كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء السادس والخَمسون
الفَصل الثاني
تَأَفَّفَ للمرَّة العُشرون.. رُبَّما.. لذلك نَطَقَت هي بنفاذ صَبْر: بـــس.. خــلاااص ياخي.. جبت لي الكآبة من كثر ما تأففت
هُو الجالس على الأرْض بساقَيْن مُمَدَّدَتَيْن؛ رَدَّ مُعَبِّرًا عن ضيـقه العَميق: ملل.. مــلل.. ما أعرف أقعد جذي من غير شغل.. على الأَقل أطلع أفتر في الشوارع.. مو محبوس في البيت!
عَقَّبَت باسْتنكار: زيـن اطلع وفكنا.. من حابسك!
فَتَحَ فَمه لِيُجيب لكن صَوْتٌ هَزيل يَتَشَبّث بِفُتات قُوّة سَبقه: لا ما يطلع.. ما تشوفين ايده ورجوله مجبّسين! شلون تبينه يطلع؟ بعدين واحد من أولاد الحرام يضره مرة ثانية.. أو يطيح لي من رجوله في أدناة حفرة ويكسر الثانية
اسْتَعانَ بِنَفَسٍ عَميق قَبْلَ أن يَقول وهُو يَضغط على الحُروف: يُمّــه.. محد ضرني.. محـد أصـلاً كفـو يضرني.. كانت مع المُجرم رَهينة.. فعشان أحميها اضطريت أضحي بنفسي.. والحمد لله الطلقات جوا في ذراعي ورجولي مو في مكان ثاني
شَهَقـت وهي تَجلس أَمامه: ويعني ذراعك ورجولك شوية؟
مالَ رأسه: عادي يُمّه.. مو أول مرة
رَنت لهُ بطرف عَيْنها وهي تَتناول القرآن من على المنضدة الجانبية: أنا أدري.. خامر بروحك هناك في بلاد الغرب.. لاعب بجسمك لعب
الْتَزَمَ الصَّمت ولَم يُعَقِّب على قَولها، والذي كان صَحيحًا نَوْعًا ما.. انْشَغَلَ بهاتفه وجَميلة أيضًا كانت مشغولة بهاتفها.. يبدو أَنَّها تَتَحدث مع إحدى صَديقاتها.. فالابتسامة مُتَرَبِّعة على وَجْهها بحلاوة.. هَمَسَ لها بفضول حتى لا يُزعج والدته المُندمجة في القراءة مع القارئ في التلفاز: تكلمين من؟
نَظَرتَ لهُ بُعقدة خَفيفة: غريبة تسأل! مو من طبعك السؤال
كَرّر ببرود: مــلــل
مالت ابْتسامتها وهي تَتراجع للخلف وتَسْتند مُجيبةً: أكلم غيداء
تَساءَل باهتْمام: شخبارهم؟
أَوْمأت: الحمد لله.. زينين
اسْتَعلمَ: عبّود وبيان مو محتاجين شي؟
نَفَت: لا مو محتاجين شي.. هي موم قصرة عليهم ولا بيتهم بعد مقصرين
تَمْتمَ: زين زين
هي واصلت وكأنّها كانت تنتظر سؤالاً من أحد: من فترة أحاول فيها تزورنا اهني.. بس كله ترفض.. عنــودة
باسْتغراب: ليش ترفض؟
وَضَّحت: عشان السيارة.. من عقب وفاة عمّار الله يرحمه وهي صادتها فوبيا من السيارات.. تخاف تركب إلا للضرورة ومع أبوها وأخوها بس
اسْتَنكَرَ: يعني ما ساقت من وفاة عمّار الله يرحمه؟
أَكَّدَت: لا ما ساقت.. حتى عندهم سايق.. لكن ما تركب معاه.. وإذا أقول لها خل نطلع ترفض وتقول لي تستحي تكلّف على أبوها.. وأخوها اللحين مشغول مع زوجته.. ما تبي تضايقهم
مالت شَفتاه للأسفل وحاجِباه ارْتفعا: عَجيــب!
أَشارت لهاتفها: اللحين تقول لي تعالي بيتنا.. وأنا أستحي والله.. كل مرة طابة عندهم.. فَشْلة
صَمَت لبُرْهة ثُمَّ قال: إنتِ مري عليها بسيارتش
كَرَّرت: أقول لك تخــااف
ببساطة: عادي جربي.. ما أتوقع ترفض تركب معاش.. وحتى لو رفضت مردها بترضى.. لأن أولادها سبق وركبوا معاش.. فيعني أمان
عَقَّبَت بعد تفكير قَصير وهي تعود لهاتفها: بشوف.. بحاول معاها
قال بابْتسامة مُواربة وفي عَيْنيه لَمعَ ضوْءٌ خاطِف: اي حاولي.. أتوقع بترضخ
,،
أَغْلَقَت باب السَّيارة والمَوْقِف يُعاد بتفاصيله أَمام عَيْنيها مثل كُل يوم.. أَغْمَضَت ورُوحها بلا إرادة منها ارْتَعَشَت.. اسْتَنشَقَت ببطء ثُمَّ أَفْرَغت النَّفَس وهُو مُذَيَّل ببقايا رُعبها.. كَرَّرَت العَملية لثلاث مَرَّات حَتى شَعرت بأنَّ رُوحها أَصْبَحت أَخف. فَتحت عَيْنيها وهي تَنظر للأمام.. حَواسها اسْتشعرت ظِلًّا على يِسارها.. التَفتت لِيَصطدم بَصرها بثلاث وُجوه غَريبة تَكاد تَلْتَصق بالنّافذة.. فَزَّت بخفّة وهي تبسط كَفّها فَوْقَ صَدرها وتهمس: بسم الله "عَقَدت حاجِبَيها ويَدها تَحَرّكت لتفتح النّافذة.. تَساءلت وهي تُقَدّر في عقلها أَعمارهم التي يبدو أَنَّها لا تَتجاوز الثالثة عَشَر" نعم.. شنو تبون؟
تَبادلوا النَّظرات بِصَمت وعلى مَلامحهم بَدا الارْتباك واضحًا.. نَطَقَ أَوْسَطهم بلسانٍ يُعَثّره الخَوف: خالـة.. احنا.. نبي نسأل.. عَن.. عَن...
أَطْبَقَ شَفتيه فاسْتَنكرت هي: تسألون عن شنو!
أَشارَ لجبينه وبتردّد: اللي.. انجرح.. راسه.. طلع منه دم
ارْتَفَعَ حاجِباها: فيصــل!
أَكَّدَ الواقف على اليَمين: اي.. عمّي فيصل
فَتحت الباب وهُم تَراجعوا للخَلف قَليلاً لتقابلهم والاستغراب يكسو وَجهها ويَغْمر صَوتها: وانتوا شدرّاكم؟!
تَبادلوا النَّظرات من جَديد والصَّمتُ يَعود لِيُسَيطر عليهم.. الأَوْسَط أَدْخَلَ يَده في جَيْب سرواله الرياضي القَصير.. رَنا بِطَرف عَينيه لِرَفِقَيه قَبْلَ أن يَرْفَع بَصره إليها.. أَخْرَجَ يَده ومَدَّها إليها دُون أَن يَنبس ببنت شفة.. أَخفضت نَظَّاراتها ببطءٍ سَيّرهُ الاستنكار وهي تَنظر للذي في يَده.. تَأَمَّلتها جَيّدًا وهي تُحاول عَدَّها.. تَعتقد أَنَّها مئة دينار أو رُبَّما أَكثر! عادَ بَصرها إليهم وَوَسط عَينيها قَد سَبَحَ أَلف سؤال وسؤال.
