كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
ساهِرَةٌ أَمام الذِّكْرى الوَحيدة التي احْتَفَظَ بها الزَّمن.. ذِكْرى مَلْموسة.. بطول سَبْعةَ عَشَر سَنتيميتر.. مَصْنوعة من خَشَبٍ بُنّي داكن.. لها شِراعٌ كانَ أَبْيَضًا قَبْلَ أَكْثَر من ثَلاثينَ سَنة.. واليَوم قَد صَبَغتهُ صُفْرة تَحْكي عن فَقْدٍ أَمْسَت منهُ الرُّوح وَحيدة. بَيْنَ يَديها تَحْملُ القارِبَ الذي أَهداها إيّاه أَخاها.. طَلال الصَّغير.. الشيء الوَحيد الذي انتقَلَ معها من شِقّتها السابقة.. حتى هذه اللحظة تَتَذَكَّر آخر لِقاء جَمعها به.. وبوالدتهما.. تَتَذَكَّر طُوله الذي فاقها على الرَّغم من أَنَّها تَكْبَرهُ بِعامَيْن.. تَتَذَكَّرَ صَوْته الطفولي.. كلماته البَريئة.. وعَيْناه المُلَوَّنتان.. مِثْلَ عَيْنَي ذاكَ الطَّلال.. صَديقُ البَحْر. تَنَهَّدَت بِثِقِل ورَأسها يَميل باسْتنادٍ للأريكة.. الاسم ذاته.. والعَيْنُ ذاتها.. خَضراء تًخالطها رَماديّة باهِتة.. وكذلك.. الحَبيبُ ذاته.. البَحْر. أَيُعْقَل.. أَيُعْقَل أَنَّهما الشَّخص ذاته.. أَيُعْقَل! قَضَت الشَّهرين الماضِيين مَشْغولة الفِكْر.. تَغرس الأسْئِلة في عَقلها دُون أن تَمنحها جَواب.. فَتَظَل عالِقة في رَأسها مُسَبِّبَةً أَلَمًا وكَوابيس لا تنفك أن تُعَكِّر نَوْمها وصَحْوها.. لَم تَجْرؤ على سؤال رائِد.. هي أَساسًا لا تَستطيع أن تَسأله لِعَدم مَقدرتها على رؤيته أو مُحادثته.. وكذلك لأنّها خائفة.. خائفة من أن تُصَم مَسامعها من صَوْت ارْتطام أَحلامها بأرض الواقع، بَعيدًا عن خيالها الخارق. تَأفَّفت وهي تَترك القارب في حِضْنها ومن ثُمَّ تَعْقِد ذراعيها على صَدْرها، وعَيْناها تَغيبان في رِحْلة أَفْكار جَديدة.. هي رُبَّما تَساءَلت لِمَرَّتين أو ثلاث عن أخيها طوال حياتها.. تَساءَلت في داخلها بالطَّبع.. لكنّها لَم تُفَكِّر في البَحْث عنه.. بَل لَم تُفَكِّر بحاله الآن.. كَيف كانت الدُّنيا معه؟ هل رَحمته أم أَنَّهُ أذاقته بَعضًا من سُمومها؟ ماذا يَعْمل وفي أين؟ مُتزوج أم أعزب يهرب من الالتزام؟ هُو هُنا أم بَين أمواج بَحْرِ بَلْدةٍ أُخرى؟ بصحّة جَيّدة أم أَنَّ المَرض نالَ منه؟ والأَهم من ذلك.. هَل رُوحه بَقت سَليمة لَم تَشبها شائبة ولَم يَعْبَث في تَكوينها الزَّمن؟ غادرَت رُوحها آه تَحِنُّ كَطَيْرٍ مَكْسور اشْتاق أَن يُحَلِّق للغصنِ وَعُشِّه.. فَقَدت العائِلة مُنذُ سَنوات.. ظَنَّت أَنَّها سَتأَلف هذا الفَقد.. سَيلتئِم الجرح مع مُرور الزَّمن.. فأنت لَو فُتِحَ جِرْح في يَدك أو وَجْهك او حتى رأسك.. سيؤلمك في البداية ولكنّكَ سَتألف الألم بعد فترة.. بَل وسَتنساه.. لكن أَلَمُ الفَقْدِ لا يُنْسى.. حتى لَو تَظاهرت بنسيانه طَوالَ ساعات يومك.. فإنّك في تلك اللحظة التي يَرتاح فيها رَأسك فَوْقَ وسادته.. عندما يَصْبح العالمُ أَبْكَم.. وتَرْتَدي السَّماءَ ثَوْبَ الليْل ويُبْصِر القَمَر؛ سَتنامُ كُل العُيون وسَيَصْحو جِرْح فَقدك ويَسْهَر. حينها سَتَتأَلَّم.. سَتصرخ بِصَمت وسَتَضج دُموعك فَوْقَ خَدَّيْك.. سَتَحن وتَشْتاق ولكنّ الواقع سَيصْدمك بدارٍ تَخْلو من أَحِبّاء.. بَعضهم صافَحهم المَوت.. وبَعضهم صَفعتهم الدّنيا بغيابٍ تَجْهَل الرُّوح ساعة انْقضائه. أَخْفضَت بَصرها للقارب.. مَرَّرَت أصابعها عَليه.. لاحَ لها وَجْهان.. وَجْهُ طَلال الصَّغير.. وَوَجْه طَلال الكَبير.. هَمَسَت وهي تَعلق من جَديد بَين الاثْنَين: معقولة إنت طَلال يا طَلال؟
,،
اسْتَيَقَظَت صَباحًا بَعْد مُعاناةٍ مع النَّوْم.. طَوال ساعات الفَجْر كانت تَتَقَلَّب على.. لَن نَقول جَمْر.. سنقول بِتلَّات التَّرَقُب.. فالذي شَغَلَ فِكْرها وطَرَدَ النُّعاس من عَيْنيها لا يَمكن إلا أن يَكون شَيئًا كالوَرد أو المَطر أو أي شيء آخر يَغمر الرُّوح ويَمنحها رَعْشة حَماسٍ لَذيذة. تَرَكَت السَّرير بحذر حتى لا تُزْعِج نَوْم زَوْجها الذي ضاقَ كَثيرًا من تَحُرّكها أثناء نومه.. فهي أقلقته حتى ظَنَّ بأنَّها تَتوَجَّع من شيء.. لولا ضِحكتها العالية التي فَلَتت منها من الموقف الغَبي بنظرها.. لحَملها للمُستشفى لِيَطمئن.. لكنّها أقنعته أخيرًا أنَّ النّوم غابَ عنها لذلك هي مُسْتيقظة تَبحث عنه من بين تقَلُّباتها. دَلَفت لدورة المياه.. أَبْعَدَت خصلاتها عن وَجْهها ثُمَّ غَسَلت يَديها.. زَفَرَت وبَصَرُها مُعَلَّق بالعلبة المَرْكونة على أَحَدِ الأرْفَف.. تناولتها بارْتجافٍ قَد نالَ من جَسدها.. ازْدَردت ريقها وهي تَسْتخرج ما بداخلها.. طَبَّقت الخطوات التي حَفِظتها خلال الأشهر الماضية ثُمَّ وَضَعت الجهاز على سَطْح المَغْسلة مُنْتَظِرَةً النَّتيجة بنَبْضٍ مَجْنون.. مُنذ أَكثر من أُسْبوع راودها الشَّك.. حاولت أن تَتجاهل الأَمر وألا تستعجل مثل كُل مرة ثُمَّ تنصدم بسلبية النتيجة.. لكن الإشارات أَبَت أن تجعلها تَصْمد أكثر.. لذلك قَصَدت الصَّيدلية البارحة لتشتري جهاز جديد.. وها هي الآن تَعد الثواني انتظارًا للنتيجة. انتهى الوَقت.. نَظَرت لوجْهها في المرآة.. ابْتَسمت برعشة وهي تَرى مَلامحها المَشْدودة.. أَغْمَضت وصَدْرُها يَرْتفع بشهيقٍ هادئ.. ثُمَّ يَنخفض بِزَفيرٍ ساخِن أَفْرَغت مَعهُ مَسامَات جَسَدها بِضعُ عَرَق.. فَتَحت عَيْنيها وهَي تَشْبك أَصابعها عند ذِقْنها.. انْحَنَت بخفّة وقلْبها كأَنَّه سيطفر من حَلْقها.. ثوانٍ وارْتَخَى جَسَدها كما لَو أَنَّ كُل التَّوتر المُتَكَدِّس داخلها قَد ذاب وتَحَلَّل.. اسْتقامت في وقوفها وهي تَشْعر برُوحها خَفيفة، كَحَمامة تَرسم سَعادتها على ثَوْب السَّماء.. هَمَسَت وبُكاء الفَرَح يُشاكِس عَينيها وصَوْتها: الحمد لله.. الحمد لله رَب العالمين
تَركت دَورة المياه بَعد أن طَهَّرت يَديها جَيِّدًا.. ابْتسامة واسِعة شَمَلت الفَرح والحُب والحَنان لاطَفَت شَفتيها عندما وَقَعَ بَصَرُها عليه.. تَقَدَّمَت إليه حتى جَلَسَت على السَّرير بِجانبه.. تَأَمَّلت مَلامحه الحَبيبة وهي مُسْتَغِرقة في النّوم.. نَظَرَت للساعة.. السابعة والنصف.. ضَحَكَت في سِرّها.. سَيَغضب كَثيرًا إذ هي أَيْقَظته.. لكنّها لا تستطيع الانتظار حتى يَسْتيقظ.. البهجة التي داخلها لا تَسعها.. تُريد أن تَبث إليه بَعضًا منها.. وهي واثقة أَنَّهُ سَيغفر لها إزعاجها إذ هي بَشَّرته.. لذلك تَحَرَّكت يَدها دُون تَرَدّد إلى شعره، داعبت خصلاته بأناملها وهي تَنحني إليه.. قَبَّلَت صِدْغه بخفّة ثُمَّ هَمَسَت: حَبيبي "مَرَّرت أصابعها بين خصلاته وهي تُناديه برقّة" طَـلال.. حَبيبي قوم
اتَّسَعت ابْتسامتها وهي تَرى كَيف عَقَد حاجِبَيه بضيق.. قَبَّلت العُقْدة ثُمَّ مَسَحت فَوْقها بإبهامها وهي لا زالت تُناديه: طلال عاد قوم.. يله حَبيبي
تَأفف وهو يَتَحَرَّك وعلامات الغَضَب تَتَضّح على ملامحه.. فَتَحَ عَيْنيه بصعوبة.. نَظَر للنافَذة بجفْنَيْن ضائَقَين قَبْلَ أن يَتناول هاتفه ليَستعلم الوقت.. أَلْقاه وهو ينظر لها وبقهر نَطَقَ من بَيْن أَسْنانه: نــور حتى ثمان ما صارت.. ليش مقعدتني!
