كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء السابع والخَمسون
الفَصل الأول
أَيْقَظتها بقُبْلات ناعِمة كالفَراشات المُرَفْرِفة على وَجْنتيها.. فَتَحت عَيْنيها الضائقَتين من النّعاس، ابْتَسَمت وهي تهمس ببحّة: صباح الخير مـاما
أَبْعَدت خصلاتها عن وَجهها القَمري وهي تَرد بهمسٍ دافئ: صباح الورد وردتي "مالَ رَأسها بتساؤل" هـا.. شبعتين نوم؟ "حَرَّكَت رَأسها بالإيجاب وهي تَزحف لِتَنكمش في حَضن والدتها التي ضَحَكت قائِلة" ماما راح نتأخر على المدرسة
انطَوت أَكثر في حضنها وهي تهمس بطلب: بس شوي ماما.. خمس دقايق
شَدَّت عليها بَحْنو وتَركت قُبْلة على رأسها: أوكي حبيبتي "ابْتَسَمَت بِجَذَل وهي تَسْتَشعر اسْتنشاق صَغيرتها الواضح لرائحتها.. قَبَّلتها من جَديد وأَناملها تُداعب خصلاتها الناعمة.. نادتها بخفوت" ماما جنى
رَدَّت بنبرة ناعِسة وشهيّة: نعم ماما
تَساءَلت: تذكرين يوم قلت لش تدعين وتطلبين من الله اللي تبينه؟
رَفَعت رأسها لتنظر إليها وتُجيب باهْتمام: اي.. أذكر "وبصدقٍ طاهِر" كل يوم كل يوم أدعي إذا سمعت الأذان.. أدعي وااجـــد
هَمْهَمَت وابْتسامتها تَميل لِتُفْصِح: واللي يقول لش إن الله استجاب دعائش
اسْتَفسَرت بعدم فهم: يعني شنو؟
ضَحَكَت بخفّة وهي تَعْتدل في جلوسها وتواجهها مُوَضِّحةً بهمس والعَين بالعَين: يعني الله سمعش وعطاش اللي تبينه "أَكْمَلَت وهي مَشْدوهة لاتّساع عَيْني جَنى المُتَحَفِّزة" أنا وبابا فيصل رجعنا لبعض "قَرَصَت أَرْنبة أنفها مُرْدِفة بوَجْسٍ رَقيق" يعني خلّص الديفورس
فَغَرَت فاهَها الصَّغير وهي تَتراجع عن حضنها ببطءٍ شَديد.. قَلَّبَت عَدَسَتيها على وَجْهها باحِثة عن الصِّدق.. اسْتجابَ لها الله.. يعني أَنَّهُ سَمعها.. هي كانت تهمس بصوت منخفض جدًا.. وبعض الأحيان كانت تدعو داخل قَلْبها.. لكن مع ذلك هُو سَمِعها! إنّهُ يُحِبّها.. الله يُحِبّها.. أخبرتهم مُعَلّمة التربية الإسلامية أَنَّ الله إذا أَحبَّ عَبْدًا يَرزقهُ ما يشاء.. يرزقه يعني يعطيه كما عَلَّمتهم.. إذن الله يُحِبّها.. لَقد رَزقها وأَعطاها هذه الهديّة الجَميلة جدًا.. ماما جِنان مع بابا فيصل.. انتهى "الديفورس" انتهى!
نادتها والدتها وهي تُراقِب صَمْتها المَذهول: جَنى حَبيبتي؟
ضَحَكت.. بلا مُقَدِّمات ضَحكت بعُلو وزَهْو.. ضَحَكت حتى تَمايلَ جَسَدها النَّحيل ويَداها الصَّغيرتان ترتفعان تغطيان فمها.. شاركتها جِنان الضّحكة وقَليلٌ من دُموعٍ عَذْبة خالطَت التماع مُقْلَتيها.. عانقتها وهي تَتساءل: هالكثر ماما مستانسة؟
أَجابت الطْفلة ببراءة والابْتسامة تَشعُّ كالشَّمس على وَجْهها: واجد ماما مستانسة.. واااجــد
قَبَّلَت خَدَّيها وبرأفة: يا روحي إنتِ.. يا عُمري.. عسى الهنا ما يفارق قلبش الصغيرة
اسْتَفسَرت لتتأكَّد: يصير أقول لله شُكرًا صح؟
هَزَّت رأسها: طبعًا حَبيبتي يصير
رَفَعت رَأسها بالتوالي مع ارْتفاع كَفّاها المُتخذان وضعية الدُّعاء.. وبسعادة عــارمة رَدَّدَ لسانها المُصَفَّى: شُكرًا يا الله.. شُكرًا يا الله.. شُكرًا....
،
تَفَقَّدَت الطَّريق أَمامهما في الوَقت الذي كانت تركن فيه والدتها المَرْكبة.. وباسْتغراب: بابا مو اهني.. سيارته مو واقفة مثل كل يوم!
نَظَرَت إلى حيثُ اعْتاد أَن يَقِف كُل صَباح لِتَجِد سَيّارة أُخرى.. قالت بتفكير: يمكن وقف في مكان ثاني "التَفَتت لها" بننزل وبنشوف
غادرت السَّيارة ويَدُها في يَد ابْنتها المُنْهَمِكة في البَحث عن والدها بِعَيْنيها الحائِرَتين.. تساءَلت بزعلٍ وَضيق بعد أَن تَجاوزتا الباب الداخلي للمدرسة دُون أن تَلتقيا به: ليــــش ما جا؟
أَخْفَضَت بصرها إليها لتُجيب بلُطف: حبيبتي يمكن تعبان
بخوف وهي تَتَذَكَّر جِرح رأسه: طلع من راسه دم بعــد؟
نَفَت سَريعًا: لا لا حبيبتي.. ما طلع دم "وبتوضيح بسيط" يمكن نام متأخر وما قدر يقوم الصبح.. جذي أقصد "رَفَعت كَتفها بعدم ارْتياح وهي لَم تَقتنع بتبرير والدتها.. ابْتَسَمت وَضَغطت على يَدها قائِلة" أكيد راح يجيش في الهدّة
أَخفت ضِحْكتها عندما قابلتها صَغيرتها بصمت وبعُقْدة حاجِبَيْن.. رَفَعت رَأسها مع تَحَرّك عَدَستيها اللتيْن تَعَثَّرتا بنظرة ثاقِبة.. تَباطَأت خَطواتها ولكنّها لَم تَقِف.. ابْتَسَمت له ابْتسامة لَم تَتَضِّح أَبَدًا على شَفتيها قَبْلَ أن تَتَخطَّاه إلى صَف ابْنتها.. سَلَّمتها الحَقيبة ثُمَّ قَبَّلتها وَوَدَّعتها. اسْتَدارت لتخرج لكن هذه المرّة لَم يَسْمح لها بالهروب.. فهو كان يَقف خَلْفها مُباشرة.. تَفصلهما خطوتان فقط. ارْتَبَكت في البداية.. أو بالأحرى تَلعثمت بالحَرج.. ولكنّها اضطَّرت أن تخوض الاشتباك.. اشتباك الأعْين.
كانا يَقِفان مُتقابِلَيْن وَسَط المَمر المؤدي إلى باب الدخول والخروج.. هَمَسَ وهو يَعقد ذراعيه على صَدْره: أنا قاعد انتظر
أَغْمَضَت للحظات بتِيه هامِسةً: نـادر
قاطعها قَبْلَ أن تُكْمِل: أمي تضايقت جدًا من اتصال والدتش.. بالنسبة لها التَّصرف كان فيه قلّة ذوق.. قَبل ساعات بسيطة من الشوفة تتصل وتعتذر!
أَيَّدته وهي تَقبض يَدها: معاها حق.. وأنا أعتذر عن نفسي ونيابة عن أمي
بتنهيدة: على العموم أنا بذلت كل جهدي عشان أهدّيها وأخلّيها توافق على زيارة ثانية.. بس اللحين أبي منش تحددين لي موعد أكيد ومن غير أي أعذار ومفاجآت
زَمَّت شَفَتيها وملامحها تَتَصَدَّع بأَسَف.. أَرْختهما قَبْلَ أن تُحَرِّك رأسها وهي تهمس بغصّة: مـا يصلح نادر
أَحَلَّ عُقْدَة ذراعيه مُعَقِّبًا: أدري فيش منحرجة جنان.. بس ما عليه.. تصير مثل هالأمور.. الحمد لله الوالدة راضية اللحين
كَرَّرَت وضَميرها يؤنّبها بقسوة: ما يصلح نادر.. ما يصلح
ارْتَفعَ حاجِباه: ليش؟ عشان فيصل؟ أو عشان جنى مثلاً؟ مهما كان السبب جنان فله حل.. لا تفــ
: مَلجــنا
نَظَرَ لها بعدم فهم لثواني قَبْلَ أن يتساءل بعُقدة حاجِبَيْن: شنو!
أَعادت وهي تَتنفس بثقل وصوتها يكادُ يَخْبو: مَلجــنا.. أنا وفيصل البارحة ملجنا
ارْتَدَّ للخَلف وردود فعله جَميعها خَبَت من وَجْهه لِيَنْقض عليه شحوب باهِــت.. حاوَلَ أن يَزْدرد ريقه لكنّ الغصَّة قَد تعاظمت وَسَط حَلْقه بصدمة.. نَطَقَت بوَجْسٍ راجٍ وعَيْناها قَد كَساهما اعْتذرٌ مُشْفِق كَرهتهُ ذاته: آسـفة.. آسفة نادر.. سامحنــي.. صدقني ما كنــ
يَده ارْتفعت بِحَزْمٍ آمِرةً لسانها بالتوقّف.. أَخْفَضها مع نزوح الجَليد إلى وجهه وحواسه.. هَمَسَ بنبرة خاوية: لا تكملين
وَخَزها بنظرة أَدْمَت ضَميرها.. ثُمَّ اسْتدار مُبْتَعِدًا عنها بَعْد أَن انتهى دَوْره السّاذِج في مَسرحية حَياتها العَوْجاء.
