كاتب الموضوع :
simpleness
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله
الجزء الحادي والخَمسون
الفصل الثاني
الشَّمسُ لَم تَخْلَع رِداء النَّومِ كامِلاً.. فَلازال بَعْضًا مِنها مُنْدَسًّا تحتَ لِحاف السَّماء.. إلا أَنَّه جَرَّ ذاته غَصْبًا وَألْقى بها وَسَطَ هذه الجَمادات مثلَ كُلِّ مَرَّة تَخونه فيها.. وَكَأنَّهُ يُعاقِبها، بأن يَحْرِمها من الإنسان لِيَسْجنها بَين مَرْكَباتٍ عَليلة.. عَلَّهُ بعالجها وإنقاذها من الخَراب يَشْعر بأنَّهُ ذا قيمة في هذه الحَياة.. لَيس مُجَرَّد بقايا تُداس ومن فرط ماهي عَديمة الفائدة حتى أَنَّها لا تُلْفى في سَلَّة المُهْملات.. فلا يَصْلح لها إعادة تَدوير ولا تحليل.. نعم هُو بَقايا، وتَرْميم هذه المَرْكبات لا يشفع له.. ولو لمرّة.. ولو لمرّة يتمنى أَن يَكون نَسْمة دافئة لأحدهم.. أو إحْداهن.. أو ظِلٌّ يَحْمي من حَرارة تَنفثها الدّنيا على رُوحها.. أو حَتى قَلْبٌ حَكيمٌ يَعْرفُ كَيف يَسْتَقبل الشَّكوى، يَحْضنها وَيُرَبِّت عليها بكلماتٍ لَطيفة... لكن أين هُو من كُل ذلك؟! رَمى بِحَنق الأَداة من يده وَسَط الفَوْضى المُعَقَّدة التي أَمامه.. اتَّكأ بباطن كَفّيه على طَرَفي السَّيارة الفاغِرة فاهها وهُو يَخْفض رَأسه مُفْصِحًا عن َزَفْرة طَويـــلة حُبِسَت فِي صَدْره طَوال السَّاعات الماضية.. بَكت.. بَل صاغت مَعْنى آخر للبُكاء.. مَعنى لَم ولن يفهمه لأنّه مَشْروخ الذات.. بَل فاقِدٌ لها مع مرتبة الشرف.. مالت شَفتاه بسخرية مَريرة على هذا الحال الجَديد.. اهْتمامه بها سيصيبهُ بالجُنون قَريبًا إذا لم يُسيطر عليه.. والذي يُثير غضبه وقهره وكُل الأحاسيس البَغيضة، أَنَّهُ لا يستطيع أن يُترجم هذا الاهتمام.. لا يستطيع أن يُصَيّرهُ إلى أفعال قد تؤدي إلى نتيجة.. فَلو أَنَّه هَبَط إلى حُزْنِها فَجْرًا واحْتوى بذراعيه هَشاشة رُوحها.. لَرُبَّما.. لَرُبَّما نَجَحَ فالتَّخفيف عنها.. ولو كان هذا التَّخفيف بمثابة نَفْض شَوْكةٍ صَغيرة عن مَدينتها الحَزينة. يشعر بالخَيبة من نفسه.. وهُو يَخْشى.. أغمضَ عَيْنيه مُتَألِّمًا من مُجَرَّد تَصَوّر الأمر... يَخْشى أنَّهُ قَد خَيَّب ظَنّها.. ماذا قالت عنه؟ الآن في أحلامها.. أو من بين هَواجسها إن كان السُّهاد رَفيقها.. بأي المَشاعر تُفَكِّر به؟ بالطّبع تقول أَنّه الرّجل الأكثر وَقاحة.. مَيّت القَلْب والجَبَل المُتَجَمِّد فَوْقَ ضعْفِها. عـاد وَحَشَر نفسه بين الفَوْضى التي تَعْرف كيف تَشْغله عن جَلْد ذاته في كُلّ مرة يأتيها وَهُو خائب من نفسه.. اسْتَمَرَّ في العَمَل حتَّى أنّهُ أصْلَحَ ثَلاث مَرْكبات وها هُو يَبْدأ في الرّابعة.. فُتِحَ مصْراع المَرأب دُون أن يَنتبه.. فقد كان مُنْهَمِكًا في فَك الاُحْجِية التي بين يديه حتى يعرف الخَلل ويُصْلِحه.. اقْتَرَب الدّاخل منه بخطواتٍ هادِئة وَعلى وجهه علامات الاسْتغراب تَتَجَلَّى.. وَقَف على يَساره ثُمَّ تَساءل بمُزاح: محمد... إنت نمت اهني!