،
غادَرَ المَصْرِف بَعد أَن أَعطاها طَعام الغَداء تَحت نظراتها المُتفاجِئة.. ابْتَسَم وهُو يَتَذَكّر دَهشتها التي ارْتَسَمت على مَلامحها.. لَم تَتوقَّع هذا التَّصرف منه.. خَبَت البَسْمة شَيئًا فشيء.. يَبْدو أَنَّ الشَر دائمًا يَتَقَدَّم ظُنونها ناحيتك.. تَصَدَّعت ملامحه بضيق.. أَنتَ السَّبَب.. أَنت الذي أَجبرتَ ظُنونها على انتعال الشَّر.. فَلَم تَرحمها.. لا الآن ولا من قَبْل. أَفْصَحَ عن تَنهيدة مُثْقَلة بالتَّرَدّد.. ضَميره يَصرخ داخله وهُو يُحاول إصْماته بكُل ما لديه من قُوّة.. لكن بعض الاستغاثات تَصِل إليه على الرَّغم من كُل مُحاولاته. واصَل مَشْيه بَثبات وثِقة.. الذي يرى مَظهره الخارجي لا يَشك ولو للحظة بأنَّ داخله فَوضى لا تَتوقّف عن الحَوْم... وكأنَّ رُوحه سِربٌ من طيور أَضاعت طَريق الوَطن بَعد موسم هِجرة طَويــل. تَباطأت خطواته عندما وَجَدَ ضالَّته.. ابْتَسَمَ وهُو يَتَأمَّلهم.. مُندَمِجين باللعب وكأنَّهم وَسَط مُباراة نهائية سيُتَوَّج بعد انتهائها البَطَل.. نَظَرَ لساعته.. بالكاد تَجاوزت الثالثة والنصف.. يبدو أَنَّهم فَوْر عَودتهم من المدرسة تناولوا طَعام الغداء ثُمَّ انتقلوا للعب مُباشرة. انتبه لاصطدام شيء بساقه.. أَخفض رأسه.. كانت الكُرة التي يَلعبون بها.. نَظَرَ إليهم وعلى مُحَيّاهم يُقرفص التَّعجب.. ابتسم للذهول الذي اعترى نَظراتهم.. يَبدو أَنَّ مَظهره الأنيق غَريبًا على أَعينهم.. فهذا الحَي الذي يَقع خَلف سلسلة المطاعم المُقابلة للمَصْرف؛ بَسيــط جدًا.. وأغلب ساكِنيه من الطبقة الكادحة. تَقَدّموا منه بحذر وأعينهم مُرَكِّزة على الكُرة التي ثَبَّتها بقدمه.. قالَ أحدهم: عمّي.. نبي كُرتنا
تَجاهل طَلبه مُتسائِلاً: تلعبون مُباراة عدلة ولا لعب عادي؟
نَظَرَ لِصَديقيه قَبْلَ أن يعود وينظر إليه مُجيبًا: لعب عادي
ابْتَسَم بخفّة وباسْتئذان: يصير ألعب وياكم ونصير فريقين؟ "كَتَمَ ضِحكته وهُو يَرى كَيف فغروا أفواههم بعدم استيعاب.. عادَ وتساءَل بحاجِب مُرْتَفع" هـا.. يصير لو ما يصير؟
ضَحكوا وهم يَتَلَفتون يَنظرون لبعضهم البعض.. وكأنّهم يَبحثون عن تفسير للموقف الغَريب.. قالَ أوسطهم: يصير يصير
اتَّسَعت ابْتسامته.. وخلال ثواني كان يَرْكض معهم بالكُرة بسرعة بسيطة. اسْتَمَرَّ لَعِبهم لِعَشر دقائق امتلأت بالضحك والحَماس.. سَجَّلَ هَدَفَ الفَوز ثُمَّ احْتَفَل وهُو يَضرب باطن كفّه بباطن كَف شَريكه.. قال وهُو يَرفع يَده: خـلاص
قال أحدهم والإعجاب يَنضح من عَينيه البريئتين: لعبك عجيـــب عمّي
تَساءَل شَريكه باهْتمام: إنت لاعب؟
ضَحَك وهو يَمسح جَبينه بظاهر يَده: لا.. بس أعرف "اسْتطردَ وهُو يُخرج مَحفظته" لأنكم ونستوني فبكافئكم "رَفَع بَصره" كل واحد بعطيه خمسين دينار
ثلاثتهم في وقتٍ واحد: خَمسيــن!
أَكَّدَ بثقة: اي.. بس بشرط
بحمـاسٍ شَديد: شنـــو؟
,
كانت مَصْعوقة ومُندهشة إلى حَد الإنكار.. رَفَضَت تَصديق القصة التي سَردوها عليها.. لكنّهم أَصَرّوا على صِدْق أقوالهم.. وأَكَّدوا لها أنَّ الذي رَكَب معها السيارة وهو دامٍ.. عَرَضَ على كُل واحد منهم خَمسين دينار لِيجرحوا رأسه عَمْدًا! ازْدَرَدت ريقها وبَصرها يَتَقَلقل على وجوههم.. ملامح البراءة لَطَّخها الشعور بالذنب والخَوف في آن واحد.. غير معقول.. غير معقول! لَقد تَجاوز حدوده.. هُو قَد أَجرم بحق هؤلاء الأطفال من أجل تحقيق أهدافه الأنانية.. بأيّ حَق يُدخلِهم في المعمعة البلهاء التي تَجمعهما؟ بأيّ حَق! جُنَّ.. جُنَّ هذا الفَيصل.. وأضرار جُنونه تَعَدَّتها وعائلته إلى المُجتمع! تناولت الأموال من يَد الطِفل، أَقفلت مَرْكبتها وقَبْلَ أن تَعود للمصرف اسْتَعلَمت منهم عن مكان سَكنهم.. ثُمَّ خَطَت بِحَزْمٍ وغَضَب وهي نار تَزداد اشْتعالاً كُلّما لاحَ لها طَيفه الدّامي.
,،
وَصَلَها صَوْت الباب.. طَلَّت برأسها فَرَأتهُ يَتَقَدَّم منها.. ابْتَسَم فَبادلته الابْتسامة وهي تُعَلِّق بِلَحْنٍ بهِ شَيءٌ من اسْتنكار: أشوف زايدة قعدتك في الكراج!
تَوَقَّفَ أَمامها وعَيناه تَمُرَّان على حُسْنها الأَسْمَر وهُو مُتَسَرْبِل بلونٍ أَصْفَر.. وكأنّها رِمالٌ ذَهِبية تُغازلها الشَّمسُ عُنوةً.. فقد كانت لامعة ومُشْرِقة. قَرَّبَ رَأسه منها لِيَهمس في أذنها مُقَلِّدًا حَركتها قَبْلَ أيّام: تَرى.. إذا كنت مستانس ومرتاح أَصير مَجنون شغل.. وقتي كله أقضيه في الكراج " وبخفّة مُرْجِفة قَبَّلَ زاوية شَفتيها، قَبْلَ أن يَسْتطرد وهُو يَستقيم لَيتطلع للفُرن" شنو طابخة اليوم؟
تَنَحْنَحت وهي تَتحرّك بلا معنى ناحية الثلاجة، أَجابته وهي تَفتحها: مَجـبوس دَجاج
اتّكَأ جذعه بمقعد طاولة الطعام وهو يَعقد ذراعيه على صَدره وبسؤال: تعرفين تطبخين كل شي؟
هَمْهَمت وهي تغلق الثلاجة بعد أن تناولت منها قنينة ماء باردة: يعني.. تقريبًا "فتحت القنينة ورفعتها إلى فَمها وهي تُواصل" ماما علمتني من يومني في المدرسة.. وأنا بعد قمت أحط ايدي في المطبخ من غير ما تطلب مني.. فصرت أعرف كل شي
ارْتَشَفت قَليلاً من الماء مع اقْترابه إليها.. أحاطَ خصرها بذراعيه وبهدوء: اليوم اتفقت مع يوسف عشان نلتقي ونتكلم بخصوص القضية
أَيَّدت: واجــد زيـن.. تَمـام "وبضحكة" وأَخيرًا
ابْتَسَمَ بِحَرج وهُو يَحك أنفه وبتبرير: أشغلتني حالة جِنان "قَرَصَ خدّها مُرْدِفًا بخفوت" وأشغلتني حالتي المتبهذلة بسببش
أَرْخَت طَرفها وابْتسامتها المائِلة وَصَلت لِقَلبه.. هَمَسَت بمُزاح وهي تَرفع عَينيها إليه: أعتذر على البهذلة اللي سَبّبتها لك
ضَغَطَ بأصبَعيه على أَرْنبة أَنفها بمُداعبة: لا داعي أختي وصَديقتي
ضَحَكَت وهو ابْتَسَم بِسعة وبِعَينه غَمَز لها.. مَرَّرَت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تَسْتفسر وجسدها بارْتياح يَلتصق بجسده: زين شنو اللي خلاك تقرر تكلمه اليوم؟
أَجابَ بضحكة: آستور.. آخر شي هددني بيجي على أقرب رحلة وبيكفخني إذا ما كلمته
انْحَنى لِعُنقها وهي تُواصل اسْتفسارها: انزين شنو بتسأله بالضبط؟
وهُو مُندمج بتَتَبّع عِطْرها الأذْفر: ما بسأله.. بخليه يسولف على راحته
أَوْمأَت بتفهّم: أوكـــي.. زين جذي... "أَغَمضت عَيْنيها وهي تَبْتَسم باسْترخاء تـام.. اسْتَطَرَدت بهمسٍ مُرْتَخٍ ورأسها يَميل لِيَلتقي بجانب رأسه برقّة" مَحمــد.. تَرَى الغدا جاهز
هَمَسَ: أوكـي "تَرَك قُبْلة فَوْق الشامة الغافية على سَفْحِ نَحرها، ثُمَّ رَفَع رأسه لِيقول بِجِفْنَين أَرْختهما السَّكْرة" بغسّل وببدّل وبجي
ابْتَسَمت له وبذات الهَمس وبنفس النَّظرة: تَمام
رَدَّ الابتسامة في الوَقت الذي التَقَطت فيه يَده قنينة الماء المُمسكة بها.. رَفعها لِيَشرب منها وهُو يَسْتدير مُغادِرًا المَطْبَخ.. تابعتهُ حتى اختفى عن مَجال رؤيتها وهي تَسْتَشعر الجَنَّة التي بَدأت تَزكو في جَوْفَها.. تَنَهَّدت والحُب يُلَحِّن أَنفاسها.. كلمة "مرتاح" وكلمة "مستانس" اللتين نَطَقَ بهما أَكَّدتا لها على مَدى عُمْق احْتياجه وافتقاره للراحة.. ابْتَسَمت ورِضاها عَن نفسها يَتراقص داخلها.. فهي أَراحته وآنسته.. وهذا شيءٌ جَيّد.. بل مُمتاز!
