كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
أَزاحت الجهاز عن ذراعها قائلةً بِقَلقٍ غَمَرَ عَيْنيها وصَوْتها: يُمه أحس نروح المُستشفى أفضل
ابْتَسَمت لها وهي تعتدل في جُلوسها وتقول بأنفاسٍ قَصيرة: ما لها داعي العبالة.. مُستشفى وتحاليل وفحوصات ما لها أول ولا تالي.. بس بيضيع وقتنا بدون فايدة
هَزّت رأسها: ما عليه يُمه يضيع وقتنا ونتطمن ولا بعدين لا سمح الله يطلع فيش شي ونتأسف إن احنا ما رحنا
ضَحكَت بخفّة وهي تنظر لها من خلف جِفْنيها: حُور يُمّه ليش هالخوف كله؟ عادي يعني ضغطي منخفض.. مو أول مرة
جَلَست بجانبها بعد أن أعادت مقياس الضغط مكانه لتُعَقِّب وبيدها تُشير لوجهها: يُمه شوفي شلون وجهش أصفر.. وضعفانة واجد.. والضغط هالمرة نازل أكثر من كل مرة "احتضنت كَفّها بكلتا يَديها راجِية" حَبيبتي ماما عشان خاطري خلينا نروح.. نتطمن بس.. بنروح مستشفى خاص عشان بسرعة نخلص "ارتخى حاجباها وبتوسّل" الله يخليش خليني أرتاح
رَبّتت على ظاهر يَدها: ما عليه حبيبتي.. بس خل ننتظر جم يوم بعد.. إذا ظل الضغط مثل ما هو وعد راح نروح المُستشفى
استنكرت: وليش مو اللحين؟ ما يحتاج ننتظر
مَسحت على ساعدها بملق مُوَضّحة: أدري لأنّه مال تعب وقلة أكل.. بس أرتاح وآكل عدل بيرجع طبيعي.. لو ما رجع بروح معاش "ابتسمت لها بصدق" والله
تَنَهّدت مُستسلمة لقرارها: زيـن.. مثل ما تبين "وَقَفت وبيدها ساوت قَميصها عند الخِصر وباستفسار" متريقة؟
أَجابت وهي تُضَيّق عَينيها وابتسامة مائلة تشد شَفتيها: شربت جاي حليب
عاتبتها برأسٍ مائل: يُمـه! الساعة قريب الإحدعش وإنتِ تقعدين من الفجر.. ليش جذي تاركة نفسش بدون أكل؟!
كَتمت في صَدرها تَنهيدة شائبة لتُجيب بهدوء: مو مشتهية حبيبتي
حَرّرت شَعرها من الربطة ثُمَّ جمعتهُ عند قمّة رأسها وهي تقول بحزم: اللحين بسوي لش شي خفيف ومُفيد عشان تتغدين بعدين.. وبتاكلين غصبًا عنش.. ما راح أدلعش.. فاهمة؟
ضَحَكت تُشاكسها: من الأم فينا يا حُور؟
رَدّت بابْتسامة وهي تبتعد للمطبخ: حاليًا الأم هي أنا وراح تطيعيني
انْشَغلت حُور في تَحضير الطعام لوالدتها التي ظَلّت جالِسة في مكانها والأَفكار تُواصِل قَطع طُرقات عَقلها.. صحّتها ليست جَيّدة.. هي تعلم ذلك بل ومُتَيَقّنة منه.. لكنّها ترفض الذهاب للمَشفى لسبب واحد فقط.. هي خائفة.. خائفة من النتيجة.. خائفة من اسم المَرض الذي قَد يَنطق بهِ الطّبيب.. ليست مُتأكدة من خطورة ما بها.. قَد يكون تعب بسيط.. فقر دَم أو ما شابه.. لكن احتمالية أن تكون مُصابة بِمَرض خَطير لا تفتأ تَطرق بابَ هواجسها.. أَفَرغت زَفْرة بارِدة من صَدرها وبيديها مَسحت وَجْهها الذي حَفَرَ الماضي ذكرياته بين طَيّاته.. هذا الخَط وُلِدَ بَعْد وَفاة والدتها مُباشرة.. ذاك الذي يَغفو أَسْفَل عَيْنها اليُسرى انبجس من أَرْض وَجْهها بعد أن فارقها والدها.. أَما الخَطان المُتقوسّان حَوْلَ زاوية فَمها اليُسرى.. فَقد كَوّنتهما الابْتسامة المُصْطنعة التي آثرت على ارْتدائها مُذ تَزَوّجت.. وتلك المُتَشَعّبة وَسط جَبينها سَكنت مَلامحها بعدما هُجِّر رَحْمها عن جَسدها قِسْرًا. كان وَجْهها يَغص بعَشرات الخُطوط المُتوارية من خَلْفها عشرات القصص.. لوهلة فَكّرت.. لَو أَن المَرْء يَسْتطيع أَن يُبْصِر قَلْبه كما يُبْصِر وَجْهه.. فكيف سَيكون شَكْل تَجاعيد قَلْبها؟ أَستكون على شَكْلِ حُجْرة مَفْقودة؟ أم نَبضات مُسْتَنفَذة؟ أو رُبّما شِرْخٌ تَشخب منهُ الدّماء؟ أم أنّها سَتُبْصِر بقايا عُضْوٍ تنتحر منهُ الحَياة؟ مَسَحت على صَدرها بحركات مُتتالية وهي تستعيذ بالله بهمس.. لا داعي لهذه الأفكار.. هذا ما أراده الله.. هذا امتحانها الدنيوي.. تَعلم أَنّها سَتُجازى على صَبْرها.. هي الآن إن اشْتهت المَوْت فمن أَجْلِ فَوْزٍ مؤمنة هي بلقياه. تَجاهلت الوساوس المُتَصَيّدة هَشاشتها وبدأت تستغفر وتُسَبّح إلى أن قَدِمت إليها حُور بأطباق الطعام.. قالت بعد أن رَتّبتهم على الطاولة الصغيرة أَمامها: سلطة كلها فيتامينات وألياف.. شوربة تعطيش طاقة.. وماي "رَفعت إصْبعها بتهديدٍ باسِم" إذا ما فضيتين الصحون بأكلش بإيدي غصب
اعتدلت وعَيْناها تَمُرّان على الأطباق القليلة: لا بآكل.. أشوى شي خفيف
جلست بجانبها وفي يَدها عَصير طازج.. كانت تَرْتشف منهُ بين الثانية والأخرى والصّمت يَسْبح بينهما.. لحظات سُكون تُداعبها أَشعة الشمس الباهتة المُنزَلِقة من جوانب الستائر. مَضت دقائق قَبْلَ أن يُزَعْزِع هذه الخُلوة البيضاء دُخوله.. رَفعت رأسها ونَبضاتها مُباشرةً هَرْولت بغضب.. بغيظ.. بألم ووَحْشَة.. تَأمّلت وجهه المُبْتَسِم بِتَرحيب.. لطالما كان غَريبًا عن رُوحها.. لكنّه الآن أَصْبح أغرب من ذي قَبْل.. تَشعر بأنّها مُنفَصِلة عنه.. لا تنتمي إليه.. غريبة هي عن دمائه وجيناته وملامحه.. حتى كلمة أبي عندما تُرَدّدها في نِفْسها؛ تَتَخبّط بتيه باحثة عن ملجأ.. إلا أَنّها لا تَجِده وتعود أدراجها خائبة.. فَرُوحها قَد غَلّقَت الأبواب.. لولا اسْمه المُحتفظة به الأوراق الرسمية خلف اسْمها لَنست تَمامًا أَنّهُ يُقال له والدها. وَقَفَ أَمامها.. أَخْفَضَت عينيها ليده الممدودة دلالة على الرغبة بالمُصافَحة.. بَقِيت مُرَكِّزة بَصرها عليها دون حَراك.. تَساءَلت بصمت.. هل سَتَتنَجّس بجرمه إذ هي صافحته؟ التَفَتت لوالدتها التي قالت بلُطف: ماما حُور سلمي على أبوش
عادت ونظرت ليده.. حَبَست أَنفاسها ورَفعت يَدها وصافحته.. كانت المُصافَحة مُلامسة سَريعة بَدا عليها التّهرب.. كَتَمَ استنكاره في نفسه وتَحرّك ليستقر على الأَريكة أمامها.. تَساءَل والابْتسامة لَم تُفارق شَفتيه: شخبارش؟ من زمان ما التقينا
رَدّت ببصر منخفض: الحمد لله.. زينة.. أنا أزور أمي على طول "نَظرت إليه" ما أشوفك اهني
أَسْنَدَ ظَهر وذراعه تَسْتريح بجانبه: تعرفين بعد الشغل.. ماخذ كل وقتي "استطردَ باهتمام" شلونه يوسف؟
تَشابكت عَينيهما عندما أَفْصَحَ عن هذا السؤال.. للحظة تَعَثّرت وَسَط مُقلتيها نظرة ارْتباك حاولت أن تَتدارك نفسها وتُخَبّئها.. لا تُريده أن يُراوده الشك حيال موضوع يوسف ووالده.. فهي لا تَسْتبعد أَن يَتجاوز حَدّه في ضَرِ يُوسف من أجل حِماية نَفْسه.. لذلك شَدّت على قَبْضتها تُرَمّم ثَباتها.. استعانت بابْتسامة خَفيفة لتُجيب بنبرة هادِئة: يوسف زين.. يسلم عليك
: الله يسلمه "وهُو يُخرج هاتفه الذي علا صوته من جِيبه" سلمي عليه "وَقَفَ وعيناه مُتَوَجّهتان للشاشة بانتباه شَديد" أستأذن
تابعتهُ إلى أن خَرَج من المنزل.. ظَلّت شاردة في اللا شيء وعقلها يتراجع للأيام السابقة.. لتلك الساعة تحديدًا التي أَلقت عليها فيها مَلاك قُنبلة كانت قَد تَفَجّرت ماضيًا دون أن تَنتبه لما خَلّفته من دَمار.
،
تَساءَلت باسْتنكار وهي تراها تَتلفت بريبة وقَلق: ليش جذي تلتفتين؟ جنه أحد يراقبش!
نَظرت إليها لتهمس: الصراحة حُور "عادت ودارت ببصرها على الأرجاء قَبْلَ أن تُكمل وعينيها مُتركزتان في عَيْني حُور" هو فعلًا في أحد يراقب.. ما يراقبني بس أنا.. يراقبنا كلنا
عُقْدة خَفيفة تَوَسّطت حاجِبَيها وفَمها مَرَّ عَليه طَيْف ابْتسامة وهي تَقول: شنو هذي مزحة لو مقلب لو شنو!