انْتَبه له.. رَفع رَأسه مُلْتَفِتًا إليه وهُو على انْحنائه.. لَم يَتحرّك شيء في وجهه، وملامحه ظَلَّت على جُمودها.. كَأنَّها صَفْحة خالية لَم يُحَدّثها قلم وَلم تَمَسّها يَد.. نَظَر لثانيتان لهُ دون أن يَرْمش، قَبْلَ أن يَعُود لِوضعه السّابق وَهُو يُجيب بصوتٍ بدا أنَّهُ قَد تعاقَد مع الشّتاء: ما جاني نُوم.. قلت أنزل أشتغل أستفيد من الوقت
وَهُو يَتَنَقَّل بِعَيْنيه على المَرْكبات المُعالَجة: الواضح إنّك اشْتغلت بذمة وضمير "أشار لإحداهن" هالسَّيارة من كثر ما فيها بلاوي كنّا أنا وعدنان بنشتغل عليها.. وإنت ما شاء الله قعدت عليها بروحك
بنبرة مُنْخفضة ويَداه تتحركان بخبرة: ما خذت مني ساعتين
هُو الذي عَرَفَ مُحَمَّد لأكثر من سَنتيْن قال مع تحرّكه ناحِية ردائه المُعَلّق: الواضح إنّك تمر بفترة عَصيبة
رَفَعَ بَصره إليه، كانت عَيْناه تَفيضان بالكَلام الذي لا يفهمهُ أحد.. لوهلة شَعَر وَأنَّه يُريد الحَديث.. يُريد أن يتكلم وَيُعَبّر.. يَشتكي من نفسه باحِثًا عن حَل للضياع الذي يرفض مُفارقته.. رَفيقه تَقَدّم منه أَكْثر واضِعًا كَفّه على كتفه وبجديّة واهتمام: محمد تكلم.. يمكن أقدر أساعدك
كردة فعل طَبيعة وجدًا.. عاد مُحَمَّد وانْطَوى على نفسه، حَبَسَ نفسه من جَديد في شَرْنَقة الصَّمْت ومَنَع البَوْح من عُبور قلبه.. لَم يَعْتَد على إظهار ضعفه أو قِلّة حيلته.. ليست شخصيته أبدًا.. ولا يعرف أصْلاً كيف يلتبس هذه الشخصية حتى ولو حاول.. لذلك أَمَر عَيْنيه بأن تُجَمِّدان البَحْر الذي اسْتَعَدَّ لِإرسال بعض أَمواج من كلماتٍ صامِتة.. وعاد وأَخْفض بصره مُواصِلاً عمله، أو هُروبه.. وببرود ليس بغريبٍ عليه: مشكور ياسر.. بس شوية إرهاق لا أكثر
تَفَهَّم تَحَفّظه.. فهذه شخصيته التي اعْتادوا عليها.. مُنذُ أوَّل تعارف بينهما، حينما جاء مُقَدّمًا على عَمَل عنده في المَرأب.. فَهَم أنَّ مُحمد ليس بالشخص العادي، كلامه وتصرفاته وحتى ملامح وجهه تُخفي الكَثير والكثير.. إلا أنّه بجانب ذلك لم يَكن يُقابلهم إلا بالاحترام وتقدير العَمل والزّمالة الطّيبة.. لذلك احْترموا شخصيته وقابلوا الحُسْنى بالحُسْنى. ارْتدى اللباس الخاص بالعمل والذي يمنع عنهم أي ضررٍ مُحْتَمل وغير مُحْتَمَل، ثُمَّ اتَّجه ناحية أدواته الخاصَّة وهو يقول: انزين محمد إنت من زمان اهني.. واشتغلت واجد.. روح ريّح على الأقل للظهر
عَقَّب بنبرة لا تشي بشيء: عادي
حذّره: بتتعب محمد.. لا تنسى إنّك صايم.. وأذان المغرب متأخر.. باقي أكثر من عشر ساعات.. والواضح إنّك مواصل من أمس
نَعم هُو لَم يَنم مُنذ الأَمس.. فهي بَعْد أن أَنْهت صَبيبها، دَخَلت إلى غُرفتها مُغْلِقة الباب، وهو نزل إلى هُنا.. لَم يوقف عمله إلا حينما ارْتفع أذان الفَجر.. صَلَّى وعاد لِيُكْمل جَلْد ذاته.. والتعب لَم يَبْخَل عليه، فهو قَد سَيْطر على جَسده وحَواسه.. والتفكير اتَّخَذَ من رأسهِ حائِط ثَبَّت عليه مسامير عِدَّة ليضربها بالمطرقة، وللأسف فمساميره كُلّها صَدِئة.. لذلك لا تنغرس فيه.. فلا يصل إلى حَل، فَيَتواصل الطّرق بلا فائدة. قال بهدوء بعد أن رَأى زميلهم عدنان يقترب من المرأب..: ما عليه بخلّص اللي في يدي وبركب
,،
: هل أَنت ذاهِب؟
الْتَفَت يَمينه حَيْثُ كانت مارتينا تَقِف تَتساءَل.. أَجابها بابْتسامته المُعتادة وهُو يعود لِيُكْمِل ترتيب مكتبه: نعم سوف أذهب.. انتهى عملي لليوم
عَقَدت حاجِبَيها لِتَقول بعدم رِضا وكَفٌّ تتكئ على خاصرتها باعْتراض: لكن عملي للتو يبدأ.. سوف أقولها من جديد.. هذا الجدول لا يعجبني.. لا يعجبني جدًا
ضَحَكَ بخفّة على حَديثها المُتَكَرّر مُعَقِّبًا بِمُشاكسة: ولكنّه يُعجبني.. أنا مُرتاح هكذا.. النهار طويـل عندكم وأنا صائم.. فالوقت المسائي يناسبني أكثر
بِمَلل: ومتى سينتهي صيامك هذا؟
: أخبرتك بالأمس بأنّي لا أدري حتى الآن.. ولكن أتوقع بعد خمسة أيّام
اتَّسَعت عَيْناها بِمُفاجَأة: كيــف ذلك! بالأمس قلت رُبما ثلاثة أو أربعة أيّام.. كيف أصبحوا خمسة؟
ضَحك بفتور ويده ترتفع لِيَدعك عينه برسغه: لا تُدققين أرجوكِ.. المهم أنَّه لم يَتبقَّ الكثير "َوضع يده على فمه مُتَثائبًا قَبْل أن يَسْتطرد" لَم أنم لأكثر من خمسة وثلاثين ساعة.. يجب أن أذهب الآن
باسْتسلام: حَسنًا اذْهب "رفعت سَبّابتها وبتهديد" لكن سوف تتعشى معي وإلا طلبت منهم إعادة جدولك كما السّابق