هَمَسَت: أبي أَقول لك شي
اسْتدار عنها يَمينًا وبرجاء: واللي يرحم والديش أجلي اللي تبين تقولينه وخليني أنام.. اليوم اجازتي.. أبي أرتاح شوي
ضَرَبت كتفه وهي تقول بلحن زَعَل: يا الله طَلال.. تمووت في النّوم.. يعني بعدين إذا أنا اضطريت أداوم أيام الإجازات من بيقابل البيبي؟ يعني بتتركه وبتنام؟
هَمَسَ بثقل: يصير خير.. بعدين.. إذا صار عندنا بيبي
زَمَّت شَفتيها وذراعاها تنعقدان على صَدْرها بملل من هذا الرَّجُل الكَسول.. ارْتَفَعَ حاجِبَها عندما اسْتدار إليها ببطء والعُقْدة لَم تُفارق حاجِبَيه.. وكأنَّه يُحاول أن يستوعب.. هَمَسَ: جَذَّابة
اسْتَقَرَّت يَدها على خصرها: يعني بخرّب نومتك عشان جذبة!
طَلَبَ كَطِفْلٍ يَخْشى أن ينتشي بفرحه فَتصفعه يَدُ كَذِب لا تهدي الحلوى: قولي والله
ضَحَكَت: والله طَلال.. والله.. أنا حــامل
الْتَقَط نَفَس عَميـــق.. كان بِعُمق المَسافة التي تَسَلَّقها طَوال عُمْره حتى مَسَّت ذاته عَنان السَّماء.. اسْتَلقى على ظَهره وهو يُغَطّي وَجْهه بكَفَّيه الرَّاجفين وهَمسه المأهول بالمشاعر يَلِجُ إلى قلبها: يا الله.... يا الله.. الحمد لله.. الحمد لله يا رب
أَبْعَدَ عنهُ الغِطاء ثُمَّ جَلَسَ ليزحف إليها برُكْبتيه ونَظره مُسْتَقِرًّا على مَوْضع واحد لا غير.. قَرَّبَ يَديه من بَطْنها.. مَسَّه بِحَذَر وهي تُراقب حَركاته التي بَعثرت نَبْضها وأَرْبَكَت أَنْفاسها.. ضَغَطَ عَليْه بِحُنوٍ أَخَّاذ اقْشَعرت منهُ حواسها.. وكأنَّما يَسْتَشعر بخطوط كَفِّيه الرُّوح التي أَحْياها الله من صُلْبه داخلها.. رَفعَ عَينيه إليها.. أَرْخى عَطْفٌ أُنثوي مَلامحها عندما لاحَ لها الدَّمع وهو تائه بَين أَجْفانه.. احْتَضَنت خَدّه بيدٍ والأخرى اسْتراحت فوق كَفَّيه وهي تَهمس بِمَلق: حَبيـبي
هَمَسَ والدّمعُ قَد كَوَّن غِشاءً ضبابيًّا فَوْق اخْضرار عَدَستيه: يعني اللحين.. داخلش.. اهني.. في بطنش.. نتفة مثلش؟
ضَحَكَت وهي تُجيبه ببحَّة: ايــه بعد عمري.. داخلي نتفة ينتظر يطلع للدنيا.. عشان يقول لك بابا
تَساءَلَ بتَرَدُّد: تحسّين... أصلح أكون... أبو؟
شَدَّت عَلى يَديه وبِثقة أَجابته: صَدّقني.. بتكون أَحَنْ أبو في الدّنيا
,،
لا زال وَفِيًّا لِعادته.. يَقِف عِنْد نافِذة مَكتب زَميله لِيُراقبها بتأَمّلٍ يَسأل رُوحه أَثْنائه: لماذا هي؟ لِمَ جَذَبَتهُ عَيْناها في ثوانٍ أَصْبَحتْ عُمْرًا داخله يَنتظر أن يُبْدَأ بها؟ هُو لَم يَلْتَفِت لامْرأة قَط.. رُبما وَجَّهَ نَظْرة أولى لِتلك وتلك.. ولكنّهُ لَم يُسْهِب في التَّعلق بامْرأة بهذا الشَّكل من قَبْل.. هي الوَحيدة التي اسْتطاعت أَن تَجُرّه لِمُعْتَرك أُنوثتها.. لا يدري ما الذي يُقَيِّدهُ بها أَكثر.. عَيْناها.. ابْتسامتها.. أَم أُمومتها؟ لا يدري.. وهذا الجَهْل الذي يُغْشي عَقله تجاهها أَفْضَل ما حَصَل له.. فهو يَجْعلهُ مَهْووسًا بها أَكثر.. مَهْووسًا بالغَرق فيها لاكتشافها.. بالتَّقرب منها.. بالتَّفكير بها وهو ساهِرٌ على جِنْح الليْل.. وبالقِتال من أَجْلِ الظَّفر بها. هُو لَم يَتَقَدَّم لِخطبتها بسهولة.. فلقد احْتاج لأسابيع لإقناع والدته التي كانت رافِضة بِشِدّة.. فكيف لابْنها الشَّاب النّاجح والذي لَم يَسْتهلك ولا نِصْف صَفْحة من كِتاب الحياة الزَّوجية أن يَرْتبط بِمُطَلَّقة! هُو كان رَجُلاً واعيًا.. مُتَفِهِّم وذا فِكْر راقي.. ما الضَّيْر من أن يَتزوج من امْرأة سَبَقَ لها الزَّواج؟ وما الضَّيْر من أن تَتَزوج الفَتاة من رَجُل سَبَق لهُ الزَّواج؟ ليس في ذلك إنقاص لكلا الطَّرفين.. ما دام الاثنان مُتفاهِمَان ومُقْتَنِعان بأحدهما الآخر والوِد يَجْمعهما فهَنيئًا لهما. ابْتسامة يَغْمرها الحُبور بانَت على شَفَتيه عندما لاحَ لهُ وَجْهها.. هل سيُقال لنا هِنيئًا لكما جِنان؟ هذه المَرَّة لَم يُغادر المَكتب.. بِقِيَ في مكانه.. بالطَّبع تَمَّ إخبارها بالخِطْبة.. فلا يُريد أن يُسَبِّب لها حَرَج أو ارْتباك.. على الرَّغم من أَنَّهُ مُتَشَوِّق لاسْتقبال رَدَّة فِعلها.. يُريد أَن يَسْتَشِف من عَينيها جَوابها الحَقيقي.. نَعم الحَقيقي.. فَقد يَنْطق لِسانها بِما يُناقض رَغْبَتها.. وَعْيناها سَتكونان الخَيْط الفاصِل بَين الرَّغْبةِ ونَقيضها. غادَرَت عَيْناه مَلامحها لِوَجْه ذاك الذي يَمْشي بخيلاء على يَمينها.. لا يَنْكر أَنَّ تَرَدُّدًا ناتِج من شَخصية هذا الرَّجُل عَرْقَله في البداية قَبْل أَن يُفاتح والدته في المَوْضوع.. غُروه المُغْرِق ملامحه.. عَيْناه المُدَجَّجَتان بالحِدّة والسُّخرية في آن واحد.. كلماته التي صَدَمهُ بها في أوَّل وآخر تَصادم بَينهما.. والأهم من ذلك.. نَظراته التي تُحَلِّق برتمٍ خاص بها.. خاص بجِنان.. لِوَهْلة ظَنَّ أَنَّهُ لا زال يُحِبّها.. وإلى الآن لَم يُصافح الظَّن اليَقين ولَم يُلْغِه الإنكار.. فهو كما تَبَيَّن له مُتَزَوِّج.. معلوماته الشخصية في الأوراق الرّسمية الخاصة بِجَنى، وكذلك خاتم الزّواج المُحيط ببنصر يُسْراه يؤكّدان على ذلك.. لكن القوافل التي تَهْتدي من عَيْنيه لِجنان تَدحض كُل الحَقائق.. وكأنَّه مُرْتَبِط بأخرى بالاسم فقط.. أَمَّا واقعًا فهو مُقَيَّد بِجنان بكُل حواسه. هُو يَتمنى.. يَتمنى أَن ظُنونه كُلها واهِية.. يَتمنى.