أَغْمَضت للحظات قَبْلَ أن تُجيب بنبرة خائبة: لا حُور.. لا.. يا ليت مقلب "أَبْعدت خصلاتها عن وجهها المُبَعثر الملامح وهي تَزْفر ارتباكها ومن ثُمّ سَألتها" تذكرين ذيك الليلة.. يوم سوت لنا انترجن عصير؟
دَارت عدستاها وَسط البياض مُعَقّبة باسْتغراب: غالبًا انترجن تسوي لنا العصير.. يعني هي مو مرة ولا مرتين عشان بذكر! وليش أصلًا قاعدة تذكريني؟
تجاهلت سؤالها مُواصلة تَذكيرها: كانت ليلتها مشتغلة واجد.. وآخر شي عصرت لنا برتقال.. وجت بتضيفنا بس عند باب المطبخ إنتِ أخذتِ منها الصينية عشان ترتاح.. تذكريــن؟
أَرْخَت طَرْفها تَبحث بين الأحداث العابرة لليالي السابقة المُختزنة في عقلها.. عصير.. عصير برتقال من صنع انترجن.. كانت ستضيفهم ولكنّها أخذت العصير منها.. لحظة.. عند باب المطبخ.. حتى تذهب ترتاح.. آه.. نعم نعم.. رَفعت رأسها: ايــــه تذكرت "مالَ رأسها بعدم فهم" بس شدخل انترجن باللي قلتيه في البداية؟
نَظَرت لها لثواني دُون جواب بنظراتٍ أَجّجت من استغراب حُور قَبْلَ أن تَلتقط حَقيبتها القَريبة.. فَتحتها وأخرجت منها ورقة بيضاء مطوية.. مَرّرت لسانها على شَفتيها وهي تتأمّلها.. رَفعت رأسها وبتردد قَدّمتها إليها.. تناولتها حُور منها وأسئلة عَديدة تَجول حَول رأسها وفي عَيْنيها.. فَتحتها.. قَرأت المكتوب.. اسم ملاك الرباعي.. رقمها الشخصي.. عمرها وفي الأسفل نتائج تبدو لتحليل دَم.. نَطقت باستغرابٍ كَبيـر: مـلاك شنو هذا؟ "اتّسعت عيانها لتهتف بابْتسامة واسعة" لا تقولين هذا تحليل حمل وإنتِ حامل؟ امبــلى حامل وتقصدين البيبي يوم تقولين إن في أحد يراقبنا
نَظرت لها بدهشة: من وين جت في بالش هالفكرة الغبية! "نَفت ما استنتجته" لا مو حامل.. هذا تحليل لدمي.. بس مو تحليل حمل
أَخفضت الورقة وهي تقول بإحباط: أفــا.. وأنا كنت مستانسة "صَمتت تستوعب ثُمّ تساءلت" انزين التحليل لشنو؟ "وبشك يخامره خَوْف مُتَردد" إنتِ فيش شي؟
أَجابت بجدية: لا ما فيني شي.. اللحين الحمد لله ما فيني شي.. بس ذيك الليلة عقب ما شربت العصير.. في السيارة واحنا راجعين البيت.. استفرغت بطريقة غريبة.. وصادني غثيان ودورة وخفقان مو طبيعي
فَغرت فاهها بصدمة وعقلها مُباشرة رَبط الخيوط.. هَمست بتعثّر: إنتِ.. إنتِ تقصدين.. العصير.. انترجن.. حاطة فيه شي!
هَزّت رأسها مؤكّدة: اي.. "أشارت للورقة" نتيجة التحليل بينت إن العصير كانت فيه مادة تسبب الهلوسة وفرط نشاط للأعصاب وتلخبط في نبضات القلب.. أنا جسمي رفضها من جذي استفرغت بهالطريقة "استطردت" تدرين حُور شنو معنى اسم انترجن "وبحدّة" اللي وظفها أبوش في بيتكم؟
حُور التي اختنقت من الذي بَصقتهُ عليها ملاك؛ أجابت بهمسٍ مبحوح: لا!
نطقت بكلمة واحدة صَفعت وَعيها: مَكيـــدة
,
كانت تتأمّل العصير ومعنى الاسم يَتردد في عقلها.. مَكيدة.. مَكيدة زَرعها والدها وَسط منزلها.. هي مُتيقنة تسعة وتسعون بالمئة بأنّ تحليل مُحمّد صَحيح.. فهذه الخادمة وَظّفها والدها لمراقبة يوسف ولزج عقاقير تؤثر على وَعيه بين دمائه.. حتى السائق.. لَم يَسْتبعد مُحَمّد أن يكون شَريكًا مع الخادمة.. مع المَكيدة. فحتى هذه اللحظة.. أَتُلام إذ تنافرت رُوحها البريئة مع رُوح والدها الخَبيثة؟
: حُور ماما؟ "هَمهمت بفكرٍ غائب فتساءلت والدتها باهتمام" حَبيبتي شنو فيش؟ من طلع أبوش وإنتِ ساكتة وتفكرين.. شنو شاغل بالش؟
مَرّرت سَبّابتها على فوهة الكأس بلا جواب.. فهي كانت تتناقش مع ذاتها.. هل تُفصح عن سؤالها أم أَنّها تلتزم الصمت؟ نادتها والدتها من جديد: حُـور! شعندش مع السرحان؟ "وبضحكة مازحتها" إن شاء الله قاعدة تخططين تخطفيني وتوديني للمستشفى غصب
استدارَ رأسها إليها وكأنّها للتو تنتبه.. والدتها مريضة.. نعم حور أنتِ تعلمين ذلك.. قبل نصف ساعة كُنتِ تُحاولين إقناعها لزيارة الطبيب.. هي مريضة.. نَفسيًا أكثر مما تكون مريضة جسديًا من خلال ما كَشفتهُ لها المواقف والأحداث.. فيكفيها ما أهمّها. حَكّت أنفها بطرف إصْبعها قَبْلَ أن ترسم على شَفتيها ابْتسامة وتقول بنبرة مُطَمْئِنة: لا لاتخافين.. بخليش على راحتش