,،
: شنو هذا؟ جم يوم ما شفنا بعض!
التَفَتت ناحية الصَّوت بانْتباه.. ابْتَسَمت عندما رأته على يَسارها.. جانب جَسده مُسْتَنِد بالمنضدة، ويَداه تَسْكنان جَيْبي سرواله الأزرق. عَلَّقَت بغرور أَلفه منها: الواضح إنّ أيامك اللي افتقدت فيها شوفتي كانت صَعبة
وَجَّهَت نَظْرة ساخِرة لشعره المُبْعَثرة بعضًا من خَصلاته.. ضَحَكَ باسْتيعاب وهو يَقترب منها ليهمس بتهديد مُصْطَنع: اتركي عنش الطناز أَحسن لش
تناولت كُوب القَهوة من البائع.. شَكرته ثُمَّ تَساءَلت وهي تُفرغ كيس السُكّر داخله: شنو بتسوي مثلاً؟
أَخْفَضَ رأسه إليها هامِسًا بنبرة ماكِرة: إنتِ أدرى
حَرَّكَت بَصرها المأهول بالسخرية إليه لِتَصْطَدم بِعَيْنيه المُتَجاوزتَين كُل الحُدود.. كان وبجُرأة تُثير الحَنَق مُعَلِّقًا عَدَسَتيه بالمَوضع الذي تَرْكع عندهُ الأَنفاس وهي مُسْتَسلمة.. اضَّطرَبت نَبضاتها بخجلٍ يُخالطه غَضَبٌ طَفيف.. هَمَسَت من بين أَسْنانها تُوَبّخه: اسْــتح على وجهك وبلا قلّة أدب.. احنا في المُستشفى.. مو بروحنا
بَرَّرَ لِنفسه بمُشاكسة: محد قال لش تتطنزين على شعري
اسْتَفسَرت مُتجاهلة لَعِبه: ليش جذي معتفس؟
رَفع يَده يُرَتّب خصلاته وهُو يُجيب: بالغصب غَفت عيوني إلا نادوني لحالة طارئة.. ودخلت العمليات.. وتوني والله من شوي طالع.. ما مداني أرتبه
وهي تمشي معه: متى يخلص دوامك؟
دَعَكَ عَينه برسغه: اللحين.. كنت طالع أساسًا.. بس شفتش اهني صدفة "ابتسمَ وهو يخفض يده فبانت تجاعيد التَّعب والإرهاق حَول عَينه" قلت أجي أعصبش شوي "تساءَل هُو" وإنتِ متى تخلصين؟
نَظَرَت لساعتها: ثمان
هَزَّ رأسه: زين زين.. يمدي أنام وأقعد مع وقت جيتش "اسْتطرد" بنسهر ها.. أنا بتكفّل بأمور السهرة
ارْتَشَفت من كُوبها قَبْلَ أن تقول مُعارضة وبملامح مُتَصَدّعة: لا عاد.. برجع تعبانة.. أبي بس السرير
قال بثقة: إنتِ اعتمدي عَلي.. صدقيني بترتاحين
حَرّكت كتفيها وهي تقف معه عند بوابة الخروج: زيــن.. بنشوف
لَوّح لها مع ابتعاده: سي يو دكتورة
ابْتَسَمت ويَدها تَرْتفع له: بـاااي
,،
كان يَغسل يَديه وهُو يَنظر لوجهه في المرآة.. بالتّحديد جِرحه.. أزالوا عنه الضمادة الكبيرة بالأمس مُكتَفين بتغطية الجِرح بلاصق خاص لهذا النّوع من الجروح.. اسْتقام في وقوفه وهو يَجذب له منديلان لِيُجَفّف كَفّيه وعَيْناه لَم تُفارقان الجِرح.. حَرَّك وَجْهه يَمينًا.. ثواني وحَرّكه لليسار.. الجِرح في الزاوية اليُمنى من جَبينه.. هُو أقرب لمنابت شَعره من حاجبه.. لا يَعتقد أَنَّ أثره سَيكون واضِحًا بطريقة مُزْعِجة للعَيْن. أَلقى المناديل في سَلّة المُهْملات ثُمَّ فَتح الباب لِيُغادر دَورة المياه الخاصّة بمكتبه.. تَحَرّك خطوة.. وقَبْلَ أَن يُكْمِل الخطوة الثانية.. أَوْقَفهُ الكائن الذي شَغَل فِكْره وحَواسه في الأيّام الماضية. كانت تَسْتَقِر على بُعد مِترَين.. وقوفها مُضَّطرِب وقَد خَسَفت انتصابه الرَّجفة.. مَرَّرَ عَدَستيه على وَجْهها بِحَذَر.. كانَ يَعج بالغَضَب.. لَونها الخَمري قَد شاكَسهُ احْمرارٌ حانِق.. عَيْنيها رَهْن اتّساعٍ يَكاد يُسْقطهما من مَحْجَريها.. أَمَّا أَنفاسها.. فهي لَو مَسّته لأضرمت فيه نارًا لا يُصَد حَريقها ولا يُرَد. تَقَدَّمت منه بخطوات واسِعة وسَريعة.. عَيْناه لَم تُفارقان وَجْهها.. لذلك لَم ينتبه للأموال التي كانت بَين قَبْضتها.. والتي في لحظات أَلْقتها عليه لِتَصطدم بوجهه بطريقة مُفاجِئة. أَخْفَضَ رَأسه باحِثًا عنها.. وقَبْلَ أَن يَسْتوعب ما هي.. غافلته والتَقَطَت قَلمه المُرتاح فوق مَكتبه وألقتهُ عَليه.. لَم تَكتفِ.. فهي بلا تفكير وباسْتسلام تام للقَهر الصارخ في رُوحها تناولت قنينة الماء الخاصة به وألقتها كذلك عَليه.. حاولَ أن يَتَصدّى لها لكنّها اصطدمت بكتفه.. ناداها بهدوء مُحاولاً امتصاص غضبها وهُو قَد اسْتوعب كُل شيء: جِنان
لَم تَسْتَجِب له.. بل ولَم تَسْمعه.. لَم يَلِج لِمَسْمَعيها سوى صَوت بُكاؤها وشهقاتها المرعوبة.. كانت تَرميه بأي شَيء تَقع يَدها عليه.. هاتفه الخاص.. هاتف مكتبه.. أوراق.. أختام حبرية.. التقويم السنوي.. أقلام أخرى.. ملف.. ملف ثاني.. نَظّارته.. وأخيرًا جهازه اللوحي.. الذي ظَلَّت تَضربهُ به فَوْقَ صَدره ونَشيجها المكتوم يَرْتفع بتَعَرّجٍ قَطَّع نَياط قَلْبه.. تَصَدَّعت ملامحه بوَجع عندما أَبْصَرَت رُوحه هُطول أَمطار عَينيها فَوْقَ وَجْنتيها النَحيفَتين.. بَكت وكان البُكاء حِمْلاً ثَقيلاً على حواسها التي ضَعُفت.. فَيَداها تَباطَأت حَرَكتهما حتى خَبَت.. وفي ثواني انسَلَّ الجهاز منهما لِتَسْتقبلهُ الأَرْض برحابة ارْتَفعت على إثْرها جَلَبة بَسيطة. قَبَضَت يَديها، سِلاحها المُتَبَقِّي.. ضَربته بقوة وَهِنة ومن جَواها كُشِفَ هَمْسٌ مُعاتِب: حــ ـرام عليـك.. والله.. والله بغيت أمــوت... من خوفي "ضَرَبته من جَديد وأَهدابها المُبْتَلّة مُصْطَفة كَحاجِز بَين عَيْنيها وعَيْنيه.. وَبحُرْقة " خَــوفتنـــي... خَوفتني.. وبعدين "هَدَأ صوتها".. طَلعت "وبهمسٍ غَمَرته الدَّهشة وبَصرها يهفو إليه" جــذّاب!
