كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الثالث والخَمسون
الفصل الثاني
لاطَفَت البَحْرَ بِزُمُرَّدَتي سؤالها.. سَلَّمَت بأهْدابها المَعْكوفة على نَوارسٍ تُقَبِّل أَعْتابَ الدِّيار بَعْدَ هِجْرَةٍ طَويلة.. اقْتَرَبت منها تُريد أن تَسألها عن الشعور الذي يُوْجَد في الرُّوح عند لِقاء الوَطن.. تُرى كَيْف شَكله؟ هل تَتَحَمَّل رَوْعَته الرُّوح؟ أَم أَنَّ الانتظار الطَّويل يُكْسِبهُ لَوْنًا باهِتًا فتَتَشَرَّبَهُ ببرودٍ وتَبَلُّد؟ مُذ أَهْداها والدها عُمرها الذي ظَنَّت أَنَّها فَقدته وهي تَجيء للبحر.. لا تدري لماذا.. فهي لَم تكن صَديقةً له.. ولَم تَعْتَد على الشَّكوى إليه.. لِمَ اخْتارتهُ لِتَبُث إليه ارْتباكها... لا تدري! هي طَلَبت من والدها مُهْلة للتَّفكير، على الرَّغم من أَنَّ جَوابها جاهِز مُذ بَدَأت بحياكة خِطّتها.. لكن يا للغرابة، هي تحتاج أن تُفَكِّر.. تَحتاج أن تُرَتِّب خُطواتها وأن تَتَأَكَّد من سَلامة أَسْلِحتها.. أَوَّلها قَلْبها.. ذاك العاق الذي خانَها وأَحَبَّه.. أَحبَّ عبد الله المسكين.. عبد الله الذي كانت تهمته الوحيدة التي من شأنها أن تَجعله الضَّحية أَنَّهُ ابْن بَلقيس.. تلك الشيطان الحَي.. الثعبان المُتَخَفِّي خَلْفَ قِناعٍ من الجَمال والأبَّهة. قِرص الشَّمس الذي انْغمَسَ نصفه في البَحْر نَبَّهها للوَقت.. ها هُو الغُروب يُلَوِّح لها.. حتى النَّوارس حَلَّقت مُبْتَعِدة.. وَكَأَّنها لا تَسْتَريح إلا بوجود الشَّمس.. هي أَمانها ودِفئها.. وهي.. مروة.. إن احْتَضَنها دِفء عبد الله هل سَيذوب جَليدها؟ هل سَتستلم وسَتنهل الحُب من يَديه؟ هل سَتدمنه وتَتناسى انتقامها؟ هذا الذي تَخْشاه.. هذا.. عَقَدَت ذراعيها على صَدْرها وهي تَزْدرد ريقها بخوف.. نعم بخوف.. فعَيْن عبد الله وإن اسْتعانت ببضع أَشواكٍ صَغيرة لتَرميها بها، إلا أَنَّ اللطف لا يَنضب من مَعينها.. والدّفء تَسْتَشعره في صوته.. كلامه وابْتسامته.. ولا تَعتقد أَنَّها كُفؤ لمواجهة هذا العَذب منه.. غير واثقة من ذاتها.. غير واثقة. تَرَكت بين المَوْجِ والرِّمال تَنْهيدة مُرْتَعِشة ثُمَّ اسْتدارت مُولية البَحْر ظَهْرها.. خُطْوة، ارْتفاع جِفْنَين وإبصار.. ثُمَّ وُقوف مُتَعَثِّر.. ها هُو.. ها هُو خَوْفها الأَكْبر يَقِف باسْتنادٍ على مَرْكباتها.. وَجْهُه لها وعَيْناه عليها.. يُراقبها.. كان يُراقبها.. هل كان فعلاً يُراقبها! أَعانت ثَباتها على الصُّمود وهي تَشد فَقَرات ظَهْرها.. مَشَت بخطوات هادِئة ومَلامحها ارْتَدَت ثِقة تُناقِض التَّردد الذي كان يُشاغبها قبل ثوانٍ فَقط.. تَوَقَّفت عندما أَصْبَحَت أَمامه.. مَسافة مَعْقولة كانت الفاصِل بَينهما.. اسْتقامَ هُو وَيَداه تَلجآن لجَيبي بنطاله.. تَساءَلت بابْتسامة جانِبية يُقَطِّر منها الغُرور: من متى تراقبني؟
أَجابَ بابْتسامة خَفيفة: من أَوَّل ما عطيتين الدنيا ظهرش وقابلتين البحر
ارْتَفَعَ حاجِباها وباسْتنكار: شنو لاحقني إنت!
هَزَّ رأسه وبثقة: ايــه.. طلعتين من المستشفى وأنا وراش
مالَ رأسها: وليش تلاحقني يا دكتور؟
بذات الثقة: مر أكثر من أسبوع.. أبي الجَواب
نَظَرت لهُ للحظات قَبْل أن تُدير وَجْهها يَمينًا لتتساءَل بخفوت: ليش إنت اللي اتصلت تخطب؟ ليش مو أمّك؟ أو حتى أبوك!
أَجابَ بصراحة: لأنّي ما قلت لأهلي.. ما قلت لأي أحد
عادَ وجهها إليه فأَبْصَر الاسْتغراب وهُو يُحاوطه.. تَساءَلت مُتَعَجِّبة: وليش ما قلت لهم! هذا الشي لازم ينقال للأهل!
أَفْصَحَ بصدق: لأنهم متلهفين على ارتباطي للمرة الثانية.. فما حبّيت أخليهم يتأملون وبعدين ترفضيني وينصدمون
اصْطَبَغَت شَفتيها بابْتسامة الغُرور مرة أخرى لتهمس: وإنت.. إذا رفضتك بتنصدم؟
حَرَّك كتفه: لا عادي.. مو نصيبي
وابْتسامتها تَتَّسع: بس بتخسر.. بتخسر الدبلة
بادلها الابْتسامة وهُو يُعَقِّب بهمس: لا ما بخسرها.. بعطيش إياها.. ذِكرى
النَّظْرة العَميقة التي غَمَرَت عَيْنيه أرْبَكتها وأَجْبَرت زُمردتيها على الهُروب.. أَفْصَحت عن سؤالٍ آخر لتُبَدِّد ارْتباكها، دون أن تعلم أنَّ جوابه سَيُفَجِّر في نَفْسها عشرات الارتباكات: ليش خطبتني؟ ليش أنا كنت خيارك بعد تجربتك الأولى؟
باحَ لها عن الذي يعترك في خاطره: لأنّي خطوة والموت.. وذاتي تجهل موت الحَي.. فخفت.. خفت من المجهول اللي ينتظرني.. ولا تسأليني ليش إنتِ.. لأنّي مادري ليش حسّيت إنّش باب للنجاة
تَشَبَّثت بالغُرور بقبضة أَضعفها هذا السَيل المُنْهَمِر من كلماته: حسّيـــت... يعني مو متأكد؟
هَمَسَ وابْتسامته تَتَّسع: لا.. دخولي لعالمش بيعطيني الجواب
بِوَجْسٍ اخْتَبأت تَحْته أَسْرارٍ وأَسْرار: وإذا كان الجَواب هو الموت نفسه اللي هارب منه؟
هَمَسَ لِيَبصم على وثيقة فَشلها: أَتوقع إن الموت المتوشّح بالزّمرد ألْطَف من أي موت
أَرْخَت طَرْفها وابْتسمت.. ابْتسامة حُرَّة من خِناق الغُرور ونَقِيَّة من شُرور.. جُملته كانت الفَشَل الأوَّل لها في رحلتها المُبْهَمة.. فهو بهمسٍ وبضع كلماتٍ بَسيطة اسْتعار حمرة السَّماء ونَثَرها بِرِقَّة على وَجْنتيها. أمسكت يدها بالمقبض، حَرَّكت إصْبعها ليرتفع صوت كاشِفًا عن فتح القفل.. مَرَّرت لسانها على شفتيها.. وقبل أن تفتح الباب هَمَسَت: إنت كلَّمت أبوي.... فانتظر الجواب من أبوي
خَبَّأت خَجَلها، ارْتباكها وجَسَدها المُسْتحوذة عليه رَجفة لحظية في السيارة التي تَحَرَّكت بابْتعاد أمام ناظريه.. هَرَبت من لُطْفه ومن المشاعر التي حَلَّقت كَما حُلم زَهْري حولهما.. هربت من نَبْضها المُسْتَجيب بِلَهْفة.. هَربَت من فضيحة خسارتها الأولى.. وهَربت من الحُب المُتَمَرِّد على قَمْع انتقامها.. هي هَرَبت من ذاتها قَبْلَ أن تهرب منه.