,،
تَجلس أَمام التّلفاز بفِكْرٍ مَشْغول.. صَغيرها يَسْكن حِجْرها وقَد نال منهُ النَّوْم بَعدَ أن أَشْبعتهُ وَجْبته البَسيطة.. البارِحة عادت إلى شقتها.. اسْتَسلَمت في النهاية لرأيهم على مَضض.. فلا زال الخَوْفُ يُشاكِس ذاتها.. والاحتمالات المَشْؤومة لا تَفتأ أن تَجثم فَوْق خَيالها. زَفَرَت بخفوت ويَدُها تَمْسَح على رَأس صَغيرها بِحنانٍ لَم تَتَوَقَّع أَنَّهُ كان سَينبجس داخلها بكُل هذه العذوبة.. وكأَنَّ فعلاً مَشاعر الأُمومة مَحْفوظة في قَلْب كُل امْرأة.. تَنتظر فَقط ولادة الطفل الأول لِتَكشف عن عنفوانها. انتبهت لخُروج زوجها من مكتبه.. اقْتَرب منهما بابْتسامة دافِئة وفي عَيْنيه نَظْرة آسِرة.. انْحَنى مُقَبِّلاً رَأس صَغيره بخفّة، قَبْلَ أن يَسْتقر بجانبها ويهمس: شخبار الوضع لحد الآن؟
هَزَّت رَأسها وبسَبّابتها دَعَكَت أَسْفَل أَنفها مُجيبةً: الحمد لله.. تمام للحين
وبتساؤل مَرِح: يعني عادي باجر أداوم وأترككم بروحكم؟ أَمـان ولّا في خوف؟
ابْتَسَمت وهي تُخفي تَنهيدة بَين ضِلْعيها: أَمـان.. رُوح
رَبَّت على فَخذها: زين زيــن "اسْتَطَردَ" بتروحين اليوم لأم جَنى؟
اتَّسَعت ابْتسامتها: أكيــد.. بعد الخبر اللي سمعته لازم بروح أَبارك لها
وهو يَلتقط أَداة التَّحكم بالتلفاز: تَمام.. أنا بوصلكم في طريقي
بموافقة: أوكـي
سادَ الصَّمت في المَكان ما خلا صوت التلفاز المُنخفض جدًا.. وصوت أَنفاس الصَّغير الغارق في نومه الشَّهي.. نَظَرت لهُ وهو مُندمج مع أحد البرامج الوثائقية.. يَجب أن تخبره بقرارها الذي اتَّخذته بينها وبين نَفسها.. لكنّها تَخشى أن يُواجه القرار باعتراض.. وتبدأ رحلة النّصائح الثَقيـلة جدًا على القَلب.. لكن لا بُد أن تخبره.. لا يوجد حَل آخر حَنين! رَشَّحت صَوتها من تَرَدّده.. مَرَّرت لسانها على شَفتيها.. ثُمَّ نادته وفي عَيْنيها نَظْرة مُتَوَجِّسة: بَسّــام
التَفَتَ لها بانتباه: نعم؟
تَنَحنَحت وهي تُزيح عن جانب وَجْهها خصلة وَهْمية ثُمَّ تقول بثقة مَشروخة: أنـا بكلم مديري.. باخذ إجازة سنة من غير راتب.. عشان أقابل ولدي وأهتم فيه
نَظَرَ لها لثواني من غير أي تعقيب، وملامحه لَم تَتَضمن أي ردّة فعل تُوَضِّح لها رأيه وانطباعه.. لذلك نادتهُ باستفسار: هـا بَسّـام.. شنو تقول؟
رَدَّ بهدوء وبابْتسامة جانبية: ما أقول شي.. القرار قرارش.. وهذا شغلش وإنتِ أدرى باللي يناسبش
أَخْفَضَت رَأسها قَليلاً لِتَتَطَلّع إليه بشك: أكيــد؟ يعني مو معصّب أو معارض؟
ضَحَكَ بخفّة: ليـش أعصّب؟ عـادي على راحتش.. هذا الشي خاص فيش وإنتِ تشوفينه الأنسب والأريح لش.. وبعدين الحمد لله الخير واجد.. فمو محتاجة للمعاش
أَيَّدت: صَـح.. الحمد لله إنت وأبوي مو مقصرين
أَحاطَ كَتفيها بذراعه ليهمس لها بلُطف: أهم شي تكونين إنتِ مرتاحة
ابْتَسَمت لهُ بِرِضا وحِمْلٌ كان قَد آرقها ها هي رُوحها الآن تَتَخفّف منه.. لَم تَتَوَقَّع أَنّه سيوافق بهذه السرعة.. ظَنَّت أَنَّهُ سَيُقابلها باستنكار ومعارضة شَديدة كما حَدث عندما بَثَّت لهُ رَغبتها في المكوث عند والدتها.. لكن يبدو أَنَّهُ لا يُريد الضَّغط عليها.. وحَقيقةً فكلامهُ صَحيح.. فهذا عملها وأَمرها الخاص بها هي فقط.. حتى هو زوجها لا دخل له في أي قرار تتخذه تجاهه.
,،
التاسعة صَباحًا.. قُرابة العَشر ساعات مَضَت والرَّيحُ الرّمادية لا زالت تُعيثُ فَسادًا حَولها.. في رُوحها.. وبين مَلامحها. كَم بَكت؟ انظر إلى وَجهها وَسَتَجِد الجَواب.. بَكت كثيرًا.. كَثيـرًا.. للحَد الذي اصْطَبَغت فيه أَجْفانها بزُرْقة باهتة طَغى عليها الاحْمرار.. كما لو أَنَّ أَجفانها تَوَرَّمت. قَلْبُها من صَدمتها أَمسى صَغيرًا.. ذَرَّة تَسْتقر عند يَسار صَدرها وقَد اخْتُزِل فيها حُزْن العالم أَجمع.. كُل الأوجاع تَرَّكزت في قَلبها.. حتى أَنَّها فَقَدت الإحساس بباقي أَعضائها.. في تلك اللحظة مات كُل جُزء فيها.. وَلَم يَبقَ سوى قَلبها الذي أَخَذ يَجُر أَنينًا له وَخْزٌ لَم يَزل يُعَذِّب صَدرها. على الأَريكة الطَّويلة كان جُلوسها.. أو لنكن واقعيين.. على الأَريكة الطَّويلة كان انكسارها.. خَيبتها.. وانهدام أَحلامها.. خصلات شعرها الذابلة تُحيط بوجهها المَسْفوك دَمعه.. التَّبلد بَدأ يَزحف إلى مَلامحها شَيئًا فَشيء لِيُعانق الاختناق الذي نال منها خلال ساعات البُكاء الماضية.. فَمُها تَنتصفهُ ثَغْرة صَغيرة.. يَعْبر من خلالها هواء يُطَبْطِب على رَئتيها.. شَفتيها غادَرتها الحَياة فاستحْكَمَ منها الجَفاف... وعلى أَهْدابها غَفَت دَمْعة.. تنتظر أَمْرَ البُكاء لِتَنتحر فَوْق خَدّها. جالِسة وهي تثني قَدميها تَحت فَخْذيها، حَيثُ فَوْقه أَسْبَلت ساعديها وكَفّاها يشرحان خلاء وفاضها.. ظَهْرُها مُنْحَني وبَصَرُها مُعَلَّق بنقطة واحدة مُنذ أكثر من ساعة.. لا يَدري فيمَ تُفَكِّر.. ماذا يَجول في عقلها.. وأَيُّ الأَحاسيس تُخالجها؟ الهُدوء الذي يُحاوطهما صاخِب.. بهِ إزْعاجٌ يُثير الارْتباك والتَّوتر.. يَشعر بأن لهذا الصَّمت قَبْضَتان حَديديتان تَخنقانه.. كُلَّما انقضت ساعة والصَّمت يَتعاضد مع صَخب الهدوء لإغراقهما يَتضاعف الاختناق.. حتى أَنَّهُ الآن أَصْبَح يُعاني في اجتذاب الأنفاس. رُبما لأوَّلِ مَرَّة منذُ زَمن يَطلع عليه صبحٌ كَئيب كهذا.. شَمسهُ باهتة وعَصافيره بَكْماء.. أَصوات السيارات وهي تَقطع الشارع كانت موسيقاه الرَّخيصة.. حتى البَشر يَعتقد أَنَّهم اليوم اعتكفوا في المنازل.. فلا أصوات تَصله.. أَم أَنَّ أُذنَيه قَد أَصَمَّهما الزلزال الذي فَجَّرَ غَضَبَ الياسمين؟ هُو كان يَتَّخِذ الأَرْض مَخْدَعًا له.. مُسْتَنِد بظهره للسَّرير حتى يَتَسَنَّى لهُ مُراقبتها.. ساق مثنية والأخرى مُمددة.. وذراعيه قَد عُقدتا على صَدره. التَفَتَ يَبحث عن هاتفه.. وَجدهُ مُلْقىً بإهمال وَسَطَ السَّرير.. تناوله ونظر للوقت.. التاسعة والربع.. تَنَهّدَ وهُو يَعود بعينيه لها.. أَخْفَضَ الهاتف بجانبه.. شَفتاه مُطْبَقتان، لا يَجْرؤ على النّطق بأيّ شيء.. أَفْصَحَ عن تَنهيدة أُخرى ويَداه تَمسحان وَجهه بجلافة.. ضَيّقَ عَينَيه وبَدأ يرمش بسرعة نتيجة الاحْتراق الذي لَسَعهما.. فهو لَم يَنم مُنذ الأَمس.. والأَيّام السابقة كان نومه فيها مُتَقَطِّعًا ومُرْهِق لجسده وعقله. نَظَرَ لها.. لَم تَتحرّك بَعْد.. وكأنَّها تَجَمَّدت في مكانها.. حتى الموضع الذي تنظر إليه لَم يَتَبَدَّل.. تَنهيدة أُخرى.. وهذه المرة ذاكرته أَعادت عليه مَشْهد البارحة للمَرَّة التي يَجْهل حِسابها.