هَمَسَ مُحاولاً التَّبرير: لحـظة جِنان.. فهميني
قاطعته بصرخة أَهرمتها البَحَّة: أفهــم شنــو؟ أفهم شنو فيصل! "اهْتَزَّت أوتارها لِتَخرج الكلمات مُهَتَرِئة" أَول شي عاقبتني "تَنَشَّقَت" قلنا ما عليه.. من حقّك تعاقبني.. ولو إنّ عقابك كان قاســ ـي.. واجد قاسي "هَزَّت رأسها" بس ما عليه.. بهذلتني وبهذلت نفسك وبهذلت بنتنا.. حتى أهلنا تبهذلوا معانا.. وبعد قلنا ما عليه "مالَ رَأسها ومَع الدّموع هَتَفَ وَسَط مُقلتيها اسْتنكارٌ شَديد" لكن بلا ضَمير وبلا عَقل.. تتجاوز كل الحدود وتبهذل أطفـال! تضر أطفال وتلطّخ براءتهم بجنون أفعالك! "هَتَفَت" ليش؟ ليــــش!
أَجابَ مُراوِغًا تَوقعاتها بوَجْسٍ سارَ بَيْن أَوْصالها: لأنّش تحبيني.. قلتِ أحبّـك.. وجِنان اللي تِحب فيصل مُستحيل إنها تكون لغيره.. فالشوفة ما كان لازم تصير
حَرَّكَت رَأسها بلا تَصديق والصَّدمة تُؤطّر وَجْهها: مَجنـون.. إنت مَجنون! عشان شوفة تعرّض نفسك للخطر وتضر أطفال! مُستحيل اللي تسويه فيصل.. مُستحيــل!
ازْدَردَ ريقه وبأطرافٍ أَرْجَفها المَوْقِف الحامي: قلتينها.. مَجنون.. وما على المجنون حَرج
هَمَسَت بِغَصَّة مع إفصاح مُقْلَتيها عن ولادة شَعب جَديد من الدّموع: بس لو قلت لي.. لو قلت لي.. لا تروحين.. ما أبيش تروحين.. صدقني.. ما كنت بروح
نَطَقَ بلهفة نَضَحت من عَينيه وخَفقان قَلْبه يُهَدِّد بانهيار صَرح الغُرور العَتيد: لا تروحين.. لا توافقين.. لا عليه.. ولا على غيره "ابْتَلعَ تَرَدّده وببحّة مُضاعَفة" خلينا.. خلينا نرجع لبعض.. إذا مو عشانا.. عشان بنتنا.. عشان جَنى.. خل نهديها حَياة طَبيعية.. اللي شافته كَبير عليها وعلى براءتها.. خلاص.. اكتفت رُوحها.. خَل نريحها "وبهمسٍ تائق للقاء" أرجوش.. أَرجوش جِنـان
تَراجعت للخَلف ببطء ونَظراتها قَد كَستها الرَّيبة من رجائه الغير مُعتاد.. أَحاطت نفسها بذراعيها.. وَسيلة دفاعها في الآونة الأخيرة عندما تكون مُحاصرة بهِ.. هَمَسَت بتردّد وهي تَمسح صَبيبها عن خَدَّيها: والأطفال.. الصبيان اللي خليتهم يضربونك؟
رَدَّ سَريعًا: بعتذر لهم.. مرة وثنتين وعشر.. بعتذر لهم وببوس راسهم بعد.. بحاول إنّي أحتوي خوفهم وأنهيه بأي طريقة
أَومأت برأسها وبخفوتٍ مَلأَ روحها قَبْلَ صوتها: زيـن.. اعتذر لهم قبل.. وبعدين "تَطَلَّع إليها بتلهّف وهي أكملت بإشاحة" وبعدين بنشوف شنو يصير
,،
البَحْرُ جانِبًا.. يَطُلُّ عَليهما بِمَوْجه.. والقَمَرُ يَنتصف السَّماء بَعد أَن نادى نُجومه.. لِيَسْتَعيد معهم أَحْداثًا أَطْبَقت عليها السَّماء أَبْوابها. يَجْلُسان أَمام بَعضيهما البَعض في أَحد المقاهي المُجاورة للبَحر.. تَتَوَسَّطهما طاولة خَشبية اتَّكأ فَوقها كوبان من القَهْوة. مَضى على جُلوسهما عُشرون دَقيقة أو رُبَّما أَكثر قَليلاً.. حديثهما كان اعتيادي.. روتيني وخالٍ من أَي ذكرياتٍ خَطيرة.. السياسة والاقتصاد والطَقس كذلك. قالَ مُحَمَّد بابْتسامة وهُو يَسْتشعر ارْتطام الهواء العَليل بوجهه: هالجو بالنسبة لي ربيع.. برلين ما قَصَّرت فيني في الشتا
اسْتَفسَر: هالكثر باردة؟
أَكَّد: أكثر مما تصور.. في البداية واجهتني صعوبة إنّي أتأقلم مع الجو.. البرد كان بالنسبة لي مُعرقل لعدّة أمور.. كنت يا الله أقوم من السرير.. على طول متخدّر وأبي أتدفى.. بس مع مرور السنوات بديت أتعود شوي شوي
: جم ظليت هناك؟
أَجابَ وابْتسامته تَتَقَلّص للنصف: ثلتعش سنة
عَقَد حاجِبَيه: أووف.. مو جنه واجد؟
رَفَع كَتفيه: الظروف حدتني
هَزَّ رأَسه بتفهّم: الحمد لله اللحين إنت مستقر اهني
أَيَّدَه: اي الحمد لله
رَفَع كُوبه وارْتَشَفَ منه في الوَقت الذي اسْتَقَلَّ فيه يوسف قِطار الزَّمن: احنا سافرنا ألمانيا.. برلين تحديدًا.. كنا صغار أنا وملاك.. يعني حتى ما أذكر شلون كان جوهم "لاطفت شَفتيه بَسْمة طالت عَيْنيه" بس أذكر إن كان خريف.. لأن ملاك كانت تستانس على صوت أوراق الشَجر وهي تتكسّر تحت رجولها
ضَحَكَ بخفّة وأَمام قَلْبه ارْتَسَم خَيالها وهي طفلة تُلاحق الأوراق لتكسرها: قالت لي.. شكلها كانت شقية
أَكَّدَ: واجــد.. أنا كنت أهدأ منها.. كانت هي تحب تستكشف وتتعرف على أشياء جديدة.. كان فيها فضول بس فضول مُحَبّذ "صَمَت للحظات ثُمَّ أَرْدَف بخفوت وعَلى جِفْنيه قَد جَثى انْكسارٌ قَديم" مثل أبوي.. الله يرحمه
تَمْتَمَ: الله يرحمه "اسْتَطَردَ بتردّد" على اللي سمعته.. من ملاك.. إنّك كنت الوحيد اللي معاه.. وقت الحادثة
أَمالَ الإحباط رأسه وهُو يُعَلِّق بابْتسامة شاحِبة: للأسف
نَطَقَ بِصِدق: يُوسف.. إذا تبي تتكلّم أنا موجود.. اعتبرني مثل أخوك
بامْتنان: تسلم حَبيبي بو جاسم.. أدري فيك ما تقصّر.. بَــس "نَكَّسَ رَأسه ثُمَّ رَفعه وهو يَلتفت ناحية البحر مُرْدِفًا" الحجي في الموضوع صعب عَلي.. واجد صعب
حَرَّكَ رَأسه بتفَهّم وهو يُرْجِع ظَهره للخلف ويَستند.. أَحاطهما الصَّمت كوشاحٍ يَتَصَدَّى للذكريات التي يَقذفها ماضٍ أَسْود.. يُوسف مُتَوْجّه بحواسه إلى البَحر.. مُغْرِقًا رُوحه بَين أَمواجه المُتلاطمة.. وكأنّه بينها قَد يَجِد ذاته الضائعة.. أمّا مُحَمّد فَقد أَشْغَلَ نَفسه بالبحر وبملامح يُوسف التي انبجست من بين طَيّاتها مَرارة؛ طَغت على تَلك التي حَوتها القهوة.