وَضَعَ يَدهُ على بطنه: أنا جائِع جدًا.. أُريد أن أتلذذ بالطّعام وأن أشبع.. ولا أعتقد أنّك تُحسنين الطّبخ
مالت شَفتاها بِثقة وذقنها ارْتَفَع بغرور: لا يُوجد شيء لا أحسنه، خاصَّةً الطَّبخ "وبمزاح" إذن لماذا تعتقد ألبي أَحَبَّني؟
ضَحَكَ بِسِعة مُسْتَوعبًا مقصدها.. فخطيبها سَمين قَليلاً.. عَلَّق وهُو يتحرك: أَخشى أن أَحبّكِ أنا أيضًا بعد أن أتذوق طعامك
غَمَزت لهُ وبمَكْر: لا لا تخف.. فقلبك مُحَصَّن بالزُّمرد
حَرَّكَ رأسه يَمينًا وشِمالاً وُهو يضحك.. لَوَّح لها قبل أن يستدير: إلى اللقاء
بادلتهُ التَلْويح: إلى اللقاء.. لا تتأخر.. بعد المغيب مباشرة أنت في منزلنا
أَشار لها بإبهامه بالموافقة دُون أن يلتفت لها وُهو يُواصل مشيه.. غادرَ المشفى بابْتسامة مُرتاحة.. نعم مُرْتاحة.. حينما تنظر إلى وجهه تَرى تَعَبٌ تُزاحمهُ راحة وَيَطْرده اطْمئنان.. هذا الابْتعاد كان أفضل قَرار اتّخذه في الفترة الأخيرة.. كان قَلِقًا عندما أَخْبَرَ عائلته به.. خُصوصًا والدته التي غضبت وبكت واسْتعطفت.. لكنّه كان يحتاج للابتعاد.. يحتاج للهُروب.. يحتاج لأن يرسم مَسافة بينه وبينهم.. وبينها هي قبل الجَميع.. هي أُمِّه.. ابْتسامته عَكَّر صَفْوها أَلَمٌ لَهُ وَجَعٌ يَخْتلف عن كُل أَوْجاع العالم.. وَجَعٌ مَوْلودٌ من جرح أَحْدثته والدته في قَلبه.. أَن يَجْرحني الزَّمن والبَشر أَنا باقٍ لا أنحني، والنّزفُ يَصْمت مُتَكَدِّسًا فوق جرحي ولا يهمني.. فكيف إن كان الجرحُ من يَدُ أُمّي؟ لا ينزف هُو فقط.. بل أَنَّ كُلّي يَنزِف.. رُوحي وقلبي قَبْلَ دمي.. حتى طُفولتي يَشْخب دَمُها المُتَجَمّد فَوْق رُكْبَتي صَبي في السَّابعة ضَرَّته الأرض وهُو يلهو، ضَمَّدت جرحه اليَد التي غافلتهُ وطعنته. اعْتراف طَلال حُفِر في ذاته وَلا يعتقد أنَّ هُنالك سَبيل لِلتخلّص منه.. كلمات تَلَفَّظَ بها لِسانه المُتَلعثِم وَمَضَت لِتَشُلَّ نَبْضه...
،
رَفَعَ يَده أَمامه كَمن قُبِضَ عَليه بالجُرْم المَشْهود وبِحَذَرٍ نَطَقَ وَهُو يُبْصِر من مَكانه انْقلاب مَلامح عبد الله: عبد الله اهْدى.. اهدْى.. خلني أفهمك كل شي
وَقَفَ بِحِدّة ويده ترتفع باسْتفسارٍ مُسْتَنكر: شبتفهمني؟.. شبتفهمني بعد اللي جفته! "سَخَرَ بمرارة" قول بتخون.. قول بتجذب علي.. قول بتشرد مثل المجرمين!
وَقَفَ مُحاوِلاً أن يَتَقَلَّد بسلاح الثّقة.. لكن المَخفي يَجْذب ثقته للسَّحيق.. يُصيّرها لِجُبْنٍ مُضْحِك ونَدَمٌ قَد يَكون فات أوانه.. اقْترب منه خُطْوة ولسانه يحكي حالته المُبْعثرة: أرجوك عبد الله.. اسمعني ولا تستعجل.. لا تظلمني.. إنت.. إنت ما تدري شنو صار.. لا تطلق أحكام ونتايج لمجرد إنّك شفت دليل.. اسمعني.. خلني أقول اللي عندي
أَشارَ لهُ بيده: تفضّــل... قول اللي عندك.. اسْمع
نَظَرَ له برجاء: مُمكن تقعد؟
عَقَد حاجبيه: شالفرق! قول اللي عندك.. ما تفرق قاعد لو واقف
:لا تفرق عبد الله.. تفرق.. أرجوك اقعد.. خلنا نتفاهم مثل الأوادم
جَلَسَ وَهُو يَتَشَبَّث بِصَبْرٍ قَد يعقبه انْفجار حَليمٍ عند الغَضَب: هــا.. قعدت.. تحجى
جَلَسَ هُو الآخر.. مَسَحَ على وجهه براحتيه المُرتعشتين، زَفَرَ ثُمَّ رَفَع عينيه لابن أخته: بتكلّم من البداية.. من البداية كلش.. أرجوك لا تقاطعني
لَم يُعَقّب على ما قاله.. أَعاد ظَهْره للوراء لِيَسْتند وهُو يعقد ذراعيه على صَدره بصمَتٍ وانتباهٍ شَرِسَيْن.. بَلَّل طَلال شَفتيه.. ذَكَرَ اسْم الله في نفسه ثُمَّ فَتح صُندوق الماضي: عشت يتيم في عمر صغير.. عمر حرج.. انحرمت من مدرستي.. أبسط حقوقي في ذاك العُمر.. انحبست وانضربت وانسبّيت بكلمات ما المفروض أسمعها وأنا بذاك السن.. وإنت كنت شاهد على هذا كلّه.. خمس خوات، أمّهات.. يعني لازم تكون الحنيّة عندهم متضاعفة.. وخصوصًا أنا أخوهم الوحيد.. وطفل.. يتيم.. لا أم ولا أب.. لكن ما لقيت غير النبذ منهم.. أمّك دايما تذكّرني إنها تورطت فيني.. طحت في جبدها.. عالّة على قلبها.. كانت تمنعني حتى من القعدة واللعب وياك وويا غيداء.. "ابْتسم بمرارة" كنّا بالخشّة نلعب.. لعبنا فيه خوف أكثر مما فيه فرح.. ما كان راحمني من بعد الله غير ناصر.. ناصر اللي كان لي كل شي.. كــل شي من غير أي مُبالغة.. محد غيره حارب عشان ورثي اللي ما خذيت منه غير الربع.. وأقل بعد.. كان يسأل عنّي