،
كانت تَسألهُ عن جِرحه.. تُريد أَن تَطمئن عليه.. هل آلمه اليوم؟ هل تساقطت خيوطه؟ هي مَسّته لتَسْأله إن كان سَيَضع عليه الدّواء ويُغَيِّر اللاصق بآخر جَديد بنفسه أَم أَنّهُ يَحتاج لمُساعدتها؟ كانت تُعاين جِرحه وهي تُبْصِر حالته الغَريبة وملامحه المَشْدوهة.. لَم تَكن تَعلم أَنَّ لسانه سَينطق بالذي سَيضرم في قلبها جِرْحًا لا قُعْرَ له.. جِرْحٌ يَمْضي مُسْتَرسلًا في عُمْقه ليَنخر القَلب بلا توقّف.
: أنا قبل شوي ملجت على جنان
طامَّــة وَقعت فَوْقَ رَأسها.. ارْتَجَفت دواخلها ورُوحها ارْتَعدت.. شَعرت ببرودة غَريبة تَلفح جَسدها وتَلسعه.. تلقائيًا يَدها نَفرت عن جبينه، وحواسها انكمشت بِرَيبة من الخَبَر الغَريب عليها.. دارت عَدستاها على وَجْهه تُنَبِّش عن الضِحكة.. فَرُبّما هُو يَمزح.. يُريد أن يُشاكسها ويُخيفها.. نعم هو بالتّأكيد يَمزح.. لكن لا أثر للمزاح.. لا ضِحكة تَتَلقّف شَفتيه ولا لَعِبٌ يُداعب مُقْلَتيه.. إذن هو صادِق!
أَكْمَلَ وهي تُطالعه بحاجِبَين مَعْقودين يَنُمّان عن عَدم الفَهْم: أدري صدمتش.. ومن حقش تعصبين وتهاوشين "وبتبريرٍ رَكيك وبَصره يَتجَنّبها" بـس أنا.. أنا يعني عشان بنتي.. عشان جَنى.. ما أَرضى تتربى عند رجّال غريب.. يعني أقصد.. لو جنان تزوجت
هي.. الواقعة رَهن زَوْبعة سَوداء تُأجِّج في صَدرها الرغبة بالاسْتفراغ.. نَطَقت بنبرة خاوية.. لَم يَنجو فيها سوى اسْتنكارٌ هَزيل..: إنت.. من أول لحظة فكّرت تطلقها فيها.. كنت المفروض تدري إن بيجي يوم وبتتزوج.. وبيجي يوم وبنتك تتربى عند رجّال غريب.. مثل ما إنت تزوجت.. ومثل ما بنتك اللحين قاعدة تتربى عند مراة غريبة!
فَتَح فَمه لِيُعَقِّب.. لكنّهُ ابْتَلَعَ الهواء عِوَضًا عن الحَديث.. فهو لَم يَكُن يَملك تَعقيبًا أَصلاً.. لا كلمات لديه لا أسباب ولا تبريرات أُخرى.. هل يقول لها الحقيقة؟ هل يَشطر قَلْبها إلى نِصْفين؟ أَمِن المُنصف أن يُذْبَح قَلْبها في الليلة التي فيها بُثَّت الرُوح إلى قَلبه؟ تَنَحْنَحَ وبظاهر سَبّابته مَسَّ أَسْفَل أَنفه.. بَلَّلَ شَفتيه قَبْلَ أن يَرْجوها ببحّة: ياسمين... افْهميني
شَخَرت وهي تَبْتسم بتهكّم والرَّجفة تُزَعْزِع ثَبات كَلماتها: أفهمك؟ تبيني أفهمك؟ مثل ما طلبت مني أفهمك بعد رجعتنا من شهر العسل!
نَطَقَ ببعثرة وثقة مُزَعزعة: زواجنا بس جذي.. أنا وجنان أقصد.. بس عشان جنى "كَرّرَ وجَواه يُكَذِّبه" بَـس
هَزَّت رأسها لمرّات مُتتالية وهي تُتَمتم بهمس وبصرٍ مُشيح: بس.. بس عشان جنى.. بس "نَظَرَت إليه وحَريقٌ تَصاعد لَهبهُ من عَدسَتيها وبصرخة قاتلة" بسّـك جذب... بَسّــــك "وَقَفَت وهُجومها يَتَّقِد أَمامه" أنا مو غبيّـة.. أنا مو ساذجة فيصل.. أفهم شنو اللي يدور حواليني.. أنـا "ارْتَعَشَ صوتها وذقنها المُهْتَز غالتهُ غَصّة" أَحبـ ـك.. أَنا أفهمك لأنّي أَحبّــك.. أَعرف عيونك وين تطالع.. أدري عقلك بشنو مشغول.. كلامك وتصرفاتك.. حتى ارتباك أَنفاسك إذا شفتها أو حتى لو انذكر اسمها.. أَقدر أفهمها "أَشارت لِذاتها وعَيْنُها تَصُب الدَّمع أَجاجًا" أنا مو غَبيّـ ـة.. لا تعامليني وكأنّي ما أدري شنو قاعد يصير حواليني "وبحدّة حانِقة" حَتــى هــي.. أدري إنها للحين تحبّك "والازْدراء يَملأ مُقلَتيها ويَغمر صَوتها" ما أستبعد إنكم متفقين عشان ترجعون لبعض.. وحاطين جنى حجّة لكم
وَقَفَ يُقابلها وبتأنيب: ياسمين شهالحجي! يعني شنو متفقين؟ شنو إنتِ ما عندش ثقة فيني؟!
بشراسة: لا.. ما عندي.. ما أثق فيك "كَرَّرَت والبُكاء يَلتهم نَبرتها" ما أثق فيـ ـك.. لأنّ وأنا معـ ـاك.. وايدي بين ايدك.. وإنت عيونـ ـك عليهــا... وأدرري.. إن قلبّك متوجه لها
اسْتعان بتنهيدة لتصفية رُوحه من مُخَلّفات الموقف المُرْمَدة.. وبنبرة حاول أَن يكسوها باللين والهدوء: ياسمين.. أنا متفهم ردة فعلش.. ومن حقش تعصبين وتكسرين الدنيا.. بس أرجوش "أَطْبَقَ كَفّيه لِيُقَرِّبهما من ذقنه" أرجـوش تفهميني ياسمين.. أرجوووش
تَعَلَّقَ بَصَرها به.. لثواني مُرْبِكة لَم يَحْسبها، قَبْلَ أن تهمس بخيبة أمل: ما عندك ولا ذَرّة إحساس.. ولا ذَرّة! معقولة ما تحس! معقـــولة! "اسْتَنكرت ودَمُعها لا ينفك أن يُغرق وجنتيها" إنت واعي للي قاعد تطلبه مني؟ "هاجت بصرخة مخنوقة" إنت واعـــــــي!.. إنت ذَبحتني فيصل.. ذَبحتنـــي.. نَهبت آخر نفس من حلمي اللي عَلقته عليك.. "تَنَشَّقَت والشَّهقات جَعلت مَسير الكَلمات وَعِر" صَبرت.. وصَبـ ـرت.. وصـ ـبرت.. وبدل ما تحيي حلمي "وصوتها يَخبو" نحرته.. بكــل برود.. نحرته "كَفْكَفَت بَقايا الدّمع المُتَشَبّث بنهاية وَجْهها وابْتسامة مَيّتة تَجثو على شَفَتيها، وبسؤال" تبي تعرف بشنو قاعدة أحس؟ تبي فعــلاً تفهم إحساسي؟ "لَم يأتِها جَواب فَأكملت" تخيّل.. حَبيبتك جِنان.. تزوجت.. رجّال غيرك.. صارت له.. زوجته.. بكــل ما للكلمة من معنى.. تحبه ويحبها.. كل ليلة.. في حضنه.. حَلاله
ازْدَرَد ريقه المُتَحَجِّر ثُمَّ ناشَدها بهمسٍ وقَبْضتهُ تَشْتَد بارْتجاف: ياسمين... خَــلاص
تَجاهلته.. جَمَّدته أَمامَ حَواسها وهي تُواصل فَري قَلْبه واسْتباحة غيرته: هو لها.. وهي له.. تحبه وتعشقه.. وتبيك تتفهّم.. تتفهّم حُبها.. تتفهّم بوستها له.. ونومتها على صَــ ــدر.. ه
صاحَ فيها بحدّة حتى أَنّها ارْتَعَشت، وعِرْقٌ كان يُنازِع في عُنقه: خــــلاص.. بـس.. كفاية ياسمين.. كفايــة
سَخَرت وهي حَقيقةً تَسْخر من حالها: عَوّرك؟ حَرقك الحجي؟ عَصر قلبك؟ " أَرْدَفت والْتماعٌ وَسَط مُقْلَتيها يُنَبّئ بولادة دموع جَديدة" إذا إنت تفهّمـ ـتها... أنا راح.. أتفّهمك
,
طَرَدَ زَفْرة ساخِنة تَمادت في لَسع رُوحه.. وَقَفَ والأَلمُ أَسْرع للانقضاض على أَوصاله بسبب جُلوسه الطويل على الأرْضية الخَشبية الصَّلْبة.. تَحَرَّكَ إليها.. وَقَفَ أَمامها يَنظر من عَليائِه لِمَدينتها وهي تَتَهدَّم بصمتٍ مُوْحِش.. هَمَسَ وهُو يَضَع يَده على كتفها: ياسمين
كانت لَحْظة فَقط قَبْلَ أن تَدفر يَده بضراوة كَشَّرت عن أَنيابها من عَيْنيها المُتَّسِعَتين بحدّة.. وبهَمْسٍ صارِم: لا تــلــمــســنــي "والنَّشيجُ يَتَكَسَّر وَسَط صَدرها لِيُخَلِّف وَجَعًا يهرم الرُّوح" لمستـ ـك هذي.. مابيها.. مابي شفقتك.. ما بيــها "تَعَثَّرت بِشَهْقة قاطعتها لِتَكشف عن اسْتعار النَّحيب" اللمسـ ـة... اللي .. كنت أبيهـا.. مو لـ.. ـي.. ولا راح.. تكون لي... كانت.. لهـ ـا.. وللحيــن.. هي.. لهــا... .