,،
فَتَحَ الباب فاصْطَدَمَ بوجهه هَواء المُكَيِّفات البارد، وداعبت أنفه رائحة عِطرية بها لَمْحة أُنثوية.. خطواته كانت قصيرة.. بَطيئة وغير مُوَجَّهة، فَعينَاه كانتا تَجوسان المَكان بتفَحّص وبَحْث.. وعندما الْتَقَطَتا ركن الطَّلَب كَساهما نِصْف رِضا.. فَتَقَدَّم بخطوات أطول بعدَ أن وَجَدَ ضالَّته تَقريبًا.. تَوَقَّف عند الركن حيث كان يَسْتقِر الموظَّف خَلْف الواجِهة.. رَحَّبَ به بابْتسامة آلية كما يُرَحِّب بأي زَبون وهُو يدعوه للطَّلب.. لكن هو طلبه كان مُختلف.. مُختلف جدًا عن هذه المخبوزات والحلويات المُطَعَّمة بالنَّكهات والسُّكَّر.. وهُو أَفْصَحَ عنهُ مُباشرة دون أي تَرَدُّد أو تراجع: هل يمكنني مقابلة صاحِبة المَخبز؟
رَدَّ عليه المُوظف بسؤال وهو يتناول دفتر صَغير ويفتحه: هل عندك موعد معها؟
بابْتَسامة جانِبية محشوة بنوايا لا يفهمها إلا قِلّة: لا.. لا يوجد موعد.. في الحَقيقة هُو لقاء غير مُخطط له
وَضَّح: هي الآن مَشغولة في المطبخ.. إن أردت أن تنتظرها هُنا فيمكنك ذلك بالطَّبع.. أو أن تأتي في وقت لاحق
قال سَريعًا: لا سوف أنتظرها.. لا مشكلة.. سأنتظرها
: هل تُريد شيء أثناء انتظارك؟
هَزَّ رأسه إيجابًا وهُو يَختار بعض قِطع الحلوى التي تُذَكّره برحلاته القَديمة. اسْتَقَرَّ على إحْدى الطَّاولات بَعْد أن أَخذ الموظف طَلَبه.. أَخرج هاتفه لِيُشغل نفسه فيه إلى أن تِصل الحَلوى.. الحَلوى الأكبر والأشهى. قَدِمَ طَلبه بعد دقائق بسيطة مع كوب قهوة سادة.. ظَلَّ يأكل من حلواه ويشرب من قهوته لفترة حَسِبها بدِقَّة.. فهو بين الفينة والأخرى يرفع بَصره لأعلى الشاشة ليستعلم الوقت.. وقَد مَرَّ على جُلوسه تَمامًا نِصف ساعة حَتى حاصَرهُ عِطْرٌ جَريء.. عِطْرٌ أَقْوى وأَكثر حِدَّة من ذاك الذي رَحَّبَ به عند دخوله.. هُو لَم تُسْعفه الثَواني لاسْتيعاب ذَرَّاته بكامل حواسه.. فالصوْت الذي رَفْرَفَ من يَمينه جَذَبَ جُلَّ حواسه وانْتباهه: مَســاء الخير
حَرَّكَ رَأسه إليها سامِحًا للعَيْنَين باللقاء.. لِقاء يَحْسَبهُ الأَوَّل، وإنَّما هُو حَقيقةٌ لِقاء يَتَكَرَّر بعدَ انْقطاعٍ اسْتَمَرَّ لِفترة كان طُولها كَفيلاً بِشَحن ذات هذه الواقفة أَمامه بأطنانٍ من الحقد والغَضَب.. وبزرع جُذورًا من أَشجار زَقُّوم مُنْتَقِمة.. ها هُو الآن يأكل أَوَّلَ نَتاجها. هو ظَلَّ يَتأمَّلها بِصَمت، يَتَأمَّل فيها أُنثى أحلامه التي طالما تَمَنَّاها في نَفْسه وعَلَنًا.. الأنثى التي شاركته خياله وصَحْوته.. بَحَث عن قالبَها الخارجي في بلدان وبلدان.. ونَبَّشَ عن ملامحها الصارِخة بين العَديد من المَلامح النّاعمة المُرْتَدية صَمْتًا يَفْتَقِر لِحَبْل اجتذاب.. هُو حتى لَم يَعثر عليها في وجوهٍ حَوَت جَمالاً باذِخًا يُرْهِق الأبصار.. كانت كالحُلَم الذي عَبَرَ الخَيال لِيَتَجَسَّد أَمامه على هَيئة امْرأة. هي التي دَرَسَت أَسْرار ذاته، وَتَكاشَفَت مع أحلامه، واسْتَغَلَّت اسْقاطاته.. ارْتَسَمَت عَلى شَفَتيها ابْتسامة طَغَت عليها ثِقة لَم تَفته.. هي رَشَّحَت عَيْنيها من كُل المَشاعر السلبية، لِتَحشر مَكانها مَشاعرًا مُصْطَنعة.. مَشاعر إعجاب.. تَوْق.. احْترام.. حَماس وغيرها الكَثير الكَثير. عَيْناها تَأمَّلتهُ أَيضًا.. وَجْهه لَم يَخْلَع مَلامح الدّهاء.. وعَيناه لا تزالان تَحْتفظان بنظرة المَكْر الشَّهيرة.. فكُل الذي عرفه وعاشره يَسْتطيع أن يَلْتَقِطها من بين كُل نظراته.. كان يَرْتَدي ثَوْب أبيض وغترة بيضاء كذلك.. كعادته إذا لَم يَكُن في الخارج.. قَلَم بقِمَّة فِضَّية مَشْبوك بثوب صَدْره.. ساعة من إحْدى العلامات التجارية الشهيرة تُحيط مِعْصمه ببذخ.. خاتم بِحَجَرٍ يُنافِس سَواد رُوحه يَسْتقِر في خُنْصر يَمينه.. ولَم تَسْتَطِع أن تَرى حذائه.. لكنَّها مُتَيَقِّنة أَنَّهُ حِذاء من الجِلْد الفاخِر وله لون أسود أو بُنّي داكن.. أَمَّا عِطره فكان مَزيجًا من عُود عَربي وأريج فَرْنسي تَعْتقد أنَّها شَمّته من قَبْل... كان أَميرًا بهيئته الخارِجية.. وَشيْطانًا في جَوْفه.. فكُل الذي تُبصره الأعين ما هُو إلا بهرجة لها تاريخ انتهاء يُلَوِّح في الأفق. قاطَعَت دقائق التَّأمل التي طالت من غير داعي.. بِصَوت أتْقَنَ نَبَراته: خبَّرني الموظف إنّك طَلبتني.. أي خدمة أستاذ؟
مَرَّرَ عَدَستَيه على وَجْهها سَريعًا قَبْلَ أن يُسْنِد ظهره للمقعد وهُو يَقول بحاجِب أَرْفَعته الثقة: عن نفسي ما أحتاج أي خدمة "وأضافَ قاصِدًا الحَلويات التي تُرْسلها إلى شركته" لكن الواضح لي إنّش إنتِ اللي تحتاجين خدمة
ابْتسامة واسِعة شَدَّت شَفَتيها المُزَيَّنَتَيْن بِلَونٍ لَحْمي مُريح للعَيْن.. اتَّجَهت للمقعد الذي أَمامه لتجلس بهدوء وأصابعها تَتَخلَّل أطراف خصلاتها القَصيرة.. اتَّكأت بذقنها على ظاهر كَفِّها مُعَقِّبة برفعة الحاجِب ذاتها: الخدمة اللي أنا احتجتها تَمَّت.. وهذا إنت قاعد على الكرسي قدّامي.. في محلّي
ضَحَكَ بعلو حتى تَمَنَّت لو أَنَّها تَخْنقه بيديها لِيَغص بضحكته البَغيضة.. لَكنَّها حافَظَت على ملامحها بقوَّة وَثَبات.. تَقَدَّم من الطاولة قائلاً بغرور طَغَى على ملامحه: الواضح إنّش تعرفيني من زمان
غَذَّت غُروره بكلماتها: وفي أحد ما يعرفك أستاذ سلطان؟
عُقْدة خَفيفة بَيْن حَاجِبَيه: لكن أنا ما أعتقد إنّي أعرفش.. مو معقولة شفت هالوجه ونسيته!
