كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الثامن والخَمسون
الفَصل الثاني
الفَجْرُ حَلَّ مُنذ أكثر من ساعة.. السّماءُ أَكثرُ صَفاءً.. والليْلُ ازدانَ بهدوءٍ يَبعثُ على الاسْترخاء. الصّفاء في جَوْفهم مياه آسنة تُعَكِّر الأفكار.. والهُدوء لَم يَطأ حواسهم بَل ونَسوا مَعناه. حَفروا الأَرض.. أَمروها أنَ تَسْتَفْرِغ رِمالها لِيَصِلون إلى لُبِّ الحَقيقة.. كانوا مُنْهَمِكين في البَحث عن الذي أَشارَ إليه صالح بسريّة تامة.. إلا أنَّ الساعة التي مَضت دُون أَن يعثرون فيها على طَرَفِ شَيء، سَلّلت إلى نَفوسهم الخَيْبة.
نَطَقَ عَزيز ويَده تَشُد على عُكّازه: مو معقولة ما في شي.. الحفر تجاوز المترين!
رَفَع رأسه رائد والذي تَفَصّد جبينه عَرَقًا مُعَقِّبًا بصوتٍ عالي: حدنا ثلاثة متر.. إذا ما حصّلنا شي.. بنوقف
قالَ بِعُقدة حاجِبَين: بس لازم فـي.. الموسيقى وارتباطها بالعصابة.. وصوتها العالي بطريقة غريبة.. وطابوق الأرض.. لازم يشيرون لشي "نَظَرَ إلى وَجهي رائد ومُحَمّد مُتسائِلاً" تتوقعون أخطأنا في فهم الإشارة؟
مُحَمّد بنبرة واثقة: لا
تساءلَ رائد: شدراك؟
شَدّت شَفتيه ابْتسامة جانبية وهو يَضرب المَجرفة بشيءٍ صَلب تُواريه طَبقة خَفيفة من الرّمال.. صَرَخ رائد بحمـاسٍ خَشِن: بَعـــد قلبي باتمان والله
عَزيز تَساءَل من مكانه وهو الذي لَم يَفهم شي: شنـــو؟ شصــار؟ "لَم يَصَله رَد من الاثْنين.. لذلك صَرخ" يا كلا.... قاعد أسأل ردوووا
: قَصّر حسّك الناس نايمين
سَأل رائد الذي تَسلق الحَبْل المربوط بالنخلة القَريبة والمُمتد لداخل الحفرة: شصار؟ شنو شاف محمد؟
هَمَسَ رائد وهو يُحرّر خِصره من الحَبْل ليُلقيه إلى مُحَمّد المُنتظر في الأسفل: انتظر.. دقايق وبتعرف
شَدّ قَبْضته وهُو يَحْبس غَضبه وقدمه السليمة تَضرب الأرض برتم مُتَوَتّر في انتظار ما قَصدهُ رائد. مَضَت دَقيقة حتى تَسَلّق مُحَمّد حَبله المَعْقود بشجرة على اليسار.. فَكَّ عُقدته ثُمَّ مُباشرة اتّجه إلى حيث يَقف رائد لِيَتشارك معه جَرّ الحَبل إلى الأعلى. تَطَلَّعَ لهما عَزيز.. على الرّغم من برودة الجَو إلا أَنّ بَطن الأَرض حَفَّزت مساماتهما على صَبِّ العَرق.. وَجْهَيهما اصْطبغا بحُمرة ازدادت وهُما يَجُرّان بقوّة ما عُثِرَ عليه أَسْفَل الأَرض.. هَمَسَ يَسأل نَفسه هذه المرة: شنو مُمكن يكون؟
لَم يَحتج أَن يُرْهِق عَقله أكثر بالتَّفكير.. فالذي اسْتَقَرَّ على الأَرْض المأهولة بالرّمال كان الجَواب.. اقْتَرَب منه وتَعليق رائد الهامس يَصله: يا الله.. شكبــره!
مَسّهُ بخفّة بطرف عُكّازه.. قَبْلَ أن يَضرب جانبه وسَطحه وهو يَقول: شغل أَوّل.. صامِد كل هالسنين تحت الأرض.. قَـــوي!
قال مُحَمِّد مُشيرًا لقفله الكَبير: واضح إن المفتاح له
ابْتَسَمَ عَزيز بسعة: واضــح جــدًا
قَرْفَصَ مُحَمّد بجانبه بعدما تناول المفتاح من عَزيز.. نَظَرَ إليه.. أو لنقول نَظَرَ للصندوق الضَّخْم.. صندوق من الخَشب القَديم ذو المَتانة والصلابة التي تَجعلهُ صامِدًا على مَرِّ السنين.. لَونهُ البُني الدّاكن مَسختهُ رَمادية الرّمال.. والمسامير الذهبية التي تُطَرِّز حَوافه قَد طُمِسَ الْتماعها بَعْد أَن هُجِّرَت بَعيدًا عن مَوْطِئ الشَّمس.. وكان في وَسَطهِ يَقْبَعُ قِفْلاً.. كَعُقْدٍ يَتَوَسَّطَ نَحْر أَنثى مُدَجَّجة بالأَسرار. حَشَر المفتاح في القفل.. ابْتَسَمَ الثلاثة.. فَلَقد كانا مُلائِمَين لبعضهما البَعض.. صُنِعا لِيُكَمِلا بَعضهما البَعض. أَدار المفتاح.. صَوْت انفتاح بوّابة الحَقيقة طَرَقَ هُدوء الفَجْر.. أَزاحَ القفل والنّبضات تَعدو.. رَفعَ المقبض.. فَتَحَ باب الصّندوق.. فَتَحَ الكَهْف الذي انطوت فيه اعْترافاتٍ وأَدِلّة لَم تَخْطر على بالِ أَحد قَط. غاصت أيدي مُحَمّد ورائد وَسَط الغنائِم التي عَثروا عليها داخل الصندوق.. قالَ رائد بذهول وهُو يَرْفع أَحدها: ولا في الأحلام!
هَمَسَ عَزيز بِعَيْنٍ وامضة وابْتسامة تَشوبها الحَسرة: خَسارة على ذكائك يا صالح.. خَســـارة!
,،
صَباحها كان رَمادي.. خانق.. مُوحِش وكَئيب.. فَراغٌ عَظيم يَبْتلعها.. من الخارج والداخل.. مَعِدَتها تُعاقِبها بآلامٍ مُزِعجة.. فهي لَم تأكل شيء منذ يومان.. فَقَدت شَهيتها عندما وَجَدت نَفسها أَمام طَريق مَسْدود.. الأفكار أَصابها الشَلَل.. والأَمل بَصَقَ آخر قَطرة شَمْع ثُمَّ انْطَفَأ. كانت مُتَكَوِّمة على نَفسها وَسَط السَّرير.. مُلْتَحِفة بالكامل حتى أَسفل أنفها.. تُحَمْلِق في اللا شيء والسكون يَسْبح حَوْلها. طُرِقَ الباب ثُمَّ فُتِح.. تَقَدَّم الداخل بَعد أَن أوصد الباب من خَلفه.. كانت شَقيقتها.. جَلَست على السرير بجانبها وكَفُّها قَصَدت شَعرها تَمسح عليه وهي تَتساءَل بهمس: ما تبين تاكلين شي؟ "بالكاد حَرَّكت رَأسها بالنفي فأَفصحت هي عن سؤال آخر" ما بتكلمين زوجش؟ "أَغْمَضَت وملامحها تَتَصَدّع بلا إرادة منها.. أكملت بنصيحة" حَبيبتي لازم تقعدون مع بعض وتتفاهمون.. ما يصير تظلون جذي.. هو جاش اهني ورفضتين تشوفينه.. وكل يوم يتصل.. وإنتِ حاقرة.. الحقران مو حل يا ياسمين
مَرَّت نصف دقيقة صامِتة قَبْلَ أن تُبْصِر ياسمين وتَنطق بصوتٍ التهمتهُ البَحّة: الطلاق هو الحل... بـس... ما أبي أكون مُطلقة!
واجهتها بسؤال وهي تُشْبِك العَين بالعَين: تبين تكونين ضُرّتها؟ ضُرّة جِنان؟
تَعَثَّرت أنفاسها وملامحها اعْتراها تقطيبٌ حاقِد: لا تطرين اسمها.. أكرهــهــا
قالت تُذَكّرها: ياسمين.. أنا قبل الملجة سألتش.. متأكدة يحبش؟ متأكدة يبيش؟ متأكدة نسى طليقته؟ وجوابش كان اي.. فهي مو ذنبها إذا كنتِ إنتِ تجذبين على نفسش.. هي في النهاية أُم.. وبتقدّم مصلحة بنتها على مصلحتها وعلى مصلحتش اللي ما تهمها أصلاً
هَمَسَت بنبرة تُقَطّعها الغَصّة والدَّمعُ يُشاكس مُقلتيها: مو عشـ ـان بنتها.. هي للحين تحبه
عارضتها: امبلى.. عشان بنتها.. مهما كان حُبها له.. فهي ما كانت بتقدم على هذي الخطوة وبهالسرعة إلا لمصلحة بنتها.. تبيها تعيش حياة طبيعية حالها حال باقي الأطفال "أَفصحت عن وجهة نظرها" أنا تعرفين مشاعري تجاهها بعد اللي سمعتيه مني.. وأنا مو قاعدة أدافع عنها.. بس هذا الصدق.. وإنتِ لازم تقتنعين فيه وتوقفين جذب على نفسش "قَذفتها بالحَقيقة التي لطالما جاهدت لتَتغاضى عن لَهيبها" فيصـل يحبها.. يحب جنان وعمره ما نساها.. واللحين مدام رجعت له فهو مُستحيل يتنازل عنها.. راح يعيش معاها ومع بنته للأبد "تَجَلّدت قِسْرًا عندما أَخفت شَقيقتها الصُغرى وَجهها بكفّيها واسْتَهَلَّت بُكاءً حَزينًا.. وَقَفت لتُردف بنبرة جادّة ونصوحة" فكري عدل.. فكري بعقل وصمّي أذونش عن قلبش.. مدامكم بعدكم في بداية الطريق فالأمور قابلة للتصليح
غادرت الغرفة وصَوت نَحيب ياسمين لَم يُغادر فؤادها القَلِق.. تَقابلت مع زَوْجها في غرفة الجلوس فتساءلت باسْتغراب: ليش ما داومت؟
أَجابَ بَعْد أن ارْتشفَ من شايه: عندي ورشة برا المدرسة "اسْتفسَرَ باهْتمام وهُو يُشير برأسه لغرفة ياسمين" ليش تصيح؟
وهي تجلس على الأريكة بجانبه: ليش بعد؟ "وبتهكّم" مدام جنان شَوّهت أحلامها الوردية
بتأنيب وهُو يُخْفِض شايه على الطاولة الصغيرة: أنفال من صدقش تلومين جنان على اللي صار!
بخفوت وبصرها مُعَلَّق بنقطة عشوائية على الأرض: لا "نَظرت إليه وبصدق" للأسف هالمرة هي مو غلطانة.. الغلط راكب إختي من راسها لساسها
مَسَّ وَسَط نَظّارته: واللحين شنو بتسوي؟
رَفعت كَتفها: ما أدري.. أنا قلت لها تقعد معاه ويتفاهمون.. لأن هذا اللي مفروض يصير.. بس هي ما أدري شنو في راسها
تَمْتم وهو يَرفع كوبه: الله يسَهّـل
,،
تَقِف على أَطْراف أَصابعها تَتأمّل الأَرْفف المُمْتَدة إلى السَقف.. جَميعها صُفَّت عليها أَكياس مَملوءة بالكوكايين.. المادة التي اسْتطاع رائد أن يُوَفّرها بعد أَن اسْتعان بأحد المسؤولين في الشرطة والتحقيقات.. والذي حَرَصَ رائد على أن يكونَ أَهْلاً للثّقة.. فالخطة سرية جدًا وخَطير جدًا أَيضًا.. والمادة يَجب أن تكون حَقيقة لا يشوبها كَذِب ولا تلفيق.. فَهُم خَصْمًا لسلطان الخَبيـر. صَدَح رَنين هاتفها في المخزن الفارغ إلا منها.. أَخفضت رأسها وأخرجته من جيب بنطالها.. ابْتَسامة ناقعة في المَكر لَوَت شَفتيها عندما لاحَ لها اسْمُ المُتّصل على الشاشة.. بلمسة أجابت قائلة: أنتظر القرار
أَفْصَحَ: طلبش صَعـب
ارْتَفَعَ حاجِباها لتُعَلِّق بَعْدَ أن أَلْبست نَبرتها التّعجب: معقولة كلمة صعب موجودة في قاموس سلطان!