,،
تَساءَلت وهي تُرَتِّب الأَطْباق فَوْق الطاولة: مو فَشْلة عازمينها على ريوق؟
هُو الذي كان يُمَشِّط المَكان جيئةً وذهابًا بتوتر أَجابَ باختصار: لا.. عادي
بضحكة وهي تَرى حالته: شوي شوي.. لا يغمى عليك من التوتر
رَنا لها بطرف عَيْنه ولَم يُعَقِّب وقدماه تُواصلان المَسير.. استدارت عائدة للمطبخ لِتجلب الملاعق في الوقت الذي رَنَّ فيه الجرس.. تَوَقَّفَ في مكانه وعَيْناه تَنظران للباب بتوجّس.. عادت وهي تقول: افتح لها الباب
حَرَّك رأسه: لا.. إنتِ فتحيه
أَخفضت الملاعق وهي تنظر لهُ مُسْتنكرة: طَلال شفيك!
كَرَّر وذراعه تَسْتقر خَلف ظهره: إنتِ افتحيه
هَزّت رأسها: على راحتك
خَطَت إلى الباب.. وَضَعت يَدها على المِقبض وقَبْلَ أن تفتحه أتاها صَوته المُعْترض: لاا لحظة
التَفَتت إليه: شنــو؟
سَألَ نفسه بحيرة ويده ترتفع لذقنه: اقعد.. لو أتم واقف؟
اعْتلى حاجِباها بتعجّب: طَــلال! شنو الفرق يعني؟
بإصرار: يفرق يفرق
بجديّة وهي تخفض صوتها: طلال عيب نخلي المراة تنتظر أكثر.. بفتحه
حاولَ سَريعًا أن يَختار بين الجُلوس أو الوقوف لكنَّ فتحها للباب كان أسرع.. لذلك تَسَمَّر في مكانه وعَيناه تَصطدمان مُجَدًّدًا بعينيها المُهاجِرَتَيْن.. هل انْقَطع عنهُ النَّفس.. أَم أنَّ الزَّمن تَوَقَّف سامِحًا له بالعودة إلى آخر لقاء بينهما؟ تَأمَّلها بدقّة وهي تُسَلِّم على نُور المُرَحِّبة بها بحفاوة.. براءة الطفولة حَتْمًا وَدَّعت ملامحها.. عَيْناها يعتقد أَنَّهما كتلك العَيْنين، الشكل ذاته واللون ذاته أَيضًا.. أنفها وشَفتيها.. تغيّرات بسيطة يُرْغمك الزَّمن على التَّكيف معها.. شعرها يبدو جَيِّدًا أَنَّ الأَصْباغ لَم تكف عن زيارته.. لا يتذكر لونه تَحديدًا.. ولكن في الوَقت نفسه لا يعتقد أَنَّ هذا هو لونه الحَقيقي.. كانت بَشرتها فقط التي احْتَفَظَت بأصلها.. لَوْنها ومظهرها.. بياضٌ قُطني تُلاطفه بتلات وردية باهتة. فاتن أَيضًا على الجهة المُقابلة كانت تُعاينهُ وتَتَفحصّه.. الاخْضرار باتَ رَماده قانِيًا.. كَما لَو أَنَّ رُوحه اقتات على النار لسنوات حتى لَفَظت رَمادها من عَيْنيه. خصلات شعره غَفى بينها شَيْبٌ يَدحض عُمر الشَباب.. وبَين الملامحِ قَد انْطوت خُطوط تَتكئ فوقها كلمات لا تُرى ولَكن تُحَس.. يبدو أَنَّ الحياة أَرْهَقتكَ أخي. انتبهت لصوت نُور.. التَفَتَت إليها وهي تقول بابْتسامة: شفيكم جذي جامدين؟ سلموا على بعض.. اسألوا عن حال بعض
ابْتَسَمت لها بِشَفَتَيْن مُرْتَعِشَتَين قَبْلَ أن تَعود لأخيها.. ضَغَطَت على يَديها المُتَشابِكَتيْن الموازيتين خصرها.. تَقَدَّمت خطوة ونَبَضاتها تَكاد أَن تَقْتلع حجرات قَلْبها.. وبالكاد اسْتطاعت أَن تَتبعها بخطوة ثانية.. تَوَقَّفَت في منتصف الطَّريق.. لذلك هُو تلقائيًا؛ سَيَّرتهُ فِطْرته لها.. قابلها والمَسافة بينهما قَد تَقَلَّصَت حتى أَنَّها لاحظت جِرح ذقنه.. مَرَّرَ عَدَسَتيه على وَجْهها فالْتوى في الجَوى عِرْقٌ لازمهُ الشَّوقٍ لثلاثون عامًا.. فَطيفُ أُمِّه قَد لَوَّح له.. ها هي ملامحها كما كانت، تحتفظ بتقاطيع وَجْه أُمّه المُسالِم. تَرَدَّدت الغَصَّة في حَلْقه وَوَسط المُقْلَتين انَبَجسَ دَمْعٌ مُتُلَألئ.. وبهمسٍ مَبْحوح مُبْتَسِم: فاتـــن!
رَدَّت وفَيْض رُوحها عانق وَجْنتيها: حَبيـبي أخــوي
أَحاطها بذراعيه لِيَحْتضنها بِحَنانٍ أُخَوي تَراكم عليه الغُبار لأعوام.. احْتَضَنها ومن عَيْنه عَبَرت دَمْعة رَبَّتَت على كَتفها المَخْلوع سَنَده.. تَصاعَد نَحيبُها وهي تَسْتنشق من صَدره عَبَق الأُخوَّة المَحْرومة.. شَدَّت نَفْسَها إليه وهي تَغمض.. وبإغماضها تَتَمنى لَو تَنطوي في مَخْدع حُضنه.. لا غُربة.. لا انتهاك طُفولة.. لا ظُلم.. لا دَمٌ ولا فَقد. نُور تَرَكت غُرْفة الجُلوس وهي تُصْمِت شَهْقة في قَلْبها.. لا تُريد أن تبكي أَمامهما.. وكذلك تُريد أن تَمنحهما مَساحة. اسْتَمَرَّ بُكاء فاتن لدقائق قبلَ أن ينتقلان للجلوس على إحْدى الأرائك.. لا تزال عَيناها تنزفان.. والشهقات بين الفينة والأخرى تَثِبان من صَدرها.. لكنَّ النَّحيب خَبى.. وبَدأ الاثنان يَتكاشفَان ويَتبادلان حِمْل أَثْقالٍ أَحنت كاهليهما. مَضَت قُرابة النصف ساعة وهُما يَتحَدَّثان.. لذلك تَساءَلت وهي تَبحث بعينيها: وين راحت زوجتك؟
رَفَع رَأسه باسْتيعاب ثُمَّ قال: يمكن في المطبخ "علا صَوْته قليلاً" نُــور؟ "كَرَّرَ" نُـور؟
وَصَلهُ صَوْتها الذي أَتبعهُ وَجْهها الملفوح بحُمْرة باهِتة: اهـني طلال "وَضَّحت بابْتسامة وهي تَبْتعد عن المطبخ إلى حيث يَجْلسان" كنت أبيكم تاخذون راحتكم
جَلَست على الأَريكة المُقابِلة لهما في الوقت الذي اسْتَفسرت فيه فاتن بابْتسامة: من متى متزوجين؟
أَجابَ طَلال وعَيْناه تَتطَلَّعان لنُور بِبريقٍ جَلي: تونـا جم شهر.. ما صار لنا سنة "اسْتَطَردَ وهُو يُومئ لها بابْتسامة" وعقب ست شهور بيصير عندنا أول طِفل
اتَّسعت ابْتسامتها: ما شاء الله.. الله يتمم عليكم
عَقَّبَ ولَم تَفته لَمحة الخَجل التي لاطَفت خَدَّي زَوجته: يا رب
عَلَّقَت فاتن بحذاقة: شكلك أخذتها بعد قصة حُب خُرافيّـة
أَفْصَح عَن تَنهيدة وهُو يَتَصَنَّع الإرهاق: ايــه والله صدقتين
ضَيَّقَت عَيْناها لتقول بتردّد: بس شكله.. بينكم فرق بالعمر؟
أَكَّدَ: اي.. تقريبًا اثنعش سنة
ارْتَفع حاجِباها: وي صَغنّونة يعني! "وبسؤال" جَم عمرش اللحين؟
أَجابت: تسعة وعشرين
تَعَلَّقَ بصرها بها بشرود للحظات، قَبْلَ أن تبتسم بشحوب وتهمس: نفس عمر بنتي.. حَنان
اسْتَطَرَد طَلال سَريعًا ويَده تُعانق يَدها بموَدّة: فاتن، ترى في أَمل إنها تكون عايشة "ازْدَرَدَ ريقه وهو يَنتقل بعدستيه لنُور التي هَزَّت رَأسها بخفّة تَنهاه عن المُواصَلة.. لذلك ابْتَلَع كلماته لِيُرْدِف بهدوء" لا تفقدين الأمل.. يعني هو في النهاية أبوها.. مو معقولة يكون ضرها!
شَرَحت له وأَناملها تَمس جانب جَبهتها بوَهن: إنت ما تعرف سلطان يا طَلال.. هذا قلبه صَخر، صَخر.. ما يفرّق بين صديق ولا عدو.. ما يهمه اللي قدامه أمه لو أخوه لو بنته.. مدام هالشخص يشكّل خطر عليه أو يضايقه.. فهو يتخلّص منه بدم بارد
بلطفٍ دافئ عَقَّبت نُور: بس بعد لا تفقدين الأمل.. ما بنقول تعلقي فيه.. بس بعد لا تعطين احتمال موتها النسبة الأكبر
تَمْتَمت بهمس: إن شاء الله.. إن شاء الله "اسْتَطَردت بعد نصف دَقيقة بسؤال مُفاجئ" أقول طلال.. ليش ذيك المرة طردتني؟ بكل دفاشة طردتني ورميت عَلَي كلام غريب!