: يصير الإنسان يتوهّم حَدث من البداية للنهاية.. بكل تفاصيله.. وبكل أوجاعه وأحاسيسه؟
أَطْبَقَ شَفتيه لثواني سَمحَ فيها للسؤال أن يَلِج إلى رُوحه.. قابَلهُ وَجْه يُوسف وعَيْناه المُتَعَطِّشَتان لجواب.. اعْتَدَل في جلوسه.. اقترب من الطاولة مُرْخِيًا ساعديه فَوْقها.. أَرْخَى بَصره وهو يحْتَضَن الكُوب بِكَفّيه.. اخْتَرَقَت الحَرارة جُدران الكُوب الزُجاجية حتى طالت راحتَيه.. لِتُعيده لتلك السّاعات التي ابْتَلعت صَرخات ذاته المُتَألِّمة حَد تَمَنّي المَوْت. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه.. رَفع بَصره إليه لِيُجيب: يصير.. يصير يتوهّم حَدث.. لكن مُستحيل الإنسان يتوهّم الوَجع.. الوَجع بمُجَرّد ما يصيبنا خلاص.. يستقر داخلنا.. وكأنّه زاير للأبد.. حتى لو غادرنا بيكون ترك وراه أثر مُستحيل يندثر.. هالأَثر يَصحى في كل وقت تسترجع فيه الرّوح ساعات وَجعها.. الوَجع لا يمكن يكون وَهم.. لا يمكن
رَمَشَ ببطء شَديد.. كما لَو أَنّهُ يَمتص بِعَينيه الاستيعاب.. دَعَكَ صدغه بتفكير.. ناظَرَ الفراغ والقطار يَمشي بهِ لسنواتٍ خَلَت.. سَنوات أحالتهُ رَجُل بذات مَثْلومة. هَمَسَ مُحاولاً إزاحة الغَشاوة عن ذاكرته: كان معانا.. في مكتب أبوي.. معانا واحد
سَألَ بتركيز: تعرفه هذا الواحد؟
أَجابَ سَريعًا: لا "تَعَثَّرت نظراته بتردّد" أقصد.. مو متأكد
شَجّعه: ما عليه.. قول.. قول اللي في بالك
رَطَّبَ شَفتيه ليُهَيّئهما للنطق بالاسْم الذي طَواهُ في نَفْسه لأعوام.. تَسارعت نبضاته.. تَنَفّس بثقل وهو يَقبْض يُمناه.. نَطَقَ ببحّة: عمّـي.. عمّي سلطان
هَرَعَ الغَبَشُ إلى عَيْنيه.. احْتَدَّت نَظراته والصورة بَدأت تَتضح ملامحها في عَقله.. أَفْصَح عن سؤال: مكتب أبوك.. ما كان فيه شي غريب حزّتها؟
فَغَرَ فاهه ومن عَيْنيه هَتَفت الدَّهشة.. هَمَسَ: امبـلى "كَرّر" امبلى في
بتحفّز: شنو؟
أَجابَ لِيُطلق السَّهم ناحِية الدليل الذي أثار قَريحة مُحمد: الساعة.. ساعة مكتب أبوي كانت عادية.. لكن حزّتها.. قبل موته بثواني.. ارتفع منها صوت.. صوت موسيقى
,،
نَظَرَت لهاتفها وهي تقف وَسَط غُرفة نَومها.. كان عبد الله.. يُخبرها في رسالة بأنّه ينتظرها في المَسْبح وأن تَرْتدي ملابس مُناسبة للسباحة.. هَمَسَت بتعب: شنو في راسك عبد الله؟!
أَبْدَلَت ملابسها بأخرى تُليق بالسباحة كما طَلَب.. ارْتَدت عَباءتها لتستر بها جَسدها المَكشوف.. فهي قَد تَلتقي في الطريق بوالده. تَركت جناحهما باتجاه الأَسفَل.. كان المنزل هادِئًا كالعادة.. غيداء وطفليها في الخارج.. وأم عبد الله.. أو بلقيس.. في زيارة لإحدى شَقيقاتها.. أما والده يبدو أَنّه الآخر في الخارج أيضًا. وَصَلت للمَسْبح.. جَرَّت الباب الكَبير لِتَسْتَقبلها الروائح العَطِرة.. تَقَدَّمت بهدوء وعَيناها تَسيران بتأمّل على المَكان.. الأَضواء خافِتة لِتُسَلِّم للشموع مُهمّة الإنارة.. زَهْرٌ بألوان مُنعشة هُنا وهُناك.. طَبق كَبير يَحوي فاكهة مُتنوعة.. جَرّة للمياه.. كوبان عَصير.. وعلى الجانب عِدّة للشواء. تَلَفَّتَت تَبحث عنه.. أتاها صَوْته من خلفها بهمسٍ رَخيم: يعطيش العافية حَبيبتي
اسْتدارت إليه والفؤاد قَد جَنَحَ إليه أَوَّلاً.. تَساءَلت بهمس وهي تُصارع الرَّغبة المُتأجّجة داخلها للارْتماء في حضنه: متى مداك ترتاح وتسوي كل هذا!
أَجابَ وهُو يَقف قُبالتها.. قَريبٌ من زُمَرّدها وأنفاسها: كفتني ساعة للنوم.. والتجهيز ما أخذ مني وقت كلش
تَعَجَّبت وعيناها تَدوران على المكان من جديد: زين ليش كل هذا؟
ويَداه بخفّة تفتحان أزرار العباءة: تونا معاريس.. خل نستانس على كيفنا وبطريقتنا.. خصوصًا إن الشغل ماخذنا من بعض "اسْتَطرَد برضا وهو يتراجع خطوة للخلَف ليُدَقّق في ملابسها" بيـرفـكت! "وبضحكة" يوم شفتش بالعباية توقعت عاندتيني وما لبستين شي عدل
وَضَّحت: خفت أصادف عمّي في طريقي.. حرام يشوفني جذي
أَوْمأ رأسه بتفهّم ثُمَّ أَمْسَكَ يدها قائِلاً: تعالي
تَبعتهُ باسْتسلام إلى المسبح.. وَقفا عند حافّته.. اسْتَفسرت وهي تراه يَخلع سترته: شتسوي؟
وهُو يُلقيها على المقعد الخشبي القريب: متعود جذي أسبح.. أسهل وأخف لي "رَنا لها بطرف عينه " لا تقولين تستحين
شَرَحت له: لاا.. بس الجو مو مال سباحة
أَكملَ عنها بخبث: ويمكن صدري يتعب؟
ببرود: اي
أَشارَ للطاولة حَيث الماء وطبق الفواكه: لا تحاتين.. جايب البخاخ معاي
نَظَرت لجهازه المُستقر فوق الطاولة ثُمَّ عادت ببصرها إليه.. ابْتَسَم لها ثُمَّ وباحتراف قَفَزَ إلى الماء.. سَبَحَ إليها وهو يقول: تعالي حَبيبتي
اعترفت: ترى ما أعرف أسبح.. كلــش فاشلة في السباحة
اسْتَفسَرَ: تخافين؟
نَفَت: لا عادي.. ما أخاف.. بس ما أعرف
هَزَّ رأسه: زين تعالي
تَأمَّلت الماء المُغري بصفائه.. قالَ مُشَجّعًا وهو يَرى تَرَدّدها الجَلي: الماي دافي.. بتستانسين عليه
هَمَسَت: أوكي
تَراجعت خطوتان للخلف.. عادت ورَكضتهما لِتثب إلى الماء بحركة سريعة.. أَخْرَجت رَأسها وهي تستنشق بوضوح.. أَزاحت خصلاتها عن وَجْهها وَعينيها لِتُبصره بوجهٍ أَحْمَر يكتم الضحكة.. نَطَقَت بقهر: لا تتطنز.. قلت لك ما أعرف أسبحِّ
انفَجَرَ ضاحِكًا وهو يَسبح جهتها.. عَلَّقَ عندما أَصبح أمامها: اللحين هذي نَطّة! جنش زالحة وطايحة في الماي بالغلط
دَفعته من كَتفه بملامح حانِقة: ما تضحــك يالسخيف
سَخَرَ بمُشاكسة: بداية ما تبشّر بالخير
بزعل مؤنِّب: عبد الله!