كَزَّ على أَسْنانه بِقَهر حتى أنّ احْتكاكها التَقطته أُذنها، قَبْلَ أن يقول مُوَضِّحًا: اللي تطلبينه معلومات سرية وخطيرة.. وأنا ما أعرفش ذيك المعرفة.. فإنتِ مو ثقة لحد الآن
أَبْدَت رأيها باسْتهتار: جــرّب.. ما أعتقد بيكون الضرر كَبير
بمعُارضة شَديدة: لا تحاولين "أردفَ يُذَكّرها" وترى أنا سلطان.. يعني أقدر بسهولة آخذ المادة.. ولا من شاف ولا من درى.. بس احترامًا لأنوثتش قاعد أتفاوض معاش
كَتَمت ضِحْكتها الساخرة التي بانَت في عَيْنيها وعلى أطراف شَفتيها.. رَدّت شاهِرة سَيفها: إنت جَرّب.. وشوف رجال فرناندو شنو مُمكن يسوون فيك "انتظرت منهُ رَد ولكن لَم يَعبر إلى مَسْمعها غيرَ أنفاسه المضطربة.. لذلك أكملت بسؤال" هــا.. نسيته؟ نسيت فرناندو؟
بهمس: لا
قالت تُنهي الحَديث: زيــن.. خلاص اتفقنا.. راح نلتقي في مكانك في أقرب فرصة.. وراح أطّلع على ملف كل شخص قتلته
كَرَّرَ مُستفسِرًا: كل شخص؟
أعادت بثقة: كـل شخص
قالَ مُحاولاً إقناعها: ترى بعضهم مالهم داعي.. بتضييعن وقتش بس
ارْتَفَع حاجبها وهي تَفهم جَيِّدًا ما يَقصده لسانه العَكِر: وقتي فَرّغته لهذا الشي.. فيعني لا تحاتي
أعادَ كمحاولة أخيرة: اسمعي كلامي.. صدقيني ما بتستفيدين شي من بعضهم
قالت بثقة لطالما اسْتفزّته: ما تدري.. يمكن فايدتي أحصّلها عند بعضهم
أَنهت الاتّصال عند هذه الجُملة دُون أن تَنتظر منهُ تَعقيب.. غادرت الغُرفة مُقفِلة الباب من خَلفها بالمفتاح الذي سَلّمته لأحد العاملين وهي تهمس بحزم: كُن حَذِرًا
هَزَّ رَأسه بطاعة تامة وهي تَجاوزته لتخرج إلى القسم الثاني من المَتجر.. تَوَقَّفَت خَلْف منضدة المُحاسب وبَدأت عَيْناها تَجولان على المَكان ببطء وتركيز.. تُطالع الوُجوه، تَتَفَرَّس فيها.. هذه تبدو طالبة أَتَت تَبحث عن الهدوء والاسْترخاء لِتُمَهِّد طَريق عَقلها لاستقبال المعلومات.. تلك تَعْتقد أَنّها مُوَظّفة اقتنصت بضع دقائق لتهرب فيها من عبء العَمل.. وذلك عَجوزٌ أَجْنبي يَحتسي القَهْوة وفي عَيْنيه تَطْفو ذِكْرى لِزوجة أَكَلَ التُّراب ملامحها.. تلك وذاك وهؤلاء.. وهُو... تَجاوزت المنضدة الطويلة مُتَّجِهة إليه.. صَوْت ارْتطام كَعبها الدّقيق بالأَرض الخَشبية وَصَله.. ورائحة عِطرها سَبقتها وَنَفذت إلى قَلبه.. رَفَعَ رَأسه وعلى شَفتيه ابْتسامة.. هَمَسَت من بين أَسْنانها عندما وَقفت عند طاولته: لاا تَـبـتـسم "مَرَّرَت عَيْنيها عليه من رَأسه حتى قَدميه.. كان يَرْتَدي قَميصًا لهُ لونٌ زَهري فاتح جِدًا.. تَعلوه كنزة صوفية أُرجوانية اللون.. كانت داكنة على عَكس المعطف الرّمادي الفاتح والذي يَصِل إلى نصف فَخذه.. عُنقه قَد أَحاطهُ بشال بهِ خطوط عرضية وطولية تراوحت ألوانها ما بين الأسود والرمادي بدرجاته والأرجواني والأبيض.. قُبّعة صوفية رمادية داكنة تُغَطّي رَأسه.. نظّارة سوداء تُخفي عَيْنيه.. وحذاء رَسمي رمادي.. اسْتَطردت باسْتغراب" ليش هالكثر كاشخ!
أَجابها بهمس ساخِر: يعني متنكّر.. أوامر الأخ عزيز
سَألت وهي تُحاول أن تَتَحَكّم بملامحها لتبدو هادِئة وطَبيعية: ليش جاي؟ "عادَ وابْتَسَم فَنهرته" قــلــت لــك لا تبتسم!
هَزّ رَأسه: أوكي أوكي.. بس ترى ما قدرت أصبر وجيتش اهني "رَفعَ يَده بحركةٍ فاجَأتها مُناديًا" بِـل بليز
ثواني وأتاهُ النادل وفي يَده دَفتر الفاتورة.. سَلّمهُ إيّاه فَأخرَج محفظته.. الْتَقَط المبلغ المطلوب ثُمَّ حَشَره في الدّفتر لِيُعيده للنادل بابْتسامة.. وَقَفَ تَحت نظراتها المُسْتَنكرة وهُو يُعيد المحفظة لجيب معطفه ويُبقي يَدهُ هُناك.. فهي لا تَدري لِمَ هُو هُنا.. ما هُو سَبب مَجيئه.. ولِمَ خاطَر في القدوم إليها في متجرها؟! تَساءَلت: بتروح!
هَزّ رَأسه مُجيبًا بنبرة واضحة للطاولات القَريبة: اي نعم.. لكن طبعًا الزيارة راح تنعاد "أشارَ بإصبعه للمكان مُرْدِفًا بإعجاب" المكان راقي والخدمة مُمتازة.. فيه دفء ورُقي.. لازم الواحد يزوره مرة ثانية "ابْتَسمَ للمرة الثالثة في الوَقت الذي أَخْرَجَ فيهِ يَده من الجَيْب مُبادِرًا في المصافحة وهُو يَقول" شُكرًا إخت وَعد على الدعوة.. المرة الجاية أنا وزوجتي بنزور المحل.. طبعًا إنتِ وياها راح تتفقون على اليوم والوقت
حَرَّكت يَدها.. وبتَرَدّدٍ كَبيـر مَدَّت يَدها وصافحته.. تَصافقت أهْدابها بحركة لا شعورية فَشَلت أن تُسَيْطر عَليها.. ابْتَسَمت برجفة بسيطة وهي تُقول: المكان مكانكم.. حيّاكم أي وقت.. نتشرف فيكم
أَوْمأ لها بلباقة ثُمَّ تراجع خطوة للخَلف: نلتقي
بادلته التحية: مع السلامة
لَم تنتظره حتى يخرج.. فهي فَور ابْتعاده قَفلت راجعة للقسم الداخلي من المتجر.. انزوت بَعيدًا عن الأنظار لتَسْتَكشف ما خَبّأَهُ بَين خُطوط يَدها.. كانت قطعة منديل مطوية.. نَظرت لزاويتها.. شعار متجرها.. فَتحتها سَريعًا ليَصْطدم بَصرها بكلمات كَتبتها يَده.. تَخَبَّطت عَدستاها على المكتوب.. اتَّسَعت حَدَقتاها تُريد أَن تَسْتوعب الذي أمامها.. تَعَلَّقت بالكلمة الأولى تُعيد القراءة ببطء وتركيز شديدَيْن.
" سلطان على بُعْد خطوة وحدة من مقصلة الإعدام.. لقينا كنز!"
,،
أَغلَقت الباب وعَدَستاها تَتَقلقلان بَحْثًا عنه.. فَسَيّارته كانت مَرْكونة في مكانها. خَلَعت حذائِها.. وَضعته في مكانه ثُمَّ ارْتَدَت خُفّها المَنزلي.. تَقَدّمت للداخل وبيديها تُزيح عن رأسها حجابها وتَفْتح أَزْرار عَباءَتها.. لَم يَكُن في غُرفة الجَلوس.. نَظَرت للغرفة.. الباب مُشَرّع.. هَمَّت تَقصدها لكن حَركة على يَمينها أوقفتها.. التَفتت.. كان هُو خارج من المَطبخ وفي كَفّه اليُمنى كُوب يَرْتفع منهُ البخار وبين إصْبعيه سيجارة تَشْتعل.. زَفْرة مَشوبة بالقَلق غادرتها لِتَتَمَدّد الرّاحة وَسَط رُوحها.. هَمَست وهي تغمض لثواني: الحمد لله
ابْتَسَمَ لها وقدماه تَتحركان إليها: يعطيش العافية
تَجاوزت التعقيب على جُملته لتؤنّبه بزَعل: حـرام عليك.. والله مت من الخوف عليك.. من البارحة وإنت برا البيت
بَرّرَ بِحَرَجٍ كَسى عَيْنيه: أنا كتبت لش إني بخير وبتأخر عشان لا تحاتيني
والضيق يَحشو صَوْتها: ما توقعت تطوّل هالكثر "وبسؤال مُسْتَنكر" ويـن كنت أصلاً كل هالمدّة!
أَجابَ وهُو يَستدير ليَجلس على الأريكة: في بيتكم
جَلَست بجانبه وعُقْدة بين حاجبيها: ليش؟ مو خَلّص بحثكم هناك؟
حَرّك رأسه: لا.. قَرّرنا نحاول مرة ثانية "وبابْتسامة جَانبية" ونجحت محاولتنا
أَرْفَعَ التّعجب حاجبيها: والله!
وَضَع الكُوب على الطاولة القَريبة مُجيبًا بنبرة اتَّضَحَ فيها الإعجاب: أبوش الله يرحمه ذكـي ملاك.. ذكـــي
وَجَفَ قَلْبها لِذكره المارَ كَنسيمٌ يُحَيّيها.. ازْدَردت ريقها لتهمس: الله يرحمه "اسْتفسرت وهي تُطالعه وجميع جوارحها مُنتبهة" شنو صار هناك؟
اسْتَنشقَ من سيجارته ثُمَّ نَفَثَ الدّخان ليُجيب: حَصّلنا صندوق كبيــر مدفون وسط الحديقة
كَرّرت باستْغراب: صندوق! شلــون؟! شدراكم أصلاً إنّه مدفون هناك!
وَضّح بإسهاب: الموسيقى دلتنا عليه.. من بعد ما شغّلنا الساعة كانت تدق بالموسيقى كل ما اكتملت ساعة.. وصوتها مرتفع بطريقة مبالغ فيها.. انتبهت إن الصوت يوصل لكل مكان في البيت.. كل زاوية فيه.. حتى يوم كنا نبحث فوق كان يوصلنا الصوت.. ففكرت إلى أي مدى يقدر يوصل؟ فطلعت بخط مُستقيم من الساعة لين برا.. وآخر مكان وقفت فيه كان تحته مدفون الصندوق.. وكان واضح جدًا إن هو المكان اللي أشار له أبوش.. لأن ترتيب الطابوق فيه كان عشوائي مقارنة بباقي الأرض
هَمَسَت بابْتسامة خفيفة وهي تَتأمّله: إنت بعد ذكي
أَشارَ لرأسه: هذا تبرمج من كثر التدريب
اسْتفسرت باهتمام: زين شنو شفتون فيه؟
أَجابَها: الصندوق فيه مُذكرات أبوش.. فوق العشرة دفاتر.. مكتوب فيها كــل شي من بداية توريطه بالشغل لين قبل يوم من وفاته.. والأهم من هذا.. موجود فيه ملفات لكل ضحية قَضت عليها الأدوية والعقاقير اللي كان يُرغم على صنعها.. الملفات تحتوي أسماؤهم بصورهم وبمعلوماتهم الشخصية والدقيقة جدًا.. وحتى بصماتهم وفصائل دمهم.. وهالأشخاص أغلبهم اختفوا في ظروف غامضة.. والأهم والأهم من كل هذا
سألت وأنفاسها تَشْخب من رئتيها: شنـ ـ... ــشــنو؟!
ابْتسمَ بفخر: لقينا فيه أشرطة مسَجَّلة فيها كل اجتماعاته ومُحادثاته اللي بينه وبين سلطان في المكتب
رَفعت ساقيها فوق الأريكة لتستقر على رُكبتيها وتُقابله بتحفّز نَضَح من حواسها: سمعتونها؟ قريتون كل شي؟ اطلعتون على كل شي؟
نَفى: لا.. واجـد هُم ما يمدينا في قعدة وحدة نسمعهم.. تفحصنا القليل وكانت مصــايــب.. وأتوقع الباقي ما يقلّون عنهم من حيث عُظم المصيبة
ارْتَدَّ ظَهرها للخلف وبَصرها دارَ بتيه وهي تهمس بنبرة غالها الذّهول: يــا الله... يــا الله! أحس كأنّي في حلم.. كابوس كابــــوووس!
ارْتَشَفَ من كُوبه ثُمَّ وَضَّحَ: هذي الحقائق تعزز من التهمة الموجهة لسلطان بخصوص مقتل والدش.. ما نقدر نعتبرها الدليل القاطع.. بس بلا شك بتوصّلنا له في وقت قَصير بإذن الله
أَمَّنت: يــا رب.. إن شاء الله
تَأمَّلت الفراغ لثواني تُرَتِّب أفكارها وتُعيد ضَبْط سَيْر أنفاسها؛ قَبْلَ أن تعود لتنظر إليه وهُو يُمارس إحدى هواياته.. هوايته الخطيرة وذات الرائحة الكريهة والخانقة.. مَدّت يَدها وعلى غفلة منه التَقطَت السيجارة من فَمه.. نَظَرَ لها بعدم استيعاب قَبْلَ أن يهتف مُسْتَنكِرًا وهُو يراها تُطْفِئها في منفضة السجائر: ليـــش!