ويهتم فيني ويكلّم أبوك ويقنعه يحاجي أمك عشان لا تضربني.. كان أمي وأبوي وأختي وأخوي وصديقي والمرشد لي.. يا ما أخطاء وأفعال سيئة صدرت منّي وهُو اللي احتواني وقابلني وعلّمني.. وأدري إنّي كنت أعاند.. وكنت طايش ومتهوّر.. لكن ما مل مني وصبر علي وما تركني.. "من بين كُل قهره وغضبه وندمه" على الرغم من أحقر وأبغض الأشياء اللي سويتها واللي بعضها ضرّه.. لكنّه ما تركني.. بس لأنّه يحب أبوي ووعده قبل موته إنّه يتحمّل فيني.. "تَجاوزَ بصره الواقع بشكل مَلحوظ جَذَبَ نَظر عبد الله المُنصِت" في مرّة غاب عنّي.. لفترة كانت طويلة بالنسبة لي.. طويلة وايد.. كنت أصيح من كثر ما اشتقت له.. وكنت خايف إنّه نساني.. خصوصًا بعد ما تزوج ويابوا له ولد.. لكن ما خيّبني.. وياني وأخذني معاه لبيته.. يعرفني على.. "تَلَوَّنت عَيْناه بِحُـب دافئ كدفء الابتسامة التي حَطَّت على شفتيه" يعرفني على مولودته اليديدة.. بنته.. نور.. النتفة مثل ما كنت أسميها.. لأن أول شي جذبني فيها صغر حجمها وضآلتها.... تعلقت فيها "رَفع كتفيه" ليـش مادري! حبيتها.. حُب عادي.. مثل ما أحب البحر والحَداق.. مو حُب رجل لامرأة.. لأنها كانت طفلة.. وتوقعتها بتظل طفلة للأبد.. ألاعبها وتسلّيني إذا ثارت علي الدنيا.. ما كنت أدري إن السنين تمشي وتاخذ معاها ثوب الطفولة.. والبنت الصغيرة صارت أنثى كاملة.. امرأة جَبرتني أنظر لها بنظرة ثانية.. غير النظرة البريئة.. وكنت.. ما أدري.. يمكن أتوهم.. بس كنت حاس بإنها تبادلني المشاعر.. عيونها كنت أحس إنها تقول لي اللي ما ينطقه لسانها.. ابتسامتها وخجلها.. وحتى خوفها علي واللي ما شفته من أنثى غيرها من بعد أمي الله يرحمها.. عشان جذي رميت كل شي ورا ظهري.. يتمي وطفولتي المُتعبة.. فشلي وجنوني.. وبديت أرسم لمستقبلنا.. طبّيت البحر واشتغلت.. لفترات كنت أشتغل في اليوم ثلاث أشغال عشان أقدر أحصّل فلوس وأيَمعهم عشانها.. لمهرها ولتجهيزات عرسنا وحتى لسكننا.. خبّيت حبّي وخططي وأحلامي في قلبي.. كنت خايف أنصدم.. منها.. أو حتى منكم.. خفت لهفتي يقابلها صد منها وسخرية منكم.. "بنبرة طَغت عليها السُّخرية" لكن وبكل سذاجة لبست ثقة ما تناسبني.. ورحت وخطبتها من ناصر.. ناصر اللي جمّع كل صفعات الدنيا لي في صفعة وحدة.. رفضه.. رفضه اللي كان الحبل اللي أعدم كل أحلامي.
هَمَسَ عبد الله الذي خَبى غضبه: وبعدين أنا خطبتها
هَزَّ رأسه ونظره للأسفل: اي.. خطبتها وهي وافقت.. وكان زواجكم تعذيب بالنسبة لي "أغمض وكأنّهُ يرفض أن تسْتفزه الذكرى وقبْضته تَشْتَد بارْتعاش واضح" للحين ما أنسى صوت ضحكاتكم وسوالفكم في أيّام سهركم.. كانت نار تشب فيني وتاكلني وأنا أتقلّب فوق سريري "فتح عينيه.. صوته تهدّج وقلبه يَرْجوه أن يَقْتطع هذه الذكريات التي أَهرمته ذات فَجْرٍ وَسَحَر" مرّات كنت أصيــح... أصيح من قهري على نفسي وعلى حظّي.. كنت أشوف نفسي خسرت كل شي، كـــل شي خسرته.. وما بقى لي في هالدنيا أي شي يستحق أعيش عشانه.. كنت إذا أروح البحر أتمنى إنّه يغدر فيني وياخذني له.. كنت أطلب منه يهديني الموت اللي يريحني.. لكن حتى هو دار ظهره لي.. .. وجودي معاكم في نفس البيت كان عذاب.. أشوفك معاها في المكان اللي لازم أنا أكون فيه.. بس كنت أسكت مثل ما سكت قبل.. محد كان يدري.. محد "كَرّر الكلمة حتى بدأ ينخفض رتم صوته" محد يدري.. محد.... "لحظة صَمْت" ... غير أمّــك
عُقدة حاجِبَيْن واسْتنكار عَميـــق أعقبه سؤال متعجّب: أمّــي!
هَزَّ رأسه: أي أمّك.. وما دري شلون عرفت.. بس قالت لي وأنا أنكرت لكنها أصَرَّت على كلامها... فاعترفت.. وهي كعادتها ما رحمتني
تَخَلَّى عن اسْتناده وتقدَّم للأمام، سَأل ونبضه يستجيب للذي بَدأ يُكْشَف: شلون؟
زَمَّ شَفتيه، مَرّر عَدستيه على وجه عبد الله المُتَحَفّز.. نَطَقَ بحذر: هددتني إنها بتقولك إنّي أخونك إذا ما طلعت من البيت وو " أَغْمَض هارِبًا من وَجع الصدمة التي قَد تنهش وجه ابن أخته " وأمرت نور تطلب الطلاق منّك.. وإلا بتفضحها عندك
سَهْمٌ شَعرَ به يقترب، يُهَدّد بالانقضاض على فؤاده.. هَمَسَ وعُقْدة حاجبيه تَزداد.. وتغضّن ملامحه صَيّر وجهه أرْض تسكنها تعرجات وَعِرة: أُمّــي! "وَقَف وأعلام الانْهزام تستعد لِتُنْشَر على كَتفيه" طَلال إنت مستوعب شقاعد تقول! "ارْتَفَع صوته" مستوعب إنّك قاعد تتهم أُمّي!