أَرْخَت شَفَتيها بِدَلَعٍ مُتْقَن وهي تُرْجِع ظَهرها وزَعَلٌ طَفيف يُشارك الكُحل تأطير عَيْنيها: امبلـــى شفتني.. وأكثر من مرة بعد.. لكن كلــش ما عطيتني وجه
هَزَّ رأسه بأسَف: خَسرت والله خَسرت.. هالوجه يمر علي وما أعطيه حَقّه.. شلـوون!
بذات النبرة صارحته: عشان جذي قَرَّرت أنتقم منّك
اعْتَلى حاجِباه بِتَعَجُّب: أفـــا... انتقام مرة وحدة!
هَزَّت رأسها وهي تنطق عَكْس ما تضمره: ايــه.. قلت بشتغل وبتعب لين يكبر راسي في السوق وأنافسك
هُو مَثَّل الزَّعل هذه المرَّة: لا عاد ما يصير العلاقة بيننا تكون حرب.. نبيها سَلام
سَلام! أَتعرف السَّلام أنت؟ أنت سلاح.. أنت سُم.. أنت سُقْمٌ يُنَجِّس الدَّم والرُوح.. أنت كُل سينٍ تَجُر من خلفها كلماتٍ كالرَّصاصات تَقْتل الحُب وتَنْحر أَحْبابٍ أبرياء.. أنت كُل شيء يَتَفَطَّر منهُ القَلْب وتَفقد بسببه الذات هويَّتها الإنسانية.. أنت كُل سُوء ولَم وَلن تَمْلك أَبَدًا سين السَّلام. ابْتَلَعت حِقْدها غَصْبًا.. لِيَصْبر هذا الحِقد قَليلاً.. قَليلاً فَقط.. فَقريبًا سَتُرْفَع أعلام مَعْركته لِيُقاتل بالطَّريقة التي تَحْلو له. أَبْعَدت خصلاتها عن وَجْهها بنعومة وهي تُعَقِّب بهدوء وابْتسامة: خـلاص.. الحرب بدأت.. وهذا المحل المعركة الأولى
تَقَلْقَل بَصره على المَكان ومن عَيْنيه لاحَ لها اسْتصغار أَرْضاها.. قالَ أخيرًا بَعدَ أن اسْتَقَرَّ بَصره عليها: يعني مو تَقليل من شغلش.. بس هالمحل ما يجاري أصغر وأتفه مشاريعي
حَرَّكت كَتفيها: على قَدّي "أَخْفَضَت رأسها قَليلاً لتنظر إليه من خَلْف جِفْنَيها بِخَبَثٍ مألوفًا لديه، وهي تُرْدِف بهَمْسٍ لَعُوب" يعني امْرأة شابة في هالعمر ما تملك مصدر دخل غير وظيفتها الحكومية السابقة.. لا ورث لا ربح خارجي.. ما عندها شي.. أكيد هالمحل بيكون أقصى مُمتلكاتها "مالت شَفتاها ويدها تَتكأ على خصرها لتُكْمِل بِغَنج" ولاّ تبيهم يركبون العين عَلي وما أشتغل براحة فما أَقدر أنافسك؟
صَمْتٌ كَبَّل حُروفه وَجَمَّدَ عَدَسَتيه على وَجْهها المُزَيَّن بِمَكْرٍ يُعْجِبه.. ظَلَّ يُناظرها وفي عَقله تَشابكت الأفكار وتَزاحمت حتى أَنَّه لَم يَسْتَطِع أن يَهْتدي لفكرة واحدة تَمنحه رَدًّا يُلقيه عليها... هي كانت سَعيدة.. سَعيــدة جدًا.. فهو يُرضيها بردود أفعاله هذه.. يُرضيها للحَد الذي يُحَمِّسها للخطوة التالية.. آآه لَذيذٌ هُو شُعور الإنجاز.. أن تُبْصِر خِططك وأفكارك المَسْجونة بَين حُدود الأوراق أحْداثًا حَيَّة أَلذ من أفخر قِطعة حلوى في هذا المتجر.. بل وفي العالم كُلّه.. لِسِنين كانت تَرْسم لهذه الحَرب.. لِسِنين سَهرت وتَعبَت وبَكت.. وكادت أن تَقَع فريسة للاكتئاب.. لكنَّها بَعْدَ كُل تَعَثّر وسُقوط كانت تِقف.. تَقِف وبحقدها العازِم تَرْكِل صُخور الضِعف عن طَريقها.. وها هُو الطَّريق سالِكًا أكثر من أي وَقتٍ مَضى. أَخيرًا حَرَّك عَدَسَتيه جانِبًا بَعيدًا عن وَجْهها.. ثُمَّ انْتَقَلَ بهما لكوب قهوته.. رَفعه وشَرب الباقي منه قَبْل أن يَعُود للوَجه الذي تَأكَّد أَنَّهُ سَيَسكن حَياته لفترة لَيست بالقَصيرة.. نَطَقَ بهدوء: أعتقد نحتاج لِحَديث طَويل والمكان ما يصلح
تَساءلت ونَبضاتها تَرتطم بجدار قَلبها بِتَحَفَّز: تقترح وين نبدأ حَديثنا؟
مَدَّ يَده إليها: عطيني موبايلش
تَصَنَّعت التَّردد وهي تَقبض على هاتِفها المُستقر على الطاولة: ليـش؟
كَرَّر بذات الهدوء: عطيني
أَعطتهُ الهاتف مع التقاط أسنانها لزاوية شَفتها السُّفلية.. كانت تُخْفي ابْتسامة.. لا بل ضِحْكة انْتصار عالية وهي تراه يُطَبِّق خِطَّتها بحذافيرها.. أعاد الهاتف إليها وهُو يقول: حفظت رقمي عندش وأرسلت لش عنوان.. بكرة الساعة ثمان المغرب أتمنى أسمع دقة الجرس "أشارَ لطَبق الحَلوى" شُكرًا على اللذة اللي خلتني ألبّي النّداء
هَمَسَت وهي تُدير الهاتف بين أصابعها: حاضريـــن... سُلطان
ابْتَسَمَ بِخفَّة ووقف.. وقَبل أن يَستدير مُبْتَعِدًا: ما عرفت اسم مُنافستي
اعْتلى حاجِبها المَرْسوم حتَّى بانت قِمَّة المَكْر بوضوح لِتُجيبه بِهَمْسٍ دُسَّ فيه عَسَلٌ مَسْموم: وَعـــد
,،
ضِحْكاتٌ وَابْتساماتٌ تُوْلَد من رُوحِ هذه وَتَحْيا من رُوحِ تِلْك.. تَخْطو من بَيْنِ رُكامِ أَيَّامٍ خَلت عابِرةً فَوْضى من العَصي تَهْذيبها.. لِتَعلو قَهْقهة طَويلة ومُنْتَعِشة.. أو لِتَسْتَريح على الشَّفَتين ابْتسامة مُسْتَرخْية.. فَتَتَرَشَّح المَلامح من غُبارٍ رَماديٍ أَضْفى على الوُجوه كآبة مَقيتة.. وَتَسْتَعيدُ العَيْن نُجُوم خَبا الْتماعها من ضَبابِ دَمْعٍ أو احْتكار سَوادٍ دامِس. كُحْلٌ يَلتوي برِقّة على الجِفْنَيْن.. أَحْمر شِفاه تَتَغنج به الشَّفتَين... أَقْراط ذهبية.. فضيَّة.. طَويلة أو دائرية.. لؤلؤة تَنتصف عَظَمَتي الترقوة.. ذَهَبٌ وبِضع قِطع ألماسية ناعِمة تَتَدَلَّى على نَحْرٍ صافٍ كالقَمَر.. فستانٌ أَزْرَق.. أصفر.. قَميصٌ أسود.. تنورة بَيْضاء أو سِروال أَخْضَر داكن.. قطن، دانتيل.. حَرير.. شيفون.. وأخيرًا... نِساء. كانت كُل أُنثى تَحْكي جَمالاً فَريدًا يُمَيِّزها عن بنات أترابها.. وكانت كُل أُنثى أيضًا تُخْفي داخلها قِصَّة يُنافِس ألمها ألم الأُخرى.. لَكن الليلة الألَمُ صامت جَبْرًا.. فالوُجوه والحَواس والسَّكنات تَعْكس الرَّاحة والهُدوء والسَّعادة اللطيفة بَعيدًا عن البؤس والتباسات الحُزن. تَساءلت بِشَك وهي تَتَصَفَّح ألبوم صور حَفلة زَواج نُور وَطلال: جُود.. متأكدة ما جهز ألبوم عرسش؟