ابْتَسَمَ بسعة: زين آسف آسف "أبعد بسبّابته خصلتها عن عَينها وهُو يُرْدِف" إذا تبين أنا أعلمش.. على الأقل الأساسيات
ارْتَفَعَ حاجبها: تعرف تعلمني؟
بثقة: طبعًا.. بروفشنال أنا في السباحة
وافقت: أوكي
بحمـاس: تمــام.. بتكونين أول أنثى أعلمها السباحة
اسْتَفسرت: ما علمت ولا وحدة قبلي؟
أَجاب: لا.. غيداء راحت نادي مثلي وتدربت
وسؤالها يَقصد أنثى أخرى: وغيرها؟
ببراءة: ما في أحد
بشك بان في عَينيها: كلش كلش؟
صَمَتَ يُفَكّر.. وعندما ارْتفع حاجبها فَهَم مَقصدها.. وَضَّحَ بابْتسامة خَفيفة: نور كانت تعرف بعد.. ما علمتها
هَمْهَمت: زين.. يعني أنا فعلاً أول وحدة تتعلم تحت ايدك
هَمَسَ وأنفه يُلامس أنفها: لي الشرف والله
مضت ساعة وُهو يُعَلّمها أَساسيات السباحة بالطريقة التي اعْتادها.. والساعة الأخرى قَضاها هُو لمُشاكستها ومُداعبتها أَحيانًا.. تباهى أَمامها بمهارته وسُرعته في السباحة.. طَلَبَ منها أن تَحسب لهُ الوَقت الذي يَقطعه ذهابًا وإيابًا سباحةً.. والوَقت الذي يَقضيه أَسْفَل الماء وهُو حابسٌ أنفاسه. قالت بنبرة مُرْهَقة بعد أَن أَخْرَج رأسه: بس عبد الله.. تعبت "مالَ رَأسها وبنعومة بالِغة" يصير توصلني للدرج؟
سَبَح إليها حتى أَصبح بجانبها.. أحاطَ خصرها وباهْتمام: بشنو تحسين؟
هَمَسَت ورأسها يَستند إلى كَتفه: عضلات جسمي تعورني.. يبي لي أنام
سَبَح بها بهدوء إلى السُلّم وهو يقول: تعشي قبل وبعدين نامي
رَكَبَت السُلّم لتُغادر المَسبح وهو يتبعها: شنو العشا؟
أَجاب مع التقاطه لرداء الاستحمام الخاص بها: فواكه بس "وهُو يُلبسها إيّاه" ما يصلح شي ثقيل
عَقَّبَت بخمول وهي تُلْقي بجسدها على المقعد الخشبي الطويل: زيـن "أشارت لعدّة الشواء وبابْتسامة" يوم شفتها حسبت عشانا مشاوي
نَفَى وهُو مشغول باختيار أصناف مُعَيّنة من الفاكهة: لا.. هذي موجودة اهني على طول "تَحَرّك ليجلس أَمامها.. غَرَسَ الشَّوكة في قطعة مانجو ثُمَّ قَرَّبها من فمها" اكلي حبيبتي
فَتَحَت فَمها بطاعة وتناولت القطعة وقَلبها قَد اسْتعان بنبضاته؛ مُحاولاً أن يحزر كم مَرَّة نَطَق بحَبيبتي منذ بداية السهرة حتى هذه اللحظة. ظَلَّ يُطعمها من طَبَق الفواكه وهُما يَتجاذبان أَطراف حَديثٍ هامِس أَضفى حَميمية على الجَو.. قالت وهي تَشد الرداء على جَسدها المُنكمش من البرَد: عبد الله إنت مو قاعد تاكل شي
ابْتَسَم: بلى قاعد أكل معاش
اسْتنكرت: شنو تاكل؟ لقمة لك وعشر لقمات لي!
اتَّسَعت ابْتسامته وبحُب نَقي يَتَلألأ من بَيْن حَوَر عَيْنه: أهم شي إنتِ تشبعين.. بالعافية حَبيبتي
بلا إرادة منها حَلَّقَت من بَين ضِلْعيها المُتَأسّفَيْن تَنهيدة طَويـلة أَثارت استغرابه.. اسْتَفسَر بعقدة حاجبين خَفيفة وابْتسامته لَم تُغادر شَفتيه: ليش هالتنهيدة؟
قابلتهُ سَريعُا بسؤال حتى يَتنحَّى عن الموضوع: أعترف لك بشي؟ "هَمْهَمَ وهُو يمضغ قطعة فاكهة فواصلت هي" أنا غالبًا أَمرض بعد ما أسبح.. سواء بحر أو برجة
ضَحَكَت بخفّة عندما تَجَمَّدَت ملامحه.. وكأنَّ الذي اعترفت به صَفعه.. قال بلَوْم وهو يَضع الطَّبق على الطاولة: ليش ما قلتين لي؟ جان ما خليتش تسبحين وكنسلت السهرة كلها
هَمَسَت بصدق وعَيْناها تُناغِيان عَيْنيه: ما حبّيت أكسر بخاطرك
زَفَرَ بضيق وتأنيب الضَّمير بَدأَ بوخز قَلبه.. احتضن خَدّها بيده هامِسًا باعتذار: آسف حَبيبتي.. سامحيني
أَحاطت رسغه بيدها الباردة: عـادي عبد الله
قال بانتباه وهو يَتَحسّس وَجْهها وعُنقها: جسمش بارد.. بردانة؟
رَدَّت بخفوت: شوي
خَلَعَ ردائه وهُو يقول: لبسي هذا بعد
رَفعت رأسها تنظر لصدره العاري: وإنت؟ بتظل جذي!