وَقَفَت مُجيبةً بحاجب مرفوع ونبرة حازمة: لأنّ مئة بالمئة معدتك فاضية.. فمو زين لك تدخن.. وبعدين عشان تقوم تساعدني في طبخ الغدا عقابًا لك على غيابك الطويل "وبابْتسامة مائِلة" وعشــان تقول لي بالتفصيــل المُمل شنو فيها الملفات والأشرطة
,،
مُوسيقى تَحْملها على زَوْرَقٍ من أَلْحان يَجوب الأَنهار.. تَبْتَل أَطراف أَصابع قَدَميها من ماءَها العَذب.. تَنتشي رُوحها لِتُحَلِّق إلى سَماء صافِية.. تَسكنها سُحُبٌ قُطنية وشَمسٌ تُهدي البياض والدّفء.. كانت الموسيقى تُحيي في نَفْسِها هذا الإحساس الخاص.. أَما الآن.. وَبَعدَ الذي حَلَّ بها.. الزَّورق تَحَوَّر إلى قِطعة خَشَبِية مُهْتَرئة.. والأنهار صَيَّرتها دُموعها أُجاجًا.. وأَصابعها.. أَصابعها رُبَّما هي تَبَلّلت من سُيول عَيْنيها.. إلا أَنّها لَم تَشعر بالبَلل قَط... لا سَماء ولا بَياض.. أَرْضٌ قاحِلة في كُل مَرّة تُحاول الهُروب منها يعود عَجْزها ويُطَوّح آمالها بَين عَرصات واقعها المَرير. كانت تَتَوَسَّط غُرفة الباليه الخاصة.. على الكُرسي المُتَحَرِّك جالِسة.. تُمَرِّر عَيْنيها بِيَأسٍ كالح على المَكان.. وَجْهها قَد غابَ لَوْنه.. فَأخذَ الشّحوب والاحْمرار يُعَرْبدان بَين طَيّات ملامحها الواهِنة. هي تَبكي كُل يوم.. وتَشعر بالعجز في كُل ساعة من اليوم.. بائسة يائسة حَزينة وبَليدة.. الغُرور انتحر من القَفا.. انتَحَرَ وهو مُولِيًا العالم ظَهره.. مُخَبِّئًا كَسْرَه. لَم تَعُد حَنين.. نَسِيَت اسْمها وانسَلخت عن معانيه.. فَلم تَعُد تَحِنُّ لِنَفسها.. لتلك التي كانت.. فَضَّلت أَن تُغرِق وَعيها في هذا المُستنقع الذي يَعج بكُل ما هُو سَيء.. كأنَّما تُخَدِّر حَواسها لكيلا تَعي حَجْم الوَجع الجاثم فَوْقَ وُجودها. هي ببساطة تَنازلت عن ذاتها ومَضَت تُساير الدّنيا بَجَسَدٍ مُجَوَّف.. فارغ من كُل شيء.
: حَنين
رَمَشَت بِبطء.. كما لَو أَنَّ رِياح المَوْت حَرَّكت أَهدابها.. رَفعت يَدها وبالبطء ذاته مَسَحت دُموعها بظاهر كَفّها.. كانَ ظَهرها له.. لذلك استدار حتى يُقابلها.. نَظَرَ إليها.. تَضَخَّم قَلْبه وأَنَّ أَنينًا هامِسًا.. كانت مَيّتة.. مَيّتة ولكن عارية من كَفَن. قَرْفَصَ حتى يُوازيها.. رَسَم ابْتسامة خافتة وهو يَتساءَل: متى تبين تجهزين؟
عُقْدة خَفيفة بين حاجبيها وسؤالٌ مَشروخ الصَّوت: أتجهز لشنو؟
وَضَّحَ: لبيت جدش.. ناسية؟
تَراكمَ الجليد على وَجهها: ومن قال بروح؟
رَدَّ بسؤال: وليش ما تروحين؟
نَطَقَت والبرود يُسْتَفرغ من عَيْنيها: ترى ما لي خلق لمحاضرة الإيجابية والتفاؤل
أَنهت جُمْلتها ثُمَّ أَدارت المقعد عن طريق أداة التّحكم المُستقرة عند يَدها.. تَركت غرفة الباليه وهُو خَلْفها يُحاول إقناعها: حَبيبتي العزيمة عشانش.. مو حلوة ما تروحين
عَقَّبَت بحدّة وهي تَلتفت لترنو إليه بطرف عَيْنها: ما أعتقد في شي تغيّر في حياتي يستاهل إن يسوون على شرفه عزيمة!
بمحاولة ثانية: بس حَنين ما يصـ
قاطعته وهي تَرى سَرير طِفلها فارِغًا: وين ولدي؟
نَطَق باسْمها راجيًا: حَنيــن
كَرَّرت بنبرة تُنهي النقاش بل وتَنسفه: ويــن ولــدي؟
زَفَرَ قِلّة حيلته ويَده ارْتَفعت لِتَتخلّل أصابعه خصلات شَعره مُتَرْجِمَةً حيرته.. أَجاب بهدوءٍ خَبّأ خَلف ظَهره غَصّته: عند أبوي.. قَبل شوي جا وأخذه
هَزّت رَأسها: زين.. أنا بنتظر ولدي يرجع وبقعد معاه وبهتم فيه "وبعدم اهتمام وهي تُحَرِّك يَدها في الهواء وبَصرها يَتجاهله" إذا إنت تبي تروح العزيمة روح.. مو محتاجين لك
رَجْفة مُوْجِعة ضَربت قَلْبه.. زَلْزَلته وأَرْبَكت الدّماء القادمة منه وإليه.. حَتَّى نَبْضه تَخَبَّط ما بين حُجراته.. هُما لا يَحتاجان إليه.. هي زوجته.. وهُو ابْنه.. لا يَحتاجانه.. على الرّغم من عَجزها الجَلي إلا أَنّها نَطَقَت بهذه الكلمة.. لِمَ كُل هذه القسوة؟ لِمَ أنتِ قاسية هكذا حَنين؟ تَذَوَّقتُ لُطْفكِ لبُرْهة.. لَم يُسْعفني الوَقت لاجْترعه على مَهْلٍ ولذّة.. وها أنتِ تُسارعين لِحَشر العَلَقم في حَلْقي.. فَيبقى هُناك.. لا أنا قادِرٌ على ازدراده.. ولا أنا قادرٌ على استفراغه.. فلكلا الفعلين نتائِج وَخيمة سَتفتح جِراحًا في ذاتي.. نَعم ذاتي.. أوَلستِ أنتِ ذاتي؟ فأنا لَم أعرف ذاتًا غير تلك التي قُيِّدت بكِ.. لا ماضيًا ولا حاضرًا.. وأَسَفًا أَنّي لا أعلم، هَل سأمضي للمُستقبل والقَيْدُ حُرّيتي؟ أَم أَنَّ القَيد سَيُكسَر وقَسْوتكِ سَجّاني؟
أَغلق باب الشّقة.. هَبَط السّلالم بكاهلٍ مَحْني.. لَم يَسْتطع المُواصَلة فَجلسَ على إحْدى العَتبات.. اتّكأ بمرفقيه على رُكبتيه سامِحًا لكفّيه أَن تَحتويان شَتات ملامحه.. أَفْرَغ زَفرات رُوحه التي تَتوالد مع مرور الثواني.. يُفْرِغ عَشْر.. فتُولَد عَشرات.. في هذه اللحظة كانت تُراوده رَغْبة بالبُكاء.. يَسْمع صَوْت قَلْبه كَمانًا يَجُر لَحْنَ كَمَده.. في صَدرهِ اعْتَرَكت الأَوْجاع تَتَساءَل إلى أَيْن السَّبيل؛ فَداخلهُ مُزْدَحِم! حائِرٌ والطُّرق سُدَّت أَمامه.. كَيف يَتصرف؟ ماذا يقول؟ إلى أَي مَدى سَتَصْبر رُوحه؟ وجَواه.. هَل جَفَّ نَبْع نَبضه؟ لا جَواب لديه.. لا يدري.. لا يعلم.. هُو غائرٌ في الضّياع... لا يدري ماذا يفعل.. لا يدري.
: بسّـام!
مَسَح وَجْهه براحتيه قَبْلَ أَن يُخْفضها لينزاح السّتار عن الصّخب المكتوم والمُتَخَثِّر أَسْفَل جِلْده على هَيئة احْمرارٌ يُوحي بالاختناق.. أَلْبَسَ شَفتيه ابْتسامة ليس فيها من الحَياة شَيء: هلا منال.. شلونش؟ من متى إنتِ اهني؟
أَجابتهُ وعَيْناها تَتَفَحّصان مَلامحه بدقّة: من شوي "أَشارت لحُسين الباكي " صاح شكله جوعان.. قلت أنا بركبه ومنها أشوف حَنين
اسْتلمهُ منها وهو على جلوسه، قَبّلَ رأسه بخفّة ثُمَّ قال: أنا كنت نازل آخذه
اسْتَقَرَّت بجانبه مُتسائِلة باهْتمام: بسّام شفيك؟ وجهك مو طبيعي
وَرأسه مُنخفض لرأس ابْنه الذي هَدأ ويده الكبيرة تُداعب قبْضتيه الصّغيرتين: شوية تعب
اسْتفسرت: إنت تداوم؟
نَفى: لا... للحين إجازة
ضَيّقت عَيْناها: مو جنك طَوّلت؟
وَضَّحَ: بدون راتب
هَزّت رأسها بتفهّم: أوكــي "تساءلت لتطمئن" وشلونها حَنين اللحين؟
رَفع كتفه: الحمد لله
سؤال آخر: تروح للعلاج الطبيعي؟ "همهم بإيجاب فأردفت بسؤال جَديد" والعلاج النفسي؟ "التَفَتَ يُطالعها بنظرة استغراب تَوقعتها.. ابْتسمت مُوَضِّحة" أبوي قال لي.. وأساسًا الشي واضح.. نتايجها وتحاليلها سليمة.. فأكيد السبب نفسي
هَمَسَ بحَذَرٍ تُخالطه نَبْرة رَجاء: لا تجيبين طاري قدامها
أَكّدت: طَبعًا بسّام.. ما بتكلم.. أعرف شخصيتها وأدري شكثر الموضوع حسّاس بالنسبة لها
ابْتسم بخفّة وبذات الهمس المُتعَب: غريبة متفهمتها هالمرة!
عاتبته: بسّام شهالحجي؟! تحسسني جني ما عندي قلب.. هذا مرض.. مُستحيل أتشمت عليها.. وبعدين خلاص.. تفاهة قَبل انتهت.. واحنا ما شفنا منها مضرة ولا احنا ضريناها "وبيدها تَمسح على شَعر الصّغير لتُكمل بابْتسامة مُحِبّة وَحَنونة" واللحين هي أم ولدنا.. اللي بيحمل اسم عايلتنا
بابتسامته الشاحبة: زين.. الله يهديكم ويهديها "وَقَفَ وهي وَقفت مَعه.. مَدّ لها الطفل" اخذيه وديه لها.. أنا بتصل لعمتي
,،
أَنهت المُكالمة ثُمَّ أَخْفَضَت الهاتف وعَيْناها مُتَعَلِّقَتان بالشاشة.. كانت تَنظر لها بملامح واجِمة وشَفتين مُطْبَقَتَيْن.. أَتاها سؤال عن يَسارها: أم حَنين شنو فيش؟
التَفتَتَ لها.. كانت أُم مُحَمّد.. أَجابت بنبرة خاوية: لا ولا شي.. بس بسام كان متصل.. يقول ما راح يجون "تَنَحنحت" حَنين ما تبي تجي
قالت تُطَبْطب على قَلَقِها بكلماتها: ما عليه.. إنتِ لا تتضايقين.. أكيد هي في البداية ما بتعرف تطلع من البيت وتعيش يومها بشكل طبيعي.. تحتاج تتأقلم على الوضع
رَفَعت يدها وبظاهر سَبّابتها تَشَرَّبت دَمْعة التَمعت عند مؤق عَينها.. وبهمسٍ مُتَعَثّر: خـايـ ـفة على بنتي
شَدَّت على ساعدها وهي تُغدقها بلطف حَديثها: لا تخافين.. صدقيني مسألة وقت وكل الأمور بترجع لسابقها.. إن شاء الله بالعلاج بتتشافى رجولها وبتقر عيونش بشوفة مَشيتها
ازْدَرَدت غَصّتها المُتكوّرة في حَلْقها مِثَل حَجر قَبْلَ أن تهمس: إن شاء الله.. الله يسمع منش
جنان التي كانت الأَقرب لهما اسْتدارت لبنات أترابها تهمس لهن: حَنين ما راح تجي
غَيْداء باسْتنكار: بس العزيمة عشانها.. عشان سلامتها!
عَبَّرت جُود: أكيد ما راح تجي.. أنا كنت متوقعة.. يعني كلنا متجمعين وبتجينا أول مرة اهني بالكرسي.. أي وحدة بتتحسس.. بعد مو حَنيــن!
مروة التي تَتسامر معهن للمرة الأولى منذ زواجها، قالت بنبرة هادئِة تَنِم عن الفَهم: مُشكلتها لها حل.. مو شي مُستعصي.. وأول وأهم حل لها النفسية.. إذا نفسيتها ظلت جذي ما راح تتحسن.. بل مُمكن إنّ حالتها تتردّى
عَقّبت غيداء بخوف: اسم الله عليها.. لا إن شاء الله بتصير زينة "وبتوضيح" بس شوي هي صعبة حنين.. واثقة من نفسها بطريقة قوية.. فاللي صار لها صَدمها.. عشان جذي تأقلمها صاير صعب
ابتسمت لها مروة بود: الله يشافيها
رَدَّدن: يـا رب
: السلام عليكم
رَدَّ المُتواجدون السّلام.. وجُود رَحّبت بحفاوة: هـــلا بالحامل والمحمول
شاكسها وهُو يقترب ليُسَلّم على الجَدّة: يعني أنا ما لي هلا؟ مو مرحّب فيني؟
بصراحة وهي تَبْتسم في وجهه ابتسامة عريضة: أَقدر أعيش من غير شوفتك.. بس ما أقدر أعيش من غير شوفتها!
هَزّ رَأسه يَدّعي الرّضوخ لرأيها: والله إنش صادقة.. في هذي ما جذبتين.. العيشة من غيرها ما تسوى!
وَقَفت غَيْداء لتُسَلّم عليه قَبلَ أن تقول ضاحكة: أقول اثقل شوي وتعال سلّم على ماما عودة.. تسأل عنّك
اقْتَرَبَ من الجّدة، انحنى عَليها مُقَبِّلاً رأسها: السلام عليكم يُمه.. شلونش؟
أَرْجَعت رَأسها للخلف وهي تَرْفع غطاء رأسها المُلَوّن والمُمتد حتى نصف جسدها؛ لِتحجب به جانب وَجْهها وفمها وجزء من أنفها.. أحْنَت عُنقها قَلِيلاً وعَقَدَت حاجِبيها لتنظر له بتدقيق.. هتفت بعد ثواني: طـــلال!