نَظَرت لها جُود ونَظْرة بَريئة في عَيْنيها: والله ما جَهَز.. كل أسبوع أروح لهم وبعد مو جاهز
كَرَّرت وكأنَّها لَم تَقْتنع وهي تَرْنو إليها بِطَرف عَينها بِخَبَث: أكيــد؟
عَقَدت حاجِبَيها وبِحَنق: غيداءوو شتقصديـــن! ترى فاهمتش هــا
ضَحَكت وهي تغمز بعينيها: ايــه اللي فاهمته هو اللي أقصده
بنبرة طَغى عليها الصِّدق: والله والله الصور مؤدبة.. بس صدق ما جهزوا، لا الصور ولا الفيديو.. حتى التقيت بعروس في الأستوديو عرسها كان قبل عرسي بشهرين تقريبًا وبعد ما جهزوا صورها
نور بابْتسامة وهي تُدافع عن شَقيقتها: صدق هي ما تستحي.. بس إلا في هالشي.. الحيا يغرقها من أَوَّلها لآخرها.. حتى أنا يمكن أجرأ منها
تَساءَلت جِنان بذات خَبَث غَيْداء: لا يكون هالجرأة موجودة في الصور؟
قالت بثقة وهي تُشير للألبوم: هذي هي الصور عندكم وتقدرون تتأكدون من نظافتها
اعْتَلت ضحكة صَديقتها سارة: حلـــووة من نظافتها.. عجبتني "أَرْدَفَت بتأكيد" بس صدق الصور مؤدبة.. من زمان ما شفت صور عرس بهالأدب
أَضافت غيداء وهي تتأمَّل السعادة وهي تنضح من عَيْني طَلال صُورة بعد صُورة: اي حدها مؤدبة.. مع إن طَلال هو من صوب والأدب من صوب.. خالي وأعرفه
احْتَضَن الهواء النَّقي نَغم ضِحكتهن التي اعْتَلت من تعليق غَيْداء الواقعي جِدًّا.. قَبْلَ أن تَقول حَنين والأَسَف يَغْمر صَوْتها وَيُشاكس عَسَل عَيْنيها: خَســارة ما عندي صور.. لا ملجة ولا عرس
جُود بهُجوم: والله منّــش.. محد قال لش تقلبين العرس فيلم رعب بدموعش ومكياجش المعتفس.. حرمتين نفسش وحرمتين زوجش من أحلى الذكريات
جِنان وهي تُشير برأسها لمِلاك المُسْتَمِعة: هالحلوة بعد ما عندها صور "وباسْتيعاب" لحظة... ترى ثنتينكم ما عندكم صور.. وثنتينكم بعد ما شافوكم أزواجكم بالفستان الأبيض!
نَظرت الاثنتان لبعضهما البعض لِتُعَلِّق حَنين بمُشاكسة لملاك: أووف.. مَلاك والدلوعة اتفقوا على شي.. عجيـبة!
تَساءلت جِنان بعدم فهم: شلــون!
وَضَّحت مَلاك بابْتسامة خجولة: أنا وحَنين من أَيَّام المدرسة على طول نعارض بعض.. في كل شي.. أفكار آراء أو حتى قرارات "وبضحكة ناعمة وَضَّحت والحَرج لَوَّن وَجْنَتيها" وكنت على طول اسمّيها الدّلوعة
شاركتها الضِّحكة حَنين: لا تستحين.. ترى اللقب رسمي عند الكل
أَكَّدَت نُور: ايـــه.. دلوعة.. ومغرورة بعد
جُود وهي تَبْسط كَفَّها على صَدْرها لِتُمَثِّل التَّعب: بنموت بنموت يا ملاك من غرورها وغرور فيصلووه
غَيْداء وَكأنَّها تَذَكَّرت: إلا صدق شَخباره المعرس وشخبار عروسته؟
أَجابت جُود بإسْهاب: والله ما ندري عنه.. آخر شي شفناه يوم ثاني من العرس.. ومن عقبها سافر، حتى ما قال لنا ويــن.. وما اتصل من راح.. بس يكلم أمّي " حَرَّكت شَفتيها يُمْنة وشِمالاً قَبْل أن تُضيف" غَرقان في العسل ويّا ياسميـــن.. شكله نسى روحه ونسَــ
قَرْصَة نُور لذراعها قَطَعت حَديثها المُنْدَفع.. اسْتدارت إليها وعلى طَرف لسانها شَتيمة.. لَكنَّها ابْتلعتها حينما أَشارت نُور لِجنان بِعينيها.. عَضَّت على لِسانها وهي تُبْصِر النار البْكماء المُلْتَهِب منها وَجْه جِنان.. كانت مُتَيَقِّنة أَنَّها لا تزفر أَنفاس.. بل أنَّها تزفر ألف غيرة وغيرة.. نَشَرَ صَمْتٌ مُرْبِك جَناحَيه لثواني قَبْلَ أن تَتدارك الوضع غيداء التي شعرت بالذنب من سؤالها: على طاري حَنين الدلوعة.. تذكرون أعياد الميلاد اللي كان يسويها لها عمي؟
شاركتها نُور لِتَرش الماء على النار: واحنا نقدر ننساهم؟ كنّا كلنا نحلم بمثلهم
عَقَّبَت حَنين التي طُرِق باب ذكريات لَم تَزرها منذ زَمن: يا الله ذكرتوووني.. كانت أَيَّــااام
تَساءلت جود: في صور صَح؟
وَقفت نُور وبحماس: صــح في.. عندي في صوري كمية منهم " وهي تَتحرَّك للمخزن" بروح أشوفهم
اسْتَفسَرت سارة باهْتمام: حَمَّستوني للأعياد ميلاد هذي.. ليش شلون كانت؟
أَجابت جُود وهي تهبط للأرض لتَتَرَبَّع: الله يسلمش عمي اللي هو أبو حَنين واللي هو السبب الرئيسي لدلع البرنسيسة الماصخ.. كان يسوي لها يوم عيد ملادها حفلة.. كل سنة.. طبعًا في بيتهم.. واحنا الأهل كلنا معزومين.. الكيكة طوابقها على عدد سنين عمرها.. وعقب ما تطف الشمعة وتقص الكيكة تبدأ رحلة البحث عن الهدايا.. كان يرسم لها خريطة للبيت تدلها على الأماكن اللي فيها الهدايا.. "وهي تمسح دُموع وهمية" واحنا المساكين ندوّر معاها والغصّة في حلقنا.. أنا ما لحقت على السنين الأولى بما إنّي أصغر وحدة في هالعجايز.. بس حضرت جم حفلة خلوني أرجع بصياحي لبيتنا من الغيرة