ناظرها بصدمة.. لَم يَتَوَقَّع سؤالها أَبَدًا.. ضَحَكَت عندما رَأت كَيف اعْتَلت ملامحه أَمارات الخوف.. عَلَّقَت نُور: شكلها فيها عِقاب
بادلتها فاتن الضحكة وهي تقول: لا ما بعقابه.. بس أبي أعرف السبب "وهي تعود إليه وبتأنيب" زين إنّي ما طحت وتكسّرت من دفعتك لي "رَفعت إصْبعها أَمام وجهه" وترى كنت ما بسامحك لو انكسر القارب.. لأنّه كان الذكرى الوحيدة منّك واللي آنستني في وحدتي
بِشَفَتين مُطْبَقَتين حَرَّك بصره لزوجته كما لو أَنَّه يستنجد بها.. ابْتَسَمت لهُ باسْتفزاز ثُمَّ قالت وهي تقف: أنا بروح أجيب الأكل
انْكَمَشَت ملامحه والشعور بالذنب يُشاكسه.. التَفَتَ لفاتن التي أعادت السؤال: ليش طردتني؟
بَلَّلَ شَفتيه وهو يُرْخي بَصره.. قَبَضَ يُمْناه ثُمَّ فَضّها.. رَفَعَ عَيْنيه لها.. تَأَمَّلها لثواني قَبْلَ أن يَهمس بنبرة ناقِعة في الحَرج: أنـا من قبل.. ما كنت أتقبلش.. من أول ما بدأت علاقتش مع رائد
تَعَجَّبت: ليــش!
بتوضيح وهو يُشيح عنها: صراحة ما كنت أتقبّل لبسش.. وطريقة كلامش وجُرأة تصرفاتش.. فكنت ناكر بشدة حقيقة كونش إختي "وبهمسٍ حَرِج" آسـف
تَنَهَّدت براحة وهي تُعَقِّب: ما يحتاج تعتذر "وَضَّحَت عندما رأت اسْتنكاره بين عُقْدة حاجبيه".. أصلاً أحمد ربي إن هذا السبب مو شي ثاني.. يعني مو مثلاً ما تقدر تتأقلم معاي بعد هالسنين.. وتعودت على غيابي وما تبيني أزعج حياتك "مَرَّرَت لسانها على شَفتيها وهي تُرْجِع خصلاتها خلف أذنيها لتُفصح بصدق" طَلال أنا مو راضية عن لبسي هذا.. بس أنا تعودت على جذي.. تربيت على جذي.. أتمنى أتغيّر.. بس صعب في يوم وليلة يصير هالتغيّر.. أما بخصوص جرأتي وتصرفاتي "بابْتسامة مُنْكَسِرة ورأسها يَميلُ قَليلاً" فأنا اضطريت أتقمص هالشخصية.. اضطريت أتكيف معاها خلال تنقلاتي من بلد لبلد.. كنت أبي أهرب من نفسي.. من فاتن الضعيفة اللي شافت عايلتها الصغيرة وهم معلقين ذبايـ ـح "هامَ الحُزن وَسط مُقلتيها وهي تُكْمِل" كنت أبي أنسى نفسي وخوفي وقلة حيلتي.. عشان أقدر أواصل حياتي وأواجه سلطان النّذِل "حرَّكت كَتفيها وبضحكة مبحوحة" أنا بعد ما أحب فاتن هذي وما أتقبلها.. بس لولاها ما كنت قدرت أعيـ ـش لهذا اليوم
ابْتَسَمَ لها ابْتسامة بائِسة وعَطوفة ثُمَّ قَبَّل رأسها بخفّة.. قَرَّبها منه لِيَرتاح رأسها فَوْقَ سِكّة كَتفه الحَنونة.. حيثُ مَضَت بها الدّنيا بعد رحلة فَقد طَويــلة... وبهمسٍ عاضَدها: أنـا راح أكون معاش وراح أساعدش تسترجعين فاتن الأولية
,،
اسْتَيقَظت صَباحًا وهي تَشْعُر بثقل في حَلْقها.. زَفَرَت بضيق وهي تنظر لِوَجْهها المُنعكس في المرآة.. يبدو عليه التَّعب والمَرض.. جَمَعت خصلاتها الشقراء عند منتصف رأسها ثُمَّ أخذت تغتسل سريعًا. غادرت دورة المياه وهي تعقد ربطة رداء الاستحمام حول خصرها.. انتبهت لضوء شاشة هاتفها الموضوع على الصَّامت.. اقتربت من السرير حيث تركته.. انحنت تنظر للمتّصل.. كان عبد الله.. أَجابت وهي تخرج من غرفة النوم: ألو
رَحَّب بها بنبرة صَباحية نَشيطة: هــلا.. صباح الخيــر
رَدَّت بنبرة مبحوحة: صباح النور
هو على الجهة الأخرى عَقَدَ حاجِبَيه: أووف.. صوتش كلش رايحة عليه
أَكَّدَت وهي تسكب الماء في الغلاية: ايــه.. بلاعيمي
عَقَّبَ بنبرة آسفة: حبيــبتي.. ما سويت فيش خير يوم خليتش تسبحين
ضحكت بخفّة: عـادي عبد الله.. متعودة.. اللحين بسوي لي ماي ساخن وعسل وبيخف علي
نَصحها: إذا ما نفع شربي دوا.. مو تعاندين
بثقة: راح ينفع.. متعودة على هالمرض وعلى هالعلاج
هَمَسَ بلُطف: زين حبيبتي.. أنا اللحين بسكّر.. بكلمش بعد جم ساعة أتطمن عليش
وهي تُفرغ ملعقتين من العَسَل في الكوب: تـمام.. مع السلامة
أَغلقت الهاتف ثُمَّ وَضعته على المنضدة لِتَسكب الماء الساخن فَوق العَسل.. أَدارتهُ بالملعقة لثواني قَبْلَ أن تحمله مُتَجاوزة باب المطبخ.. نَظَرَت للساعة المُعَلّقة في غرفة الجلوس الواسعة.. التاسعة وأربعون دَقيقة.. تعتقد أَنَّ أصحاب المنزل لَم ينتهوا من تناول طَعام الإفطار بَعْد.. جَلَست على الأريكة أَمام التلفاز وهي تفتحه.. سَتشرب علاجها على مَهْل وبعدها ستَتَجَهَّز لتنزل للأسفل.. تتمنى أن تلتحق بهم وتشاركهم الطعام.. تتمنى!
،
قالت بعد أَن اسْتَعلمت الوقت من هاتف زوجها القَريب: غريبة.. الساعة صارت عشر وحضرة الدكتورة ما نزلت!
وَضَّحَ بعْد أَن ابتلع اللقمة: شفت عبد الله قبل لا يروح الدوام.. قال لي إنها مريضة وما بتداوم اليوم
تَمتمت بخفوت وهي تُحَرِّك فمها: ايـــه.. كله دلع ومصاخة.. لكن زين لها
اسْتَفسَر بحاجب مرفوع: قلتين شي بلقيس؟
ببرود: لا "اسْتَدارت لابنتها الجالسة بجانبها بعقلٍ سارِح وفكرٍ مشغول.. وباسْتنكار" إنتِ شنو فيش؟ من أول ما قعدتين سرحانة!
رَمَشَت بانتباه.. وبسؤال: شنو؟ ما سمعتش ماما
كَرَّرَت بحدّة: أقول شنو فيش؟ ليش جذي سرحانة؟
أَفْرَغت تنهيدة من فَمها وعيناها تنخفضان للشوكة التي في يَدها.. حَرَّكتها وهي تنظر لقطعة الجبن المغروسة فيها وبهمس: ما فيني شي
رَفَعتها لِفَمها في الوَقت الذي قال فيه والدها بابْتسامة: اليوم في السَّيارة وأنا أوصل بيان وعبّود لمدرستهم كانوا يسولفون لي عن ليلة البارحة.. مستانسين حــدهم بعزيز وعياله.. حتى أخته "عَقَد حاجبيه بخفّة" شنو اسمها؟
ابْتَسَمت بخفة وهي تمضغ اللقمة ثُمَّ أَجابت بعد أن ابْتلعتها: جميلة "مَرَّرت لسانها على شفتيها لِتُرْدِف" العايلة كلها طيبة.. حتى الأم والأبو طيبين وقلوبهم بيضا.. ينحبون
هَزَّ رأَسه بتأكيد: طبعًا.. مدام هم من صوب عَمّار الله يرحمه يعني قلوبهم بيضا بدون شك
هَمَسَت بِجْفْنَين مُرْتَخيين: الله يرحمه "صَمَتَت لثواني قَبْلَ أن تَرفع بصرها لوالدها تُناديه" بـابـا
بمَلَقٍ اعْتادت أن تَرتشفهُ حواسها من مُقْلَتيه: قولي حَبيبتي
يمناها تَمَسَّكت بطرف الطاولة بقوّة.. ويسراها انقبضت وَسط حضنها.. وبكلماتٍ تنتعل التَّردّد: يُبـه "تَنحنحت".. إنت.. تتضايق من توصيلة عبّود وبيان.. للمدرسة.. يضايقك التزامك بروحتهم وجيّتهم؟
عُقْدة قَرَّبت حاجِبَيه ووالدتها سَبقته مُسْتنكرة: شهالحجي بعد! ليش تقولين جذي؟ ليش هم مو عياله بعد!