,،
يُراقبها بِصَمْتٍ تَقَلَّدَ به مُنذ ساعات الصَّباح.. فَهو قَبْلَ أن يَخْرج لِعَمله لاحَظَ شُرود عَيْنيها وهُما يَجْلسان على الفَطور.. قِطعة الخُبز لَم تُفارق يَدها ولَم تَعْبِر فَمَها.. ظَلَّت مَسْجونة بَيْن أَصابعها تَنتظر الفَرَج.. إما عَن طَريق مَضَغة.. أو عن طَريق إطلاق سَراحها لتعود إلى سَلَّة الخُبز المَرْكونة جانبًا. لَم يَكُن الوَقت مُناسِبًا للحَديث لذلك لَم يَسْألها عن شَيء.. وبَعد الغداء اسْتَأذنت منه لِزيارة والدتها.. وها هي الآن بَعد عَوْدتها مَشْغولة الفِكْر والبال. اَخْفَضَ الكتاب الذي يَقْرأه على فَخْذيه دون أن تَتركه يَده.. اسْتَفْسَر بِنَبرة هادئة: حُور فيش شي؟
لَم تُجِبه.. صَوته من الأَساس لَم يَنفذ إليها.. وكأنَّ فقاعة مأهولة بالأفكار تُحيط بحواسها.. تَرَكَ الكتاب جانِبًا وزَحَفَ قَليلاً حتى اقَتَرَبَ منها.. أَزاحَ خصلتها عن وَجْهها وهُو يُناديها: حُــور "رَمَشَت لِمَرَّتَيْن مُتَتاليَتَيْن ثُمَّ اسْتدارت إليه.. أعادَ سؤاله وهو يُعَلِّق عَيْنَيه بِعَيْنيها" فيش شي؟
أَرْخَت بَصرها هامِسةً بصوتٍ خَفيض: لا.. بس....
باهْتمام: شنــو؟ قولي لي
بَلَّلَت شَفَتيها ثُمَّ رَفعت رأسها تنظر إليه وفي مُقْلَتيها لَمَعت دَمْعة حائِرة: أحــاتي أمــي.. الفترة الأخيرة صايرة واجد تتعب.. وبروحها في البيت.. أبوي وقته كله للشغل.. ونادرًا أصلاً يبيّت في البيت.. وهي تظل بروحها.. محّد وياها غير الخّدامات
قالَ ببساطة: خلها تجي اهني.. بيتها هذا
عَقَّبَت بإحباط: قلت لها.. بس ما رضت.. تقول ما تعرف تترك أبوي والبيت.. وإن عيب
هَزَّ رَأسه بتفهّم: حجيها صح بعد
سَألت بقلِّة حيلة: زين شسوي؟
أَجاب: خلها على راحتها.. كلامها صَح.. ما يصير تترك بيتها وزوجها حتى لو لبيت بنتها
بتَرَدّد وغَصَّةٌ عَجوز ما هي إلا تَراكماتٍ لسَنواتٍ خَلَت تَحَجَّرَت في حلقها؛ وهي تقول: بــس.. يوسف.. أبوي وأمي.. يعني أقصد.. علاقتهم.. من زمان.. من يوم كنت صغيرة.. هُم مو أوكـي
عُقْدة خَفيفة بَيْنَ حاجِبَيه: ما فهمت.. شفيهم يعني؟
مَسَّت أَنفها بظاهر سَبّابتها وهي تُشيح عنه لِتُكْمِل بكلماتٍ مُنتقاة بعناية: أبوي شوي عَصبي.. يعني بعض الأحيان ما يحاسب لتصرفاته وكلامه.. وأمي مريضة.. أخاف يعني يقول كلمة وتتضايق ويصـ
قاطعها: حُور ليش هالوسواس! أمش عايشة عمر مع أبوش.. يعني خلاص حفظته وحفظت أطابعه.. وتعودوا على بعض.. وقت عصبيته ما بتاخذ كلامه على محمل الجَد.. بتعذره
حَرّكت رأسها وضيقٌ عارِم يَحشو مَلامحها ونَظَراتها: مــو جــذي يوسف.. أَقصد يعني "أَغمضت بتَشَتّت" ما بتفهم ما بتفهم
اقْتَرَبَ منها أَكثر ويَدهُ بمُسانَدة حَنونة احْتَضَنَت كَفّيها، وبهمسٍ مُشَجِّع: قولي لي.. يمكن أفهم
أَطْبَقَت شَفَتيها لثواني وجِرْحها المَخْفي مَشْدوه للاحْتواء الذي انْبَجَس من مُقْلَتيه.. ازْدَرَدَت ريقها وعلى باب عَيْنها اليُسْرى هَتَفَت دَمْعة حَنَّطتها الطفولة في كَهْف الوِحْدة.. هَمَسَت بحشرجة: أبوي قاســ ـي يوسف.. للحين إذا أَحط راسي على المخدة أَدوّر النوم.. أول شي يزروني الماضي.. طفولتي وضعف أمي وقسوة أبوي
عَقَّب باسْتنكارٍ كَبير: عمّـي سلطــان!
حَرَّكَت كَتفها وابْتسامة أَسى تَنوح فَوْق شَفتيها: ايــه.. أبوي سلطان "أَفْصَحَت" تدري إنّي من زمــاان مستغربة معاملته معاكم؟ حنيته وخوفه وحرصه واهتمامه الغريـب
وَضَّحَ: عَشان أبوي الله يرحمه.. كان صَديق عمره
أَفْرَغت تَنهيدة مُرْتَعِشة ولسانها يُوَجِّه وَعي يوسف لمنطقة حُظِرَت عليه قسْرًا: ما أعتقد القسوة اللي في قلب أبوي ممكن إنها تتنازل وتحِن مهما كان السبب.. ما أعتقد
,،
أَحاطت رِسْغها بساعة فضية اللون تَتناسق مع لون ثَوْبها الرَّقيق.. تناولت زجاجة العِطْر الخاصَّة بالمُناسَبات لِتَتمازج رائحته القَويّة برائحتها الطَّبيعية.. رَتَّبَت خصلاتها على كَتفيها وعند جَبينها وهي تَتَفَحَّص زِينة وَجْهها.. لَمسات بَسيطة وناعِمة تُبرِز مَلامحها دُون أَن تُغَيِّرها أو تُبَشّعها.. ابْتَسَمت برِضا عن نَفْسها.. زينة أُنثوية بلا مُبالغة. تَرَكَت غرفتها بَعد أَن ارْتَدَت حذاء بكعبٍ قَصير.. تَوَقَّفَت بالقُرب من غُرفة مُحَمَّد ذات الباب المُوارب.. طَلَّت وهي تَشعر بِحَركة في الدَّاخل.. إذن عاد. تحركت لها.. طَرَقَت الباب وهي تَراه مُنشغلاً بإغلاق أزْرار قَميصه الأَبيض.. ابْتَسَمت عندما حَرَّكَ بَصره إليها وهي تقول دُون أن تَنتبه لتغَيّر مَلامحه: تأخرت.. توقعتك تروح العرس من المكان اللي إنت فيه وما ترجع الشقة
تَنَحْنحَ وهو يُجاهِد لِتَبديل مَسار عَيْنيه بَعيدًا عنها.. فَنَهْرُها الزَّهري ها هُو يُبَلِّله.. وإن اسْتَمَرَّ مُسْتَسْلِمًا لإسهاب نَظَراته سَيُغْرقه حَتمًا.. تَقَدَّمت منه وتَمَوّجات شَعرها تَتراقص على كَتفيها، وجَسدها الفاتن يَميل بعفوية على نَغْم مَشيها الهادئ. وضَّحَ وهي تقف أَمامه على بُعْد مَسافة بَسيطة: كنت في الكراج أَصلاً.. وأكيد كنت برجع عشان أسبح وألبس ملابسي.