ضَحكَ: زين عرفتيني يعني؟
أَجابت: ايـــه، عرفتك من عيونك المولعة "هاجمتهُ بلا مُقدّمات" شفيـك اللحين ما قمت تجيب لنا سمج؟ يعني أخذت نور وبــس.. خلّصت أمورك ويانا ونسيتنا؟
مَرّر لسانه على شفتيه بحرج ثُمَّ قال بتوضيح: لا أفا يُمّه ما أنساكم.. بس اللحين أنا أشتغل.. ودوامي زامات.. فما يمديني أروح البحر كل يوم.. وأنا أصيد.. بس تدرين ما أبي أييب لكم إلا الشي الزين والراهي.. مو أي شي
أشاحت عنه قائلة بعدم تصديق وغطاءها لا يزال حاجِزًا: اي اي قص عَلَي يا العيّار
ابْتسم: والله يُمّه "وبمُراضاة ونبرة وَعد" بس ولا يهمش.. إن شاء الله باجر بطب البحر وبييب لش ذاك الهامور اللي يحبه قلبش
نَظَرَت لهُ للحظات بصمت قَبْلَ أن تبتسم عَيْنيها اسْتجابةً لابتسامة شَفتيها المخفيتين: زيــن.. بنشــووف يا ولد حنان
اتّسَعت ابْتسامته بزَهو.. فهو يَعشق هذه المُناداة.. ولد حنان.. تُعيد بَثَّ شُعور الانتماء إلى والدته في داخله.. وهذه الجدة اعتادت مُذ كان طِفْلاً أن تُناديه بهذا النداء المُميز. تَحَرّك مُسَلِّمًا على أم فيصل.. صافحَ أُخته بصمت.. ولوّح للباقيات قَبْل أن يتّجه إلى حيث يجلس الرجال على الطرف الآخر بَعد أَن ألقى نَظْرة وابْتسامة على نُور الجالسة بين قريناتها. عَلَّقَت غَيْداء بابْتسامة: يطلعون قلوب من عيونش نُــوورو
تَنهيــدة عَميــقة.. خَفيفة ومُسْتأنِسة كانت تعقيبها.. ضَحكن جَميعًا وهي شاركتهن الضحكة بخجل. أَرْخت مروة ساق على الأخرى قَبْلَ أن تُفْصِح بنبرة ناعمة: اللحين يوم شفته تذكرت إنّي شايفته من قبل
اسْتغربت غيداء وبتساؤل: وين؟
أَجابتها: في المُستشفى "حَرّكت عَدستيها الزُمردتين لنُور مُواصِلة مرامها الخبيث" كان يجي يوقف عند مكتب نور.. وإذا نسأله تبيها نناديها.. يرفض ويطلب مننا ما نقول لها إن شفناه
زَفَرَت غيداء لِتُعَلِّق بكلمات لَم تَتوقعها مروة: والله طلالو طلع مفشلنا مع الكل والجميع.. حتى مروة كانت شاهدة على غرامياته!
ضَحَكت نُور: اعترف لي "أَكْمَلَتْ وبتلات زَهْر خجولة تُعانق وجنتيها" حتى يقول كان متفق مع وحدة من الممرضات الأجنبيات يعطيها فلوس عشان تنقل له أخباري
ضحكن الفتيات وجود تساءلت: أرجوش قولي لي جم كان يعطيها؟
وهي بالكاد تَتشبث بضحكتها: ثلاثة دينار
اعتلت ضحكاتهن حتى أن الجَدّة زَجرتهن.. جُود بتعليق بالكاد خَرَج من بين قهقهتها: والممرضة حضرتها وافقت! المبلغ حتى ما يجي ربع ربع ربع معاشها!
ضَحكن وزَجرة الجدّة أَجبرتهن على ابتلاع الضحكة: قصروا حِسْــــكم عن الرجال
عَضَّت جِنان شَفتيها ثُمَّ هَمست: أووه عودوه عَصّبت من صدق "قالت تُحادث نُور" لكن زين وقتها محد غير شافه.. جان صارت مُشكلة
غيداء بتأييد لمقصدها: ايـــه الحمد لله
نُور وبقايا الضّحكة ترتوي من شَفتيها: الحمد لله "التَفتت لمروة الغارقة في بَحر الصدمة شَديد الملوحة لتقول بلُطف وابْتسامة ودودة" شُكرًا مروة لأنش حزّتها حفظتين سره
ابْتَسَمت لها بارْتباكِ وملامحها قَد اضطربت من التأقلم الغريــب الذي كان باديًا في حديثهن ومُحيّاهن.. لَم تَتوقّع ذلك.. فهي رَسَمت في عَقلها تَصَوّر لردة الفعل التي سَتعيث فسادًا بملامحهن إذ هي أَفصحت عن أي كلمة بخصوص هذا الموضوع.. لكن يبدو أَنّهن تصالحن مع أنفسهن ومع بعضهن البعض بسرعة فائقة! ونُور.. نُـــور.. اللطف ينهمر من عيْنيها! معها ومع غَيْرها.. لُطْف لا يَقوى البياض المسجون في قَلْبها على تَجاوز حَلاوته أو مُقاومة جاذبيته.
,،
كان يُشاهد إحدى مُباريات كُرة القَدم عَبْرَ التّلفاز عندما قَصَدت غُرفة الجلوس.. تَعَمّدت أن تترك والدتها وحُور في المَطبخ لتنفرد معه وتُحادثه.. حاولت أن تُرْغِم نَفسها على الصّمت ولكنّها لَم تنجح.. فالحَقيقة بأنيابها السامة تُقَرقع داخلها.. تَعلم أَنّها بفعلتها قَد تُسبّب مُشكلة كَبيرة.. ولكن الصّمت يُقَطّعها.. لا تستطيع أن تصبر دَقيقة واحدة دُون أن تُفَجِّر البُركان الهائج داخلها.. تَقَدّمت منه وهي تنظر لساعة رِسغها.. مُحَمّد على وصول.. إنّها العاشرة وأربعون دَقيقة.. وهو أعلمها أَنّه سَيأتي لِيُقِلّها في حدود الحادية عَشر.. إذن لا وَقت لديها.. يَجب أن يُزاح الغطاء عن كُل الذي تَم إخفاؤه بالكَذِب والتَّدليس والخيانة العُظمى. أَفْصَحت عن سؤال وهي تَجلس على يَمينه: إنت بخير يوسف؟
التَفَتَ لها بابتسامة ليُجيب: اي الحمد لله
سؤال ثانٍ: العلاج ماشي تَمام؟
أَكّد: اي تمام.. أفضل من قبل بوااجد
تَمْتمت: الحمد لله "صَمتت للحظات قَبْل أن تَكشف عن سؤال جَديد" الدوا اللي تاخذه.. زين؟ ما يتعبك؟
أَجابَ بعد تفكير قَصير: لا ما يتعبني.. مرتاح عليه "استنكر بابْتسامة وعُقْدة خَفيفة" ليش كل هالأسئلة! جنه تونا نتعرف على بعض!
احْتَضَنت يَده مُوَضِّحة بارْتباكٍ لاحَ في عَيْنيها المُنخفضتين: أخوي وأبي أتطمن عليه.. فيها شي؟
حَرّك رأسه: لا.. أكيد ما فيها شي "ضَيّق عَيْنيه مُرْدِفًا" بس أَحس ورا هالأسئلة شي
نَظَرَت إليه وهي تَدّعي الصلابة.. صَلابة هَشّة.. اعْترفت بجديّة: إحساسك في محله.. فعلاً ورا هالأسئلة شي
عَقَدَ حاجِبَيه وجَسده قابلها بالكامل مُبْدِيًا اهْتمامه.. هَمَسَ: شنو هذا الشي؟ قولـي
تَقَلقلَت عَدستاها على ملامحه البريئة.. غالوا هذه الملامح أخي.. غالوها وعُمرها لَم يَتجاوز العَشر.. شابت من الهَلع والدّم والعُقَد النفسية المزروعة في ذاتك قِسْرًا. أَخْفَضت رَأسها لثواني، قَبْلَ أن ترفعه وهي تُسْكِن خصلاتها خلف أُذنها.. مَرّرَت لسانها على شَفتيها ثُمَّ اسْتعانت ببضع ذرات هواء تُعينها على البَوْح الجارح.. وبهمسٍ أَرْعَدتهُ السماء الماطرة وَسَط مُقلتيها: أبوي.. يـ ـوسف.. أبوي.. انذبـ ـح "شَعرت بيده وهي تَشد على كَفّها بقوّة لا تَعتقد أنّه واعٍ لها.. تَحَمّلت الأَلم لتواصل بَقْر الأرض التي دُفِنت فيها الحَقيقة المُتعفنة" أبوي انذبح.. ذَبحه.. صديقـ ـه.. صَديق عمره "وبتهكّمٍ مَريـر لَم يَكُن سوى أَسَفٌ على السذاجة التي أَغرقت ضمائرهم" عمّي سلطــان!
تَعَلَّقَ بَصرهُ بها لثواني صامِتة.. قَبْلَ أن تَنحرف عَدستاه إلى زاوية عَيْناه.. تُنَبِّشان عن تلك اللحظة.. عن تلك الفاجِعة.. عن الذات المنسية بين ساعاتِ لَيلةٍ وَحْشية. الأَصوات تَتداخل بشعواء مُزْعِجة.. صَوْت والده الصارخ باسْتنكار.. وصَوْتٌ آخر.. تَصَدّعت ملامحه يُحاول التركيز في الصوت لَعَلّه يُمَيّزه.. صَوْتٌ أَكثر شَبابًا من الآن.. صَوْتٌ لِرَجُلٍ في عَقده الثالث.. رَكّز أكثر وحواسه تَسْعر معه.. حتى أَنّ يَده تَكاد تَطحن عظام كَفّ أخته الناعمة من شِدّة ضَغطه.. كَما لَو أَنّهُ يَضغط على الأَيّام لِيَسْتَل منها اعْترافًا. أَغْمَضَ سامِحًا لنفسه بالتّحليق عند سَقِف تلك الغرفة.. مكتب والده.. نَظَر للأشخاص من عُلو.. الصورة مُشَوّشة قَليلاً لكنّ ذاكرته أعانته على التّعرف على الحاضرين.. كانوا ثلاثة ذكور.. شابّان وطِفل.. هذا هُو يِقِف في الزاوية.. وهذا والده، ذراعاه مُتَشابِكَتان مع ذراعي الشاب الآخر والذي كان ظَهره ليوسف الصَغير.. تَأمّل وجه والده.. أَحْمَر قاني.. امْتزجت فيه ألوان الصّدمة.. الخذلان.. القَهر وقِلّة الحيلة.. فوالده الذي عُذِّب لِفترة طَويلة فَقَد الكَثير من وَزنه وطاقته.. وَفَقَد الكثير والكَثير والكَثير من كَرامته. حَرّك بَصره للرّجل.. حاولَ أن يَرى وَجْهه.. لكن التشويش يَتضاعف حَوْلَ ملامحه.. كما لو أَنَّ غَمامة تَغْشاه.. والسَبب أَنّ يُوسف الصّغير المُرْتَعِد كان يَقِف خَلْفه.. فَلم يَكُن يَراه بوضوح. الصّوت ارْتَفعَ أكثر.. والده يَصرخ، يَترجى، يَسْتَنجد.. ويُحادث يُوسف الصّغير..
: بابا يُوسف اطلع من المكتب.. اطــلع يُوسف اطلــــع.. لا تشوف يُبه اطــ
قاطَعهُ ذلك الشاب بصراخ: صالح لا تتهور.. لا تتهــور.. تذكّر زوجتك وعيالك
حاولَ أن يَدفعه عنه ولكن قواه المكسورة لَم تُعِنه.. صَرَخ في وجهه وعَيْن على طفله.. والأخرى على السلاح الخفي اللامع بين يَده: اتركنــي.. اتركنــي أروح لولدي.. المسكين خايف ومرعـوب
قابَلهُ بكلمات لا مَعنى لها ولا دخل لها بأيٍّ من الذي يقوله: اي صالح.. ولدك خايف ومرعوب.. شلون تبي تنتحــر قدام عيونه!
خَبَت حَركته وهَدأَت مُقاوَمته.. تَحَرّكت عَدستاه إليه والصّدمة قَد ابْتلعت جُل ملامحه.. وفَمهُ فاغِر مُسْتَعِدًّا لِتَسريح الرُّوح.. هَمَسَ بصوتٍ مَشْروخ من البَحّة المذهولة: شـ ـشـنو.. شنو! إنت شقاعد تقول!!