هَرَبت بعينيها عنهما ويمناها أَمسكت بالشوكة لِتُبَعثر بها الطعام بارْتباك: لا.. ما قصدت جذي.. بس قلت يعني يكون ملتزم فيهم.. يمكن ساعات يبي يسوي شي في هذي الأوقات.. عنده شغل.. أو يبي يرتاح
حَرَّك رأسه ينفي كلامها: أبدًا.. شغل تدرين ما عندي من بعد التقاعد.. إلا أشياء بسيطة أقدر أسويها أي وقت أبي.. وبعدين حتى لو كان عندي شغل.. هم عيالي.. أَبَدّيهم على الشغل مهما كان "وباسْتفسار بهِ نَبْرة شَك" ليش تقولين هالكلام؟
مَسَّت أنفها بظاهر سَبّابتها قَبْلَ أن تشرح بتأتأة: يعني.. قصدت.. يعني لو يمكن.. إن.. أنــ.. أنا.. اللي أصير أوصلهم.. وآخذهم.. من المدرسة
تَبادَل النَّظرات مع زَوجته ثُمَّ اسْتَقَرَّ ببصره عليها ويده تَرتفع لِيَتَّكئ على ظاهرها بذقنه.. ابْتَسَمَ وهو يُضَيّق عَينيه ويتساءَل بنبرة ماكِرة: إنتِ خايفة عَلي أتضايق من التزامي بهم؟ ولّا تبين تتطورين وتاخذين خطوة لقدّام بس خايفة ومترددة؟
رَفَعت إصْبَعين وهي تَتحاشى النظر إليه وتُجيب بهمس: الاثنين
مالَ رَأسه ويده تنخفض وهو يُعَقِّب بانشْراحٍ وفَرح: يــا بعد عمري إنتِ.. وأخيرًا يُبه.. وأخيرًا قررتين تتجاوزين الخط الأحمر اللي راسمته لش "بَسَط يَده على صدره" أنا من اليوم جاهز إنّي أطلع معاش وأدربش عشان تنعشين مهارتش في السياقة "كَرَّرَ بفخر جَعَلَ رُوحها تُرَفْرف" وأخيرًا غيداء.. كنت واثق إنش بترجعين لقوتش.. وأخيــرًا.. الحمد لله
ابْتَسَمت بِسَعة مُتفاجئة من فرحته العارِمة هذه.. انتقلت لوالدتها.. كانت هي الأخرى تَبتسم ونظرة أَمل تومض وَسَط عَيْنيها.. ألِهذه الدرجة كان رُعبها من السياقة يُشَكِّل قَلَقًا لوالديها؟ انْقَبَضَ قَلْبها.. كيف إذن هو شعور صَغريها وهي قَد فَزعت وصَرخت وبكت كذلك أَمام ناظريهما لعشرات المرّات بسبب السياقة والسيارات؟! تعتقد أَنَّها الآن مَدينة لعَزيز.. مَدينة لهُ جدًا.. فكلماته القاسية اسْتطاعت أَن تَكسر الحاجز الذي حَجَبَ عنها الرؤية السَليمة.. فوالداها وشَقيقها لطالما حادثوها بلُطفٍ وحَنيّة.. كانت نصيحتهم رَقيقة ودافِئة.. لَم تَستطع أن تَخترق صَلابة هذا الحاجز.. على عَكسِ حِدّة نَصيحة عَزيز وخشونتها!
: صَباح الخير
التَفَت الجَميع ناحية الباب.. الاثنان، غيداء ووالدها ارْتَسَمت على شَفتيهما ابتسامة.. أَمّا هي.. بلقيس.. فَقد قَوَّسَ شَفتيها العبوس. تَقَدَّمت مروة من الطاولة مع تَرحيب أبا عبد الله بها: صباح النور والسرور.. شلونش. شخبار صحتش؟ يقول عبد الله مريضة
وهي تَجلس في مقعدها أمام غيداء: الحمد لله عمّي.. اللحين صرت أحسن
غيْداء بود: ما تشوفين شر مروة
ابْتَسَمت لها بالمشاعر ذاتها: الشر ما يجيش حبيبتي
انتقلت عَدستاها لبلقيس التي عَلَّقت وهي تُرْخي ساق على الأخرى: اللي يحاسب لنفسه ما بيدق بابه المرض.. سباحة في مثل هالجو ما تصلح.. خصوصًا لولدي "أَمسكت يدها بالكوب ورفعته لفمها.. أرْدَفت بنبرة تَعَمَّدت أن تُظْهِر فيها عدم الاهتمام" على العموم.. ما تشوفين شر
رَدَّت وهي تَتَخيّر الأصناف التي تُحِب: الشر ما يجيش عمّتي "وبتأييد لَعُوب" بس كلامش صح عمّتي.. وأنا حاولت كثر ما أقدر أغيّر راي عبد الله عن السباحة.. مو عشاني طبعًا.. عشان صدره.. بس ما رضى.. حبيبي مسكين كان يبي يغيّر لنا جو عن جو الشغل وضغطه "وبضحكة تَصَنّعت فيها الخَجل" وبعد تعرفين تونا معاريس.. ورضاي وراحتي عنده أهــــــم شي في هالفترة.. صح ولّا لا عمّي؟
ضَحَكَ: صــح يُبه صَح.. بس عاد المسكين خطته ضرتش وطيّحتش مريضة
بِتعاطف مُسْتَفِز: ايـــه على عمري.. تفشّل يوم مرضت.. ومن البارحة للحين وهو يعتذر مني "ابْتَسَمت للحظات بانتصار عندما غَصَّت بلقيس بالحليب وأخذت تَسْعُل.. خَبَّأت الابتسامة باحْتراف وقالت باهْتمام مُنافق وهي تَسكب لها ماء" حـلو حلو.. اسم الله عليش عمّتي "مَدَّت لها الكأس" سمّي بالله وشربي
تناولت منها الكأس على مَضض وعَيْناها قَد اسْتَعَرَ فيهما غَضَبٌ مَكْتوم لَم يَفُت غَيْداء المُتَفَرّجة على المعركة بابْتسامة؛ والتي هَمَسَت لنفسها: "شكلش يا مروة بتاخذين حقّش وحق نور وياش!".
,،
مَساءً كان الاجْتماع عند جِنان.. مُحاطة ببنات أَترابها تَسْتَقِبل التهاني والتبريكات والأسئلة المُسْتنكرة كذلك.. كيف بين ليلة وضُحاها أَصْبحت زوجة فَيْصل؟ بعد شَدٍّ وَجذْبٍ وحَرْبٍ بخسائِر لا تُعد ولا تُحْصى لمدة ست سنوات! كَيْــف! نَدى التي كانت تجلس على يمينها هَمَست والتَّعجب لا زال يَسْكن نَبْرتها: مو مصــدقة.. أنا يوم قلتين ملجت توقعت نادر.. وقف قلبي يوم قلتين فيصل!
ضَحَكت بخفّة: سلامة قلبش
عَلَّقت وهي تَتأمّلها بدقّة: واضح عليش الفرح.. واضح بطريقة غريبة.. ما شفت منش مُكابرة أو تصنّع للضيق!
تَذَيّلت أَنفاسها تنهيدة لِتُفْصِح: لأنّي تعبت ندى.. تعــبت.. بعد ما دريت إنّه تعمّد يضر نفسه عشان ما تتم الشوفة حسيت بحقد العالم كله تجمع في قلبي.. ورحت له عشان أقول له أكرهك.. وإنّه إنسان تافه وسخيف وتصرفاته طفولية.. لكن فَزّة القلب اللي أحس فيها كلما شفته أو انذكر طاريه نسفت كل هذا من أول ما طاحت عيوني عليه.. وبسبب قهري من نفسي ومنه قمت أرميه بكل شي قدامي.. وهو قال لي.. فيصل المغرور قال لي يبينا نرجع لبعض.. وخالي قال لي.. فليش أفرّط في هالفرصة؟ ليش ما أنهي تعبي بنفسي؟ خـــلاص ست سنوات كفاية.. بعده القلب شايل.. بس البُعْد مو حل.. خلنا نشيل على بعض ونزعل على بعض ونعصّب من بعض.. بس واحنا قراب.. بنقدر نلملم نتايج هذي المشاعر.. بدل ما نضر فيها أنفسنا وغيرنا بسبب بعدنا.. بسبب هالبعد يا ندى كل واحد قام يتمادى في شعوره عشان يلفت نظر الطرف الثاني ويأكّد له إنّه يحس.. وهذا اللي بهذلنا طول هالسنين!
احْتَضَنت كَفّها القَريبة بدَعْمٍ لَيس بغريب على رُوحها، ابْتَسَمت لها بدفء هامِسةً: حبيبتي.. مدام تشوفين إنّ رجوعكم بينهي التعب فالله يهنيكم.. وقربكم بإذن الله راح ينعكس بإيجابية على جنى
ومُنية قَلْبها هذه: يـــا رب.. يا رب
التَفَتت لسؤال حَنين: جنان.. اللحين بترجعين الشقة لو بتظلين اهني لو بتشوفون لكم مكان غير لو شنو السالفة!
غيداء صَحَّحت لها: لا حَنين.. مو هذا السؤال المهم "نَظَرَت لِجنان بمَكْرٍ مُشاكِس" اللحين انتوا فعلاً بتتزوجون بتتزوجون، لو بس عشان المسكينة جَنى؟
جُود أَجابت سَريعًا باشتطاط: لا حَبيبتي شنو عشان جَنى! "وبثقة بالِــغة وهي تُشير إلى كتفها" أقص إيدي من اهني إذا ما سمعتون إنها حامل عقب شهر بــس
وَبَّختها نُور وهي تَضربها على ظهرها: جَــب يا اللي ما تستحين
أَراحت ساق على الأخرى وهي تَسْتند باسْترخاء وتقول بذات الثقة: هذا الصدق.. انتظروا وبتشوفون
ارْتَفَع حاجِب جِنان والبرود اعْترى مَلامحها.. ابْتسامة مائِلة شَدَّت شَفَتيها وهي تَقول: أوكـي جُود.. بنصبر وبنشوف "وبسخرية" يمكن ثنتينا نحمل مع بعض
أَبْعدت خصلاتها عن وَجْهها بغرور مصطنع: والله أنا وحبيبي علاوي متفقين إن الحمل يصير عقب سنة من الزواج.. خلنا نستانس اللحين
أَشارت لها حَنين بالسكوت: انزين سكتي "عادت لجِنان" أبي جواب على سؤالي؟ وين مُستقركم؟
حَرَّكت كَتفيها: ما أدري.. ما كلمني فيصل.. أصلاً ما شفته
جميعهن: ما شفتيــنه!