رَفَعَ سترته: بلبس فانيلتي.. عادي جسمي نشف
هَزَّت رأسها: لا ما يحتاج.. جذي زين
أَصَرَّ وهُو يُرْخيه فوق كَتفيها: امبلى يحتاج.. لبسيه عشان بعد نرجع داخل
عارضته: لاا عبد الله.. خلنا نقعد شوي.. عاجبني الجو
هَمَسَ وأصابعه تُمَسّد جَبينها: إنتِ تعبانة
حَرَّكت يَدها بلا اهْتمام: عـادي "أَشارت إليه بالاقتراب مُحَقِّقةً أُمنية ذاتها المُتَلَهّفة عليه" تعال اهني
اسْتجابَ لها مُلَبِّيًا النّداء.. احْتَضنها باحْتواءٍ رَقيق وهي اسْتَلقَت فوق صَدره بكُل اسْترخاء.. النّعاس يُشاكس جِفْنيها.. تَرْمش ببطء في مُحاولة لتفادي النَّوْم الذي كان من المُغريات في هذه اللحظة.. فدفء جَسده اللذيذ بَدأ يَنفذ إليها كما الرَّبيع.. ويَده الماسِحة على شَعرها وكَتفها تَطرْد عنها كُل حِمْلٍ ثَقيل.. كانت وهي بَين ذراعيه تَتَخَفَّف من عَهْد الانتقام الذي اتَّخذته بَينها وبين نفسها.. تَخلع عباءة التَّخفي التي تَخْنق حُبّها له.. ذلك الحُب التائِه بين رَجُلٍ يَسع قَلْبهُ الأَرْض، وبَين انتقام تتداعى عند مَقصلته الأَحلام. شَدَّت نَفسها إليه وهي تنكمش أكثر وأكثر بين ذراعيه.. أَغمضت وهي تَرْجو أن يَفقد الزَّمن ذاكرة الماضي لِيضل عن طَريق المُسْتَقبل المُدَجّج بأسلحة حَرْب خَفِيّة.. ليتها تَبقى هكذا إلى الأَبد.. غافية ما بين نَبْضه ودِفء صَدره. قَبَّلَ رَأسها ثُمَّ هَمَسَ: آسـف مرة ثانية حَبيبتي
تَنهيدة جَديدة.. أَطوَل والنَّدمُ فيها أَكثر جَلاء.. داعبت قَلْبه المُتَكَدّر بقُبْلة ناعِمة.. تَرَكتها زَهْرة فَوْقَ صَدْره.. وبهمسٍ تكاد تغتاله الغَصَّة: عــادي.. والله عادي حَبيبي
,،
ظَنَّت أَنَّهُ يَسْخَرَ منها.. أو أَنَّهُ يُطْعمها فُتات أَمَلَ لِتَتنازل عن غَضبها وتَعتقه.. صَدَّقته لدقائق.. عشر دقائق رُبَّما.. ثُمَّ وَبَّخت ذاتها البلهاء.. فهذا المغرور من المُستحيل أن يُطالبها بالعَودة.. بكُل ذلك الرَّجاء المُغَلِّف صَوْته، وبكُل ذلك التَّوْق المَنشور على قارعة عَيْنيه. لكن الآن.. المُستحيل أَصْبح "عادي" كما كانت تُحادث شَقيقها قَبْل أيّام.. ها هُو المُسْتَحيل يُصافح الواقع.. لا تدري لِهُدنة؟ أم من أجلِ صُلْحٍ أَبَدي؟ انتبهت لنداء خالها: جِنان.. أنتظر منش جواب
أَغْمَضَت والتيه يُصَدّع ملامحها: مادري خالي.. مادري
كَفّه بدَعمٍ حَنون حَطَّت على ظاهِر كَفّها وهو يقول: يُبه جِنان.. أنا جيت لش مُباشرة.. ما رحت لأمش ولا أبوش ولا واحد من أخوانش.. جيت لش إنتِ لأن هذا قرارش وإنتِ الوَحيدة اللي تملكين الجواب الصَح
رَنَت إليه والعَينُ قَد أَغْشاها الغَمام، والصَّوتُ قَد نالَ منهُ خَرير البُكاء: وإذا.. كان جوابي.. مو صـ ـح؟
ابْتَسَمَ لها بثِقة أَرْجَفت الأَمَلَ المَيّت داخلها: مُستحيل.. صدقيني راح يكون صَح
تَساءَلت وهي تَضغط على يَده: ليش هالكثر واثق؟
أَجابَ بصراحة: لأنش توجعتين بما فيه الكفاية.. وكانت أخطائش سَبب لأغلب أوجاعش.. فاللحين خلاص.. رُوحش صارت متحصنة ضد الخَطأ.. صرتين تعرفين في أي طريق تمشين.. أعتقد إنّش حفظتين الدرس وما راح يكون في تكرار للخطأ.. صح ولّا لا؟
أَيَّدت بخفوت وهي تُدير وَجْهها للأمام: صَـح
مالَ رأسه مُطِلًّا عليها: هـا؟ شنو جوابش؟
عادت إليه بسؤال مُتَرَدِّد: وهُو.. موافق؟
أَكَّدَ: طَبعًا "وبتوضيح" بس إنتِ تعرفين شخصيته
مَسَّت صِدغها وبِتَعبٍ نَفْسي مَرْسوم على ملامحها: وهذا اللي مخوفني.. أخاف ما نقدر نتفاهم وتصير حياتنا جحيم.. وبعدين جَنى راح تـ
قاطعها: ما له داعي التشاؤم جِنان "ارْتَفعت يَده لِيَشد على كَتفها لِيَبُث لها نَصيحة ثَمينة" صيري أذكى منه.. هو ولدي وأعرفه.. أدري راح يتعبش في البداية.. بس صدقيني هو يسوي كل هذا عشان يغطّي على الحقيقة اللي في قلبه "وبنبرة ذات معنى" واللي إنتِ تعرفينها بس تحاولين تنكرين معرفتش فيها
هَمَسَت برجاء: خــالي
أَمرها بمَلق: خليني أكمّل حبيبتي "أَومأت بطاعة وهو أَكْمَلَ" جِنان ترى إنتِ الطَّرف الأقوى.. هو شوفي شلون متخبّط ومو عارف يتقدم خطوة وحدة.. إنتِ في ايدش الراحة والسعادة لكم.. انسي الصياح والانهيار والعتاب.. هذا كله ما يفيد.. اتركي كل شي ورا ظهرهش وانسي.. قابليه بقوتش اللي إنتِ مستهينة فيها.. واجهيه بالامتياز اللي عندش.. حُبش له.. وانتصري عليه.. أدري فيصل صعب.. وغروره وكبرياءه صعبين.. بس إنتِ تقدرين.. صدقيني تقدرين
اخْتَرَقت صَدْرها الزَّفرات والرُّوح داخلها تَكادُ تنهار من فَرْط سعادتها وعَدم تَصديقها.. فكلمة واحدة تَفصل بينها وبين حَبيبها.. بين العائلة التي لطالما غَذَّت أحلامها.. كَلمة واحدة فقط. تَلَقَّفَت اهتراء مَلامحها المُرْهَقة وهي لَم تتوقّف عن ضَخِّ الأنفاس المَعطوبة.. قَلْبها يُمارس عليها ضغطًا غير عادل.. فهو يُطالبها بالموافقة مُتناسِيًا الدَّمار الذي سَبّبهُ لنبضه وحجراته.. في تلك اللحظة.. وخالها يُقَدِّم لها الحَياة على طَبَقٍ من ذَهب.. قَلْبُها تَناسى كُل شيء.. لَم يَبقَ بين حُجراته وَنبضاته سوى الفِراق وَحرائقه.. لذلك كان يُناجيها لِتَعطف عليه وتَشرع لهُ أَبواب السّماء التي سَيهطل منها الغَيث الذي سَيُحْيه من جَديد. أَخْفَضَت يَديها وهي تَسْتمع لخالها الذي قال ببساطة دُون أَن يُمَهِّد لأملها الصارخ: صدقيني إذا عَطيتيني الموافقة اللحين.. ما بينقضي الليل إلا وإنتِ على ذمته
,،
الساعة اقتربت من الحادية عَشر.. تَأخَّرت عن المَنزل.. لَم تَعتد على المكوث خارِجًا لمثل هذا الوَقت في منزل شخص غريب.. بَحَثَت بِعَينيها عن جَميلة ولَم تَجدها.. قالت أَنّها سَتذهب للمطبخ ولَم تعُد بعد. اهْتَزَّت قَدمها بتوتر وحَرج وهي تنظر لساعتها من جديد.. أين أَنتِ جَميلة؟ وَقَفت أخيرًا عندما رأت أن الوَقت قَد تجاوز العاشرة وخمسة وأربعين دَقيقة.. اتَّجهت إلى المَطبخ فقابلتها الخادمة.. سَألتها عن جَميلة فأخبرتها أَنَّها خَرَجت إلى المَخْزن.. لِمَ المَخْزَن الآن! غادرت المَنزل إلى الحَديقة حَيثُ يَلعب الأَطفال.. وَقَفَ عند الباب وعَيْناها تَدوران على المَجالِ أَمامها.. هُدوء وسُكون.. الحَديقة تَخْلو من بَشَر.. أَين الجَميع! صَوْت خُطوات.. التَفَتَت وَقليلٌ من الخَوْف بَدأ يُخالجها.. ازْدَرَدت ريقها وهي تَزْفر براحة.. لا أحد.. لا داعي للخَوف. شَهْقة حادّة جَرَحت حلقها اسْتجابةً لصَوت احْتكاك قَدم بغصنٍ مَنبوذ.. التَفَتَت لليَمين ونَبَضاتها بَدَأت تَتَحَفَّز للخَطَر.. دارت حَوْلَ نَفْسَها لِمَرَّتَيْن مُنَبِّشَةً عن الشَّبح الذي يُراوغها.. لكن لَم تَجِد شَيء.. لا شيء ولا أحد.. أَيُعقَل أَنَّها تَتَوَهَّم؟! عندما لَم تَظفر بجواب ولَم تَعثر على جَميلة والأولاد.. قَرَّرت العودة للداخل والاتصال بها.. وما إن تَقَدَّمت خطوة حتى عادَ صَوْت الأَقَدام لِيُرْعبها.. هذه المَرّة تواصَل الصَّوت دون انقطاع.. إنّه يَمشي.. هُو قادمٌ إليها.. من هُو القادم يا تُرى؟ والدَي جَميلة دَلفا لغرفتهما من أجل النَّوم في وَقت مُبَكِّر.. ولا أحد غيرهم هُنا! لحظة.. رُبما هي جَميلة.. أو أحد الأطفال.. لكن، لماذا مَشيهم هكذا حَذِر؟! أَحْكَمَ الهَلَع قَبْضتهُ عليها حتى تَجَمَّدت في مكانها.. خَفقان قَلبها يَكادُ يَصُم أُذنيها.. والأَفكار تدور بشعواء في عقلها دون أن تَهتدي إلى جواب.. شَبَكت يَديها عند صَدْرها وهي تَطْبق شَفَتيها بقوّة مانِعةً الصَرخة من الانفلات.. اقتربَ القادم.. تكاثرت الدّموع في عَيْنيها والقَمَرُ صَبَّ ضوئه ناحيته لِيَتسنّى لها التَّعرف عليه.. لحـظة.. جَبيرة.. عُكّاز.. واصَلَ القَمر مَسيره لِتَتضح الصورة بأكملها.. جَبيرة أخرى.. لكن هذه المرة للذراع.. ها هُو وَجهه.. لحظة.. غيداء.. كيف نَسيتِ؟ تَفَرَّقَت أَصابعها وأَسْبَلَت شَفتيها.. ارْتَخت عَضلاتها المُنْكَمِشة وبَصرها يَجْترع وجه الشخص الذي نَست أَن تَضعه ضمن الاحتمالات الواردة.. هَمَسَت باسْتيعاب: عَزيـز!