سألت من جديد: زين حق شنو السرحان؟ ولا سر؟
نَفت: لا.. بس "نطقت بأوّل شيء خَطر في بالها" اي.. أفكر في الجامعة اللي قلت بسجل فيها وولا سجلت "سخرت من نفسها وهي تضحك" طلعت بس أعرف أتحجى.. وفاشلة في التنفيذ
رَبّتت على فخذها تُراضيها: ما عليه حبيبتي.. انشغلتين مع زوجش.. خيرة إن شاء الله
تَمْتمت ببسمة تحمل في بطنها عبوس: إن شاء الله
,،
ارْتَدت مَلابسها.. أَحاطت وجهها بحجابها.. ثَبّتت الحقيبة على كَتفها.. ثُمَّ طَوت المعطف الأبيض فَوْق ذراعها.. كُل ذلك فعلته بآلية وبحركة بطيئة توحي بالكآبة.. خَطت مُغادرة الغُرفة.. وقَبْلَ أن تخرج من الشقة أَخفت عَيْنيها بالنظارة الشمسية الكبيرة.. لا تُريد لأحد أن يُبْصِر اعتلال مَلامحها. هي مُذ اسْتَيقظت صَباحًا وحالها مُنقَلِبٌ رَأسًا على عَقِب.. هدوء مُوْحِش يَصُم الآذان ويَنقبض منهُ القَلب ذاك الذي كان يَملأ دَواخلها.. كانت وكأنّها قَد انفصلت عن صَخَبِ العالم لِتُسْجَن بين قُضْبان هذا الصّمت الذي يُجْبِرها على إعادة شَريط الحُلْم الذي عاثَ فَسادًا في نَفْسِها. نَزلت العَتبات والحُلم يَشق ذاكرتها من جَديد.. كانت تَقِف بطولٍ رَهيب يُشْبِه سَطوة الظالم إذا أراد أن يُذِل.. تَقِف فَوْقَ رَأسه وهُو مُنْكَمِشًا في الزاوية يَتَوَسّلها.. لكنّها لَم تَكُن تَسْمعه.. حَقيقةً هي اختارت ألا تَسمعه.. فهي بلا رَحْمة ولا عَطْفٍ هُو وَليدًا للحُب؛ كانت تَضربه.. بسوطٍ على ما تعتقد.. أي كانت تَجلده وهو يَبكي ويرجو منها كِفاية.. نَعم هُو.. عَبد الله. ازْدَردت ريقها المُتراكمة فيه الغَصّات مُنذ ساعات.. لن تبكي.. لن تبكي.. حُلْمٌ تافه ولا معنى له. تَنَشّقت.. رَشّحت صَوْتها من العبرات المكتومة.. ثُمّ مَسّت أنفها بظاهر سَبّابتها. تَقابلت مع غَيْداء القادِمة من المَطْبخ وهي مُحَمّلة بطبقٍ كَبير باتّجاه غُرفة الطعام.. ابْتَسمت لها ابتسامة صَفراء تُناقض الابْتسامة المُنتعشة المُتسَرْبِلة بها شَفتي حَماتها بحلاوة. تَساءلت وهي تنتبه لمعطفها: اللحين دوامش؟
هَزّت رأسها: اي اللحين.. بعد ساعة إلا ربع تقريبًا
استوعبت: أووه يعني ما بتتغدين "اقترحت" خَل أحط لش غدا في الحافظة واحمليه معاش
تلقائيًا تَصَدّعت ملامحها: لا غيداء مشكورة مابي
مالت شَفتاها: ليش عاد! تراش محسوبة ويانا
أَصَرّت: والله حبيبتي تسلمين مابي "كَذبت" متريقة متأخر.. إذا جعت باكل لي أي شي من المستشفى أو حتى بطلب لي
حَرّكت كَتفيها وهي تعود وتبتسم: على راحتش
تَحَرّكت مُبْتعدة: مع السلامة
: في حفظ الله
فَوْرَ تجاوزها للباب الداخلي ارْتَفعت نَغمة الرسائل من هاتفها.. أَخرجته من الحَقيبة وهي تَمشي باتجاه مَرْكبتها.. انقبضت حُجْراتها.. كانت رسالة من عبد الله.. يَطلب منها أن تذهب إلى المشفى مع السائق حتى تعود معه بعد انتهاء الدوام.. لَم تُعَقِّب على رسالته وبدلًا عن ذلك هي اتصلت إليه.. رَدّ مُباشرة: هلا والله.. مساء الخير
بخفوت ونبضٍ مُرْتَبِك: مساء النور "اسْتَفسرت" ليش تبيني أروح مع السايق؟ إنت تخلص قبلي بجم ساعة
وَضّح: عندي جم شغلة بقعد أخلصها.. وتقريبًا بخلص في نفس وقتش.. قلت نرجع مع بعض.. وترى عطيت أكبر خَبر
بموافقة وهي تُغَيّر اتجاهها: زيــن
هَمَسَ ومن خَلف صَوْته اسْتطاعت أن تلتقط أصوات بعض الأطباء: أوكي حَبيبي.. أشوفش
أَنهت الاتصال في الوقت الذي كانت تدخل فيه السيارة.. سَلّمت بهمس وعَيْناها لا تزالان على الشاشة.. كانت تقرأ رسائل المُعاتبة التي أرسلتها لها شَقيقتها مَرام.. ابْتَسَمت بخفّة وهي تختار رَقمها.. رَفعت الهاتف ليأتيها الجواب بعد ثواني: هلا بالمغرورين.. أكثر من أسبوع غايبة.. نسينا شكلش
مَرّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تُعَقِّب بنبرة مُرْتَخِية: شكلي بعده مثل ما هُو.. ما ينتمي لكم
ضَحكت: يعني ما غيرته الغيبة وصار بيننا شبه بالغلط؟
بثقة بها شيء من خمول: لا للحين متميزة عنكم.. أشبه أمي الله يرحمها وبس
: الله يرحمها " استفسرت" شفيه صوتش؟