قابلهُ واقِفًا وبنبرة تَطَعَمَّت بالصْدق: للأسف عبد الله مستوعب.. وأدري شكثر هالشي صادم.. بس لو مو مصدقني اسأل نُور.. أسأل ناصر.. أو أسأل أمّك نفسها
حاولَ أن يَزْدرد ريقه وبصره متركّز على طَلال بانشداهٍ وَضياع، لَكن صَخْرٌ عَظيمٌ عارضه، تَكَوَّمَت الغَصَّات في حلقه وبدأت في الانقسام حتى شعر بها تَطال قلبه.. رَمَشَ ببطءِ الصَّدمة.. سُكونٌ غَريـب نَهبَ حركته وتفاعله.. انْحَرَفَت عَدستاه لجانبَي عَينيه، تَعودان لذلك الماضي الذي كان لُغزًا أَسفًا أنَّ الحاضر كَشف جوابه القاتِل.
" عبد الله مو قادرة أعيش معاك.. أحس.. أحـ ـس إنّي كرهتك.. كرهتك عبد الله"
" كنت في بالي شي غير.. صبرت في البداية.. قلت يمكن أتقبلّك.. غصبت نفسي عليك وو وعلى أشياء واجد.. لكن ما في فايدة! قدرة تحملي خلصت.. صبري نفذ يا عبد الله.. صبري نفـــذ"
"اكتشفت إنّك مو الرجل اللي تمنيت أعيش وياه طول العمر.. وافقت عليك لأنك ولد عمي وبس.. قلت يمكن تكون عن قرب شخص ثاني.. غير عبد الله اللي أعرفه.. صبرت وصبرت.. وللحيـ ـن ما تغير شي.. وانتظرت الحب يدق باب قلبي.. لكـــن!"
"ودموعها تحرق روحه قبل أن تحرق وجهها المُختنق من التعب: عبد الله.. تكفـ ـى.. تكفى.. طلقني.. طلقنـ ـي وريحني.. الحياة صارت صعبة.. صعبـ ـــة"
"أبي الطلاق.. أبي الطلاق ومابي غيره"
"ما أبيك.. ما أبيـك عبد الله"
تَبعثرت الأنفاس في صدره، جُنَّت وبَدَأت تَتقاتل، كُل نَفَس يُريد أن يَنجو من الحَرْب التي بَدأت تَحْتَدِم داخله.. نَطَقَ وَصدره يَرتفع ويَهْبِط برتمٍ غير مُتَّزِن: اللحين.. .. شدخّل!.. ليش قاعد تقول لي كل هذا! الورد.. لا تضيّع أساس موضوعنا.. الورد.. من عند نور.. شلون وصل.. اهني عندك.. في شقتك؟
أَجابَ والأَلم يُعرْبِد بَيْنَ ثَنايا رُوحه: عبد الله.. ناصر يدري بكل شي.. ويدري بتعب نور من كل اللي صار ومن اتّهامات أمّك.. تأنيب الضمير ذبحه لأنه رفضني وعرّضها لهالموقف.. وكل مرة ينذبح وهو يشوفها تذبل قدامه.. عشان جذي " شَهيقٌ عميــق أعقبهُ زفير، أكْمَل وفي عَيْنيه نظرة تَمَنَّت لو أَنَّها تُكْسَر ولا تُبْصِر الموت وهُو يَطأ وجه عبد الله" عشان كل هذا.. طلب مني أملج عليها
تَرَاجَعَ للخَلف.. لا بَل الزَّمن دَفعه.. فَهُو سَجَنه في ماضٍ مَأهول بالألغاز والخَفايا... ثُمَّ رَكَلهُ إلى حاضِرٍ مُدَجَّج برِماحٍ ها هي تطعنه من جَميع الجِهات.. واصَلَ طَلال ودَمْعٌ مازَجَ رَماد عَيْنيه: كان ناصر مُصر يكون كل شي بالسّر في البداية.. كان خايف لو أعطى خبر للكل قبل العقد الموضوع ما يتم.. فقرر إننا نعقد وبعدين ينتشر الخبر
صَمْتٌ يُشْبِه الرَّهْبة بَعدَ دَفْنِ عَزيـز أحاطَ بهما.. كلاهما لا زال واقف، عَيْنا طَلال تَطُوفان مَدائِن عَبد الله وهي تُهْدَم.. وعَبد الله مُسْتَسْلِم لِجَريان السُّم بَين دِمائه وبصره يَتَقَلْقَل في المَكان بِتَيْهٍ وَضياع.. ثوانٍ فَقط.. ثوانٍ وَهَرَب من أنفه نَفَسٌ قَصير لهُ لَحْنٌ ساخِر.. حَرَّك عَينيه لِطَلال الذي رَأى كَيف شاغبت سُخْرِية مَريرة أَكْفان المَوْت المَنْشورة على ناصية وَجهه.. كَشَفَ لِسانه عن سؤالٍ وَحيد... : ليـش؟
فَكان من طَلال جوابٌ وَحيد.. هامِس.. اجْتَمَعَ فيه نَدم العالم أجْمع: آســــف
نَطَقَ من بَيْن آهاته المُنتحرة في قلبه: كنت مثل المجنون.. أفكّر شنو الغلط اللي سويته وخلاها تكرهني وتنفر مني.. شنو الجرم اللي افتعلته واضطرها إنها تطلب الطلاق وتفارقني.. كنت جالد روحي بالطول وبالعرض.. كنت أغلّط ذاتي وأقنعها إنها ضَرّتها.. وساعات.. إذا وصلت لطريق مسدود أتّهمها.. هي نُور.. مع إنّي.. ما شفت منها إلا الخير.. والله.. "ابْتَسَم وَصوته يَسْلَخ نفسه من الغَصَّة" ما ضرّيتها.. ولا هي ضرّتني.. ليش تطاولت الأيادي علينا.. وفرّقتنا؟.. وحَمَّلت كل واحد فينا تعب أَكبر منه!.. كنت أشوفها تتعذب مثلي.. أنا أعرفها.. هي كانت.. .. كانت زوجتـ ـي.. عارف عيونها وفاهم لغة حواسها.. هي بعد تألمت مثلي.. لكن صدها الغريب كان يجبرني أجذّب هالألم وأنكره "رَفَعَ كَتفيه بحَسْرة وافْتقار" لأنّي ما عندي جواب.... طول عمري داير ظهري للمشاكل.. ما كنت أدري إنها قاعدة تطعني.. سهام تتوجه لي.. من أمي وخالي وعمّي!