ضَحَكَت حَنين: أذكر مرة جودو رفضتين تعطيني هديتي اللي من عندكم.. وصدق محد قدر عليش.. أخذتينها في النهاية
قالت ملاك: كأنّي جيت مرة ويا حُور
وهي تَتَذَكَّر: اي صَح.. حور على طول كانت تحضر.. بس إنتِ حضرتين مرة وحدة
أَنهت جُملتها مع رُجوع نُور وهي مُحَمَّلة بعدَّة ألبومات لصور حَوت ذكريات بعضها حُفِظ في رُكْنٍ خاص في ذاكرة العَقل والقَلب.. وبعضها نُسِيَ أو تَناستهُ الأرواح مع الزَّمَن.. شارَكت شَقيقتها الجُلوس على الأرض قَبْلَ أن تُشاركنها الباقيات، حَتَّى جِنان التي أَرْغمت نفسها على تَجاهل رائحة احْتراق قَلبها لتَظفر ببضع ساعات من الرَّاحة والمَرح.. باعْتراض قالت حَنين الجالِسة باسترخاء على إحْدى الأرائك: ما يصيــر تقعدون تحت.. أنا بعد أبي أشوووف
رَدَّت نُور وهي تلتقط أحد الألبومات: يمديـش تشوفين من فوق.. خلّينا نسترجع الذكريات العظيمة
,،
اجْتماعٌ آخر.. أَكثر خُشونة وَقَتامة.. ألوان الحَياة التي كانت هُناك أُحْرِقَت هُنا على يَدي صَيْفٌ هائِج حتى اسْوَدَّت.. فالثّلاثة كانوا يَرْتدون الأسود.. إلى جانب زُرْقة داكِنة تَلَوَّن بها بِنطال رائِد لَم تَسْتَطِع أن تَكَسْر حِدَّة السواد المُتَوشّح به هؤلاء الرِّجال. نَطَقَ عَبد العَزيز الذي لَم يُزِح بَصره عن مُحَمَّد: معلوماتك عن قضية صالح بتفيدنا واجد في قضية عمّار.. لأن المُجرم واحد
أشارَ رائد لجرح ذراع عَمَّار ومن ثُمّ أشار لجرح ذراع صالح في صورة أخرى: الجرح نفسه.. نفس الذراع ونفس الموضع.. لكن الاختلاف في مُلابسات القضية.. قضية عمَّار متأكدين إنها قَتل.. مو حادث مثل ما يدّعون.. وصالح "فتح ملفه على إحدى الصَّفحات" المكتوب إنّه انتحار بسبب مرضه النفسي.. لكن الجرح وآثار التعذيب الموجودة على جسمه تقول غير هالشي.. فإذا ممكن تعطينا المعلومات اللي عندك عشان نربط الخيوط
نَطَقَ ببرود: ما عندي معلومات
عَقَدَ حاجِبَيه رائد: شنو!... شنو يعني ما عندك معلومات؟
أضافَ عَزيز: آستور خبَّرني إنّك تمتلك مصدر موثوق للمعلومات.. يعني المفروض عندك كل المفاتيح اللي نحتاجها
باغتَته ابْتسامة خَفيفة عندما لاحَ لهُ طَيْفها.. حَكَّ جَبينه وهُو يُوَضِّح: حاليًّا متعسِّر عَلي أخذ المعلومات من المصدر.. أحتاج وقت
اسْتَفسَر عَزيز: وأي كثر وقت تحتاج؟
: جَم يوم بَس
قال رائِد مُمَهِّدًا لجُملته التالية: أنا أعرفك محمد من سنين.. ومؤخرًا عرفت قصتك وفهمت سبب اختفائك.. وأثق فيك.. جدًّا... بس... "تَساءَلَ لِيَطْمَئن" بس إلى أي درجة إنت واثق من هالمصدر؟
تَبدَّدَ غَبَش عَيْنيه لِيَعبر الْتماعٌ ينبض بالثّقة: إلى درجة إنّي أعطيه ايدي وأروح معاه للموت
عَقَّبَ بارْتياح: جذي تَمــام
قال عَزيز وهُو يَفتح مَلف قَضِيَّة عَمَّار: زين بنركّز حاليًّا على قَضية عمَّار "وضع سَبَّابته على أحد الأسطر" الجريمة صارت الفَجر بحسب تقدير الطب الشرعي.. قبل اكتشاف الجثة بأكثر من أربعة وعشرين ساعة "الْتَقَطَ صُورة لِيَضَعها في الوَسَط ومن ثُمَّ يُشير لِمُحتواها" هذا هو العمود اللي يُقال إن السيارة اصطدمت فيه.. ضرره غير واضح وخَفيف جدًا مُقارنة بالسيارة المتحطمة
وَضَع رائِد علامة خَطأ بالأحمر على موقع الحادثة: يعني مو هذا المكان اللي صارت فيه الجَريمة.. انقتل في مكان وبعدين نقلوه للسيارة المتكسرة مُسْبَقًا
تَساءَلَ مُحَمَّد: سبب قتله مثل ما خبَّرني آستور هُو بحثه وتحقيقه عن سلطان صح؟
أَكَّد عَزيز: صح.. سلطان هو المُجرم الأوَّل.. ما بنقول بيده قتله.. ولكن بيد تتحرَّك وفق أوامره
رائد قال وهو يعود لصورة صالح: لكن السؤال الأهم اهني.. ليــش صالح انقتل؟ في شنو متورط؟ رَجُل عادي جدًا.. لا هو تاجِر ولا هو صاحب سوابق في الأمور اللي يتعامل بها سلطان.. ولا ينتمي لأي جهة من الشرطة!
تساءَل مُحمَّد: شنو كان يشتغل؟
اسْتَنكَر عَزيز: ما تدري! "حَرَّكَ مُحمَّد رأسه نافِيًا وعَزيز واصَل بَعدَ أن زَمَّ شَفتيه" والله أنا شاك في مصدرك هذا
ببرود يفترض أن يكون معناه الحِدّة: قلت لكم إنّي ما عندي معلومات.. ولا معلومة
قَرَّبَ منهُ رائد ملف صالح: معلوماته الشخصية كلها اهني.. كان يشتغل في مختبر أبحاث علمية
رَفَعَ رأسه بسرعة بعد أن اخترق أُذنَيه الجَواب.. نَقَلَ بصره بينهما للحظات قَبْلَ أن يَشْخر بسخرية وهُو يتراجع للخَلف مُسْتنِدًا للمقعد.. عَقَد ذراعيه على صدره وهُو يُمَرِّر لسانه على شَفتيه.. وبتساؤل مُتَهَكِّم: من متى انتوا تشتغلون في التحقيق؟
ارْتَفَع حاجِب عَزيز وَبحدّة: ليش هالسؤال اللحين؟
وَضَّح: مو معقولة يعني ما ربطتون بين وَظيفته وبين سلطان اللي كان أقرب صديق له!