أَسْندت جانب رأسها للنافذة: شفيه؟
وَضّحت: تعبان
هَمْهمت بالإيجاب: شوي تعبانة
مُباشرة أَفصحت عن الاستنتاج العَجيب: يمكن حــامل
تَقَلقلت عَدستاها على الشارع المُكتَظ دون أن تنطق بكلمة.. ارْتَفعت كَفّها لبطنها وبخفّة ضَغطت عليه.. قالت بخفوت: لا.. مو حامل
: وإنتِ شدرااش إلا على طول تنكرين؟
ارْتَفَعَ حاجِبَاها واعتدلت في جلوسها مُسْتَنكرة: يعني شنو شدراني! كل وحدة تعرف نفسها
تساءلت: مسوية تحليل يعني وطلعت النتيجة بالسالب؟
شَدّت قَبْضتها ومن ثُمّ التفتت جانبًا وبطرف إصبعها مَسّت صِدْغها: لا ما سويت.. أنا أدرى بنفسي "استطردت قبلَ أن تَتعمق في الأسئلة" بسكّر مرام.. وصلت المستشفى
تفهمتها: أوكي.. بس عاد خلينا نشوفش
هَزّت رأسها وكأنها تراها: أوكي... باي
أخفضت الهاتف وحواسها مشدوهة للاستنتاج الذي نطقت به شَقيقتها.. نَظرت للشاشة بفكر غائب حتى انطفأ ضوءها.. تابعت الطريق من النافذة.. هم فعلًا بالقرب من المُستشفى.. أَلَقت نظرة على الجهة المُقابلة من الشارع حيثُ تَقبع الصيدلية.. ساقها اليُمنى تَهتز بلا إدراكٍ منها وقَدمها تَصطدم بأرضية المركبة بضرباتٍ مُتلاحقة. هي انشغلت في العَمل والتفكير في موضوع بَلقيس وانتقامها ونَسِيَت أمر الحَمل أو لنقول تَناسته.. لَمست الشاشة بإصبعها.. استعلمت تاريخ اليوم وفي نَفسها تَساءَلت: متى كانت آخر دورة لها؟ أَغمضت وبيدها دَعكت فوق حاجبها بتفكيرٍ قَلِق.. لا تتذكر.. كالعادة هي لا تحفظ مواعيد دورتها ولا تسجلها.. فلا تدري هل هي متأخرة أم لا.. وكذلك علاقتها مع عبد الله مُسْتمرة بانتظام.. فاحتمال كونها حاملِ ليس ببعيد. تَلَقّفت شَفتها السُفلية بأسنانها وحركة قَدمها لَم تتوقف.. السيارة هذه هي تقترب من باب المُسْتَشفى.. استدارت للخلف تنظر للصيدلية.. الحل الأسلم والأكثر أمانًا.. في المستشفى الأعين تكون مُشَرّعة والآذان صاغية على مَدار الساعة.. لذلك التَفتت للسائق قائلة: أكبر ارجع حق فارمسي
وافقَ أكبر بطاعة وأَدارَ المقود ليعودا للشارع المؤدّي للصيدلية.. نزلت دُون أن تسمح لنفسها بالتردد أو التراجع.. اشترت ما تحتاجه ثُمّ عادت لتمضي بها المركبة إلى المُستشفى من جديد.. شَكرت أكبر قَبْلَ أن تُغادر.. كانت تَقريبًا تُهرول وهي تتجه للداخل.. اتّجهت لدورات المياه الخاصة بالموظفات.. أَخرجت الكيس من حَقيبتها وتناولت العلبة.. أَفرغت ما فيها لتُطَبّق التعاليم بحذر ثُمّ بَقِيَت واقفة تَنتظر وَجِلة.. بإصْبَعيها تَحْمل الجهاز الطولي ويَدها قَد سَوّرتها الرّعشة.. على الرغم من برودة الجَو في مثل هذا الوقت من السنة.. إلا أَنّها من شِدّة تَوتّرها كانت كمن اسْتَحَمّ بالعَرق.. وَجْهها وأَطْرافها مُحْمَرّة وقَلْبُها يَخفق بطريقةٍ أَشعرتها بأنّهُ قَد تَضَخّم من فَرط ما استفرغ من نَبضات. الاحتمالان يَجولان في خلدها ولا تدري أيّهما تُرَجّح وجُل حَواسها كانت مُلْتَفِتة للنتيجة المَصيرية.. وبينما هي كذلك إذ انعكَس في صَفحة عَيْنيها الجَواب.. تَلألأ شَيءٌ في عَدستيها.. شيءٌ يُشْبه الماء.. دَمعة رُبّما.. أَحْنت ظَهْرها وهي تَشِد على وَسْطها.. اسْتَنشقت الهواء بتهدّج ومن بين بَعثرتها هَربت شهقة وانتحرت.. رَفعت يَدها وبظاهرها كَبست على شَفتيها بقوّة وبَصرها يَتحرك بشعواء على المجال المحدود أمامها.. تضاعف احْمرار وَجْهها كما لَو أَنّها تحبس انفجارًا داخلها.. اليوم صَفعت الدّمع لرمتين وأَبْكَمت صَبيبه جَبْرًا.. تُرى مَتى سَينكسر صَمْته ويَتَفَجّر ليفضحها؟ لم تنتظر أن تهدأ.. بسرعة أعادت الجهاز للعلبة وحشرته في الكيس الذي عَقدته لعدّة مرّات قَبْلَ أن تُلقيه في سلة المُهملات.. نَظّفت يديها جَيّدًا ورَشَحت وجهها بالماء لتُخَلّصه من شوائب التباسات رُوحها.. جَفّفته قَبْلَ أن تُرَتِّب حجابها لتخرج إلى الجَناح.. تنحنحت وحاولت وبشق الأنفس استطاعت أن ترْتدي ابتسامة طَبيعية.. خَطَت وأَمام ناظريها عادت النتيجة لتَسْتَقِر.. صَرخ قلبُها باعتراضٍ شَديد.. لَم تُعجبني النتيجة.. لَم تُعجبني البتّة.