حَرَّكت رأسها بتفهّم: أووكــي.. ما كنت أدري إنّك في الكراج "لاحقَ عَيْنيها وهُما تَمُرّان عليه من رَأسه حتى أَخْمصِ قَدميه قَبْلَ أن تُعَلِّق" حلو القَميص الأَبيض "رَفَعت عَيْنيها إليه مُضيفةً بابْتسامتها المائلة" تصدق.. ما أذكر إنّي شفت عليك الأبيض من قبل
يَدهُ التي جَمَّدَ دُخولها العَذب حَرَكَتها عند أحد الأزْرار اسْتأنَفت عَملها أخيرًا وهو يُعَقِّب بنصف ابْتسامة: لأني تعوّدت على الألوان القاتمة
ارْتَفَعَ حاجِبها وابْتسامتها تَتسّع مُسْتَفْسِرة: يعني اختيارك للون الأبيض يُعْتَبَر خطوة منك لمخالفة المُعتاد الكَئيب؟
أَنْكَرَ بعفوية وهو يلتقط رَبطة العُنق الأرجوانية: لا.. لأن أنسب ويا النيك تاي
ضَحَكت وهي تُسْنِد جذعها لطرف التَسريحة ثُمَّ تَساءلت: يعني ما في أَمل تتمرَّد على الكآبة ولو من جانب بسيط؟
وَهو يُوَجّه نَظَراته للمرآة هارِبًا من فَيْض عَينيها الوامِض فيه اهْتمام: ما أحس الكآبة لها دخل في موضوع اللبس.. أحب الأسود والألوان الغامقة
وَضَّحت وجهة نظرها: الأسود لون حلو وفخم.. أعتقد أغلب الناس يعشقونه.. بس بعد حلو إن الواحد يلبس ألوان مُريحة للعَين وفيها حيوية.. حتى النّفسية تتبدّل
ابْتَسَمَ مُعَلِّقًا: إذا جذي.. يعني أحتاج أتخلص من كل مَلابسي
ضَحَكَت بخفّة: لا ما يحتاج تتخلص منهم.. بس ضيف عليهم ألوان جَديدة "غَمَزت له" وإذا تبي مُساعدة أنا جاهزة أخوي العَزيز
انتقلت عَدستاه إليها بِحَركة سَريعة بَعد أن نَطَقت بآخر كَلِمَتَيْن.. نَظَرَ لها مُطَوَّلاً وفي حَنجرته تَزاحمت كلمات تَعْترض وأخرى تَسْتجدي.. لا.. أنا لستُ بأخيك.. لَم ولن أكن.. فالمَشاعر والرَّغبات المُضِجّة داخلي يُسْتحال أَن تَتَّصِف بالأخوَّة.. فَأنا الآن في هذه اللحظة وأنتِ أَمامي نَهْرٌ عَصي؛ أحاول أَن أسْتَشعر إحساسي وأَنفي يَرْتَشِف رائحتكِ عن قُرب، هُناك عند السَّفحِ الطَّويل لِعُنُقِكِ الصافي.. أُتساءَل أَمِنَ المُمكن أَن تُصَيَّر هذه الخصلات المُلتوية بنعومة غِطاءً يَسْتَريحُ على صَدري؟ وكَم أَحْسد هذا الزَّهْر الذائب على شَفَتيكِ مِثْلَ قَطْرة نَدى تَغْفو على بِتِلّة.. أَنا مَفتونٌ بكِ.. مَسْحور.. مأخوذ.. تائقٌ ومُتَلَهِّف.. أنا باختصار مسكين.. مسكينٌ للتو يَتَعَرَّفُ على الحَياة بوجهها المُسالِم.. بوجهها الباذِخ النّعومة.. بوجهها الغافي بَين طَيَّاته حَنانٌ شَهي.. كيف سَأصبر وأنا المَحْروم.. بل إلى متى سَأصبر؟ لَكِن كَعادته.. تَوَشَّحَ بالصَّمْت وتَرَك كَلماته تَغص في حَلْقه.. مَرَّرَ لِسانه على شَفَتيه قَبْلَ أن يُجيب بخفوت وهُو يُبْعِد عَيْناه قِسْرًا عنها إلى المرآة: أوكـي
اسْتَنكَرَت بانْتباه لِحَرَكة يَديه العَبَثية: محمد شفيك؟ صار لك ساعة تربط النيك تاي! "وقَبْلَ أن يُعَقِّب اعْتَدلَت في وُقوفها ثُمَّ اقْتَرَبت منهُ أكثر وأبعدت يَديه برِقّة عن رَبطة العُنق وهي تُرْدِف" خلني أَنا بربطها لك
باغتَتهُ رعْشَة عندما مَسَّت أطراف يَديها أعلى صَدره.. هذه المَرَّة بَدلاً من أن يَحْبس كلماته اضطَّرَ لِحَبس أَنفاسه.. فهو عانى لِيُبْقيها داخله بجُنونها واضطرابها.. وحتى يَمْنع لقاءها مع رائحتها التي أَصْبَحَت أَقْرَب بشكلٍ مُوْجِع.. هُو يحاول أن يَبتعد عنها.. لكنّهُ في النهاية يَجد نَفسه يَهْتَدي إليها.. وكأنّ هذه الأُنثى الواقِف رأسها عند حُدود كَتفه تَمتلك قُوة جَذب قادرة على هَزْم فُتات رُجولته.. أَخْفَضَ بَصره.. أَهداب طَويلة تَرمش بهدوء سامحةً لِلعَيْنَيْن بالتَّركيز.. أَنفٌ يَفْصِل بَين وَجْنَتين مَصْقولتَيْن.. وَشَفتــ.. اَغْمَضَ للحظة وهو يُشيح عن هذا المَوْضع الخَطِر.. اصْطَدَمت عَيْناه بكتفها.. شامة صَغيرة ولكن واضِحة اتَّكأت كَنَجمة ما بين عظمة التَّرقوة والكَتِف.. هَرَب من هُناك أيضًا ولكنّهُ كُلَّما ظَنَّ أَنَّهُ يَنجو بنفسه بعيدًا عنها.. كُلَّما يَغرق فيها أَكثر وأَكثر.. فَقَد تَعَلَّقت عَدستاه بالعقد الألماسي النّاعم جدًا المُتَدَلّي على نَحْرها.. ازْدَرَد ريقه وبصعوبة كَسَر نَظرته وأَجْبرها على الالتصاق بالسَّقف إلى حين الفَرَج. ابْتَسَمت برضا ويَداها تَبتعدان لِتَرحمان احْتياج صَدره: خلّصــت
هَبَطَت عَيْناه في الوقت الذي ارْتَفَعت فيه عَيْنيها فَصارَ اللقاء.. ثواني بَطيئة أَتْخمها الصَّمت تلك التي مَرَّت والعَيْن تَقرأ العَيْن.. تَقَلَّصَت ابْتسامتها شَيئًا فَشيء وهي تُبْصِر حَديثًا مَكتومًا وحائِرًا وَسط مُقْلَتيه.. فَتَحَت فَمها لِتَسْتَفسر لكنّهُ تَراجعَ للخَلف لِيَقول دون أن ينظر لها: شُكرًا " تناول معطف البَذلة الأَسود وهو يستطرد" روحي البسي عبايتش عشان نمشي
تابعتهُ وأناملها تَعْبَث بساعتها بشرود وبِضع ارْتباك.. لَقد شَعَرت.. لَقَد شَعرت عندما التقت عَيْناهما بلحظة غريبة.. لحظة مُختلفة.. ذلك القُرب.. ونظراته المأهولة بالكلمات.. ملامحه الرّجولية.. زينتها وأَناقته.. هو زوجها.. أو مثلما اتَّفقا.. أخوهــ
ناداها: ملاك
رَمَشَت بانتباه وهي تُحَرِّك رأسها هامِسةً: إن شاء الله
تَرَكت الغُرفة وهي لا زالت تَعبث بالسّاعة وتُعيد ترجمة الموقف.. تَوَقَّفَت في طَريقها.. تَساءلت داخلها.. هل تمادت؟ هي تَصَرَّفت بعفوية بناءً على الاتّفاق.. كما تتصرف مع أخيها.. لكن رُبَّما هو لا يرتاح لهذا القُرب.. أو أَنَّ القُرب كان غير أخوي.. فالذي قَرأته في عَيْنيه للحظة أَيقَظها.. كانت تُريد أن تسأله ما بك.. لكنّه لَم يَسْمح لها وابْتعد.. بل وأمرها بالذّهاب لغرفتها مُتَحَجِّجًا بالعباءة.. وإنّما هُو حَقيقةً ضائقٌ منها.. أهذا صَحيح؟ أَم أنّه.. رُبّما شَعَرَ.. بشيء.. مثلا! ازْدَرَدت ريقها وهي تَتَذَكَّر المسافة البسيطة جدًّا التي كانت تفصلهما.. هي حتى لاحظت بِضع خصلات شائبة في لحيته.. وو.. وعيناه.. أكانت عَيناه جَذَّابتان هكذا من قَبْل؟ أم أنَّ سُرعة الثَّواني مَنحتهما سِحْرًا خاصًّا؟ لحظة مَلاك.. هَزَّت رأسها وكأنَّها تُأنِّب أَفكارها.. رُبَّما فعلاً هي تَمادت.. يَجب أن تَحتاط في المرة القادمة.. فهو قَد يَضيق منها.. وهي.. قَد تَنجرف بِغَفْلة لِمُنْحَدَرٍ مَمنوعٍ. تَحرَّكت بعد أن عَزَمت داخلها أَن تَحْذَر من تَجاوز أيّ خَطٍّ أحمر، سواء بأفعالها أو حتى أفكارها.