نظر رائد للملف مرَّة أخرى: شفيها وظيفته! عادي يعني مختبر "وهو يُفَكِّر" تقصد يعني ممكن كان يطلب منه تزوير في بعض نتائج التحاليل؟
ببروده الذي مَسَّ اسْتفزاز رائد: لا... وظيفته مرتبطة بوحدة من وظايف سلطان المخفية
واصلَ عنه عَزيز وكأنَّ مِصْباحًا للتو يَضيء في رأسه: صناعة وبيع عقاقير ممنوعة
أَوْمَأ لهُ برأسه وابْتسامة جانِبية تَشد شَفتيه.. تَساءَلَ رائد: معقولة كان يشتغل معاه! هو اللي يصنع الأدوية وسلطان يبيعهم وبعدين يتقاسمون الفلوس؟
طَرَح عَزيز رأي آخر: أو ممكن سلطان طلب منه يشتغل معاه وصالح رفض فقرر يقتله خوفًا من أن يفضحه أو يشتكي عليه
أَيَّد رائد وهُو يَتَصَفَّح الملف: مُمكن.. مُمكن.. لأن حَسَب أقوال زوجة صالح إنّه كان يغيب لأيام وأسابيع ويرجع لهم وهو متعرض لتعذيب شرس.. وجسمه أكبر دليل على صِحَّة كلامها
أضاف مُحَمَّد: أعتقد إن فعلاً طُلِب منه العمل لكنه رفض فتعرض للتعذيب عشان يُجبَر.. فيا إنّه استسلم في النهاية واشتغل معاه وحصلت مشكلة بينهم أدَّت لقتله.. أو إنه استمر على صموده فاضطر سلطان يقتله عشان يتأكد من إن المعلومات اللي يعرفها ما تصل لأي أحد
أَكملَ عَزيز دَوْرة التَّحقيق: موقع الجريمة غرفة المكتب في بيتهم.. وأعتقد إن المعلومة صَحيحة.. الشاهد الوحيد ولده يوسف اللي كان معاه في نفس الغرفة.. ما أخذوا بأقواله لأنه تعرض لصدمة قوية أثَّرت على نفسيته واستيعابه.. أُخِذت أقوال زوجته واللي فادنا منها غيابه وتعذيبه.. بقي شخص واحد من العائلة
أكمل رائد: بنته.. ملاك.. ما حضرت الحادثة وبسبب صغر سنها اللي ما تجاوز الثمان سنوات ما تم أخذ أي قول منها
هَزَّ عَزيز رأسه بأسف: سقـطة كَبيــرة من لجنة التحقيق.. مدام إن عقلها سَليم وحواسها سليمة فأقوالها مهمة.. مهما كان عمرها "بحزم أضاف" لازم نلقاها.. لو اضطرينا نعيّن مُحقّقة عشان تحقق معاها في مكان سري فبنعيّن
تساءَل رائد: بس ويـن نلقاها؟
: في بيتي
التَفَت لهُ الاثنان وعلامات عَدم الفهم والتَّعجب تَطوف ملامحهما.. سأل عَزيز بشك: شنو يعني في بيتك؟
هَمَسَ بضِحكة: يعني زوجتي "زَمَّ عَزيز شَفتيه بِقَهر ومُحَمَّد واصَل عندما رأى الصَدمة على وجهيهما" آستور ما يترك عادته.. يحب يعرضنا لمفاجآت في منتصف الشغل
دَفَرَ عَزيز المَلف بِحَنق وهُو يرجع ظهره للخلف بقوَّة: قصدك يحب يحسّسنا إننا أغبياء وما نقدر نخطي خطوة من غيره
اسْتَفسَر رائد بابْتسامة جانِبية: يعني هي المصدر اللي تعطيها إيدك حتى لو للموت؟
رَمَشَ ببرود، وكأنَّما ذرات جَليد تَتكأ على أهدابه فَتُثْقِل حَركتها.. رَنا لرائد بطرف عينه قَبْل أن يعود لينظر لعزيز مُتجاهلاً سؤاله.. قال بهدوء: قلت لكم اعطوني جم يوم وبعطيكم كل المعلومات
رائِد الذي وَخزه بُرود مُحَمَّد حتى أوقَظ قهره: أقول يالحَبيب.. البنات ما يحبّون الرجَّال البارد المتقوقع على نفسه.. أرجوك لا تعيش دور الرجل الغامض وشيل قناع باتمان، عشان تقدر بسهولة تاخذ منها المعلومات
أَكَّد عَزيز بابْتسامة: صَح كلامه.. شخصيتك هذي اللي تقابل فيها الناس ما تصلح مع الزوجة.. ترى برودك ينعكس عليها.. كلما إنت تَجَّمدت.. هي بتتجَمَّد.. ما أقول إن ما في استثناءات.. بس الواضح إن زوجتك ضمن الغالبية.. والدليل إنك جاي لنا خالي الوفاض
كعادته نادى السُحب الرمادية وأمرها بالتَّكدس فوق مرآة عينيه لتمنع انْعكاس دواخله.. صَحيح أنَّ حديثهما صَدمه، ولوهلة شَعر أنَّهما مُطَّلعيْن على علاقته مع زوجته عن قُرب.. لكنَّهُ أَصْمَت صَدمته ولَم يُبْدِها لهما.. وفي الوقت ذاته احتفظ بنصيحتهما في عقله ليعود لها في وقت لاحق.. فَتكاشفه مع البَشر من أصعب الأمور بالنسبة إليه، هاينز الشخص الوَحيد الذي كان يَبوح إليه، وليس كُل شيء أيضًا.. فذاته لا ترتاح لمثل هذه الأحاديث.. لذلك تساءَل ليجبرهما على الانحراف عن الموضوع: شنو الخطوة الجاية؟
أَجاب عَزيز بَعد أن أغلق المَلف: بيت صـــالح
,،
أَغْلَقَ باب الشِّقة.. خَلَع حذائه ووضعه في مكانه.. ارْتدى خُفِّه الخاص ثُمَّ مَشَى للدّاخل.. بانَت لهُ الصّور المُلْقاة ببعثرة على السَّجادة المُتوسِّطة غُرفة الجُلوس.. ألبوم حفلة زفافهما مَتروك على إحدى الأرائك.. الوَسائد الصَّغيرة مُلقاة على الأرض.. حتى أنَّ قَدمه تَعَثَّرت بواحدة منها.. رفعها ثُمَّ ألقاها على الأريكة القَريبة وهُو ينظر لمَطَّارات الشاي والأكواب الفارِغة المُسْتَقِرَّة على الطاولة الصَّغيرة.. وبجانبها أطباق المكسَّرات الزُجاجية المَفقود غِطاء بعضها.. وكذلك صُحون حَوت بَقايا من الحَلوى والكعك. واصَلَ طريقه للمطبخ حيث كان يصله منه صوت الماء والأطباق.. دَخل ليراها تقف عند المغسلة.. قال بِتعجّب: شنو هذا اللي برا! حرب لو شنو؟
التفَتت إليه بانْتباه.. ابْتسمت له قَبْل أن تُدير رأسها لتُكْمِل الغَسيل وهي تُجيبه: استخفّوا على آخر القعدة
وَقَفَ بجانبها وهُو يَخفض رأسه لِيُقَبِّل خَدَّها: زين جان ساعدوش.. بس أكلوا وعفسوا المكان وطلعوا!
ضَحَكت وهي تشرح إليه: جودو تعرفها ما منها فايدة.. وحَنين مسكينة يا الله تشيل عمرها.. وسارة طلعت بسرعة لأن وراها دوام.. وجِنان سوَّت خير ورتبت عفسة الجهال، بنتها وبيان وعبّود.. غيداء قالت بتساعدني بس رفضت.. ما يصير أول مرة يجون شقتي أخليهم يشتغلون
أَحاطَ خصرها: زين أنا أساعدش؟
رَفعت رأسها إليه لتُجيب بضحكة: لا بعد عمري إنت.. شُكرًا ما أحتاج عفستك.. أقصد مساعدتك
شَدَّ أَنفها بمُشاكسة: زين منّي بساعدش يا النتفة "التفت يبحث" وين حلاو غيداء؟ قالت لي سوَّت الحلاو اللي أحبه
أَشارت برأسها للخارج: برّا في البايركس على الطاولة.. لا تاكل الباقي كله ترى ما أكلت
وهُو يبتعد لغرفة الجُلوس: ما أوعدش
تناول لهُ صَحن نَظيف ووضع كُل المُتَبَقّي من الحلوى وهُو يُراقب باب المطبخ بحذر.. بدأ يأكل منها وهو واقف عند الصور ينظر لها من علو.. ارْتَفع صَوته مُتسائلاً: صُور شنو هذي اللي على الأرض؟
وَصَلهُ جوابها: صورنا يوم احنا صغار "اخْتَفى صوتها لثواني قَبل أن تُرْدِف بصوت غَمَرته الضحكة" في لك صور وإنت مُراهق.. تُحْــفة
ابْتَسَم وهو ينحني لها.. حمل بيده مجموعة ثُمَّ اتَّجه للأريكة.. ظلَّ يُناظرها وهُو يأكل وملامحه تَتفاعل مع الذكريات بانْدماج.. على أَنَّ أغلب ماضيه مُدَجَّج بالبؤس والضّيق والظُلم.. إلا أنَّه حَوى بَعْض اللحظات الجَميلة.. رُبَّما لولا السَّواد الذي اصْطَبِغ بهِ ماضيه، لَما قَدَّر بَياض ونَقاء هذه اللحظات الثَّمينة.. فهي كجوهرة نادِرة جدًا تُجابه الظَّلام... وَصَل لصور عيد ميلاد حَنين.. وأثناء مُطالعته لَفَت نَظرهُ وَجْه.. قَرَّبَ الصورة من عَينيه أكثر.. تَحَرَّكَت عَدستاه على الوجه بدِقَّة.. رَكَّز فيه.. مَسَح الغُبار عن الصُور المَنسية في زاوية بالية في قلبه.. دَقَّقَ أكثر.. هل هذه هي! مُستحيل.. فهو في هذه السنة قَد تجاوز التاسعة عَشر.. وهي تَكبره بعامين.. فَيُستحال أنَّها هي.. لكن هذا الوَجه يشبهها.. يَشبه وجه طُفولتها.. الوَجه الوَحيد الذي ظَفَر برؤيته.. وكأنَّها هي فعلاً.. سبحان الله.. الشبه كَبيــر.. ابْتَسَمَ بخفِّة وإبْهامه يمسح على وَجْه الطِّفلة، وكأنَّما يَمسح دُموعًا تائهة هَرَبت من عَيْنيها البَريئَتين في آخر لقاء بينهما قَبْل الغِياب... تُرى من هي هذه الطِفلة؟ من هذه التي مَنحها الله مَلامحًا شَبيهة بملامح أخته؟
بِقَهر: طَـــلااال.. ما خلّيت لي ولا شي!