,،
إنّها المَرة السادسة التي يَتّصل فيها وهي تَتجاهله بِتَعَمّد.. الارْتباك المأهولة بهِ رُوحها وحواسها يَمنعها من مُحادثته.. تَخْشى أن يَزِل لسانها بِكَلمة، أو حتى أن يَسْتَشِف من نبرة صَوْتها الغَرابة. الليلة سَتلتقي مع مَلاك في شقة طَلال.. ملاك شَقيقة زوج حُور.. التي قَد تَكون ابنتها.. حَنان. سارت بين أوصالها قَشْعريرة حينما لاحَ لفِكْرها هذا الاعتقاد.. لا تُريد أَن تَتأمّل.. الشَبه ليس بدليلٍ كافٍ.. فَقد تكون مَلامح حُور الطفلة المُسْتَنسخة من ملامحها مَحض صُدْفة.. وشُكوكهم جَميعها ما هي إلا آمالٌ رَكيكة لا تَسد صَدْع الفَقْد الغائِر في ذاتها. كانت تَقِف أَمام المرآة تَتأَمّل صورتها الخالية من أي شائبة.. امْرأة ذَرّفت على الأَربعين.. لها جَسَدٌ يُشْبِه الحُلم الناقص.. ذاك الذي تَكادُ أن تَلمسه في مَنامك فتُباغتك صَحْوة الواقع الجامد.. مَلامح ناعِمة.. رَتّبها الله بعنايةٍ وَجمال.. ثَقافة لَعقت الأَرْض حتى مَلكتها.. ولباقة سَلخت جِلْدها لِتَرْتَديها.. كانت كامِلة إلا من نُقْصٍ بَشري قَدّره الله لعباده. هل لو كانت حُور هي حَنان.. ابنتها.. هل سَتُعْجَب بها؟ سَتحبّها؟ سَتَتقبّلها؟ زَفَرت هواجسها وبكفّيها أَخفت وَجْهها المُعْتَرِكة فيه علاماتٍ مُتناقضة.. ما بين الثقة والاضطراب والحُزن والإحباط هي ضائعة. أَخفضت يَديها مع ارتفاع صَوْت الهاتف.. هذه المرة كانت رِسالة.. منه بالطّبع.. تناولت الهاتف لِتَقرأ مَضْمونها الذي كان " ما أدري شنو سبب عدم ردش على اتصالاتي بعد إصرارش القوي والغريب على الاجتماع معاي والكلام بخصوص أمور ما تفيدش في شي.. أتمنى ظنوني تكون خائبة.. وأتمنى إنش بخير.. راح أعطيش فترة نقاهة مني.. يمكن تفكرين تعيدين حساباتش"
التقطت زاوية شَفتها السفلية بأسْنانها وعَيْناها تَمُرّان من جَديد على كلماتٍ مُعَيّنة.. "الغريب".... "ظنوني"... "نقاهة"... و"تعيدين".. دارت أَصابعها بحيرة على الحُروف وهي تَتراجع لتجلس على سَريرها.. الواضح من كلماته هذه أَنّه بَدأ يُفَكِّر فيها بطريقة أخرى.. يبدو أن تصرفاتها الأخيرة زَرعت في نَفسه المَريضة شُكوكًا قَد تكون صَحيحة.. زَمّت شَفتيها وبطرف الهاتف دَعكت ذقنها مُفَكّرة.. بماذا تُجيب؟ كيف تَمْتص من عقله هذه الاحتمالات؟ لا تدري لا تدري! هي في هذا الوقت وبهذا الكَم الهائِل من القَلق؛ غير قادرة على توليد أي فِكْرة.. زَفَرت من جَديد وبمرفقها اتّكأت على فخذها.. أَعادت خصلات شعرها للوراء وبَصرها مُعَلّقًا بالهاتف.. بماذا تُعَقّبين فاتن.. بماذا؟ فَكّرت وفَكّرت.. وفَكّرت.. ثُمّ اهتدت لهذه الكلمات.. " أنـا وعد.. أعتقد اسمي كافي ما أحتاج أفَصّل لك.. بس إذا تبي أذكرك بذكرك مرة ثانية وعاشرة.. عندي غيرك أشغال.. مع اللي مثلك واللي أكبر منك.. وراح نلتقي متى ما أنا أحدد"
مالت شَفتاها بابْتسامة ثِقة يُخامرها ضيقٌ خَفي.. رَمت الهاتف على السرير في الوقت الذي صَدّرت من صَدرها للهواء زَفْرة مخنوقة.. وَقفت ودارت حول نَفْسها.. يا الله.. بقيت ساعات حتى الاجتماع.. كيف ستصبر؟! تسلقت جَبَل الصّبرِ لسبعة وعشرين عامًا.. وها هي بعد جُهْدٍ سَحيق وعناءٍ مَرير تَقترب من القمّة.. فهل سَتظفر بسُقيا تُطْفئ أوار الفؤاد؟ أَم أن الذي ترْجاه ما هو إلا سَرابٌ تَحْسبهُ الثَّكلى لِقاء؟
,،
ضِحْكاتها تَعلو حَماماتٍ زاجلاتٍ بيض.. تُوْدِع في قَلْبها رَسائل الأمومة والحُب والرّغبة في الحَياة.. تُلَوّح لها بِكَفّها الصّغيرة كما لَو أَنّها تُزيح ضَباب الكَمَد الذي شَوّش في عَيْنيها رؤية السعادة.. هي مَجْروحة.. لأقصى رُوحها مَجروحة.. جِرْحًا مَسْتورًا والآخر مُعَرًّى على فَخْذها. عَبرَت ظَهرها قَشْعريرة وقُبْلته صَباحًا تُلاطف مشاعرها.. صَدمَها.. بنظرته ولمساته، بقُبْلته وأَسَفه.. على الرّغم من الجِرح فهي سامحته.. حتى قَبْلَ أن يطلب منها.. لَم تَجد للراحة بابًا سوى السَماح.. تعتقد أَنّهما مُتعادلان.. لحدٍّ ما.. فَلِمَ لا يَعود السيف لغمده؟ وتهدأ طُبول الحَرب؟ وتعلو رايات السلام؟ لِمَ لا؟ ارْتَفَعَ صَدرها بتنهيدة خافِتة.. طَردت عن ملامحها أَيُّ آثارٍ دَخيلة عندما نَزلت صَغيرتها من اللعبة وجَرت إليها بابْتسامة تَشع فَرحًا.. احتضنت يَدها وبسؤال: ها حلوة اللعبة؟
عَبّرت بحماس: عَجيــــبة
داعبت أنفها: حَياتي إنتِ "أشارت لباقي الألعاب وَسط هذا المكان المُزْدَحِم بالناس" أي لعبة اللحين تبين؟ راح تكون الأخيرة قبل الفيلم
تَأمّلت الألعاب بعينيها الواسعتين قَبْلَ أن تُشير بإصْبعها: هذيك
نَظرت إلى حيث أشارت.. كانت لعبة تسلق الجدار.. اسْتَفسرت بحذر وهي تخطو معها إليها: ماما تعرفين لها؟ أحسها خطيرة
ضَحَكت الطفلة: لا ماما عــادي مو خطيرة.. كان يوديني بابا البلاي قراوند وألعب فيها "وبثقة أردفت" سَيْف سَيْف
هَزّت رأسها بموافقة وابتسامة: زيــن.. إنتِ أدرى
تجاوزت جَنى الباب الصغير باتّجاه الجدار.. أَلبسها الموظف أحزمة السَلامة والخوذة الخاصة.. تَمَسّكت بالحبل بحماس وهي تَبْتسم بسعة لوالدتها.. بَدأت الساعة بحساب الوَقت المَسْموح لهم فيه باللعب.. أَخذت تَتسلّق برشاقة واحتراف.. ارْتَفَع حاجِبا جِنان وشَفتاها تَميلان بابْتسامة تقييم عالي.. يبدو فعلًا أنّها مُتمكنة من هذه اللعبة. أَخرجت هاتفها من الحَقيبة لتلتقط بعض الصور.. كانت جَنى كُلّما وَصَلت للقمّة اسْتدارت لها بضحكة وهي ترفع قبضتها دلالة على الفوز وجنان بكل زَهْو وجَذل كانت تَلْتقط هذه الأفعال العَفوية منها.. وأثناء اندماجها في تصوير فيديو قَصير لَفتها تَوَقّف جَنى عن التسلق وتعلّق بصرها بشيءٍ لَم تَعلمه.. وَقبْلَ أن تَسْتدير لتستعلم.. ارْتَفَع نداء جَنى المُتَفاجئ: بــابــا!