اقْتَرَبَ منهُ خُطْوة: عبد الله والـ
رَفَع يده أمامه مُقاطِعًا: لا تقول شي طَلال.. لا تبرر.. ما يحتاج.. غلطك إنّك حبيت وسكت.. وو.. وزواجك.. عادي.. هي حُــ ـ.. حُـب حياتك.. أكيد إذا القَدر عطاك فرصة امْتلاكها.. بتمتلكها.. وعمي ناصر.. هي بنته في النهاية.. "أشار لِرُوحه ومن عَيْنيه هَتَفَت صَرْخة طِفل تَدَثَّرَ برداء أُمٍ لَم يَعلم أَنَّها سَتخنقه رَجُلاً"... لكن أُمّــي!.. .. تطعنّي... ..
أنا... .. ولدهـــا!
,
أَغْلَقَ باب شقّته.. رَمى المفاتيح على سَطح خزانة الأحذية المتوسطة الحَجم.. مَشى لِغُرفته.. صَمتٌ يَحفّه من الخارج، وَصخبٌ يَزْعَق داخله.. كَشَفَ عن صدره مُلْقِيًا السترة في سَلَّة المَلابس المُتَّسِخة.. ابْتَسَم بخِفَّة وهُو يَراها مُمتلئة عن آخرها.. حَكَّ رَأسه، يحتاج أن يغسلهم.. ألقى نَظرة شامِلة على غُرفة نومه، مُرتّبة نوعًا ما.. فقط مكتبه في الزاوية مُتراكمة عليه الكُتب والأوراق.. حتى جهاز الحاسوب لا أثر له.. يبدو أنّه مَدْفون تحت هذه الفوضى. اقْترب من سَريره مع ارْتفاع رَنين هاتفه.. أخرجه من جَيْب بنطاله، أجاب وابْتسامة الشَّوق تَطل من شَفتيه: هَلا أم عَبّود
صَوتها النّاعم رَحّب بحُب: بعد قلبي هلا فيك.. شلونك حَبيبي؟
وَهُو يُريح جَسده على السَّرير بنصف اسْتلقاء: الحمد لله.. زيــن.. توني راجع من المستشفى
: يعطيك العافية حَبيبي.. "تساءلت بعتاب" ما اشتقت لنا عبّود؟ ما باقي شي وتكمّل ثلاث شهور على غيبتك
مالت ابْتسامته ويَده ترتفع لِتمس مُقدمة شعره: والله اشتقت.. بس تعرفين الظروف
بحُزْنٍ آلمه: زين لمتى؟ والله فاقدينك.. بيان كل يوم تسأل عنّك.. وعبّود بعد مشتاق لك.. أبوي.. وأمّي عبد الله.. أمّــي
صَمَت لثوانٍ ثُمَّ أكمل بنبرة هامِسة وكأنهُ يَحكي أفكاره: يمكن أقعد اهني.. على طول
شَهْقة خافِتة أَتبعها صوتٌ يَتَلَوَّى من بُكاءٍ قَريب: حرام عليك عبد الله.. إنت تبي تذبح أمّي!
تَمْتَم بملامح مُتَجهمة ويده انتقلت لصدْغه تدعكه: جذي أريح لي
هذه المرّة الْتهمَ البُكاء صوتها: بس مو أريح لنا.. مو أريح لأمّي.. المسكينة متشفقة على صوتك.. لمتى بتحرمها منه؟ والله مسكينة طول الوقت مقابلة التيلفون متأملة إنّك بتكلمها.. وكل يوم تنتظر إنّك تنزّل صورة أو تكتب شي يدل على وجودك
دافع عن نفسه بركاكة: كل ما فضيت أكلمكم في قروبنا
هاجمته: عبد الله تدري إنّك غلطان بس قاعد تكابر.. استويت واحد ثاني بعد اللي صار! إنت كأنك قاعد تعاقب أمّي
عاتبها: أنا أعاقب أمّي يا غيداء؟ أنا عبد الله أعاقبها؟
: وشنو تسمي هاللي تسويه؟
أَجابَ لِيَحكي عَن قَبائِل التَيه التي اسْتَقَرَّت على رِمال صحرائه المُقْفِرة من هُدى ضَوء: غَيداء أنا أحس إنّي غريب.. كأنّي توي انولدت في هالدنيا.. لكن انولدت رجّال غصبه الزمن ينسى طفولته.. محتاج أدوّر طريق يدلني على حياة ثانية.. حياة أبدأها من أوَّل.. حياة أحاول أطهرها من اللي انكشف.. شلون أقدر أبدي من جديد وأُمّي قدام عيوني؟
نَبَّهته للحقيقة التي يُجاهد لإنكارها: بس عبد الله.. إنت مهما طال هروبك.. ومهما اتَّسعت المسافة اللي بينك وبين أمك.. بتظل هي أمّك.. ما يحتاج تكون قدام عيونك عشان يكون هالشي يقين.. هي أمّك في عقلك وقلبك وروحك
سَخَرَ من قَدره الأعوج: ليت العقل والقلب والروح ينولدون من جديد
اسْتعطفته: عبد الله لا تقسى.. هذي جنّتك ونارك.. لا تخسر دنيتك وآخرتك.. راجع نفسك ولا تدفن عبد الله اللي عاش فيك طول العمر
زَفَرَ جَبَلاً ولا زالت تسكنهُ جِبال: إن شاء الله يا غيداء.. إن شاء الله.. بس تفهميني.. محتاج هذا الابتعاد.. صدقيني محتاجه
: ما عليـه.. ما عليه ابتعد.. صدق صعب علينا هالابتعاد.. بس لا تذبحنا باستمراريته
: إن شاء الله.. يصير خير "اسْتَطْرد ليُنهي هذه النقاش المُسَنَّن الكلمات" زين قولي لي.. شخباركم، شخبار الأهل؟
تنهدت: احنا مشتاقين لك.. لكن الحمد لله على كل حال.. والأهــل...