نَظَر إليها وببراءة كاذِبة: كنت بخلّي.. بس فيها عسل.. ما بتعجبش
وهي ترفع الأطباق المُتَّسِخة: على الأقل خليتني أذوق
غَرَس الشوكة في قطعة متوسطة ثُمَّ رفعها إليها وهُو يقول: ذوقي.. بس صدقيني ما بتعجبش
انْحَنت قَليلاً وتناولت القطعة.. مضغتها للحظات قَبْل أن تنكمش ملامحها وهي تقول: هذي غيداء كابَّة العسل كله فيها!
لَعَقَ المُتَبَقّي من الشوكة قَبْل أن يقول بثقة: قلت لش ما تبعجبش ما صدقتيني "اسْتقامت وقَبْل أن تذهب سأل" نور من هذي؟
نظرت إلى الصورة التي يُشير إليها: من؟
رَفع الصورة إليها: هذي اللي مع حنين
أجابت بعد أن تعرفت عليها: هذي صديقتها
وهو يَعود لينظر لوجهها: شنو اسمها؟
أَجابت بهدوء: حُور
سؤال آخر: من بنته؟
مالت في وقوفها وبحاجب مرفوع مَثَّلت القهر: شعندك تسأل هالأسئلة؟ ترى البنية متزوجة
اصْطَنَع الخيبة: أفــا.. عجبتني وهي طفلة.. قلت باخذها ثانية عليش
ضَحكت بخفّة: ايــه في أحلامك حَبيبي "اسْتَفسرت" ليش تسأل عنها؟
أَجابَ ببساطة: تشبه فاتن يوم صغيرة
: أختك؟
هَزَّ رأسه ثُمَّ قال بابْتسامة: للحظة شكّيت إنها هي.. لين استوعبت إنها في هالسنة طاف عمرها العشرين
أَرْخى الحَنان جِفْنيها وهي تُبْصِر الشَوْق جَليًّا على ملامحه ومَسْموعًا في صوته.. سألته: ما عندك صورة لها؟
بأسف: لا والله ما عندي "وبحسرة أَضاف" غابت بسرعة.. وايد بسرعة.. حتى أسرع من التقاط عَدسة لملامحها
,،
طَوالَ طَريقه للمنَزل لَم تُفارق شَفتيه الابْتسامة، بَل ولَم تُفارق كُل ملامحه.. الذي يراه يَتأكَّد من أَنَّهُ مَغمورًا بسعادة قصوى.. نعم هو سَعيد.. سَعيــد جدًا.. قبل ساعة أخبرهُ والد مروة بموافقتها.. عَضَّ على شَفته وعقله يَسْتعيد مَشْهدها الحالِم قبل ساعات أمام البَحْر.. رُبَّما هي المرَّة الأولى التي يُبْصرها بثوب الخَجَل.. يُليق بها بطريقة مُميَّزة.. فكأنَّما الخَجَل برقِّته وصَفائه يُزيح الغُرور بنعومة، لِيَنثر بتلّاته الحمراء على ملامحها.. وكأنَّهُ يَحْتفي بانْتصار أَزْهاره على سَيْف غُرورها. أَرْكَن مركبته في مُوقفها الخاص.. أوْقَفَ المُحَرِّك ثُمَّ غادِرها مُتَّجِهًا للداخل.. الطابق الأرضي في هذه الساعة دائمًا يكون خاليًا.. لذلك قَصدَ الطَّابق الأوَّل مُباشرة، حيثُ الْتقى هُناك بوالديه وغيداء وعصفوريها الصَّغيرين.. سَلَّمَ ثُمَّ قال وهو يَسْتريح على إحْدى الأرائك: زيـن إنكم مجْتمعين
اسْتَفسرت غيداء المُنتبهة لانْشراح ملامحه: ليش شعندك؟
مالَ رَأسه بالتَّوالي مع مَيلان شَفتيه المُحَصَّنتان بالابْتسامة: عندي خَبَر بيعجبكم
قال والده: حمّستنا يا دكتور.. خبّرنا وخلّص
اسْتقامَ في جلوسه.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه.. نَقَل بصره على الوُجوه الثلاثة المُنتبهة.. وبهدوء: أنا خطبت وقبل ساعة وصلتني موافقة البنت
ضَحَكَ بخفّة لملامحهم التي وَقَعت فريسة للصَّدمة.. كان والده أوَّل النَّاجين والذي قال بابْتسامة مُحِبّة بعدَ أن اسْتوعب مَقْصد ابْنه: مبـرووك يُبه.. ألف ألف مبروك.. فرحتني
بادلَهُ الابْتسامة وهو يرد بامْتنان عَميق: الله يبارك في حياتك يُبه.. مَشكور
تَساءَل: ما قلت لنا يُبه من هذي البنت اللي غيَّرت رايك؟
أَجابَ بِحَرج وهو يمس أنفه بظاهر سَبَّابته: دكتورة معاي في المستشفى.. توها قريب متخرجة من الجامعة "نَظَر لغيداء" مروة
ارْتفع حاجِبَاها بتعجّب وبضحكة عَلَّقت وهي تُرْخي يَد على ظاهِر الأخرى: سُبحان مغيّر الأحوال
نَظَر لوالدته وبهدوء: يُمّه ما علقتين
بحدّة نَطَقت وبملامح مُتَجهمة: أعلّق على شنو! خلصت كل شغلك وجاي تعطينا خبر مثل الأغراب!
وَضَّح: يُمّه ما حبيت أفرحكم على الفاضي وبعدين البنت ترفض
تساءَل والده: من أي عايلة البنية؟
أَجابَ بابْتسامة: يُبه تعرف عايلة أبوها "عادَ ونظر لوالدته" حتى أمي تعرفهم
عُقْدة استغراب قَرَّبت حاجِبَيها: أنا أعرفهم... من هذي!
أَفْصَحَ ليفتَح بوَّابة الماضي المَسْتور لتعبر منها عاصِفة سَوْداء جَعلت عالي بَلْقيس سافلها: مروة حسن الــ... بنت صديقتش سلمى الله يرحمها.
,،
كانت تَجلس أمام المرآة.. تَسكب القَليل من المُنَظِّف في قطعة قطن صَغيرة لِتُزيل المَساحيق البَسيطة عن وَجْهها.. عَيْناها تارة على وجهها.. وتارة على وجه ابْنتها المُشِع بابْتسامة.. كانت مُسْتَلْقِية على بَطْنها فَوْق السَّرير، ساقَيها النَّحيلَتين تَتَرَقَصان في الهواء من خلفها.. يَد عند ذِقنها ويَد تَحْتَضِن هاتف والدتها.. كانت تُحادِث والدها عن طَريق اتصال الفيديو.. تُعَبِّر لهُ عن شَوقها.. تسرد له مواقف يَومها.. وتَسألهُ عن البَلد الحال فيها.. وهُو مُتفاعل معها بانْتباه.. هي لا تَسْتطيع أن تراه بالطَّبع، ولَكن صَوْته المَبْحوح يَصِل إليها بنبرته المُكَلَّلة بالحُب والحَنان.. هي لَم تَتقابل معه مُذ هاجَمها بكلامه في مكتبها.. وقَبْلَ يوم من حفلة زواجه سافرت مع والدتها وجَنى إلى الكويت.. كان هُروبًا أكثر مما كان سَفر.. فهي لَم تَقوَ على الصُّمود أمام قبائِل الذكريات التي نَزَحَت إلى رُوحها بلا هوادة.. خَشِيَت من الانهيار.. خَشَيت من ضِعْفٍ جَديد تَشْمت منهُ ذاتها الفاقِدة لأمل شِفائها.. لذلك أخبرت والدتها بنيَّتها.. والأخيرة رَفَضَت أن تتركها وحدها.. لذلك اعتذرت من خالها وزوجته عن حضور الحفلة وسافرت معها.. كانت الرحلة لثلاثة أيَّام.. سافرن عَصْرَ الخَميس وكانت العَوْدة صَباح الأحد.. وقَد كانت رحلة الهُروب مُفيدة جدًّا.. فهي لَم تنتبه لحفلة زواجه إلا في صَباح اليوم التالي حينما فَتحت عيْنيها وقابَلتها عُقْدة حاجِبَي جَنى المُسْتَغْرِقة في النوم.. حينها تَذَكَّرت عُقْدة حاجبيه.. فَتَذَكَّرته وتذَكَّرت زواجه وابْتَسَمت.. نَعم ابْتَسَمت.. فالفَرحة حَلَّقت في صدرها بنشوة.. فهي فازت.. فازت على نفسها ونسته ليوم كامل.