التَفتت تنظر للذي خلفها ويَداها تنخفضان بالتوالي.. ارْتَطم قَلْبُها بصدرها عندما أَبْصَرته يَسير إليها وعَيْناه وابْتسامته مُتَوَجّهتان لابنته التي كانت تُلَوّح له بسعادة كبيرة.. بادلَ جنى التلويح ثُمّ وَقَف خلف السور بجانبها.. نَظَرت إليه والاسْتغراب يتصادم مع الأسئلة وَسط مُقلَتيها.. حَشَرَ يَديه في جَيْبي بنطاله وهو يهمس دون أن تُغادر عَيْناه ابنته: ذيك الليلة.. اتصلت فيش أكثر من مرة.. بس ما رديتين.. ولا اتصلتين.. ولا حتى كتبتين شي... ليش؟
صَمتت تَستوعب عن ماذا يتحدث.. وعندما امتص عقلها مَقصده اهترأت ملامحها بتَعَبٍ وكآبة.. هَمَست بإحباط: للحين فيصل؟ للحيـن!
رَنا لها بطرف عَيْنه قائِلًا بنبرة التَقطت مَسامعها فيها الرّجاء: جاوبيني جِنان.. جاوبي على قَد السؤال
تَنَهّدت وبدورها استدارت تُواجه اللعبة وعَيْناها تُساندان عَيْنيه في احْتواء جَنى.. أَجابت بهدوء: كان تيليفوني سايلنت.. وأساسًا ما فتحته إلا يوم ثاني.. بعد ما رجعنا من المستشفى.. طول اليوم كنت مشغولة مع البنات.. اندمجنا في السوالف والتسوق.. وإنت بعد كنت مع ربعك.. فما توقعت تكلمني.. عشان جذي ما اهتميت له "نَظرت إليه" والله ما شفت اتصالاتك إلا يوم ثاني
انتظرت منهُ تَعقيب.. هُجوم.. لَوْم.. أي شيء.. لكنّهُ فَضّل حَبس الكلمات.. أَرْخت كَتِفَيها ومن فَمها عَبَرت زَفْرة مُرْسَلة من قِبل رُوحها، ومُذَيّلة بمُلاحظة تقول بأن أَضْناني الانتظار.. أَضناني انتظار العَفو.. ارأف بي فَيْصل.. ارْأف بي! انتهت اللعبة ولَم يَنتهِ الوَجع.. رَكضت جَنى لوالدها تَشرح لهُ كَيْفَ رَفْرَف قَلْبها مُذ رأته مُقْبِلًا.. قَبّلَ جَبينها ثُمّ وَجّه سؤاله لجِنان: وين بتروحون اللحين؟
تنحنحت لتُجيب ببحة وعدستاها تتهربان منه: السينما "نظرت لساعتها" شوي ويبدي الفيلم
هَزّ رأسه: زين أنا ماشي
رَفعت عَيْنيها إليه باسْتنكارٍ كَبيــر.. تَسَلّقت الغصّة صَدرها لتختنق في حَلْقها والمُقلَتَيْن هَتَفَ فيهما الدّمع.. أَقطعتَ مَسافة من أجلِ سؤالٍ واحِد؟ تَركتَ كُل شيء من خلفك وأتيت إلى هُنا لتُوقظ الضيق في صَدري؟ أو أَنّكَ أَردتّ أن تُنَبِّش عن خَطأ جَديد يَسْتغلّه كبرياؤك ويعذبني به؟ الرّحمة فيصل.. الرّحمة! أَرْخت أَهْدابها وأسْنانها أعانتها على كتم البُكاء وانقضّت على شَفتها السُفلية.. لم تَكن تنظر إليه ولا حتى لجنى.. ولكن حديثهما كان يصلها.. فجنى قالت بإحباط: بـابا ليــش بتروح؟ "أمسكت يَده الكَبيرة بكلتا يديها مُتَوَسّلة" تعال معانا السينما.. بليز بابا بليـــز
ابْتَسمَ باعتذار: ما أقدر حَبيبتي.. عندي شغل قريب من اهني وقلت بس أمر أشوفكم قبل لا أروح له
ببراءة اقترحت: عادي.. قول لهم الفيلم بيبدي بجيكم بعد ما يخلّص
شَدّت على قَبْضتها وضِحكته المَبْحوحة اسْتَفَزّت خَيْبتها.. عَقّبَ وهُو يُخلّلَ أصابعه بين خصلات شعرها: يا ليت يصير أقول لهم.. بس للأسف ما يصيــر "تَقَوّست شفتاها بزَعل فأرْدَف بهمس بعد أن قَرْفَص حتى يُقارب طُولها" بابا هذي الطلعة بس حقش وحق ماما.. أونلي فور قيرلز.. ما يصير أنا أخربها.. مرة ثانية بنخليها طلعة فاملي تمام؟
حَرّكت كتفها: أوكي
مَسّ شَفتيها الصغيرتين بإبهامه: أشوف الابتسامة الحلوة "ابْتَسمت بسعة فَقبَّل خَدّيها ثُمّ استقامَ واقفًا وهو ينادي زوجته" جِنان
رَدّت بصوتٍ قاربَ على المَغيب: نعـ ـم
اقتربَ منها هامِسًا: طالعيني "أَشاحت عنه ورَقْرَقة الدموع أَزّمت قَلْبه.. أكملَ وعيناه مُتَعلّقتان بشفتيها وذقنها المُرتعشين" بقول شي وأبيش تطالعيني "أَغْمَضت بضعف ورأسها يَميل كناية عن الاعتراض.. طَلبَ من جديد" طالعيني جنان.. أرجوش