,،
: يصير أخطبش لولدي ولاّ محجوزة لأحدهم؟
اسْتَدارت سَريعًا لِتقابلها نَدى بابْتسامة وغَمْزة.. هَمَسَت بتَنْبيه عندما جَلَسَت بجانبها: أُششش.. لا يسمعش أحد ويشك
أَفْصَحَت وهي تُناظرها بإعجابٍ نَطَقَت بهِ عَيْناها قَبْل لِسانها: جِنانو طالعة قَمـــر! الأحمر من بعيــد ينادي ويقول تأملوا هالقَمر "قَبَّلَت خَدَّيها" ما شاء الله، الله يحفظش أم جَنــى
رَنَت لها بطرف عَيْنها مُعَلِّقةً على آخر كَلمة: يعني لازم تخربينها؟
ضَحَكَت مُسْتوعبة: والله مو قصدي.. تعوّد لساني على أم جنى.. ما قصدت "وهي تُكْمِل بهمسٍ تَفوح منهُ الخَباثة" أستاذ نـــادر
بحدّة: جَــب
بمُتْعة وهي تَضحك: تصيرين أحــلى وإنت متنرفزة
تَجاهلت مُشاكستها وتَقَدَّمت من الطَّاولة لِتَّتكئ عليها بمرفقها.. اسْتَقَرَّت بذقنها فَوْقَ كَفِّها وأَخَذِت تُطالع القاعة بنظرات مُتَفَحِّصة، وكَأنَّها تَبْحث عن إحْداهن. ظَلَّت تُوَزِّع نَظراتها لبِضع دَقائق قَبْلَ أن تَتَعَثَّر عَيناها بسوادٍ اسْتجابت لهُ نَبضات قَلْبها بغيرة.. رَكَّزَت في زينتها.. فستان أَسْود طَويل ومَنْفوش قَليلاً، فخامة قِماشه يُمكن مُلاحظتها عن بُعْد.. شَعرها بتموّجات فَرنسية تَتدلى على كَتِفَيها وَظهرها.. ماكياج بدرجات الوَردي الناعمة.. وطَقم من الألماس بَريقه يُبْصِر منهُ الأعمى.. لَقَد تَزَيَّنت بدقّة واحتراف.. جَميلة وأَنيقة وَجَذَّابة وناعِمة في وَقتٍ واحد.. هَمَسَت وهي مُسْهِبة في تَفَحِّصها: لابسة أسود
تَساءَلت نَدى والتي لَم تَسْمعها بسبب صَوت الموسيقى: شنو تقولين؟
كَرَّرَت: لابسة أسود.. ياسمين.. لابسة أسود "صَمتت لثواني ثُمَّ أَرْدَفَت بسؤالٍ شَقَّ قَلْبها لِيَخْرج" تتوقعين.. هو مختار لها الفستان؟
أَجابت بهدوء وعيناها تتحرّكان لياسمين التي كانت تُرافق أم فيصل للسَّلام على بعض المعارف: ما أدري.. وما يحتاج إنتِ تَدرين.. وما لنا دخل أصلاً ندري.. زوج وزوجته.. احنا شنو يدخلنا!
نَطَقَت بِصدق: طالعة حلوة
شاركتها: هي حلوة من الأساس.. والواضح إنها تعرف لنفسها صَح
نَطَقَ جِرْحٌ غائر في أُنوثتها: أحلى مني.. مثل ما قال
عَقَدت حاجِبَيها وباسْتنكار: لا مو أحلى منش! ولا إنتِ أحلى منها.. كل وحدة لها جمالها الخاص اللي يميّزها "اسْتَطرَدت باشْمئزاز" وبعدين إنتِ شعليش من فيصلوه؟ ترى ما عنده إلا الحجي يتفنن فيه ويرميه عليش بس عشان يجرحش.. يولــي هو وحجيه الغبي
واصَلت كلامها وكأنَّها لم تَسْمعها: ما سمعت إنها حامل.. صار لهم جم شهر متزوجين وما حَملت
تَأففت: جِنان وبعدين؟ اتركيهم عنش.. والله ما بتستفيدين شي من هالهواجس.. بس بتحرقين نفسش "انتبهت لاقتراب جُود فَحَذَّرتها" أقول سكتي.. جود شكلها جاية لنا.. لا تسمعش
فعلاً كانت جود آتية لهما.. سَلَّمت على نَدى التي باركت لها ثُمَّ اسْتَفسَرت من جِنان: وين بنت أخوي؟
أَجابتَ ببرود وهي تَرجع للخلف لإسناد ظَهرها: مع بيان
تَلَفَّتَتَ: وين راحت معاها؟ أبي أرقص مع بنت أخوي
عَقَدَت ذراعيها على صَدرها وهي تُشير برأسها إلى النَّاحِية الأخرى والسّخرية أَرْخَت جِفْنَيها: هذي هي على الكوجات اللي عند المسرح.. شوفيها.. مكتوب على جبينها بنت فيصل أخو جود
ابْتَسَمت بحاجِب مُرْتفع.. فلقد فَهِمتها.. أَومأت برأسها: شُكرًا بنت عمتي
زَفَرَت وَطَلْعٌ من تَوَتّر بانَ على مَلامحها.. هَمَست بعد ابْتعاد جُود: شكلها تدري بالخطبة.. أكيد علي قال لها
بعدم اهتمام قالت: خل تدري.. شنو بتسوي يعني؟
نَظَرَت لها والضيق يُشاغب أهدابها: شنو بعد يا ندى؟ طَبعًا بتقول لفيصل
جاءَت لتُعَقِّب لكن قاطعها قُدوم مَلاك.. سَلَّمت على الاثنتَيْن ثُمَّ اتَّخَذَت لها مَكانًا على يَمين جِنان التي قالت بإعجاب: إذا أنا قمر.. ملاك شنو يُطلق عليها! شهالجمال تبارك الله
ضَحَكَت بخجل وهي تُرَتِّب خَصلاتها: عــادي جِنان.. إنت اللي ما شاء الله تجننين
نَدى باسْتنكار: كل هذا وعادي! "بِمَكْر وهي تُقَرِّب رأسها منها هامِسة" والله مجنون محمد يوم قَبل يخليش تجين العرس.. كان لازم يخليش له بروحه الليلة
تَلَّقَفَت أَطْراف وَجْهها حُمْرة خَجَل واضِحة من جُملة نَدى ومن ضِحكة جِنان التي أضافت: المسكين أخوي أكيد إنّه اسْتَخف عليها بس ما عرف يعبّر فاستسلم وتركها تجي
تَجَمَّدَت يدها على خصلاتها واتّساعٌ واضِح تَمَكَّنَ من عَيْنيها.. نَظَرت لهما بملامح باهِتة وثَغْرة انْشداه تَتَوَسَّط شَفَتيها.. مَرَّ وَجْهه أَمام ذاكرتها.. هي للتَّو اسْتَطاعت أَن تُتَرْجِم حَديث عَيْنَيه الذي عَجَزَ عنهُ لِسانه الفَقير.. أَيُعْقَل! رَمَشَت بانْتباه لِضحكة جِنان ونَدى.. تَضاعف إحراجها وهي تَعي الحَقيقة المؤلمة واللذيذة في الآن نفسه.. لَقَد أَعْجَبته.. كانت نَظرات إعْجاب تلك التي حاصرها به! لكنّهُ لا يَعرف كَيف يُعَبِّر مثلما قالت جِنان.. لذلك كانت تلك اللحظة غَريبة فيما بَينهما.. مَسَّت وَجْنَتيها وهي تشعر بحرارة تَكسو جلدها.. تَبَسَّمت بخفّة ونوعٌ من الرّضا دَغْدغَ مَشاعرها.. إذن أَعَجبته.. مَلاك أَعْجَبتْ مُحَمّد!