: مــاما
أدارت رأسها لابْنتها وبحُب: نعم يا عمري
قالت برأس مائل وزَعل طَفيف: بابا سَكَّر
وَقَفَت لِتَتَّجه إليها.. جَلست بجانبها وهي تقول: ما عليه حَبيبتي.. كلمتينه وااجد "تساءلت وكأنَّها تتأكَّد" كأنّي سَمعته يقول إن اشترى لش هدية؟
جَلست على رُكْبَتيها لتُجيبها بحماس: ايــه ماما.. قال اشترى لي هدايا واجد.. واشترى لي القصص اللي أحبهم
شاركتها الحَماس: تَمــام.. عشان كل يوم نقرا قصة قبل النوم
،
على الجانب الآخر من العالِم.. السَّماء ذاتها والقَمر نَفسه.. لكن الليْل كان مُخْتَلِفًا.. كان ينقصه شيء.. كحياته التي كُلَّما تَقدَّمَ فيها شَعَر بأنَّه يَفقد جُزْءًا منها.. وعلى الرغم من تعرضها لهذا البَتر؛ إلا أنَّهُ يَشْعر بثقلها يَجْثِم على صَدره مانِعًا إيّاه من مُمارسة حَقّه في العَيْش بسهولة. التَفت للحركة على يَمينه.. كانت هي.. بثوب نَوْمٍ أَبْيَض من الحَرير المَعْقود بهِ دانتيل أُنثوي بَحْت.. أَضْفى على بشرتها البيضاء المُتَوَرِّدة سِحْرًا خَلّابًا.. خصلات شعرها الناعمة يَسْتريح بَعضها على كَتِفيها، والباقي يَتَدَلَّى كعناقيد حُرَّة ماسًّا ظهرها العاري.. ووجهها قَد احْتَفَظَ بطَبيعته الرَقيقة.. كانت ناعِمة وَجميلة وجَذَّابة... وغريبة.. غريبة جدًا.. غريبة على قلبه وروحه وذاته.. إلى الآن لَم يَسْتوعب أَنَّها زوجته.. فِكْرة أَنَّه يَحُل له الاقتراب منها والتعرف على مفاتنها لَم تنغرس في حواسه بعد.. وهذا يُزعجه ويزعجها بالتَّأكيد.. وكأنَّ حِبال تُكَبِّله لتُذَكِّره بأَنَّ قَيْدَ ذاته لَم ينفك بَعْد.. لا زال مُنْغَمِسًا في الخَمْر المَسْكوب حَوْل عُنق تِلك. هي تَقَدَّمت إليه بوَجْنَتَيْن مُزْهرتين من الخَجَل.. لَم تَعْتد على هذا التَّأمل الجَريء منه.. جَلَسَت بجانبه وذراعها تُعانق ذراعه.. اسْتجابت حواسه لطراوة جلدها وهو يحتك بجلده بنعومة بالغة.. نَظَرَ إليها بابْتسامة وهي بادلته بابْتسامة قَبَّلَها الخَجَل.. شَبَكَ أصابعه بأصابعها وهو يسأل بخفوت: استانستين اليوم؟
أَجابت بسعادة عَميقة: اي واجد.. واجـد استانست.. من زمــاان ما جيت ديزني لاند.. رجعتني عشر سنين ورا
اسْتَفسر: جيتين من قبل؟
هَزَّت رأسها: اي جيت.. مرتين.. ورحت مرة اللي في أمريكا.. وإنت؟
صَمَت للحظات ثُمَ نَطَق بتَحَفّظ: جيت مرة مع جنى.. كان عمرها ثلاث سنوات "زَفَر وهو يُرْدِف" لكن مُتعبة
أَيَّدته: اي مُتعبة "أشارت لقدميها وبضحكة" تكسَّرت من المشي
هَزَّ رأسه: اي والله "ابْتَسَم من جديد وبصدق" لكن أهم شي استانستين
اتَّسَعت ابْتسامتها وعَيْناها تُسْبغان عليه حُب يجلد رُوحه بدلاً من أن يزرع فيها الرَّبيع: اي الحمد لله.. مشكـور حَبيبي
نَظَرَ إليها بحُنو ويده قَد ارْتَفعت لخَدّها تُداعبه برقّة تتعرَّف عليها للمرَّة الأولى.. اقْتَرَبَ منها ونَبضها بَدأ بقرع طُبول التَّأهَب.. اقْتَرَب أكثر حتى لامَست بشرتها أنفاسه وحاصرها عِطره.. انخفضت يده لعُنقها.. ثانيتان فقط.. وقبل أن تستوعب ابتعد عنها.. قال وهو يقف: بتسبح على السريع وبطلع أنام.. نحتاج نريّح جسمنا بعد اليوم الطويــل
ثُمَّ اسْتدار.. خطى لدورة المياه.. دَخلَ وأغلق الباب.. وهي لا زالت تنظر للفارغ الذي تركه ونَبضها قَد الْتوى بِحَرج عارِم وَسَط قَلْبها.. لوهْلة ظَنَّت أن قُبْلة حَميمية سَتجمعها مع حَبيبها.. مع زوجها.. لكن شفتاه اللتان بالكاد لامستا سَطْح خَدِّها كانتا صَفْعة لأحلامها.. لَمْلَمت الحَرج المُتناثِر من وَجْهها بِكَفَّيها.. ضَغَطَت عليه وهي تحْبس شَهْقة قَهر في صَدرها.. حَـرارة أذابت جسدها من شِدّتها.. وهي تَزْداد اشْتعالاً كُلَّما أُعيد المَشْهد في عقلها.. إلى متى.. إلى متى ستضرم في أُنوثتي هذه المَشاعر فَيْصَل.. إلى متى؟
،
هو في الدَّاخل كان يشتم نفسه ويذمّها ويُلْقي عليها أَقْبَح الكلمات ولكن بِصَمت.. هي لَم تَكُن تعلم أَنَّ النار المُتَّقدة فيها هي أضعافًا في جوفه.. لا يدري ماذا يفعل.. لا يدري! هذه الاعْتباطية التي تَنْتَعلها خُطواته تُوتره.. هو لا يعلم ماذا ستكون الخطوة التالية.. كيف ستكون.. وإلى أين؟ نَظَرَ للباب والشَّفقة تغرق عَيْنيه.. لا يُريد أن يظلمها.. لا يُريد أن يكون اليَد التي تَسْتَهِل جِراح رُوحها.. لا يُريد أن ينهب الثقة من أُنوثتها.. لكن أسَفًا أنَّه يفعل كُلَّ ذلك بها.. فَرَكَ رأسه بغضب من نفسه.. سَيْسَتمر انْهمار المشاكل والعُقَد عليه ما دام هُو مُتَصَلِّبًا في المكان نفسه منذ سنوات.. عليه أن يتحرَّك.. على أن يتَّخذ أول خطوة مدروسة.. لكن في البداية.. فتحَ عينيه وعاد ينظر للباب.. في البداية يرجو إن خَرَج أن يلْقاها نائمة.. فهولا يَقْوى على صَد الأَلم الذي يأكل ضَميره حينما يُبْصر الدمع وهُو يَعْبر مُقْلَتيها بضياعٍ وحيرة.
انتهى
|