ابْتَسَمَ لها وهو يَقف على بُعْد خطوات منها بعُكّازه: السلام أم عبد الله
رَدَّت بهدوء وهي تُطالع حالته: وعليكم السلام "وبلطف" سَلامات
نَظَرَ لساقه وذراعه وهو يضحك بخفّة: الله يسلمش.. هذي ضريبة الشغل
ابْتَسَمت: يعطيك العافية
أَوْمأ برأسه: الله يعافيش "تَساءَل عندما لاحظَ التَّردّد يكسو ملامحها" تبين شي؟
أَجابت بحرج لَوَّن خَدّيها: لا.. بس جميلة.. قالت بتروح المطبخ.. وتأخرت.. رحت أشوفها إلا قالت لي الخدامة طلعت.. كنت أدورها
أَشارَ للخَلف: هي ويا العيال عند الزراعة ورا
هَزَّت رأسها بتفهّم: أوكي.. شُكرًا
رَدَّ بهدوء: عَفوًا.. "خَطَت وقَبْلَ أن تَتجاوزه سَألَ" مع من جاية؟
وَقَفت لِتُجيبه: جميلة مرّت عَلي
قالَ وكأنّه للتو يَعلم: أهــا.. يعني للحين ما تسوقين
ابْتَسمت بمُجاملة: ايــه
هذه المرة تَجاوزته لكن جُملته أَوقفتها: الخوف غلط
اسْتَدارت إليه بعُقدْة حاجِبَين وباسْتنكار: عفوًا؟
كَرَّرَ: الخوف غلط "وبصراحة تامّة" خوفش غلط.. جذي إنتِ تضرين نفسش وعيالش
قَبَضَت يَدها وهي تَجتذب الهواء بتماسك ثُمَّ تقول: عُذرًا أخ عزيز.. أعتقد الأمر يعنيني فقط.. محد له دخل
أَرادت أن تمشي لكنّهُ قاطعها مُجَدّدًا: عَمّار الله يرحمه لو كان موجود ما راح يكون راضي بهالوضع
رَفعَت إصْبعها بتحذير: لا تدخّل عمّار "وبحشرجة" وأصلاً لو كان موجود.. ما كان صار هذا الوضع
وهُو يَحْشر يده في جيب بنطاله: لازم بدخله.. لأنّ عمّار أَساسًا ما اختارش إلا وهو واثق إنّش بتكونين كفو.. ويقدر يسلمش كل شي لو صار وهو غاب عن الدنيا.. وهالعيال قطعة منه وأمانة عندش.. وعشان تحافظين عليهم لازم ما تبثين لهم خوفش
حَرَّكت رَأسها وهي تَغمض عينيها للحظات رافِضةً هذا النّقاش: أنا أَصلاً غلطانة إنّي واقفة وأسمع حجيك
اسْتدارت ولكنّه لَم يَكتفِ.. واصَلَ وهي تُوليه ظَهرها دُون أَن يُبْصِر تَعابيرها: اخذي من وقتش دقايق وخلي نفسش مكان عبود وبيان.. أمهم تخاف من السيارة.. تخاف تسوق بطريقة تثير استنكارهم وتُوجِد عندهم تساؤلات ما لها أجوبة.. هذا الخوف بيسمح لهم إنهم يتقبّلون مخاوف كثيرة في حياتهم.. أمنا تخاف.. فعادي لين احنا خفنا.. وهذا أبدًا مو اللي كان يطمح له الله يرحمه.. عمّار وثق في إنّش بتكونين الأنثى المُناسبة له في كل الظروف.. فلازم هذي الثقة ما تنكسر.. حتى بعد موته.. عمّار مثل ما يبيش قوية وتواجهين الحياة براس مرفوع.. بعد يبي عياله أقوياء.. يبيهم نسخة منه.. ما يعيقهم خوف أبدًا
,،
فَتَحَ باب الشِّقة.. دَخلَ ثُمَّ أَغلقه.. مَشى بخطوات ثَقيلة.. كَما لَو أَنَّهُ يَجُر بِقَدميه سِنين عُمْره التي كَبَّلته لِتُعاقبه؛ على انقضائها وهي مُقْفرة من جِنان.. جَلَسَ على الأَريكة بِبَصَرٍ شاخص.. كان يَنظر لكُل شيء في الوَقت الذي كان يَنظر فيه إلى اللا شيء.. الأَفكار في عَقله مَبْتورة.. كُل فِكْرة تَبحث عن رَفيقتها لَعَلّها تَرسم صُورة بها تَستوعب الحواس ما يَجري.. رُوحه يَعتقد أَنَّها غادرته.. فهو لَم يَعد يَشعر بعبء أَوجاعها.. أَو أَنَّها تَعافت؟ ارْتَشَفت من كأس الـ "نَّعم" التي نَطقَ بها لِسان جِنانه وَتعافت! نَظَرَ لكفّه اليُمنى.. قَلَّبها أَمام عَيْنيه وهو يسألها بِصَمت.. كيف استطعتِ أن تُمسكين بالقَلَمِ الذي خَطَّ عُمْرًا جَديدًا لذاتي؟ كَيــف! أَنفاسه اسْتَعَرت في صدره الذي أَخذ يَرتفع وينخفض برتْمٍ عشوائي.. مَرَّرَ أَصابعه بَين خصلاته وشَفتيه تُواجِهان صعوبة للانسجام مع ابْتسامة السَّعادة التي تَمَلَّكته.. أَفْرَغَ آه بطول ليالي الأسى التي فَرَّقتهما.. أْخْفَضَ يَده إلى صَدره.. مَسحَ فَوْقَ قلبه وهُو يُناديه.. أَي قلب.. أَحَييت من جَديد؟ هل بُثَّت فيكَ النَّبضات؟ هل تَصالحتَ مع الدَماء التي هَجَرتك؟ ابْتَسَم بزَهْو ورَفْرفة الفؤاد كانت أَبْلَغ جواب.. عادت إليك.. عادت الجِنان إلى أَرْضها.. غزالك الشارد عادَ لِمَوطنه.. ها قَد حان مَوسم قِطاف التوت بعدَ قَحطٍ أَضنى ذاتك وأَضْنى أُنثى عُمْرك. انتبه وهو في غُمرة نَشوته للوَجه الذي يُطالعه.. رَكَّزَ فيه.. إنها ياسمين.. هي تُحادثه.. نَظَرَ لِشَفتيها يُحاول أن يُتَرجم ما تقول.. فحواسه قَد شَكَّلت حَولَ نفسها حاجِزًا لا تَخترقه سِوى تلك الجِنان. تَغَضَّنت ملامحه من الوَخزة البسيطة التي باغتته.. هي مَسّت جَبينه.. يبدو أَنَّها تُحادثه عن جِرحه.. نَظَرَ لِعَينيها.. الاهتمام يُخامره اسْتنكارٌ جَلي.. هي بالطّبع تُريد جَواب.. تُريد أن تفهم أَسباب حالته هذه.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه.. رَكَّزَ عَيْنيه في عَيْنيها.. اسْتَنشق نَفس عَميق.. ثُمَّ بلا أي مُقَدّمات أَلقى عليها قُنبلة زَلزلت كَيانها: أنا قبل شوي ملجت على جنان
انتهى
|