كَرَّر والسُّم يَتقاذف من كلماته والخُبث يَبتسم في عَيْنيه: لا تتهور وتنتحر يا صالح.. كل مشكلة ولها حل
هَزّ رأسه بهستيرية وهُو يهمس بأنفاس ضائعة: لا.. لا.. ما بنتحر.. لااا... ما بنتحر.. شقاعد تقول! أنا ما بنتحر! "وهو يَدفعه عنه بفُتات قُوّته" إنت تبي تذبحني.. اذبحــني.. من زمان أدري إنّك تبي تذبحني.. بس لا تظن.. لا تظن إني بطاوع إبليس.. وبنتحر
قال وكأنّه لَم يَسمعه.. وكأنّهُ يُدير حوارًا آخر: مُصِر إنّك تنتحر يا صالح؟ حرام عليك.. أم يوسف والولدين شنو راح يسوون من بعدك! من لهم؟ إنت بتدمرهم.. إنت بتدمر حياتهـ
قاطعه بصرخة تَفَجّرت من أعماق رُوحه: إلا عايــلتــي.. إلا عايلتي.. أنا ما صَبرت على العذاب والظلم إلا عشان ما أخسرهم وما ينضر واحد فيهم.. والله.. والله لو تفكر مُجرد تفكير إنك تضرهم.. راح تندم.. صدقني راح تندم
مالت ابْتسامة مَكْره ووجهه الدّميم يَتَلَوّن بخططه السّقيمة: شنو راح تسوي؟ "شَخَر ضاحِكًا" شلون أصلاً راح تسوي اللي بتسويه وإنت خلاص انتحرت؟
زَجَره والغَضب يَسْتعر فيه بجنون: سلطــــان انطـــم
هَمَسَ والشَر يَتطاير من عَيْنيه: هذا هو السلاح في إيدك
أَشارَ برأسه في الوقت الذي التفَت فيه صالح ينظر ليَده.. خانته الرّجفة عندما أَبْصَر السلاح مُسْتَقِرًّا فيها.. مشرط حاد بطول كَفّه.. كيف انتقل من يَد سلطان إلى يَده! كَيف لَم يشعر به لولا تنبيه سلطان! شَقّت حَلقه شَهقة حادّة عندما قَبَضَت على معصمه يَدُ سلطان الحديدية.. وبكامل قَوّته بَدأ يُحَرّكها باتّجاه.. لحظة.. باتّجاه.. يعرف هذا الاتّجاه.. يعرفه جَيّدًا.. باتـ ــجاه.. الشريان العضدي.. شَريان المَوْت المَحْتوم.. حاول أن يتملّص من قَبْضته.. ولكن لا قوة.. ويده الأخرى مَسْجونة في يَد سلطان الأخرى.. كان مُكَبّلاً من قِبَله.. جَسدهُ مُكَبّل وذاته مُكَبّلة.. المشرط يَقترب أكثر.. مقاومته واهنة... ضَعيفة ومسكينة.. جَسده النحيل فشل في مقارعة جَسد سلطان الضّخم.. الرّجفة امْتدت حتى طالت ساقيه.. الإعياء صُبَّ عليه.. الدوامة السوداء عادت وابْتلعته.. الأصوات كُتِمَت والصّورة أخَذت تَتباطأ شَيئًا فَشيء.. رَمَشَ بانهزام.. تَقَهْقَر جَسده المَأهول بالتّعب.. تَحَرّك بَصره قاصِدًا الرُّوح التي سَتُشقى.. الذات التي سَتُفقَد.. والطفولة التي سَتُنتَهَك. كان يَبكي.. بلا صَوت يَبكي.. عَيناه تَمْطران بلا شَهْقة ولا رَعْدة.. مَسيرُ دَمْعٍ أَبْكَم ذاك الذي شَقَّ طَريق وَجْنتيه.. فَقط عَيْنان جاحِظتان يَعبرهما الرُّعب.. وتنتحر من شُرفتهما الذاكرة. المشرط وَصلَ إلى وجهته.. لَم يَعُد قادِرًا على المُقاومة.. هُو لَم يَكُن مُلْتَفِتًا أَصلاً لساعة ذَبحه.. فهو ذائبٌ بما تَبَقّى من وُجوده في رُوح طَيْره الصَغير.. تَصَدّعت ملامحه من وَخْزٍ نابِض أعلى ذراعه.. تَبعتهُ حَرارة الدّم الغليظ الذي سَيُفَرَج عن الحياة منه.. جَثى على الأرض فَوْقَ رُكبتيه وعَيْناه لَم تُفارِقان ابْنه.. كما لَو أَنّهُ يَحميه بنظراته السابحُ فيها القَذى.. مالَ جَسدهُ إلى الأَرْض التي نادته.. والتي حَفَرت لهُ قَبْرًا مُذ أَصْدَرت رُوحه صَرخة الوَجع الأَولى.. اسْتَقَرّ على جانبه.. سَاق مطوية والأخرى مُدَّت باستسلام.. ذراع تَلفظ من الجِرح دقائقه الأخيرة.. والأخرى قَد ارْتَخَت وكَفُّها تُمْسِك بالمشرط.. سِلاح الجَريمة المُعَقّدة.. الفَمُ مُطْبَق.. فلا مَنفذ للشهقات.. دعها تَخْتنق داخله.. ملامحه تَرْتدي الشّحوب شَيئًا فَشيء بَعْد أن غادرتها الألوان.. أَما العَيْن.. فَقَد أَعانت صَغيره على البُكاء.. سالَ دَمْعُها كَذراعين تَحْتضان يُوسف الشاهِد على ذَبْح والده وذَبح ذاته.. بَكى وهو عارٍ من تَعابير.. حَواسه سَبَقتهُ إلى المَوت.. وصَوْته طَلَّقَ الدُّنيا مُحْتَسِبًا عند رَبِّ السّماء. ماتَ صالح.. ماتَ وعَيْناه تُظَلِّلان يُوسف الصَّغير.. ماتَ والدّمعُ حَيًّا على خَدّيه.. ماتَ وهَمّهُ عَبَرَ ذاته لِيُثْقِل كاهِل ذات يُوسف المفقودة. لكن.. لا زالت هُنالك أصوات.. يُوسف الصَّغير لا زال يَسمع أصوات.. لحظة.. لا.. هذا يُوسف الكَبير.. الرَّجُل.. هُو الذي يَسْمع الأصوات.. أَرْهَفَ السّمع.. لحـظة.. إنّهُ صَوْت والدته.. نعم.. يَعرف صَوْتها جَيِّدًا.. ناعِمًا، يُجَعِّدهُ الكِبَر ويَحْنيه انكسارٌ شائِب... رَكَّزَ جيّدًا.. صَوت ثانٍ.. أكثر شَبابًا.. ولكن الانكسار ذاته وإن كان يانِعًا.. صَوْت زَوْجته.. حُور.. وكأنّهما تَصرخان.. تُناديان باسْمهِ وتَصرخان.. لماذا تَصرخان!
: اتركهــــا
الصوت نَقيض الصّوتان السابقان.. نَقيض صَوْتي والدته وحُور.. إنّه أَكثر خشونة.. إلا أَنَّ انكساره كان أَشَد وأَعْمق.. وقَبْلَ أن يَستوعب صَوْتُ مَن.. انْدَفَعَ جَسدهُ إلى الوَراء كَما لَو أَنّهُ فُصِلَ عن الماضي لِيَصْطدم بأرض الحاضر الصَّلبة.. هَوى على ظَهره في اللحظة التي تَهَشَّمَ فيها الحاجز الفاصِل بَينه وبين الواقع.. وَمُباشرة تَسَرّبت إلى مَسامعه الأَصوات بوضوح وتَراءت لهُ الصّور بلا تَشَوّش.. اتَّكأ على الرّخام بيده ليَرفع ظَهره.. ناظَرَ المَجال أَمامه.. ها هي والدته تَنحني على جَسَدٍ يَرْتَعِش كَعصفور هَزَمَ هَشاشته فَيْضَ السّماء.. رَفع عَينيه إلى وَجْهه.. اخْتَرقته الرعشة.. كانت مَلاك.. تَسْعُل بَعْدَ أن رُدَّت لها الرُّوح ويَداها تَتَحَسّسان عُنُقها حَيْثُ نُحِتَت آثار أصابعه الآثِمة.. تَحَرّكت عَدستاه للأنثى الأخرى.. إنّها حُور.. تَشُد على كَتِف مَلاك وهي تبكي والخوف قَد نَهش ملامحها.. كلاهما.. والدته وزوجته تُطالعان ملاك.. وهي.. ملاك.. كانت تُطالعه.. عَيْناها تُحادِثان عَيْنيه.. كانت تُبْصِر الفاجِعة من خلال عَيْنيه.. وعلى خَدّيها قَد سارَ خَطُّ الدّمع ذاته المُلازم خَدَّيه.. وكأنَّهُ إرْثٌ تَشَاركاه من والدهما. أَبْعَدَت أَيْديهما.. زَحَفَت إليه بوجهها المُحْتَفِظ بعلامات الاختناق.. تَجاوزت زَوْجها الذي حَرَّرَ عُنُقها من قَبْضتيه المَجْنونتين.. وَصَلت إليه وفُستانها الطفولي ها هُو يُلَوِّح لهما والدّماء قَد لَوَّثت بَياضه.. تَبادلا الوَجع بالنّظرات.. عَرّفا الفَقد على الفَقد.. تَحَسّسا اليُتم الذي بَتَر سَعادتهما.. وَوَدّعا بالأهداب ذِكرى الأَبُ المَذْبوح عنوة. فَرَّت من صَدرها شَهْقة أَرْجفت أضلاعها فَزعًا.. وَجَسدها المُنتَهَكة طُفولته وعُذريته ارْتمى في حُضنه النازِح عنهُ شِتاء احتكره لعشرون عامًا.. احْتضَنها ونَحيبُ يُوسف الطِفل تَسَلَّقَ الأَعوام ناجِيًا بنفسه لِيَعْبر قَلْبَ يُوسف الرَّجُل.. شَدَّ عليها بذراعيه جامِعًا حُطامها بِحُطامه.. نَطَقَ واللوعة تَلتهم صَوْته المُتَحَسِّر، وصُورة والده المُخَضَّب بالدّماء قَد طُبِعَت على جِفْنيه: ذَبحـــ ـه.. ذَبح أبــوي مَـ ـلاك.. شفته... والله شفتـ ـه.. هُو ذَبحـ ـه.. سلطــــــان ذَبــح أبــــــووي!
,،
يَتحدث في الهاتف بهمس.. هذا ما يبدو لها.. ولكن هَمْسٌ هائِج.. لهُ صَخَبٌ تَستطيع أن تَسْمعه من ملامحه الصارخة. تَعتقد أَنّه يُحادثها.. يُحادث ياسمين.. وهذا الغَضب المُحْكِم قَبْضته على حَواسه يُفْشي لها سِرًّا.. فَعلاقتهما هُما الاثنان في انحدار.. وهذا جَيّد.. إلى حَدٍّ مـا!
: جنان
اسْتدارت مُتفاجِئة من الصَّوت.. فهي لوَهلة شَعرت وَكأنّها تنسلخ عن الواقع لتغوص معه في عالمٍ موازي. كانت غيداء.. التي ابْتَسَمت وهي تَتطلع من النافذة وتهمس بنبرة ماكرة: أنا أقول وين مختفية.. منخشة تتأملين الحَبيب
كَشَفَت عن تَنهيدة وهي تُبادلها الابتسامة وبأطراف أناملها دَعكت جَبينها.. هَمَست تُبَرِّر: شفته طلع فجأة.. وما تعشى.. جيت أشوفه
وهي تعود لتنظر إليه: الواضح إنّ عنده مُكالمة مُهمة
هَزّت رَأسها دون أن تَلتفت للنافذة: ايــه
اسْتَفَسَرت: انتو أوكي؟
اتّسَعت ابْتسامتها وهي تَرفع كتفها: يعني.. الحمد لله
أَوْمأت: الحمد لله "وبنصيحة لَطيفة" تمسّكي فيه هالمرة بكامل قوتش.. من حقكم تعيشون مع بعض ومن حق جَنى تعيش بينكم
هَمَسَت والامتنان يُسْبغ فيضه على عَيْنيها، والوَد يُغَلِّف ابْتسامتها: إن شاء الله حبيبتي
رَبَّتَت على كتفها: زيـن "أَشارت بعينيها للنافذة" اختفى
أدارت رأسها تنظر للموضع الذي كان يُمَشِّطه ذَهابًا وإيابًا.. وفعلاً.. لَم يَكُن هُناك.. عَقَدت حاجِبَيها وهي تهمس بتفكير: معقولة طلع؟
شَجّعتها: روحي شوفيه.. يمكن بعده في البيت ما طلع
وهي تَلتقط شالها: اي.. بشوفه
تجاوزت الباب الداخلي.. تَوَقّفت عنده وهي تَجول بناظريها على المَكان.. لا تَعتقد أَنّه خَرج.. لَم تَسمع صَوْت الباب.. خَطَت على العُشب الرّطب باتّجاه الحَديقة.. حَيثُ تَسْتقر النخيل وأشجار بعض الفواكه.. تَعْتقد أَنّه هُناك... وبالفعل.. رَأته مُسْتَنِدًا على جِذْع شَجرة.. شَجرة التوت تَحْديدًا.. شَدّت الشال على جَسَدها وهي تُواصِل مَشيها إليه. تَوَقّفت على يَمينه.. هُو مُسْتَنِد لجذعٍ حَفِظَ سِرّ قَلبه لثلاث عقود.. وهي مُسْتَنِدة للهواء. سادَ الصَّمت بينهما.. ما خلا هَفيف الرياح الباردة المُحَمّلة بأحاسيس تَبُث في دواخلهما قَشْعريرة لَذيذة.. قَشْعريرة القُرب والاتّصال. العُيون تَتأَمّل زينة السماء.. القَمر والنّجوم الوامضة.. هي مُتدفئة بشالها الأَسود الصوفي.. وهو عارٍ من دفء.. خارجي وداخلي.. فقد كان يَرْتدي بلوزة سوداء بأكمام قَصيرة. هَمَسَ دُون مقدمات: مو راضية تشوفني.. ولا حتى تكلمني.. الوسيط فيما بيننا إختها.. أنفال
أَطالت النّظر لجانب وَجْهه.. لا تعابير.. وكأنّ الذي يَنطق به كلامٌ عادي.. كما لو أَنّه يُخبرها عن درجة حرارة الجو.. حَرّكت عَيْنيها بعيدًا عنه عندما واصلَ بذات النبرة الخاوية: بس تصيح.. وحابسة نفسها في الغرفة.. مو راضية تاكل.. ومنهارة
لَم تَمْنع نَفسها من ارْتداء ابْتسامة السُخرية.. حتى عَيْناها كَستهما نَظْرة ساخرة.. التَفَتَ إليها ليُبصر التهكم على مَلامحها ليقول بابْتسامة جانبية: تطنزي
مَرّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تُعَلّق بهمس: عايشة الدور مدام ياسمين
دافعَ: من حقها
شَخرت وحاجبها ارْتفع لقمّة السُخرية: والله! "قَلّبت عَدستيها وَسَط مُقلتيها وهي تُردف باشْمئزاز" ما كأنها كانت تلاحقك وإنت رجّال متزوج
هَمَسَ لِيَرْتد السّهم إليها: إنتِ سويتي مثلها
مَسّت باطن خَدّها بلسانها وهي تخفض بَصرها وبحذائها تَعْبث بالحَشيش.. انتظر منها كلمة ولكنّها فَضّلت الصَّمت. مَرّت دقائق بسيطة كسابقتها وهُما صائمان عن الكلام.. قَبْلَ أن تَنطق هي بسؤالٍ لَم يَتوقعه البتّة: ليش كنت تعطيهم ثلاث حبات توت.. وأنا تعطيني خَمس؟
أنهت سؤالها ورَفعت جِفْنيها تَنظر إليه والجديّة تنضح من عينيها.. كانت الصدمة بادية على ملامحه.. صَدمة تُخالطها ابْتسامة مَكْتومة.. هَمَسَ وهو يَبتعد عن الجذع ليُقابلها: ليش السؤال؟
حَرّكت كتفها: بس جذي.. "أشارت لشجرة التوت بعينيها" شفت الشجرة وتذكرت.. قلت أسألك
حَشَرَ كَفّيه في جَيبي بنطاله الأماميين.. ابْتسامته كانت تَتسع شَيئًا فَشيء وعَيْناه تَسْتعيدان مَشاهد الطفولة.. قَطف التوت وتوزيعه وتَأمّل شَفتيها الصّغيرتين وهُما تَرْتويان منه. حَكَّ أنفه.. تَنَحْنح ثُمَّ نَظَرَ إليها وضحكة مَبْحوحة قَصيرة عَبَرت حَلقه.. رَفَعت حاجِبيها مُتعجّبة: ليش تضحك!