اقتطعت كلامها وهُو اسْتفسر: اي شفيهم الأهل؟
نطقت بتردد: بعد العيد بيسوون حفلة زواج صغيرة لطلال ونُور
همهمَ: زيــن.. "ضحك بخفّة" طلالو بيستوي معرس من صدق.. عاد صوريه لي بشوف كشخته
عُقْدة لَم ترها عَيْناه لَكن سمعتها أُذناه: من قال بروح!
هُو الآخر انتصفت حاجبيه عُقْدة وباسْتنكار: وليش ما تروحين! مو هذا خالش الوحيد؟
عَقَّبت بتعجّب: عبد الله تمزح صح! تبيني أروح عرس طليقتك!
ببرود لَسعها: بنت عمش قبل لا تكون طليقة أخوش.. وبعدين طلال خالش.. شلون ما تشاركينه فرحته؟
سَخرت: قصدك أشاركه حرقة قلبي على أخوي
تجاهل جُملتها التي لَم يتقبّلها ليتساءَل بجديّة: غيداء إنتِ تكرهين طَلال؟
أَجابت بهدوء: أكيد لا
سؤال آخر: تكرهين نُور؟
اسْتنكرت: عبد الله شفيك؟! ما أكرهها ولا أكره طَلال.. بس ما أقدر أحضر عرسهم
اتَّخَذَ طَريق العاطِفة ليَعبر حَديثه إلى قلبها: غيداء إذا تحبينهم يعني بتستانسين لهم
عارضت: لا مو
قاطعها: خليني أكمّل
على مضض: كمّل..
: غيداء طَلال محد له، لا أم لا أخت لا خالة لا عمّة.. فعليًا محد.. وتعرفين شخصية طَلال، في هالليلة بيكون في أمس الحاجة لشخص يكون معاه
عَقَّبَت مُفتعلة عدم الفهم: عمي ناصر وصديقه رائد وباقي الشباب معاه
هُو الذي يفهمها: تدرين إنَّ مو هذا قصدي.. طَلال يحتاج أنثى في هذي اللية.. محتاج حنيّة ومسحة على الخاطر
هَمَست بضيق: صعــبة عبد الله
قال مُتفهّمًا: أدري حبيبتي.. بس ما عليه.. عشان طَلال.. إنت شاهدة على كل حرمانه.. خليه يبدا حياته الجديدة من دون حرمان.. صدقيني وجودش بيسعده أكثر حتى من زواجه منها
بنصف اقْتناع: بفكّر.. مني لذاك اليوم يصير خير
: إن شاء الله "تثاءَب وُهو يَضجع" زين أُم عبّود أنا بسكّر اللحين.. أخوش المسكين للحين ما نام
: حبيبي نام وارتاح.. تحمّل بروحك ولا تجهدها لا بشغل وبلا بتفكير
أَغْمَضَ وهُو يبتسم بحُب أَخوي دافئ: إن شاء الله أُم عبّود.. سلمي عليهم "صمت للحظة، ثُمَّ أبْصَر لِتَلوح من عَيْنيه حَياته المُجْهَضة" وسلمي على أمّي
هَمَسَت بامْتنانٍ أَثارَ شَعبَ مُقلتيها: بعد عمري يا عبد الله.. الله يسلمك من كل شر.. مع السلامة
هَمَسَ والنّوم بدأَ بتقييد وَعْيه ليهرب به عن غَرَق التفكير: مع السلامة
،
أَغْلَقَت الهاتف بَعد أن انْتَهى النّقاش المُتَقَلِّب المَشاعر.. مَرَّت أَشْهُر مُذ تَواجه شَقيقها مع والدتهما.. مَرَّت أَشْهُر ولا زالَ الصَّمْت يَسْكِن المَسافة الشَّاسِعة بَينهما.. هُو من صدمته وانْكساره وَخيبة أمله لا يَسْتطيع مُحادثتها.. وهي من نَدمها لا تَجْرُؤ على البَدء في صُلْحٍ أَو اعْتذار. كَشَفَت عن تَنهيدة مُرْهقة، فقلّة الحيلة لا تَكف عن مُشاغبتها، لا تدري ماذا تفعل لِتُوَجِّه مَجْرى النّهر إلى مَساره الأَصْلي.. فأرض والدتها قَد يَبَست من بُعْدِ وَليدها.. وَرُوح أخيها بَدأت تَتآكل من جَفاف العِتاب. هي لاحظت أنَّ وَجْه عبد الله في الصور التي يُرْسلها إليها أو التي يُحَمّلها في حسابه الاجتماعي تَكشف عن حُزْنٍ يُزاحِم حَوَرَ عَيْنه.. هُو غالبًا يَكون مُبْتَسِم، لكن ابْتسامته تكون مُصْمَتة من شدّة شُحوبها، فَملامحه لا تزال تَحْتفظ بِفَزَعها من الحَقيقة... أَمَّا والدتها... تِلك المَرأة التي لَم تَخْلع رِداء الأبَّهة أَبَدًا مهما أَخْطأت ومهما حَزَنت، هذه المَرَّة سُلِبَت منه وعلى رؤوسِ الأشهاد.. سُلِبَت منهُ وأَلْبَسها الزَّمَنُ خِرْقة من نَدَم عَلَّها تَكون سِتْرًا للفضيحة المُعْلَنة.. لكن لا فائدة، لا فائدة من النَّدم.. فها هُو