فَتحت عينيها ويدها أسرعت للمؤق تُخفي فضائحها.. تَنَشّقت ثُمّ وبتردد ساقت البَصر إليه.. هُو ابتسم.. أو أن عَيْناه ابْتسمتا؟ لَم تُكن مُتَأكّدة.. فجَميع حواسها كانت مُلْتَفِتة بدهشةٍ وذهول للعَلمِ الأبيَض الذي رَفعه لسانه.. فهو قَد هَمَسَ بالكلمة التي نَسَفت الحَرب عن بكرة أبيها: مَــسْــمــوحــة
,،
قَبّلَ رَأسه لتنفذ إلى قَلْبه رائحة الطفولة المُميزة.. ابْتَسَم وهُو ينظر لوجهه المُطَعّم بالبراءة.. ضَحكَ بخفّة عندما وَجدهُ يُبادله النظرات كما لو أَنّهُ يَتعرّف عليه.. هَمَسَ له: ما ألومك على هالنظرة.. ما تشوفني إلا جم ساعة في اليوم "مَسَحَ على خَدّه المتورّد وهو يقول بنبرة مَسْموعة" لون عيونه صار أوضح
أَضافَ أبا حَنين: مثل لون عيون أمه
أَصْدَرَ من بين شَفَتيه صوتٌ نافٍ وعَيْناه تَتراءى لهما ذلك العَسَل الفَريد، وبنبرة غارَ فيها شيءٌ لا يُقال: عيون حَنين أَفتح
دَقّقَ في عَيْني حَفيده قَبْلَ أن يقول: اي يمكن شوي
قَرّب ابنه منهُ أَكثر ليَغمر أنفه بنحره الصافي.. اسْتَنشق رائحته المُختلطة برائحتها التي هَجَرت رئتيه.. هَمَسَ وهو يُسْكنه حِجره ويمسح بيده على شَعره: وحشني.. ما تكفيني هالساعات "ابتسمَ مُكمِلًا" لو يصير جان أخذته معاي جم ليلة
تَبادل الوالدان النظرات وشحنات القَلق تنتقل بينهما.. عَركت أُم حَنين يُسْراها بيمينها حتى احْمَرّت أَطْرافها.. مَرّرت لسانها على شَفتيها ومن ثُمّ نَطقت بالذي يَجول في خاطرها: وليش ما تاخذه؟ "رَفَعَ عينيه إليها باسْتغراب وهي أكملت مُبَيّنة مقصدها" اخذه هو وأمه.. أكيد ما بيظل وضعكم جذي على طول "أَرْخى بَصره لإصْبعه القابض عليها الطفل بكفّه الصَغيرة والجدة تُواصل" لازم تقعدون وتتفاهمون.. إذا مو عشانكم عشان هالصغير اللي توه جاي على الدنيا.. شنو ذنبه يعيش في حياة غير مستقرة؟
حاولَ أن يَبْتسم ويُكسب صَوْته الثّبات وهو يُعَقِّب دون أن يَرفع عَيْنيه: عمتي ما في شي نتفاهم عشانه.. حَنين تمر بفترة صعبة وتحس وجودها اهني أفضل لها.. وأنا اللي عَلي إنّي ألبّي رغباتها عشان نفسيتها وصحتها
اقترحَ عَمّه: انزين إنت تعال اهني معاها.. البيت بيتك
رَدّ ببصره المُشيح: اعذرني عمي بس ما أقدر أترك أبوي في البيت بروحه
نَطَقَت عَمّته باستنكار: انتو حتى ما تشوفون بعض.. من جبتها اهني ما تلاقيت معاها! "مالَ رأسها قَليلًا وبأطراف أصابعها دَعكت أعلى حاجبها مُرْدِفة" أدري هي رافضة إنها تقابلك.. بس يُمّه بسام إنت ما يصير تطاوعها
نَظَرَ لها بابْتسامة اصْطنعتها شَفتيه ولَم تستقبلها عَيْنيه: عمتي أنا أهم شي عندي راحتها.. ما أبي أضغط عليها وأخلي الأمور تزيد سوء.. خلها على راحتها لين ما تتحسن أمورها "صَمت لثواني ومن ثُمّ أكمل وهو يعود بنظراته لابنه" وبعدين بنشوف شنو بتقرر
تَمْتَمت باسْتسلام: الله يهديكم "وَقَفت وهي تقول" بروح أجيب لك جاي
رَفَضَ سَريعًا: لا عمتي ما يحتاج.. اللحين بمشي
ارْتَفعَ حاجباها: بسّام ما صار لك ساعة من جيت!
وَقَفَ لِيُسَلّمها الطفل بعد أن تَرك على رَأسه آخر قُبْلة: ما عليه عمتي.. بس من الصبح أنا برا البيت.. واللحين قريب يأذن المغرب
اسْتَفسَرت باهْتمام: ضايقتك بكلامي؟ اعذرني يُمه إذا ضايقتك تـ
قاطعها بأدب: أفا عليش عمتي "ابْتَسَم بسماحة" من حقش تسألين وتتكلمين وتعطين رايش.. بس أحتاج أرتاح شوي
قالَ زوجها: خلي الرجال على راحته "حادثه بابْتسامة" الله وياك يُبه.. بس باجر عشاك عندنا
أَوْمَأ له: على أمرك "مَسَح على شعر ابنه ومن ثُمّ رَفع يَده مُوَدّعًا" مع السلامة
: في حفظ الله "جَلست مكان بَسّام لتستطرد بضيقٍ خانق بعد أن تأكدت من خروجه" حالهم مو قاعد يتعدّل.. شفته شلون طلع بسرعة من عقب ما كلمته؟
أَبدى رأيه: أنا أقول خلهم اللحين.. ما نبي نصعّب عليهم الوضع أكثر.. خل حنين تخلص علاجها وبعدين لكل حادث حديث
هَزّت رأسها بموافقة: على خيـر
،
يتبع
|