جِنان بمُزاح قالت لها: أقول قومي لبسي بيزفون عبّود واتركي الخَجل لأخووي
,،
إنَّها المَرَّة الأولى التي تُرافقهُ فيها إلى البَحْر كَزَوْجة.. إذن هي المَرَّة الأولى التي يُعَرّف فيها البَحْر عَليها كَزَوجة.. بَعدَ أَن كانت طِفلة صَديقة.. حَبيبة.. وذات مَفقودة. المَجال من حَولهما هادئ.. المَوْجُ لَطيف الحَركة.. والنَّسيمُ تُمازجه بُرودة حَنونة تَنفذ بسلاسة للرُّوح.. تَمس برقّة وَجْهَيهما.. تُداعب خصلات شَعْره.. وتُشاكِس حجابها المُرْتَخي. اسْتَنشَقت نَفَسًا عَميـقًا ثُمَّ هَمَسَت بِعَيْنَين مُغْمَضَتَيْن وهي تَسْتَشعر الرَّاحة العَذْبة التي تَتَغَلْغَل داخلها على هَيئة هَواء: الجَو عَجيــب
هَمَسَ مُراقبًا بحُب السَّلام وهُو يَسترخي بين مَلامحها: ايـه.. يرد الرُّوح
فَتَحَت عَيْنيها ببطء وعلى شَفتيها اتَّكأت ابْتسامة وبتساؤل: تذكر متى آخر مرة ركبت معاك الطَّراد؟ "أَصْدَرَ صَوْت من بَيْن شَفَتيه دَلالة على عَد علمه فأجابت هي وابْتسامتها تَتَّسَع" عقب ما طلعت نتايج ثالث ثانوي.. قلت لي هذي هديتي.. بس طبعًا لأن ما يصير أركب معاك بروحنا.. البنات كلهم جوا معاي
هَمَسَ وهو يَقترب منها: طَبعًا أَذكر.. بس كنت أبي أشوفش إنتِ تذكرين ولا لا
مالَ رأسها: كان حلو ذاك اليــووم.. استانست واجــد
ابْتَسَمَ مُفْصِحًا: بس أنا ما كنت مستانس
تَساءَلت باستغراب وعُقْدة حاجِبَين خَفيفة: ليش؟
أَجابَ ووجهه يَقترب منها وصَوْته يَنخفض أكثر: كنت أبي نكون بروحنا.. نقعد على راحتنا.. وفي الليل بعد.. مو في ظهر شهر ستة وشمه اللي تحرق
عَلَّقَت بضحكة: كانت أحلامك هبلة مثلك طَلال.. بثقة كنت تبينا نروح البحر بروحنا!
هَزَّ رأسه: اي.. كنت واثق إن بيتحقق هالحلم في يوم من الأيام "ارْتَفَعَ حاجِبه وبثقة" وهذا إنتِ قدامي مثل ما كنت أحلم وأكثر بعد.. كنتِ حَبيبة.. وبعدين صرتِ حلم ضايع.. بس اللحين "خَبَت نَبْرته مُكمِلاً ببحّة" إنتِ حَبيبتي.. وزوجتي.. وأم ولدي
تَأَمَّلته وبَريقٌ يَتراقص من عَدَستيها.. وكأَنَّ القَمرَ اعْتَذَر من السماء لِيبَزغ من عَيْنيها.. اقْتَرَبَت منه هي هذه المرَّة.. أَحاطت عُنقه بِرقّة يَديها، وببالغ النّعومة أَهدتهُ قُبْلة اخْتَصَرت فيها كُل شُعور تُذْبِلَهُ الكَلمات.. هذا الحُب الذي يَعْبر ذاته لِيغمرها يُحْييها من جَديد.. يَزرع زَهْرًا بَين تَصَدّعات الرُّوح.. يُطَهِّر الدّماء من سواد الكوابيس.. ويُعيد تَوْجيه النَّبضات إلى أَبواب حَياة مَليئة بالدفء والرّاحة. ابْتَعَدت عنه دُون أن تَنظر إليه.. تأمَّلت المَوْج الذي يَتمايل برشاقة.. مَدَّت يَدها وحَرَّكت الماء بخفّة.. هُو نَطَقَ بَعْد أن تَجاوزَ قَليلاً عُذوبة فَيْضها المُفاجئ: عشان أكون صادق.. ترى الحلم ما كان يتضمن هالمشهد
عَلَّقت: أشـــك والله
ضَحَكَ: أفــا.. ما تثقين بأدبي؟
ارْتفعت عينيها إليه وبصراحة: ذيك الفترة.. لا ما كنت أثق "ضَيَّقت عَيْنيها مُرْدِفةً" بس اللحين شوي صرت عاقل
وهُو يُمثِّل الجديّة: بعد بصير أبو.. لازم أصير عاقل
تَمْتَمَت بابْتسامة: إن شاء الله "اسْتعلمت الوقت من ساعتها وهي تَسْتطرد" الساعة اثنعش "ناظرته بحَرج" وإنت من زمان تركت العرس وجيت تقعد معاي.. فشلة.. ما خليتك تستانس
طَمأنها: عـــادي.. أهم شي باركت لعبّود وباقي الأهل.. وصورت معاهم
تَساءَلت وهي تُسْنِد رأسها بيدها: مساتنس عبد الله؟
حَرّك رأسه: حـــدّه "وبضحكة" وَيهه شوي وينشق من الابتسامة
ابْتَسَمت بسعادة: الحمد لله.. الله يهنيهم يارب "أَفْصَحت" شكله كان يحبها
اسْتَفسرَ وهو يتناول قنينة ماء: شدراش؟
وَضَّحت: شفته جم مرة معاها.. وعيونه كانت تسولف وهو يطالعها
ضَيّق عيْناه وبابْتسامة مائلة: وحضرتش تعرفين تقرين عيونه؟
ارْتَفَع حاجِباها: طَبعًا
قَرَّب وجهه منها مُتسائِلاً بمُشاكسة: وأنا ما تعرفين تقرين عيوني؟
ابْتَسَمت: أحاول.. بس كل ما جيت أبدأ أنسى نفسي وأضيع فيها
ارْتَشَفَ من القِنّينة وهُو يَرمش بغرور مُصْطَنَع أَضحكها.. تراجعَ للخلف إلى حيث اسْتَقَرَّت حافظات الطّعام.. تَساءَل وهو يفتح واحدة: يوعانة؟
أَجابت وهي تَسْترخي في جلوسها: لا.. بس عطشانة "مَدَّ لها قنينته فتناولتها منه.. ارْتَشَفَت رَشْفتين.. تَأمَّلته لثواني وهو يقضم من إحدى الشّطائر.. ثُمَّ نادتهُ بهدوء" طَلال "هَمْهَمَ بجواب فتساءلت بحذر" كلّمت رائد؟
ابْتَلَع اللقمة وملامحه اكْتساها جُمود لَم تَسْتَنكره.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه قَبْلَ أن يُجيب بحدّة وهو يُقَرِّب الشَطيرة من فمه: لا
سؤال آخر: ليش؟
عُقْدة تُهَدِّد بالغضَب تَوَسّطت حاجبيه وبأمر: نور سدّي السالفة
تجاهلته وهي تَتَقَدّم للأمام لِتقول: طَلال، كل اللي لاحظناه يشير إلى إنها أختك.. اسمها وعمرها وقصتها.. هذا غير النظرة اللي وجهتها لك واللي وصلتنا لهذي النتيجة
نَطَقَ بحدّة وعَيْناه تُهاجمانها: مو إختـي.. هذي مو إختــي.. لا تقولين إختي.. ما أتشرف تكون إختي بهالشخصية
عَقّبت بتأنيب: طلال ما يصير تلومها وإنت ما تعرف شنو ماضيها.. إنت ما تدري البنية شنو واجهت في حياتها.. ما تدري شنو كانت ظروفها.. وأصلاً ما يصير تحكم على الشخص من شكله.. غلـط
أَفْصَح: لا والله مو بس على شكلها.. حتى تصرفاتها وطريقة عيشتها.. عَيل في وحدة عاقلة تتزوج بالسر! لا وتبي تغير اسمها وتبي تنتقم "تهكّم" تظن إنها عايشة في فيلم حضرتها
كَرّرت بحدة: قـلـت لك إنت ما تدري شنو ماضيها.. التمس لها العذر
