبعد سافروا وولا قالوا بيسافرون!
ارْتفع حاجب فيصل: وليش أقول إن شاء الله؟ باخذ الإذن منش مثلًا.. أمي وأبوي يدرون وهذا كافي
أشارت لنفسها ولنور: احنا خواتك لازم يكون عندنا خبر أول بأول.. صح نور؟
تجاهلتها نُور التي سألت جِنان: شخبار محمد وملاك في برلين؟
ابتسمت: مستانسين والله.. يقول محمد ملاك عجبتها برلين.. على الرغم من البرد بس توالمت معاه
بادلتها الابتسامة: عليهم بالعافية
استفسر فيصل من زوجته: أي كثر بيقعدون؟
حَرّكت كتفها: والله مادري.. قال يمكن يطولون لأن عنده شغل هناك
سؤال آخر: وفي وين هُم قاعديـ
رَنين هاتفه قاطعَه.. أخرجه من جيبه.. نَظر للشاشة للحظات قَبْلَ أن يَسْتقيم ناطِقًا والدّهشة تنتشر على مُحيّاه: ياسميــن! "أَجابَ بسرعة أبصرتها جِنان المُتَجَمِّدة لَهْــفة" ألوو ياسمين.. إنتِ وينش!
ازْدَردت ريقها بصعوبة وهي تُحاول أن تَتجاهل زَعيق نبضاتها التي اضطربت من هذا الاتصال الغيــر مُتوقع.. كانت تنظر إليه بنظرات زائغة وهو يُحادثها باهتمام شَديد أنساه حتى وُجود الجَميع حَوْله.. قَبَضت على يَدها حتى ابْيضت عندما قال: اللحيـن.. اللحين جاي.. مسافة الطريق
أَغْلَقَ الهاتف ثُمّ نَظَر لجنان وهو يتراجع للخلف قائِلًا بملامح تَلتمس منها مُوافقة: ارجعي إنتِ وجنى مع لأمي وأبوي.. ما عليه؟
هَزّت رأسها وهي تَرْتدي ابْتسامة مُرَقّعة: اي.. اي.. ما عليه
ما إن سَمع موافقتها حتى هَرْولَ إلى سيارته المركونة في الباحة.. رَكِبها ومُباشرة غادرَ المنزل قاصِدًا ياسمين التي انتصفت فترة نقاهتهما القصيرة بلا مُقدّمات.. استدارت للأمام فاتضح للجالسات وَجْهها وهو يَقع رهْن احْمرار قانٍ.. حاصرَها الوجوم وانقطعَ سَيْل الكلمات عن لسانها.. فالموقف البغيض أجبرها على أَن تُخيط حول نَفسها شَرنقة تحجبها عن الواقع الذي يبدو أَنّه لن يَتواطأ معها.
عَلّقت جود بهمسٍ لم تَسمعه سوى نُور: يا فرحة ما تمّت.. شكله العسل بيستوي علقم!
,،
تَركها بعد أن قَاطعهما هاتفه لسبع مرات.. فالمُتّصل كان مُلِح ولَم يَخضع لصفعات سلطان المُلغية الاتصال. كانت تجلس في مَكتبه المُطِل على الحديقة الخارجية.. وَقفت عند النافذة تُراقبه وهو يَتحدث.. تعتقد لَو أنّها فَتحت النافذة لوصلها صوته.. لأنّ حركاته تَشي بأنّه مُنفعل ورُبّما يَصرخ.. تُرى من المتصل؟ ومن ذاك الذي يَقدر على بَعثرة بروده وثقته المغرورة؟ كالعادة هي لا تُرضيها الأسئلة التي تعقبها سطور خاوية.. تَهوى الإجابات ولو كانت على رَأس رمح يُهَدّد بذبحها.. لذلك لَجأت للباب الزجاجي المؤدي للحديقة.. فَتحته بهدوء وحَذر مُحترف ثُمّ عَبرته لتخطو باقترابٍ إليه. كان يُوليها ظَهره وصَوته يُحَلِّق كالصقر مُجَلجلًا في الفضاء الواسع.. أخذت تمشي بخطوات بطيئة تَحترف التجسس.. تَقلصت المسافة بينهما حتى باتت متران ونصف.. وقَبْلَ أن تَشطب بقدميها النصف.. بَترَت خطواتها كلماته التي قُذِفت من لسانه جَمْرة قَصدت بؤرة قَلْبها مُباشرة...: أنا اللي سمحت لك تتعاون معاي.. وأنا اللي في إيدي ألغي هالتعاون.. سنين وإنت في التحقيق.. سنين وإنت الأفضل بين زملائك.. عطيتك شهرين تنبش فيهم ورا هالوعد.. اللحين جاي تقول لي ما لقيت شي؟ شكلك مستعجل على نهايتك يا حضرة المحقق رائد؟
انتهى
|