أَصْدَرت صوت نافٍ من فَمها ثُمَّ قالت مؤكّدة: لا ما شفته.. وقت العقد طبعًا ما كنت معاهم.. عطيت الشيخ جوابي ورا الباب ووقعت.. وعقب العقد أنا رجعت غرفتي وهو طلع
أَبَدت نَدى تعجّبها: غريبة!
شاركتها نُور: اي والله غريبة.. فيصل يتنازل عن شوفة جنان بعد ما عقد عليها!
حَنين بتعليق ساخِر: يمكن فقد عقله بعد ما استوعب إنّ صار عنده ثنتين...
,،
يَقْطع الباحة الخارِجية ذهابًا وإيابًا بِعُكّازه المُعَرْقِل عليه كَثيرًا من أموره.. وَقَفَ وهو يَنظر لساعته.. تأفف عندما رآها قَد تَجاوزت الثامنة مَساءً.. لا يُريد أن يتأخر.. سَتكتشف غيابه حَتْمًا إذ هو تَأخّر.. وسَيُعاقَب أَشَدّ عِقاب. أَخرج هاتفه من جَيْبه ليختار رَقم صديقه.. رَفعه لأذنه ليصله الرَّنين.. كان يَتَتَبّع بعكّازه خُطوط الطُوب الأَحْمَر التي عُبِّدت بها الأَرْض.. كان الطوب حَيث يَقِف مُرتّب بعشوائية على خلاف باقي الأرْض.
: وصلنا عزيز
اسْتدارَ للصَّوت الآتي من خلفه.. كان رائِد وبجانبه مُحَمَّد.. قال بحدّة وهو يُشيح عنهما لِيَتّجه لداخل المنزل: واجد متأخرين
بَرَّرَ رائد: الشوارع زحمة
رَنا لمحمد بطرف عينه: وإنت محمد؟
وَضَّحَ بهدوء: وَصّلت زوجتي بيت أهلها
هَمَسَ بسخرية تجاهلها مُحمَّد: أَفْكـورس!
دلفَ الثلاثة لغرفة المكتب ومُباشرة اتّجهوا للساعة المُعَلّقة.. نَظروا لها من مكانهم بصَمت قَبْلَ أن يَتساءَل رائد برهْبة: معقولة حل القضية موجود داخل هالساعة!
عَقَّبَ عزيز: ما أعتقد السالفة بهالسهولة
قال مُحمّد وهو يرفع يده ليقتلعها من الجدار الذي سَندها لأكثر من عشرون عامًا: اللحين بنشــوف
حَمَلها بَيْن يَديه.. ثقيلة نوعًا ما ولكن أخف مما كان يعتقد.. أَزاحَ عنها الغُبار المُتراكم وهُو ينظر لوقتها المُتَجمّد مع نطق رائِد: جبت معاي العدة وباتري بعد
قَرْفَص رائد ومُحمّد على الأَرْض وعزيز ظَلَّ واقفًا مع عُكّازه البغيض.. مُحَمّد بركبة تلامس الأرض وأخرى مرفوعة بَدأت يده تفتح بَيْت الساعة باسْتخدام المَفك الذي ناولهُ إيّاه رائد.. تَخَلَّص من البرغي الأوَّل.. الثاني.. ثُمَّ الثالث.. واجه مُشْكلة بسيطة في الرابع بسبب الصَّدأ ولكنّ تَمَّ فَكّه في النّهاية. رَفَع رأسه يَنظر لِرَفِيقَيه باسْتفسارٍ وتَرَدّد، أَوْمأ الاثنان لهُ بالمواصَلة ونَبَضاتهما تَجري كما لو أنَّها في سباقٍ مَاراثوني.. التَّوَتر بَلَغ عَنان السَّماء وساعة الحقيقة ها هي ثوانيها الأخيرة تنقضي.. ما أُخْفي لمدة عشرون عامًا سَوف ينكشف الآن والغموض سوف ينجلي أخيرًا... رُبما! زَفَرَ مُحَمّد بحرارة وخَطٌّ من عَرَق قَد سال عابِرًا صِدْغه حتى نهاية فكّه.. شَدَّ على الساعة بيده مُحْكِمًا مَسْكته.. ازْدَرَد ريقه مع انخفاض رأسه، وصَدره يَعلو ويهبط ليضخ أنفاسًا مَسْموعة ومُتوجّسة.. أَمْسَك بالقطعة.. أَغْمَضَ مع طَرْده لآخر زَفْرة.. ذَكَر اسْمَ رَبّه ثُمَّ رَفعها بالتوالي مع فتحه لِعَيْناه اللتان اصطدمتا بما لَم يَخْطر على باله قَط.
اسْتَنكَرَ رائد: مفتــاح!
عَزيز وهو يَتفحّص المفتاح المُسْتقر في فراغ وَسَط الساعة بعينين ضائقتين: مو أي مفتاح.. شوفه شكبره
مُحمّد باستيعاب وهو يتناوله: من جذي الساعة ثقيلة.. هذا المفتاح من حديد!
تَلَفَّت رائد يَبحث في المكان: ما أعتقد يفتح شي من اهني.. الأقفال كلها أصغر منه
عزيز بمنطقية: مو شرط يفتح شي اهني.. يمكن في مكان ثاني في البيت "وهو يستعد ليخرج" لازم نجيك
أَوقفه مُحمّد: لحـــظة "أرْدَف بعد أن ناظره" ما شغلنا الساعة
أَشارَ لها عزيز بقلّة صبر: شغلها بسرعة
قَلَب السّاعة لينظر إلى وجهها وهُو يُحَرِّك العقارب من خلال المفتاح الخلفي.. كانت الساعة تُشير للخامسة وسبع دقائق تقريبًا.. هُو أَعادها للرابعة وتسعة وخمسون دقيقة.. اسْتَلَم البطاريات من رائد.. تَخَلَّصَ من القَديمة ثُمَّ حَشَر هذه مكانها لِيَصِل إلى مَسامعهم صَوْت الوَقت وهُو يَمْضي.. وكأنّه عَدّاد للموت ولنهاية الزَّمن.. عاد وقَلَبَ الساعة.. لَحِقوا العَقْرَب وهُو يَجْتاز الثواني ثانية بعد ثانية.. عَشْرة.. تفصل ما بين وَهْم يوسف والحَقيقة.... ثمانية..... أيُّ موسيقى تلك التي سَتُستفرغ من فَمِ الماضي؟ ستة..... من هو القاتل؟.... أم أنّهُ انتحار؟.. يوسف.. مرضه وذاته المفقودة.. الوَهم ابْتلعه.... أربعة..... حواس الرجال تَحَفَّزَت.. ثلاثة.... ها هُو ضوء الحقيقة.... اثنان.... مقتل/ انتحار صالح؟.... واحد...... ..
الماضي عَتيـق.. جدًا.. ثَلاثة قُرون من الآن.. بيتهوفن منطوٍ عن العالم شارِعًا الباب لقلبه حتى يُتَرجم مشاعره على هيئة مَعْزوفة.. الصَوْت يعتلي بصخب.. عام ألف وثمان مئة وعشرة كانت تُكتَب.. بعدها بأكثر من خمسون عامًا نُشِرَت والمَوْت كان قَد جَثَم عليه منذ زمن.. من أجلِ إليزا.. أو تيريزا.. أو أَيًّا كانت.. موسيقى اشْتهرت بين مُتَذوقي الفَن.. الأُذن الموسيقية تَألفها وتُمَيِّز سُلّمها وتُطْرَب بها.. لكــن.. تَطَلَّع كلاهما للآخر.. مُحَمَّد وعَزيز.. الاثنان يَسمعان الموسيقى بطريقة مُختلفة جدًا.. شِتاء بَرْلين المُوحِش نَشَر جَناحِيه الأسودَين على وَجهيهما.. هَسيس الرّياح الجَليدية.. الصراخ امْتَزج مع الألحان.. رائحة الدماء تَخْترق أنفيهما باتّجاه عروقهما لتسمّمها.. جُثّة أولى.. خامسة.. عاشرة.. مئة وألف! فُر إليزا.. الجَواب القاطع.
تَساءَل رائِد وبصره الحائِر يَتَنَقَّل بينهما دون أَن يفهم شي: شنـو؟ شنــو؟... ليش جذي تغيّر وجهكم؟.. شنو فيها الموسيقى؟
خَلَّلَ عَزيز أصابعه بين خصلات شعره وهو يُفْرِغ زَفْرة طَويــلة.. نَظَرَ لمحمّد الذي نَطَقَ بهمسٍ فحيحي: قَتل.. هذي جريمة قتل.. صالح استخدم الموسيقى عشان يأكّد إنّه انقتل
قَبَضَ على ساعده: شدرااااك؟!