وَضّح: لأن السبب.. طفولي بحْــت.. وغَبي
اسْتَندت للجِذع مكانه: ما عليه.. قول
قابلها ويداه تتركان مخدعهما: متأكدة تبين تعرفين السبب؟
هَزّت رأسها: ايـــه "اسْتَنكرت" هالكثر السبب حَسّاس!
ضَيّق عَيْنه اليُمنى مع ارْتفاع زاوية فَمه: إذا على حساسيته.. فهو فعلاً حَسّاس " احْنى ظَهره قَليلاً وأَسْند ساعده على الجذع فَوْق رأسها مُباشرة.. وبهمسٍ لا يَسمعه غيرهما" بس يمكن يسبب لش إحراج
عَلّقت وهي تَشد شالها مُحاولةً إخفاء الرّعشة التي بَدأت تَزْحف إلى جَسدها على إثر اقترابه: شهالسبب الخطير!
وَوَجْهه يَقترب أَكثر: خَطيـر.. حَـده خطير
هَمست وعَيْناها تَتشابكان مع عَيْنيه في نِزاعٍ تائق: وشنو هو؟
مَرّرَ عَدَستيه على مَلامحها الأثيرية ببطءٍ مُرْبِك.. أَرْجَفَها.. كَما لَو أَنّهُ يَلمسها بَعينيه ويَطمئن على الوَجْه الذي لازمَ أحلام قَلْبه لأعوامٍ من الفَقد. كانت جَميلة.. كانت وَحْيًا من الخَيال.. أُنثى، كانت ولا زالت تُليق به.. تُليق بحُبّه وجنون مشاعره. كانت في تلك اللحظة.. وأغصان شَجرة التوت تُظَلِّلها بأوراقها وثِمارها كأكاليل.. والقَمَر يَصُب عَليها بَعضًا من ضيائه المُستَمَدِّ من نُورها؛ كانت كَدعوة مُجابة أَهادهُ إياها الله ساعة السَّحرِ. هـي، العالِقة ما بين نَبضاتٍ وَأنفاسٍ مُتَخَبِّطة.. شُعورها لا يُوصف.. بل رُوحها غير قادرة على استيعابه.. فهي مَغْمورة.. مَلأة به.. شُعور لَذيذ.. شُعور أَشْبه بإحياء السماء بسُحبها وأمطارها داخل رُوحها. الاقتراب تَضاعف.. والمَسافة تناقَصت.. شَدّت على الشال بباقي قوّتها الخائرة.. تَصافقت أَهْدابها وأذناها المُنتظرتان سَماع الجَواب صُمّتا من طُبول جَواها.. وفي ثانية.. ثانية واحدة فَقَط.. مالَ رأسه.. أَمسك بطرف ذقنها.. وبرقّة بالغــة لَثَم ثَغرها المُحَرّم على كبريائه.. قَبّلها وبكفّيه احْتضن بَدر وَجْهها.. قَبّلها مُرْتَشِفًا عَذبها الذي عَصى أَرْضه.. قَبّلها مُعيدًا بَثّ الرّوح في الجِنان القاحِلة.. قَبّلها وافِيًا بالوَعد الذي قَطعه على هذه الشجرة.. قَبّلها لتعود جِنان إلى فَيصل. يَدُها القابضة على الشال ارْتَخت.. حاولت أن تُكابر.. أَن تَتَجَمّد بَيْن يَديه.. وأَن لا تُبادله الوَله.. لكنّها لَم تَسْتطِع.. فزحام الشوق المُتْرَعة بهِ رُوحها كان أَقوى.. اسْتَسَلمت برحابة له.. فَضّت يَدها لِيَسقط الشال على الأرض العشبية وعانقته.. عانقتهُ وهذا التمازج يُحَلِّق بها إلى الأُفق البعيد.. حَيثُ الانتشاء والسَّكَر.. تَلاحمت معه في عِناقٍ حَميمي ابْتَسَمَ لهُ القَمر.. كانت وهي تُقَبِّله تُعيد تَرميم وُجوده داخلها.. تُزيح الغبار عن زوايا الروح التي هَجرها.. تُهَيّء لهُ عَرشه بَعْد نَفْيٍ قاس أَرغمتهما عليه الحياة. ابْتعدا قَليلاً.. قَليلاً جدًا.. فالأنفاس لَم تَقطع العناق بَعْد.. هَمَسَ وعيناه مُتَشَبّثتان بالموضع نفسه، مَنبع الارتواء.. وذراعيه تَشُدّان على خصرها النحيل: كان.. عندي اعتقاد.. إن شَفايفش.. مَصدرها التوت.. فلازم.. تاكلين من هالشجرة عشان لا يموت توت شفايش.. ولو مات توت هالشجرة.. فيعني راح يموت اللي على شَفايش
رَفَعَ عَينيه لِعينيها.. ابْتَسَم عندما أَبْصَر الاحمرار وهو يُضاعف من التهام ملامحها الشهية.. لَم تتوقع السبب بالتأكيد.. لَم يَمنحها وَقتًا لاستيعابه.. فهو جَذبها لِيَسْتَهِل قُبْلة ثانية.. أَكثر عُمْقًا ونُضجًا. مَرّت دقائق قَبْلَ أن يُنهيان الرحلة الشبيهة بالحُلم.. العَين في العَين.. الأنفاس لاهثة.. مأخوذة.. ومنتشية.. ازدردت ريقها وجَسدها المرتعش يَتصبب عَرَقًا مُهينًا بذلك شتاء ديسمبر القارس. صَوت خطوات.. تَراجعت للخلف حتى اصطدم ظَهرها بالجذع.. وهو أيضًا تراجع تاركًا بينهما مَسافة لا تُثير الشك والعين لَم تَبرح العَين.
: انتو وينكم! جنى من زمان تدوركم.. المسكينة ظنت إنكم مشيتون عنها
لَفت حجابها الذي انحسر عن رأسها.. ثُمَّ خَطت بتخبّط فَتَعَثّرت بشالها.. أَمْسكها من ساعدها قبل أن تسقط.. وهي دون أَن تنظر إليه.. انحنت مُلتقطة الشال.. ثُمَّ استقامت في وقوفها قَبْلَ أن تَسْحب ساعدها من قَبْضته لتخطو عائدة للداخل. تَساءَلت نُور باستغراب: شفيها؟!
بصعوبة أَزاح بَصره عن طَيفها ليَنظر لشقيقته، مَرَّرَ لسانه على شَفتيه ثُمَّ أَجاب: ما فيها شي.. كنا نتناقش بس "اسْتَطردَ وهو يُحيط كَتفيها بذراعه ويمشي معها للمنزل" جوعــااان.. بقى من العشا؟
رَدّت بالإيجاب: اي بقى.. أنا بحط لك
شاكسها: لا ما أبي أتعبش.. بعدين طلال يهاوشني ويقول لي تعبت مرتي وولدي
ضَحكَت وهي تُحيط خصره بذراعيها وتقول بود: تعبك راحة بعد قلبي.. ما عليك من طلال وولده
دَلف معها للداخل.. هي تركته إلى المطبخ.. وهو اتّجه إلى حيث يَستقر الرجال.. جَلسَ وعيناه تَبحثان عنها على الطرف الآخر.. ابْتَسَم بخفّة عندما وَجدها مُنزوية وفي حضنها جَنى.. كان جَليًّا وجدًا أنّها تَتَجنّب النظر إليه.. بل هي كانت تَخْتبئ عنه! تُخفي وَجهها بجسد جَنى الصغير الذي بالكاد يُعينها. هي حتى في طريقهم للمنزل لَم تَنظر إليه ولَم تنطق بكلمة.. ظلَّت مُديرة رَأسها للنافذة بطريقة رُبما سَبّبت لها تَشَنّج في عُنقها. فور دخولهم الشقة.. اتجهت لغرفة نومهما وخلعت عباءتها أثناء ما كان يُمَدِّد جَنى التي غالبها النوم على سَريرها.. غادرت الغرفة سَريعًا قَبْل أن يدخلها واتجهت لابنتها.. أبدلتها ملابسها ببطءٍ شَديد نصفه حَذر حتى لا توقظها.. ونصفه الآخر مُماطلة حتى لا تُواجهه.. فُربّما يكون قَد نام إذ هي عادت. حاولت أن تشغل نفسها بأي شيء حتى مَضت قُرابة الخمس والأربعون دَقيقة.. عندها قَصدت الغرفة بخطوات مُتَرَدّدة.. فَتحت الباب، وقَبْلَ أن تتوقع أي مَنظر قابلها وَجْهه.. كان يَذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا مُنتظرًا قدومها. تَوَقّفَ وهي أَغْلَقت الباب دُون أن تَبْتعد عنه.. ذراعاها للخلف مُمسكة بالمقبض ومُسْنِدة ظَهْرها إليه.. بَصَرُها يَتَسَلّق الهواء حينًا لتنظر إليه.. وحينًا يَتَمَرّغ بالأرض الخَشبية هاربًا من عَيْنيه. هَمَسَ وكُلّه مَسحورٌ بها.. بتموجات شعرها المُتدلية على كَتفيها وظهرها.. أهدابها الطويلة.. واحة عَيْنيها اللامعة.. أنفها الصغير.. توت شَفتيها.. عُنقها الطَويل.. عَظمتي ترقوتها.. جَسدها الغَض.. نَظراتها.. أنفاسها.. ارتعاش ذقنها.. ارتباك يَديها.. وتردد قَدميها.. كانت هي.. أنثاه.. جِنان الذي أحبَّ مُذ تَعَرّف قلبه على نَبْض الحُب الأَول. هَمَسَ بصوتٍ أَجش نَشَر كَهرباء عَظيمة بَين أوصالها: تعالي "أَغْمَضَت عَيْنيها وبيديها شَدَّت على المقبض بارْتجاف.. تَعَثّرت أنفاسها والدّمعُ شَدّ رَحله يُريد غَزْو أَرْضها وذاك يُكَرّر" تعالي جِنان "مَدّ يَده.. يَدُ اللقاء.. وابتسم" تعالــي
افترقت أصابعها.. تَركت المقبض.. شَدّت يَدها ثُمَّ بَسَطتها.. رَفعت عَينيها.. نَظَرت بهما إليه وهما تَتَكحّلان بدمعٍ أَبَت أن يَزور وَجْنتيها.. تَنَشّقت نَفَسًا مُتَعَرِّجًا ثُمَّ ابتلعت البُكاء.. قَبْلَ أن تُحَرّك قَدميها مُلبيّة بذلك ندائه.. مَدت يَدها فتعانقت اليَدان.. شَدّ بَحنو عليها.. تَحَسّس خطوطها.. مفاصلها ومعصمها، قَبْلَ أن يُقَرِّبها منه ليُواصل الرحلة التي اقْتُطِعَت قبل ساعات.. قَبّلها.. وهذه المَرة القُبلات قَصَدت مواضع أخرى وبدأت تتناثر بإسهابٍ كانت مُستسلمة إليه بجميع حواسها.. هي تعلم رَغبته.. هي ترغب بذلك أيضًا.. بَل وتَحن إليه.. لكن هذا لا يَصْلُح.. بالنسبة لها على الأَقل.. ذوبانها هذا سَيَجُرّها إلى دوامة سَتُرهقها أَمَدًا.. يَجب أن تُلَمْلِم نَفسها.. وأن تَجتذب رُوحها من هذا النعيم الذي يُغرقها.. هذا الاستسلام لا استقلال من بَعده.. لذلك استجمعت قواها الواهنة.. أَبكمت لَهْف رُوحها.. ومارست أقسى عذاب على قَلْبها.. فهي دَفعته بخفّة عنها مُبدية اعتراضها.. ابْتعد وعلامات الاستنكار تملأ وجهه.. ازْدَرَدت ريقها وهي تنظر لهُ من مكانها قَبْلَ أن تهمس بتوضيح: أدري.. بعد اللي بيصير.. بتقول.. ما يعني إني سامحتش.. فمن البداية.. لا يصير.. إلا إذا سامحتني
رَفَعَ جَسده عنها وحاجبه يَرْتفع بطريقة زادت من ارتباكها.. وكأنّه ينتظر تفسيرًا آخر.. جَلَست وبيديها المُرتجفتين أَخذت تُغلق أزرار قميصها لتقول دون أن تنظر إليه: هذا الشي مُستحيل يصير مدام إنت مو مسامحني "تَطَلّعت إليه من خلف أهدابها مُرْدِفة بوَجْسٍ مُرَغِّب" اسمعني.. وعطني السماح.. وبعدها راح أكون لـك
لَم يُبْدِ أي رَدّة فعل ولَم يَتلفّظ بحرف.. تناول بلوزته وأعادَ ارْتدائها قَبْلَ أن يَنْدَس تَحت غطائه وهو يُوليها ظَهره.. هَمَسَت بنبرة مُداعِبة: تصبح على خير حَبيبي
لَم يأتِها جَواب بالطَّبع.. ابْتَسَمت بسعة وظهرها يَسْتند للسرير وهي تغمض براحـة كبيرة.. تنهّدت بخفوت قَبْلَ أن تَلتفت إليه بنظرة حانية.. الابتعاد كان قاسيًا عليها وعليه.. لكن هذا من أَجلنا حَبيبي.. من أَجل حُبّنا.