حَرّك يده بمَلل والاشمئزاز يَطأ ملامحه: أقول فكّيـنا من سيرتها.. خلاص سكري الموضوع ولا تييبين طاريه مرة ثانية
الْتَزَمَت الصَّمت وهو أيضًا.. السُّكون يَلف المَكان ما خلا نَغم الموج المُتلاطم بخفّة وهَمس نَسيم المَساء.. القارَب يَتهادى على الماء كالمهد الذي تُحَرِّكه الأُم لِتَقَر نَفْس صَغيرها.. عَيناها مُتَعلقتان بالقنينة التي في يدها.. وهو سارحٌ في البَحر.. حَرَّكت بَصرها إليه وبهدوءٍ نَطَقت مُزَعزِعةً ضَميره: ترى عندك أمل كَبير إنّك تلتقي بآخر ذكرى بَقت لك من أمّك
,،
سَأَل بَعْدَ أن تَحَرَّكَت المَرْكبة: شخبـار العرس؟
أَجابت جَميلة بابْتسامة: مـا شاء الله شي جَميـل ومرتّب.. واضح متعوب عليه.. والمعاريس يجننون
أَضافت فَرَح بنبرة ذات معنى وهي تحشر نفسها بين المَقعدَيْن: وإخت المعرس بعد تجــنن
رَفَع عَينيه للمرآة وبتساؤل: أم عبد الله؟
جَميلة وهي تَتَبادل النظَرات مع فَرح وبابتسامة جانبية: اي.. أم عَبد الله
عَقَّبَ ببساطة ونبرة عادية: زيـن.. عسى أيامهم كلها أفراح
أَدارت جَميلة جَسدها بالكامل لتُفْصِح عن سؤال: عزوز من صدق كلش ما تفكر تطاوع أمي وتخطبها؟
عَقَدَ حاجِبَيه: أخطب من؟
فَرح بحَماس: خالوو غيداء.. أم عبّود الصغير
ارْتَفَعَ حاجبه وبسخرية: ومن قال لكم إن أمي تبيني أخطبها؟ إذا تذكرون هي غيّرت رايها بعد كلام غيداء عن عمّار
جَميلة بتنبيه: بس ترى ما شالت الفكرة كلها من راسها.. عندها أمل إن غيداء مُمكن تغيّر رايها وإنت بعد
قالَ لِيصدمهما: أنا غيّرت رايي.. خصوصًا يوم شفتكم متقبلينها وحابينها.. بس غيداء مُستحيل تغير رايها و احترم هذا الشي.. وفاءها لزوجها المرحوم شي عظيم ومن حقها ما تتنازل عنه
عَقَّبَت فَرح بقهر طَفيف: يعني يوم إنّك وافقت صارت العقبة هي البنت؟ شي يقهر صراحة
ضَحَك وهو يُقول ليُداعبها: بابا فرح ما لاعت جبدكم من سالفة زواجي؟ خصوصًا إنتِ وحمّود.. كنتوا شاهدين على كل الزواجات.. وبعد اللحين تبيني أتزوج!
أَكَّدَت: اي يبه.. أبيك تتزوج.. خــاطري.. والله خاطري أشوفك مستقر مع زوجة "وبخجلٍ أضافت" خاطري أشوفك تحب
اعْتَلت ضحكته: يا عمري يا فرح.. هالكثر تعبانة من قَحطي العاطفي؟
حَرّكت كَتفها وهي تُخفض رأسها وفي داخلها تشتم نفسها التي تَجَرَّأت: لا يُبه.. بس يعني أقصد.. أبي أشوفك مع وحدة تحبها وتحبك وتهتم فيك.. مو بس مشغول معانا وناسي نفسك
قالَ بحُب وعَيناه تَنتشي بمشاعر الأبوّة: بعد عمري والله لو أظل طول العمر أقابلكم وأداريكم وأهتم فيكم بعيش مرتاح ومستانس
ابْتَسَمت لهُ جَميلة بوِد: عيش مرتاح ومستانس ومعاك زوجتك
مَرَّرَ لسانه على شَفتيه وهو يَشد على المقود.. التَفَتَ لها لثواني ثُمَّ أَرْجع بَصره للطَّريق هامِسًا: إذا الله كاتب لي الزواج مرة ثانية والاستقرار.. فالحمد لله على تدبيره.. بس غيداء "صَمت للحظات ثُمَّ أَكْمَل بخفوت" شلتها من بالي بنفس السرعة اللي حطّيتها فيه.
,،
شَدَّت رَبْطة رداء النَّوم جَيِّدًا حوْل خِصْرها.. تَحَرَّرَت من ثِقْل الفُستان وها هي تُعَلِّقه بترتيب وعناية في زاوية خاصة في إحْدى الخزانات.. نَظَرَت لانْعكاس وَجْهها في المرآة.. مَسَحَت كُل المَساحيق عنه.. لِوَهلة شَعَرت وكأنَّ عُلْبة من أَلوان صَبَغت وَجْهها.. لَطالما أَحَبَّت أَن تَتَزيَّن بطريقة ناعِمة تُبْرِز الملامح لا تَطمسها ولا تُكَدِّس فَوقها عشرات الطَّبقات التي تَخنقها وتَضَرّها.. لكن شَقيقتَيها أَصَرَّتا أَن يكون المَاكياج أَثْقَل من المُعتاد.... فهي "عَروس"! جَفَّفَت شَعرها بالمنشفة بخفّة ثُمَّ تَركتهُ يَسْتريح على ظَهرها بما تَبَقَّى فيه من بَلل؛ فَلَقَد شُدَّت خصلاته للأَعلى لساعتٍ طَويلة.. أَلْقت آخر نَظرة على نفسها، ثُمَّ غادرَت عُرفة المَلابس إلى غُرفة النّوم.. في الوَقت الذي فُتِحَ فيهِ الباب كاشِفًا عن دُخوله.. تَبَاطَأت خطواتها حتى تَوَقَّفَت.. ابْتَسَمَ لها وهُو يُغْلِق الباب.. مَشَى إليها والعَيْنان غارِقَتان في حوارٍ صامِت.. اسْتَقَرَّ أَمامها تارِكًا خطوة.. يُمناه سَكَنت جَيْب سرواله مُسْهِبًا في التَّأمّل.. هي الأخرى تَأمَّلته.. كان شَعرهُ مُبَلَّل أَيضًا.. يبدو أَنَّه اسْتَحم في إحدى دورات المياه الخارجية.. مَلابس نوم قطنية.. عِطر رِجالي خَفيف.. مَلامح وَسيمة نَظيفة.. عَيْنان تُغازِلانها بالنَّظَر.. وابْتسامة مُلْفِتة. شَطَبَ الخطوة.. هُنا ارْتَبَكت أَهْدابها.. فَقَد انْعَدَمَ الأَمان وأَصْبَح الخَطَر أَمْرٌ حَتمي.. ارْتَجَفَ جَسَدُها عندما شَعَرت بمَلمس ذراعه حَوْل خِصْرها وبحركة سَريعة تَراجعت خطوة للخَلف.. ارْتَفَعَ حاجبه وابْتسامته اتَّسَعت.. عادَ ومَحى الخطوة، ولكنّها عادت وحَشَرتها بينهما.. ضَحَكَ مُسْتَنكِرًا: لا والله! قاعدين نلعب؟
رَفَعت يَدها قَليلاً وبَسَطتها أَمامه وهي تَطلب بخفوت: خل بيننا مسافة
ضَيَّقَ عَيْناه هامِسًا وابْتسامته تَتكئ على مُنْحَدَرِ الخَبَث: ما أعتقد المسافة بتساعد هذا الليل على تَحقيق المُراد منه
تَخَصَّرت وهي تُقَلِّده قائلة: لا والله؟
تَقَدَّمَ ببطء شَديد وهو يَستعين بحَديثٍ طَويل يُشْغلها به: اي والله.. يعني تبين تكسرين بخاطر هالليل وتخلين المسافة حاجز فيما بيننا؟ كفاية الشهرين اللي طافوا واحنا واحد شرق والثاني غرب.. مو معقولة نَخيِّب القَمر وهو سهران ومتْعَنّي واقف عند دريشتنا! اعطي الليل والقَمر مُبتغاهم وحنّي عليهم شوي.