أَجابَ عزيز ووَسط عينه قَد وَمَضَ سِرٌّ مَنحوس: الموسيقى مشهورة في مساجن العصابة.. تشتغل كلما انقتل شخص جديد كرسالة تهديد للمعتقلين الأحياء
,،
دَخَلَ إلى منزل والده.. هُدوء.. لا أحد بالطّبع غير والديه في مثل هذا الوقت.. دَخلَ ورُوحه تَبحث عن بَلسمها.. وَجدها جالسة على الأَريكة أَمام التلفاز.. هَمَسَ وهو يَجلس بجانبها بثقل: السلام عليكم
رَدَّت وهي تُخْفِض من صوت التلفاز: وعليكم السلام "اسْتَفسَرت مُباشرة باهْتمام" شفيك يُمّه؟
أَفْصَح بلا تعقيد: قلت لياسمين "مَرَّرَ أصابع يَديه بين خصلات شعره مع انْحناء ظَهْره واعْتلاء زَفْرة الحيرة من صَدْره" مأساة يُمّه الوضع.. مأســـاة "ضَغَطَ على رأسه وملامحه قد خَسَفها ضَياعٌ يُسْتحال أن يَهْتدي" تعبان يُمّه.. واجد تعبان "أَخْفَضَ يَديه وهُو يُسْبلهما شارِحًا ببؤسٍ كَئيب" مو داري شنو أسوي.. كل ما أقول تعدلت الأمور تتعقد وتتصعب أكثر من قبل "أشارَ لنفسه وغصّة منسية عادت لتُحَشرج صَوْته" أنا من متى كنت جذي؟ ليش صار حالي جذي؟ فيصل المتفوق.. المُحاضِر والمُدير صاحب درجة الماجستير من بريطانيا وبمرتبة الشرف.. أدير فرع لأهم البنوك في البلد بكل سلاسة واحترافية.. شغلي يمشي على خط مستقيم لا يمين ولا يسار.. الكل يحترمني ويحسب لي ألف حساب.. مراة.. مراة تسوي فيني كل هذا! "بقلّة حيلة" لا في بُعدها راحة.. ولا في قُربها راحة
سُكــوت.. انتظر تَعقيبًا منها.. نبرة حنان تُدفئه.. طَبْطبة يَد تُنعشه.. لكن لا شيء.. التَفَتَ إليها راجيًا بهمس: يُمّه.. قولي شي
وَضَّحت: اللي بقوله يا ولدي ما راح يعجبك
بقبول: ما عليه يُمّه.. ما عليه.. أبي أسمع صوت غير صوتي
تَنَهّدت وهي تَعتدل لتقترب منه وتقول بصراحة تامّة: هالحيرة كلها بتنتهي والراحة راح ترجع وتسكنك.. إذا وقفت إنّك تلقي اللوم كله عليها.. على جنان "اسْتَنكرت بهجومٍ شَرِس أَفرى فؤادها قَبْلَ فؤاده" اللحين مو إنت اللي رفضت تسمع تبريرها واعتذارها بعد غلطها وطلقتها؟ ومو إنت اللي ذبحتها بجذبتك ونهبت منها سنوات مع بنتها مُستحيل إنها ترجع؟ ومو إنت اللي رحت وتزوجت غيرها عشان تنساها؟ ومو إنت اللي هددتها من إنها ترتبط وفزعتها بدمّك وبهذلتها؟ ومو إنت اللي رجعت وخطبتها؟ ليــش اللحين قاعد تلقي اللوم كله عليها!
تَطايرت الكلمات قَزعًا أَمام ناظِريه وهُو غير قادر على الْتقاط ولا واحدة منها.. فَتحَ فمه مُحاولاً النطق ولكنّه تَلعثم بفقر إجابته.. أَطْبَقَ شَفَتيه وأَخذت عَدستاه تَدوران على وَجْه والدته باسْتعطاف.. لكنّها غَضَّت قَلْبها عنه وقالت بجديّة بها شيء من حدّة: أنا وأبوك تركناك على راحتك طول هالسنين.. قلنا إنّك أدرى بظروفك وأدرى بجرحك.. وعقلك يعرف يتصرف بحكمة.. لكن يوم بديت تخورها اضطر أبوك إنّه يوجهك.. بس عاد ما يصير كل خطوة هو يقول لك وين لازم تاخذها.. بــس.. اعتمد على نفسك وصير رجّال
بِلَحْنٍ مُعاتِب: يُمّــه.. يعني أنا مو رجّال!
ارْتَفَعَ حاجبها: راجع تصرفاتك وشوف إذا تنطبق عليها صفة الرجولة "وَقَفَت ومن عَيْنيها وَجَّهت لهُ نَظْرة لاسعة" أوعى على نفسك قبل لا تخسر كل شي.. كل شي يا فيصل
،
طَوَى سَجّادته ثُمَّ أعادها لمكانها.. تَحَرَّك إلى السَرير حيث تَسْتقر زَوْجته بوُجوم.. انْحنى إليها وعلى غَفْلة منها طَبَعَ قُبْلة خَفيفة أَرْخت العُقْدة المُقطّبة ما بين حاجِبيها.. تَبَسَّمت إليه ابْتسامة باهِتة فَسأَلها بعينيه.. أَجابت بهمسٍ حَزين: قَسيت عليه بالكلام "وبأسف" أول مرة أقسي عليه
أَراح رأسه على فَخْذها وهو يُعَقّب: يستاهل
تَنَهَّدت: أدري.. بس بعد.. ما تعودت أقسي عليه.. هو بالذات
عَلَّقَ بنبرة المُداعبة خاصّته وهُو يُرْخي كَفّها على جَبينه: طبعــًا.. هذا الحبيب الغالي
أَصْدرت صوت ضائِق من بين شَفتيها وبإصْبعين ضَغطت على جبينه بخفّة: نــاصر.. ترى من صدق قلبي يعورني على ولدي
مَسَحَ على صَدرها جهة قَلْبها: ما يحتاج يعورش.. من زمان كان لازم تقسين عليه.. الدلع ما يفيد يا ليلى
عادت وأَفرغت تَنهيدة ثانية لتقول بتوَجّس: ما أدري لشنو بينتهي به الحال.. الله يستر
ضَغَطَ على يَدها الساكنة جبينه وهو يقول ليُطمئنها: لا تحاتين.. استودعيه الله.. وأنا تدرين فيني أراقبهم على طول من بعيد لبعيدة.. ما راح يصير شي
تَمْتَمَت: إن شاء الله
أَفْصَح وهُو يُخْفِض يَدها إلى صَدره: تدرين.. كنت شايل هم جود.. توقعت هي اللي راح تبهذلنا بسبب شطانتها وفضولها.. لكن سبحان الله.. نُور وفيصل العاقلين هم اللي صعّبوها علينا
ابْتَسَمت بِعَطف: مسكينة هالجود.. على طول مظلومة
بحاجبين مرتفعين: أنا لكن للحين ما أدري هي طالعة على من!
عَلَّقت بضحكة: نسخة وحدة.. ما لها شبه ولا مثيل
,،
إحساس غَريب يُخالجها.. لحْظة.. رُبما هُو حُلم.. أو جاثوم أَسْود.. انقلب جَسدها ذات اليَمين.. عُقْدة تُصَدّع ملامحها.. رَفعت يَدها تهرش صَدرها.. وكأنَّ مَخالب حادّة تَقْبض عليها.. انقلبت ذات الشِمال.. أَزاحت خصلاتها عن وَجْهها... خَفقان قَلْبها تَمادى حتى طالَ أطرافها.. كُلّها ينبض.. فَتحت عينيها.. المكان مُظْلم.. لحظة.. هي لَا زالت مُغمضة، لَم تفتحها إذن.. دارت لليمين مُجَدّدًا.. ثُمَّ لليسار.. وأَخيرًا اسْتَقَرَّت على ظَهْرها. ارْتَجَفَت من رَأسها حتى أَخْمَصَ قَدميها وخفقانها في ازْدياد.. فَتحت عينيها لتلتقي بسقف غُرفتها.. تَنَفَست الصّعداء ويَدها تنبسط فَوْق قَلْبها براحة.. مَسَحت عن جانب وَجْهها عَرَقٌ وهْمي وفَمها يَزْفر رُعْبها.. أَبْعدت خصلاتها عن وَجْهها بالتوالي مع استدارتها لجانبها الأيَسر حَيثُ يَسْتقر فوق الدرج الجانبي كأس ماء.. كانت تُريد أن تطفئ أوار رُوحها اللاهثة.. لكن وَجْهه الأَسْود الذي صَدمها ابْتَلعَها بالكامل حتى أحالها يَبِسة.. لا نَبْض ولا هواء ولا إحساس.
,،
ببحّة النوم: صَباح الخير يا حلو "قَبّلت وَجْنتيه برقّة ثُمَ اسْتنشقت عُنقه وهي تهمس بحُب" صَباح الريحة الحلوة.. صَباح ريحة الجنة "فتحت أزرار ملابسه.. نَظرت لحفّاظه الممتلئ.. حَكَّت خَدّها وهي تَسأله مُحاولة تجاهل خوفها" هـا حبيبي.. نروح نغيّر؟
حَملته إلى دورة المياه بعد أن جهّزت له حفّاظ جَديد وملابس نظيفة.. دخلت بحذر وانتباه ونَبْضها تكاد أن تسمعه في أذنها.. ضَبَّطت حرارة الماء ثُمَّ حَرّرته من الحفّاظ المُتّسخ وبدأت تُطهره بعناية كما عَلّمتها والدتها. أَغْلَقت صنبور المياه في اللحظة التي اكتشفت فيها نسيانها لمنشفته الصغيرة.. عَضَّت على شَفتيها بقهر من نفسها ثُمَّ همست: غبيّــة
التَفتت إلى حيث تُصَف المناشف النظيفة الخاصة بها وبزوجها.. تَلَقَّفت لها واحدة بيسراها وطفلها تَتَشبَّث به يُمناها.. أثناء سَحبها للمنشفة ارتطم طَرفها بعلبة صابون الشعر المفتوحة.. تأففت وهي تراها تستفرغ بعضًا مما فيها على الأرْض التي احْتوت بضع قطرات ماء من جَسد صَغيرها المُطَهَّر.. تجاهلت المَزيج وأخذت تُحيط جسد طفلها بالمنشفة بعناية شَديدة وهي تهمس لهُ بلُطْف: خـلاص حبيبي.. خلصنا.. اللحين بنلبس وبنشرب حليـبة
ابْتَسَمت له وشَدَّت عليه وهي تُقَرّبه من صَدرها.. اسْتدارت لتخرج وقدمها تَحُط مُباشرة على المزيج المَنسي على الأَرْض.. كانت لَحْظة.. لحْـظة واحدة فَصَلت بين حرَكة قَدمها وانْزلاقها المُفاجئ.. اخْتَرَقَت صَدْرها شَهْــقة عَنيــفة ويَدها تَخَبَّطت في الهواء تَبْحث عن طَوْقِ نَجاة أَسَفًا أَنّه لَم يَقْصِد كَفّها.. لذلك عندما أَصْبح السقوط يَقينًا أمام عَيْنيها الجاحِظَتين.. أَحاطت ذراعاها الصَّغير بعفوية ومن قَلْبها هَتَفَت صَرْخة هَلِعة كانت آخر ما سَمعته قَبْلَ أن يدوي صَوْت السقوط المُجَلْجِل: ولـــــدي
انتهى
|