,،
مُسْتَكينة في سَريرها.. ظَهرها مُسْتَنِد للوسائد المَصْفوفة خَلْفها.. خصلاتها الشقراء، عَناقيد الشَمس.. تَسْتَريح على كَتفيها وظَهرها وقَد عانَقَ بَعْضها وَجْهها الخالي من الزينة. كانت جالسة بساقين مَطْويتين ومُرتفعتين.. على فَخذها قَد اتَكأت مُذَكّرات والدتها.. تَقرأه.. تَختار صَفحات مُعَيّنة حَفِظَت مَكانها عن ظَهْرِ قَلْب لتَقرأها.. كانت تَحديدًا الصّفحات التي خَصَّت نُور وطَلال. لَم تَجِد سوءًا ولا كَلِمة قُبْح أو مَعابة.. تَعلم أَنّ والدتها أَرْقى وأنقى من كُل ذلك.. ولكن حتى الاستنكار والاستهجان كانت الصفحات تخلو منهما! هي مَروة لَم تُحِب نُور قَط.. وتُرجِع أَسْباب عدم المحبة لزواجها من عبد الله.. أَما فيما يَتعلّق بموضوعها مع طلال وعن الإثم الذي افْتُعِل في غُرفته بينها وبينه.. فهي مَظلومة.. مَظلومة جدًا ومُساقة في هذه اللعبة القَذِرة التي اسْتَغَلّت فيها بلقيس والدتها الضعيفة. لا تنكر أَنّها تَتقزز من حُب نُور السري لطلال.. ولكن الذي جَرى لَم يَكُن لها فيه يَد أَبدًا... واتّضح لها الليلة في أول لقاء عائلي معها.. بأنّها ناعِمة.. رَقيقة ولطيفة جدًا.. كما كَتبت والدتها على الصفحات. التَفَتَت لجهة الباب الذي فُتِح.. ابْتَسَم لها وهي بادلته الابتسامة.. ملامحه مأهولة بالإرهاق والتّعب.. حتى مَشيته كانت ثقيلة.. أَلقى بجسده على السرير كما لو أَنّه يَنزع عنه ساعات اليوم بأكمله.. اسْتلقى على بَطنه وهُو يَزفر ويَتأوّه.. مالَ رأسها وعلى جِفْنيها غَفى عَطْفٌ دافئ.. هَمَست بَحنو: يعطيك العافية حَبيبي
هو الذي كان شابك ذراعيه عند رأسه لينام فوقهما؛ رَدّ ببحة: الله يعافيش
تساءَلت: اليوم طويل؟
عَبَّرَ بإسهاب: طويل ومُتعب وثقيل وكئيب ومشحون دم.. كريــه اليوم.. واجد كان كريه
اسْتَفسرت: جم عملية؟
أَجابَ وهو يَدْعك عينه برسغه: أرْبع.. مو واجد.. بس الطوارئ كان زحمة.. وما في أَسِرّة.. وكوادر مثل ما تعرفين ما يكفون عدد المرضى والمصابين.. فيعني كل واحد مننا شايل أكثر من سبعة مرضى في وقت واحد
عَلّقت براحة: افتكيــــت من الجراحة
اتّكأ على مرْفقه رافِعًا يَده ليُسْند بها رأسه، وبتساؤل: ما تحبين الجراحة؟
أَجابت وأصابعها تَعْبث بطرف الدفتر: كنت.. بس بعد ما اشتغلت فيه واشتغلت في الأقسام الثانية.. شفت الفرق وكرهته
رَفَعَ حاجِبَيه وبابْتسامة مُسْتَفِزّة: طبعًا لأن الأقسام الثانية واااجــد أريح
عارضت بجدية وهي تَسْتدير إليه: لا من قال؟ كل قسم وله شغله وتعبه.. كل واحد يختلف عن الثاني ما في مقارنة
هَزّ رأسه بتأييد: صح "وبابتسامة مائلة" كنت أبي أستفزش بس
ابْتسمت وهُو تَعود لتستند: مُتعــتك
أَكّد بفخر: طَبـــعًا "اسْتَفسر" زين شنو بتتخصصين؟
رَدّت وهي تلتفت للمذكرات: للحين ما أدري.. خل أكمل هالسنة.. وبعدين بشوف شنو بيصير
: على خير "تَأمّل الذي في حضنها.. ليست المرة الأولى التي يراها تَقرأ فيه.. وكما هُو واضح لهُ أَنّه ليس بكتاب.. لَم يعرف بَعْد ما هُو.. أَفْصَح عن سؤال" مروة شنو اللي تقرينه؟ كله أشوفه عندش.. خاصة هالحزة
ابْتسَمت ابْتسامة تناقَضت فيها المَشاعر.. أَجابت بهمس دون أن تنظر إليه: مذكرات أمي الله يرحمها
: الله يرحمها "أرْدَفَ بنبرة إعجاب" شي حــلو إنها كانت تكتب مذكراتها
أَيّدته: ايـه.. كنت أظن إني أعرفها.. لأني كنت الأقرب لها.. بس بعد ما قريت المكتوب اهني تأكدت إني ما عرفتها إلا شوي "اسْتَطرَدت وهي تنظر إليه بابْتسامة" كاتبة عنك
أَشارَ لنفسه بتعجّب: أَنـــا!
أَكّدت: اي
تساءلَ باهْتمام: شنو كاتبة؟
اضطرت أن تُكَذِّب: للأسف ما أقدر أقول لك.. كاتبة إن محد يقراه غير بناتي وزوجي
اسْتفسر بضحكة: انزين شي زين لو شين؟
ضَحكت: لا أكيد زيـن
وهُو يَعود ليتوسّد ذراعه ويغمض هامِسًا: الحمد لله.. ريحتيني
تَقَلّصت الابتسامة.. حَلَّ محلّها عبوس مُوحِش.. أغلقت المذكرات وأعادتها لمكانها.. تَرَكت السرير واستدارت لجهته.. قَرْفَصت عند قدميه لُتزيح عنها الحذاء والجوارب.. وَقَفت وقَبْلَ أن تخطو أَوْقفها صَوْته: ترى ما بنام اللحين
نَظَرت إليه بتساؤل لتَجِد الجواب يُداعبها من خلال عَيْنيه الضائقتين من النّعاس.. أَخْفَت تنهيدتها قِسْرًا بين ضِلْعيها لتهمس بنصف ابتسامة: بودي الجوتي وبجي
اسْتدارت قاصِدة غرفة الملابس.. وضعت الحذاء في مكانه ثُمَّ ألقت الجوارب في سلة الملابس المُتّسخة.. تَحَرّكت لخزانة ملابسها.. فتحت أحد الأبواب وعَيْناها تتعلّقان برَفٍّ مُعَيّن.. ضَغَطَت على طرف الباب بقوّة حتى ابْيَضَّت يدها.. وصَدرها قَد ارْتفع باسْتنشاقٍ عَميق أعقبه زَفيرٌ طَويل ومُرْتَعِش.. تَحَرّكت يدها إلى خلف الملابس المطوية بترتيب وقَلْبها تَكاد حُجراته أن تَتقوّض من شِدّة تَضخمه.. كما لَو أَنّه يَضرب صَدرها يَسْتعطفها لترحمه! التقطت يَدُها ضالّتها.. قَلّبت العلبة بين راحتها.. فتحتها تُخرج ما فيها.. نَظرت للأقراص التي لَم تُمَس.. وَضعت إبْهامها على واحدٍ منها بتردد مثل كُل مرة.. كانت ترتجف من رأسها حتى أخمص قَدميها وهي أمام هذا القرار المَصيري.. أَغْمضت مُحاولةً تنظيم أَنفاسها.. الأفكار تدور بشعواء في رأسها.. الغوغاء يَزداد ضَجيجها في جَوْفها.. حائِرة هي بين قَلْبها وعقلها.. وبين رَغبتها في الانتقام. إلا أَنّ الاثنان المُتعاضدان كانت لهما الغَلَبة.. فهي بحركة سَريعة تَمنع فيها نَفسها من التراجع أرجعت العلبة إلى مكانها.. أغلقت باب الخزانة.. ثُمَّ اسْتدارت عائدة إلى زوجها بَعْد أن ألقت نَظْرة على وَجْهها في المرآة.. ابْتَسَمت عندما رَأته يُنازع النّوم.. هَمَسَت وهي تقف عند رأسه وبأصابعها تُلاطف خصلاته: إنت تعبان
أَحاطَ ساعدها بيده ليجرّها بخفة إليه وهو يهمس: خلّش من تعبي.. أنا وهو نتفاهم
,،
كانت تُرَتِّب الأَطباق فَوْق الطاولة في الوقت الذي دَلف فيه إلى المطبخ.. قالت بابْتسامة وبصوت مَبْحوح من بُكاء البارحة ومن كَفّي شَقيقها: صَباح الخير
عاتبها: ملاك ليش قايمة من اللحين؟ ومسوية الريوق بعد! ارتاحي
تَنَهّدت: محمد إذا برتاح يعني بقعد أشغل نفسي بالأفكار وأغرق غصب في الحزن والكآبة... وأنا ما أقدر أطوّل في هالشعور.. القومة والشغل أحسن لي
اسْتَفسَرَ باهتْمام ويَده ارتفعت تَتَحسّس عُنقها المُلَطّخ بطريقة عشوائية ببقع خضراء وأرجوانية باهتة: إنت بخير؟ ما يألمش شي؟ نفسش وحلقش؟
ابْتَسَمت له تُطمئنه: أنا بخير محمد.. ما صار شي.. رضّات خفيفة بس.. لا تحاتي
قال يُطمئنها: أنا بكلم دكتوره الموثوق فيه في أقرب فرصة.. لازم أعرف بالضبط نوع مرضه
قالت سريعًا: إذا بتكلمه بروح معاك.. أبي أكلمه أنا بعد وأشرح له.. أكيد راح يســ "رَنين الجرس قاطعها.. استطردت باستغراب وهي تنظر للساعة التي لم تتجاوز الثامنة" من جاينا هالحزة؟!
تَحَرّك للخارج: بروح أَشوف
تَوَقّف أمام الباب.. نَظَرَ من العين السحرية يتفقّد الوضع قَبْلَ أن يفتحه.. أَرْجع رأسه للخَلف والاستغراب يُصَب عليه.. فَتحهُ سَريعًا وهو يُناديه: هايـــنز!
ابْتسامة صَغيرة ومُحْرَجة بانت على شَفتيه.. رَفع كَفّه مُلَوّحًا: مرحبا موهاميد
أَبْدى استنكاره: ماذا تفعل هُنا؟ لماذا لم تخبرني بأنّك آتٍ؟!
رَفَعَ حاجبيه وبضحكة: هل سنتحدث هُنا؟
هَزّ رأسه باستيعاب ثُمَّ قال: انتظر قليلاً
أغلقَ الباب لتتقدم منه ملاك بسؤال: من اللي جاي محمد؟
أَجابَ بابتسامة: هاينز
كَرّرت بعقدة حاجبين: هايـنز! "استفسرت" كنت تدري إنّه جاي؟
أنكرَ: لا والله.. ما خبّرني
أَشارت للباب: انزين هو بعده اهني؟
وَضّح: اي.. شكله عنده موضوع.. كنت جاي أقول لش تلبسين حجابش
هَزّت رأسها بتفهّم: بقعد أنا في الغرفة وانتو اخذوا راحتكم
قالَ حتى لا يُضَيّق عليها: عادي بروح معاه مكان ثاني.. حتى لو ننزل الكراج
رَفَضت: لا فشلة.. الرجال واصل لاهني
وافقَ: على راحتش.. احنا أساسًا بنكون في المكتب.. فحتى لو تبين تكملين ريوقش عادي
ابْتسمت له: مو مشكلة بنتظرك
رَدّ لها الابتسامة: تمام
اتّجهت هي لغرفتهما وهُو عاد لهاينز.. دعاه للدخول ثُمَّ خَطى معهُ للمكتب.. حَيْث جَلس كُل واحد على المَقعد ليُقابل الآخر.. اسْتفسر مُحَمّد: هل هُنالك شيء؟
رَدّ بسؤال: ألم يُكلّمك والدي؟
شَرَح له: بلى.. ولكن كُنت مُرتبط بالتحقيق في قضية صالح.. لَم يكن لدي وقت للاتصال به
نَطَقَ وهُو الذي كان مُتوقعًا هذه النتيجة: إذن أنت لا تعلم بشيء
عُقْدة عَدم فهم تَوَسّطت حاجبيه: أعلم بماذا؟ ماذا تقصد؟
زَمَّ شَفتيه وضِيقٌ جَلي بَدأ يتراكم وَسَط عَيْنيه.. زَفَر قَبْلَ أن يهمس بخيبة: ستعود لبرلين
والعُقدة لَم تُحَل: سـأعود! ماذا تقصد بسأعود!
أَجابَ كاشِفًا جزء آخر من الصورة المُشوشة: فَوْر انتهائك من قضية صالح ستعود لبرلين لتستقر لفترة إلى حين الوقت المطلوب
ارْتفع صَوْته هاتِفًا: أي وقت! ماذا تقول هاينز؟ أنا لا أفهمك.. انتهى وقتي في برلين.. فلماذا العودة والاستقرار!