أَنهى جُملته وبالتَّوالي أَحاطَ خصرها شادًّا عليه بكلتا ذراعيه.. تَجَمَّدَت ملامحها وفي ثواني غالتها حُمْرة جَلِيَّة أَضحكته.. هَمَسَت بِحَنق: لا تضحك "بَرَّرَت لنفسها" ترى أنا أُنثى واستحي
عَقَّبَ بهمس وهو يُطارد زُمُرّدتيها بتَوق: أدري إنّش أنثى.. وأدري إنّش تسحتين.. بل حاليًا بتذوبين بين ايدي من الحَيا.. بس تكابريـــن
رَكَّزَت عَيْنيها في عَيْنيه مُحاولةً إثبات عَكس ما قاله... ارْتَدَت قناعٌ من الضِّيق... وبنبرة تَدَّعي فيها المَلَل تَساءَلت: اللحين إنت شتبــي؟
حَرَّكَ رَأسه يُمنة وشِمالا وهو يُخفي ضحكته.. لا فائدة منها.. يُستحال أن تُبيِّن هَشاشتها.. تَأبى أن تَخلع عَباءة الكِبرياء والغُرور مهما حَصَل.. لكن سَنرى. تَحَرَّكت يُمناه قاصِدةً وَجْهها.. وبِظاهِر سَبّابته مَسَّ شَفتيها بلَهْوٍ ومُشاكَسة.. تَكَهَرَبت بوضوح مما تَسَبَّبَ في امْتعاضها.. رَفَع بَصره إليها واسْتخفافٌ يُحاوط جِفْنَيه.. كَزَّت على أَسنانها بغيظ من خَجلها المُتزاحم داخلها وعلى وَجْهها وَبين أَوصالها.. وكذلك من نَظراته وَأفعاله المُسْتَفِزّة.. حَسنًا عبد الله.. تُريد أن نَلعب؟ تُريد أن تُنافسني لِتُسقطني أَرْضًا مُضَرَّجة بِخَجلي؟ أَتُريد ذلك فعلاً؟ حسنًا.. سَنتنافس وسَنرى من الفائز. طَرَدَت فُتات الغضَب وتوابعه عنها.. وبشبه جُرأة أَحاطت عُنقه بذراعيها وجَسدها يَلتصق به.. هَمَسَت وهي تُكَحِّل عَيْنيها بسِحْرٍ جَذَّاب: تَمــام.. خلنا نسْعد الليل والقَمر
تَقَوَّسَت شَفتاه بتقييم لردَّة فلعها قَبْلَ أن يهمس بسؤال ويده تُبعد خصلاتها عن جانب وَجهها: لأي مَدى نسعدهم؟
اسْتَنشقَت نَفَسًا عَميقًا.. داعَبت بأناملها خصلات شَعره الغافية فَوْق عُنقه من الخَلف.. أَجابت بخفوت وهي تَشعر برُوحها تُنار من أَلَق عَيْنيه وهُما تَتَأمَّلانهِا: للمَدى اللي يخلينا نوصل لهم.. للسما اللي تحتضنهم.
,،
مُسْتَلْقٍ على جانبه باتِّكاءٍ على مرْفقه.. وهي قبالته مُتّخذة الوَضعية نَفسها.. وَوَسَطهما تَقْبَع ثَمَرة الحُب الذي غَرَسَ بذورها بَسّام واعْتَنى بها لأعوامٍ وأعوام حَتى ظَفَر بها. هَمَسَت بضحكة: ترانا مَجانين.. صار لنا أكثر من ساعة نطالعه
وهو يهمس مثلها حتى لا يُزعجان نَوْم الصَّغير: آية من آيات الله.. خل نتأملها ونتفكَّر فيها
قالت وهي تُنْقِل بَصرها بَيْنه وبَيْن الصَّغير: اللحين بعد ما توضَّحت ملامحه بَيَّن إنّه يشبهك أكثر
أَصْدَرَ صوت مُعارِض من بين شَفتيه ثُمَّ قالَ وهو يُشير لذقن ابْنه: يشبهنا اثنينا بنفس المستوى.. شوفي ذقنه.. بالضبط نفس رسمة ذقنش "انتقلَ إصْبعه إلى ما بَين حاجِبَيه" واهني بعد مثلش بالضّبط.. حتى إذا يصيح ويكشّر يشبهش أكثر "وأضافَ أخيرًا" ورسمة وجهه نسخة من رسمة وجهش
ابْتَسَمت مُعَلِّقةً والحُب يَسْبح وَسط مُقلتيها: تمـووت على التَّدقيق.. يعني هالأشياء يمكن محّد ينتبه لها
بثقة: بس أَنا انتبه لها
أَكَّدَت: اي.. من يوم احنا صغار
تساءَل بعد تَردّد دامَ لثواني: تذكرين طفولتنا؟
عَقَّبَت بصراحة: أذكر إنّك كنت لَزْقـــة
اتَّسَعت عَيْناه مُتفاجِئًا من كلمتها التي لَم يتَوَّقَعها، كَرَّرَ باسْتنكار: لَزقة!
وَضَعت يدها على فمها تُخفي ضحكة ثُمَّ قالت بتوضيح: كنت أكبر مننا.. بس غصب تبي تلعب معانا.. وما ترضى ألعب مع باقي الصبيان.. يعني مسوي روحك مثل أخوي
هو الذي لَم يَتجاوز وَقع الكلمة الذي ضايقته بطريقةٍ ما: لزقة عاد! يعني كنت شخص مُزعج وكريه بالنسبة لحَنين الصَّغيرة؟
عَضَّت على شَفتها السفلية قَبْلَ أن تُجيب بِحَرج: آسفة.. بس اي.. ما كنت أتقبّلك
هَمْهَم وهو يُبْعِد بَصره عنها.. شيءٌ انْكَسَر داخله.. يعلم أَنَّهُ يُبالغ.. فهي كانت طِفلة وقَد مَرَّت سَنوات طَويــلة على تلك المواقف والمَشاعر أَيضًا.. لكن على الرغم من ذلك كلمتها آلمته وَوَخزته.. هو لَطالما تَرَدَّدَ في الإفصاح عن هَوِيّته وعن سِر حُبّه.. ولطالما لامَ ذاته على جُبْنها.. لكن الآن شَكَرَ رَبّه سِرًّا.. فهو في تلك الفترة لو صارحها بما يختلج في قلبه من مشاعر عَميقة واندفاعية.. لَرُبَّما أَصْبحَ الوَخز حينها طَعنة لا عِلاج لها. انْتبه لصوتها.. رَفَع عَينيه إليها بصمت وهي تَساءَلت بأَسَف: بَسّام ضايقتك؟
ابْتَسَم بخفّة: لا.. بس ما توقعت.. أنا كنت أدري ما تتقبليني.. بس ما كنت أدري إن هذا السبب.. آسف إذا كنت أضايقش باهتمامي
مَدَّت يدها ولامست خَدّه برقّة ومَلَق وهي تهمس: حَبيبي ما يحتاج تتأسف.. كنا صغار وبعدها مراهقين.. مشاعرنا ما كانت مستقرة.. يكفي اللحين إنّي ما أقوى على فراقك
اتَّسَعت ابْتسامته.. قَرَّبَ يَدها من فَمه.. طَبَع قُبْلة في باطنها.. ولَم يُضِف كَلمة واحِدة.. لا زال مُتَرَدّدًا.. ولا زال حُبّه غير مَرئي.
,،
يتبع
|