نَطَقَ مُهَشِّمًا ذاته التي جَمع قِطعها البالية بيدي مَلاك: يُريدك أنت.. ولا أحد غيرك.. أن تُواجه الرئيس الأكبر للعصابة.. يُريد أن تكون الكلمة الأخيرة لك
,،
انتهت من إرضاع طِفْلها.. أَعادتهُ لسريره بِحَذَر بَعْدَ أن قَبَّلت رَأسه.. تناولت الجهاز الخاص بمُراقبته ومن ثُمَّ حَرَّكت المقعد خارجة من الغرفة.. اتّجهت للمطبخ حيث زوجها.. تَوَقَّفَت عند الباب من الخارج.. كان يُوليها ظَهره مُنشَغِلاً في إعداد الإفطار.. مَرَّرت عينيها على الطاولة الصغيرة الرخامية التي اسْتَقَرَّت فوقها الأطباق الجاهزة.. طَبق له شَكل طُولي مُقَسّم لثلاثة أقسام.. قُطِّعَ فيه خيار، جزر وطماطم.. آخر مثله وَضَع فيه ثلاثة أنواع من الجُبن.. طَبق صغير حوى بعض من حبّات الزيتون.. وأخيرًا طَبق البيض الشهي.. انْكَمَشَت ملامحها وتَصَدّعت باشْمئزاز.. اسْتدارَ هُو في الوَقت الذي تَقَدّمت فيه للداخل.. ابْتَسَم بسعة وبين يَديه طَبَق كبير يحمل الأكواب والسّكر وقَدحي الحَليب والشاي: نام حسّون؟
تَجاهلت سؤاله وبهجوم شَرس: إنت ليش مسوي بيض؟ جم مرة قلت لك لا تسويه وتخيّس المكان؟ تدري إنّي من تنسيت كرهته وكرهت ريحته.. يعني تتعمد تضايقني!
عاتبها بلُطف: أفا حَنين أنا أتعمّد أضايقش؟ أنا أكيد أدري إنش ما تحبينه.. بس سويته لي.. مشتهي.. وكلش ما في ريحة.. تأكدت جم مرة
اتَّسَعت عَيْناها بشرٍّ لا غُبار عليه: يعني قصدك أنا أجذب؟ "ارْتَفَعَ صوتها" أقول لك أكرهه.. وريحته في الشقة كلها
هَزّ رَأسه ورُوحه تَتَشَبّث بتلابيب الصّبر حتى أَخنقته: ما عليه.. ولا يهمش.. اللحين أنزله تحت.. وبفتح الدرايش كلها عشان تروح الريحة وبعطّر وببخر المكان
هاجت: شنــو إنت تبي تمرّض ولدي؟ تفتح الدرايش تبي يدخله هوا! والبخور بيخنقه.. شفيك صاير ما تفهم!
شَدَّ على الطّبق حتى أَنَّ ما فيه بَدأ يَهْتز من فَرط شَدّه.. هَمَسَ مُتحاملاً على نفسه وعلى طاقته: إنتِ اللحين شنو تبين حبيبتي؟ اللي تبينه بسويه
هي لَم تُجِبه.. بَل شَنّت هجومًا آخر أكثر ضراوة: إنت ليــش جذي بــارد؟ تعــل الجبد والله.. ثلــج ثلــج.. مو آدمي! ما تحـــس.. ولا جني محترقة قدامك! قالـب ثلج من فوقـــ
اخْتَرَقَت حَلْقها شَهْقة هَلِعة طَفَرت من قعر صَدرها بسبب حركته المُباغتة.. فهو في لحظة قَذَفَ بالطّبق بأكوابه وقَدحيه جانِبًا.. لِيصطدم بالحائط ثُمَّ يَسقط على الأَرض مُخَلِّفًا بذلك ضَجّة أَرْعدت دواخلها وانكمش منها جَسَدها المفزوع. نَظَرَت للأَرض والاسْتيعاب قَد فَرّ منها.. قطع الزجاج كانت تتناثر بعشوائية خَطيرة على الأرْضية.. حتى أَنّ بعضها امْتَدَّ إلى مَقعدها.. كَيْف يَجْرؤ على هذه الفعلة! ماذا لو أصابها! ماذا لو ضاعف من ضَررها! يــا لجنونه. رَفعت عَيْنيها الجاحظتين إليه لتهمس بِحَنَق وخَوْف شَكَّلَ تمازجهما لَوْنًا قُرْمزيًا صَبَغ وَجْهها المُحتقن: مَجــنون! مَجْنـــون "صَرخت بهستيرية وَبُكاء رُوحها المَرْعوبة تَفَجَّر بغزارة" مَجــنون.. ما أبيـــك.. ما أبيــ ـك يا المجنووون.. رجعني بيت أبوي.. رجعــــني لأمي ما أبيــك "انْتَصَفت جُنونها شَهْقة حادّة جَرَحت حَلْقها وَجَسدها قَد سُكِبَ عليه الاحْمرار وسَيْطرت عليه الرّجفة" رجعــني اللحين.. إنت مجنون.. لو صادني شي! لو انجرحــت! "قَذَفتهُ بِسَهْمٍ اسْتَقَرَّ في لُب قَلْبه.. لَم تَرحمه.. لَم تَشفق عليه.. قَطّعت فؤاده بدَمٍ بارد وغُرور سَقيم" أَكرهــك بسّام.. أكرهــــــك.. من أول ما أخذتك وأنا أدوس على نفسي وقلبي عشان أواصل معاك.. وللحين أنا دايسة.. تعبت منك.. من برودك ومن اللون الوردي اللي صابغ حياتك.. ما أبيـــك "هَمَسَت بفحيح سَمّم قَلبه حتى تَوَرّم" أَكرهــك.. طلقنــي... طلقني.. يا البــارد.. يا المجنـــووون... طلقنــي.. أكرهـــ ـ
تَصَلّبت في مكانها.. خَبَت أنفاسها.. حتى دمائها تَوَقّف سَعيها.. فهو انْقَضَّ عليها بحركة مُفاجِئة مُطْبِقًا يَده على فَمها.. ضَغَطَ بقوّة حتى شعرت أَنَّ أصابعه سَتُمَزّق جلدها وتنهش لَحْمها الطَري.. رَفعت عَيْنيها المغسولتين بالدّمع.. رَفعت عَسَلها الآسن.. ارْتَعَشَ شَيءٌ خَفي داخلها.. حاولت أَن تَقرأ الحديث الأبكم النائح في عَيْنيه.. لكنّها كانت أقسى من أن تفهمه.. هَمَسَ بنبرة عارية.. خاوية.. مُقْفَرة من وُجود... ومن ذات: خـَـــــلاص
,،
مَرَّت ساعات اليوم واسْتعاد القَمر مكانه في كَبد السماء.. زَحف الليل إليهم فعادَ إلى المنزل.. لَم يُقابل أحدًا في غرفة الجلوس لذلك رَكبَ مُباشرة لشقته.. فَتَحَ الباب لتُناغي مَسْمعيه الضحكات وهي تتعانق بلذّة.. ابْتَسَم بخفّة وهو يَمشي مُتَتّبعًا الصّوت.. فَتَحَ باب الغرفة ليُقابله مَنظرًا لَم يَعتَد عليه جَواه.. كلاهما تَجلسان على الأَرض الخشبية.. جِنان مُسْتَنِدة للسّرير وَجَنى تَستريح فوق ساقيها تَضع لها بعض المساحيق بملامح مُندمجة بطريقة تُثير الضحك.. سَلّم بهدوء وهو يقترب منهما: السلام عليكم
التَفتا إليه بانْتباه.. رَدّت جنان بهمس، أَما جَنى فقد قالت بحماسٍ وعلو: بــابــا تعال شوفني وأنا أحط ميك أب لماما
جَلَسَ بجانب جَنى وبالقرب ذاته من جِنان التي بَدأ يَتَسَلّل إليها الارتباك.. فهو بجديّة تامّة أَطاع أمر ابْنته وعَلّق بَصره بملامحها.. تصافقت أهدابها بلا إرادة منها.. فقالت الصغيرة بانزعاج: ماما بيخترب الكحل
هَمَسَت: آسفة ماما
اسْتَمَرَّت الصغيرة في وَضع الألوان على جِفْني والدتها، كما لو أَنّها لوحة تُصْبغها بطفولية كيف تشاء. انتقلت لشفتيها.. اختارت لون زهري وهي تُبدي رأيها بثقة فطرية: هذا اللون أحسن لأن فاتح.. عشان يناسب الشادو الغامق
ضَحَكت جِنان بخفّة وفيصل ابْتسمَ وهو يَرْنو لوريثته بطرف عيْنه قَبْلَ أن يعود ليُواصِل تَأمّله.. كانت جَنى قَد بدأت بوضع أحمر الشفاه.. وهو كان يَتَتّبعها بدقّة سَرَقت الأنفاس من صَدر جِنان.. رَفَعَ جِفْنيه قاصِدًا بَحْر عَيْنيها.. ذَوت حواسها ودُوارٌ حاصرها.. كانت عَيْناه تَبُثّان لها رَغْبته.. بوضوحٍ وصَراحة.. ازْدَرَدت ريقها وهي تَرمش بتخبّط كاسِرةً النظرة قَبْلَ أن يُغشى عليها. انتهت جنى واستدارت لوالدها بتساؤل بريء: حلو الميك أب مالي بابا؟
أَجابَ بوَجْسٍ مُلْهِب وعيناه تَمُرّان على النّبع: يَجـــنن
رَشَّحت صوتها من رعشة التوتر لتُحادث ابْنتها بمَلق: يلا ماما جنى.. وقت النوم
أَرْخَت حاجِبَيها وبملامح راجية: شوي بعد ماما
أَشارت للساعة: شوفي حبيبتي الساعة صارت اثنعش
حَرّكت يَدها: عـادي.. ويكند
ابْتَسَمت لها بلطف وبنصيحة: ماما عشان تقومين الصبح من وقت وإنتِ نشيطة.. ويصير اليوم طويــل وتلعبين فيه على راحتش.. عشان جذي اليوم حلينا كل الهوم ووركس.. عشان باجر يكون بس للعب.. أوكي؟
برِضا: أوكــي
فيصل احْتَضن الصغيرة وذَهب بها لدورة المياه يُساعدها على تفريش أسنانها في الوقت الذي كانت تُرَتّب فيه جنان ما أحدثتاه من فوضى. اختارت بجامتها ثُمَّ اسْتلقت وَسَط السرير مع والدتها المُحَمّلة بقصة جَديدة. قَبّلَ فيصل جَبينها وخديّها وهو يقول بحُب عَميق لطالما أغدقها به: تصبحين على خير حبيبتي
تساءلت: ما بتسمع القصة؟
نفى: لا "غَمزَ لها" باجر إنتِ قوليها لي
هَزّت رأسها بحماس: أوكــي
خَلَت الغرفة منه لكنّ روحها بَقت مَملوءة به.. شَغلت نفسها بقراءة القصة حتى تناست نظراته.. تأكّدت من نوم جَنى.. غَطّتها وقَبّلتها ثُمَّ غادرت باتّجاه غرفة نومهما. كان كالعادة يستحم.. وقفت أمام المرآة بعد أن أخرجت من أحد الأدراج علبة محلول أفرغت بعضًا منه في قطعة صغيرة من القطن.. وبدأت تَمسح ما لَطّخت به جَنى ملامحها وهي تَبْتسم بحبور.. إلا أَنّ الابتسامة تَقَلّصت، وحركة يدها تَوقّفت عندما انعكست صورته في المرآة.. كان يقف خلفها بسروال بجامته وصدره العاري يُجَفّف شَعره.. أَرْخى المنشفة على كتفه قَبْلَ أن تَسْتقر يَداه على وسطه.. واقفٌ بصمت وعَيْناه مُلتصقتان بصورتها في المرآة.. هُو ظَلَّ واقِفًا هَكذا لدقيقة أو أكثر قَبْلَ أن يَصدمها بكلماتٍ حَلَّقَت بها في ثواني من الأرض إلى آخر سَماء: متى ما تبين تتكلمين.. أنا راح أسمع
ظَلّا يَتبادلان النظرات والصمت ثالثهما.. هي تُعاين رُوحها المُتلهفة.. وهُو ينتظر منها تعقيبًا.. لذلك قالت بتلعثم وهي تخفض يَدها عن وجهها وترخي بصرها: راح.. مو اللحين.. أقصد.. راح أتكلم.. بس مو اللحين
هَزّ رأسه: على راحتش
استدارَ عائدًا لغرفة الملابس.. ثواني وخرج بعد أن ارتدى بلوزته.. قَصَدَ السّرير مُسْتَعِدًّا للنوم الذي فارقها.. فهي ظَلّت تتقلّب كالنائم على الجَمر.. ارْتباكها كان أعظم من أن تَتحمله.. فاللحظة التي انتظرتها وتمنتها لسنوات ها هي أقرب إليها أكثر مما تخَيّلت.. حتى هو كان مُرْتبك.. إلا أَنَّ ارْتباكه قَد تَجَمّع داخل قَلْبه.. فهو لا يعرف طبيعة الكلام الذي ستنطق به وغير قادر على توقعه.. تُرى ما هُو عذرها أو تبريرها؟ وهل سيَقنع به؟ بل هل سَتستحق من بعده الغفران؟
بالكاد أتى الصباح بَعْد ليلة كانت من أثقل الليالي عليها.. تجهزت ببطء وحذر دون أن تصدر صوت.. فهو كان مُسْتغرِقًا في النّوم.. تركت الشقة وهي تفتح هاتفها تتأكّد.. غادرت المنزل مُباشرة إلى مركبتها.. ثواني وحرّكتها للوجهة المنشودة.. الشارع كان سَلس.. فهي وَصَلت للمكان في أقل من عشرون دقيقة. أركنت المركبة في المكان المُخصّص.. ترجلت منها ونَبْضها يتسارع كُلّما اقتربت.. فتحت الباب لتَستقبل ذاكرتها رائحة لَم يُبَدّدها الزمن.. اقتربت من البائع المُسِن بابْتسامة مؤدبة.. سَلّمت ثُمَّ تساءلت وصوت جِنان المُراهقة يُشاكس هدوءها: موجودة عندكم روايات الكاتب أحمد راضي؟
انتهى
|