ابْنها قَد هاجَرَ لِيَتركها تُصارِع فَقْدها إليه.. عاثَ الحُزْن بَملامحها والجَمال الذي اشْتَهَرت بهِ لعقود اسْتَمَرَّ يَشْخبُ من وجهها ساعة بعد ساعة.. فإن لَم تَعُد الثَّمرة إلى شجرتها قَريبًا، فَسيلتهم قُبْح الثُّكْل بَقايا حُسْنها. أَلْقَت نَظْرة عَلى وَلديها النَّائِمين قَبْلَ أن تُغادر غُرْفتها.. كانت الساعة تَقترب من العاشِرة والنصف صَباحًا، هذا الوقت من هذا الشهر الفضيل غالبًا يكون فيه النّاس نِيام.. خاصَّة في أيّام إجازة نهاية الأسبوع.. اتَّجهت لِغُرفة والديها، طَرَقت الباب ولَم يَأتِها جَواب.. كالعادة.. لذلك دخلت دون أن تنتظر أكثر لِعْلمها بالظروف الدّاخلية. السَّتائِر جَميعها مُغْلَقة.. ضَوْء الشَّمس المُهيب كان يَسْترق النظر إلى الغرفة من خلال أطراف النّوافِذ فقط.. فيدلف باهِتًا لا يُضيء العتمة المعنوية الغاص بها المَكان.. المَصابيح بالطَّبع مُغْلَقة، والمُكَيّفان كلاهما يَعْمل وعلى درجة حرارة مُنخفضة جدًا.. وكأنَّ والدتها تُريد أن تُجَمِّد حُزْنها لِتنْجو من أَسْواط وَجعه. اقْتَرَبت هامِسَةً بِحَذر وعَيْناها تَتفحَّصان والدتها المُسْتَلقِية على السَّرير: ماما قاعدة؟
وَقَفَت عند رأسها.. كانت مُسْتَيقِظة، كَفٌّ أَسْفَل خَدَّها، مُتَّكَئًا لِدُموعٍ آثارها نُحِتَت عَلى وَجْنَتيها.. وكَفٌّ اسْتَراحت فَوْق هاتفها المُسْتَقِر قُرْبَ قَلْبها المُتَحَفِّز لِعودة الطَّير من هجرته الطَّويلة.. كانت تَنظر للفراغ.. بل تَنظر للزُّحام الخاوي من ابْنها.. العالم من حَوْلها مُسْتَمِر.. لَم يُوْقِف عَمله فَقْدها الأليم.. وحدها هي من توقفت عن الحياة، اعتزلتها.. وانْتَبَذَت لها زاوية تَنوح فيها وتُسْكِب أُجاج نَدَمها.. حَسْرة تَنْهش جَواها ثُمَّ تُبْصِقه، ثُمَّ تَعود وتنهش بقاياه ثُمَّ تُبْصِقه من جَديد.. وهَلم جَرّا.. هَكذا وَحْدها تُعاين عَذابها دُون أن يَحْنو عليها ضَوء شَمْس.. أو يَهديها نَجْمٌ لامع إلى حَل يُعيد ابْنها لأمومتها المَبْتورة.
ابْتَعَدت عنها غَيْداء عندما رَأت غِيابها التام.. اتَّجهت للستائر، فتحتها لِيَنفذ الضَّوء بِهَيبة وانتشار.. ثُمَّ تناولت أداة التحكم للمكيّف وأغلقته مُبْقِية على واحد فقط والذي رَفعت من حرارته قليلاً.. عادت إلى حيثُ تعيش والدتها.. لَم يتغير وضعها، فهي غير مُنتبهة للذي حولها أبدًا.. جَلست على الأرض بالقُرب منها، نادتها بِمَلَق ويَدها مَضَت تمسح على شَعرها: حَبيبتي يُمّه "لَم يَرف لها طَرْفٌ ولَم يَسْتجِب للنّداء نَبْض.. لَكن هي واصلت" ليش ما تقومين معاي ننزل تحت شوي؟ تغيرين جو عن جو الغرفة الكئيب
صَمْت وإشاحة عن الناس والحَياة.. تنهدت غيداء لتَقول بِأسَى: يُمّه ترى حالش تاعبني.. والله ما أقدر أشوفش بهالحال.. "ترقرقت الدّمعة في عينها ونَشيجٌ عَرَقَل صوتها" اشفقي على قلبي يُمّـ ــه.. والله ما أتحمل الا تسوونه فيني إنتِ وعبد الله
ببطءٍ رَفعت عَينيها لها.. هَمَست بنبرة ميّتة: ما أقدر
تَشَرَّبت بظاهر سَبَّباتها تلك الدّمعة وهي تُعَقِّب: أدري يُمّه.. ما تنلامين.. بس بعد.. حاولي، وضعش هذا ما بيرجّع عبد الله ولا بينسيه اللي صار
سؤال فَقَد الإيمان بكُل الأجوبة: شسوي؟
صارحتها: ما بجذب عليش وبقول عندي حل.. ولا بأمّلش بعبد الله لأنّه بعده جرحه ما برأ.. لكن يُمّه إنتِ بعد ما يصير تعتزلين كل شي.. بس ساجنة نفسش في هالغرفة وتصيحين.. الدموع ما بترجّع عبد الله
اخْتَنَقَت بعبرتها: وشنو اللي بيرجعه؟ شنو اللي بيرجع لي ولدي؟
أَرادت أن تُهديها جواب يُطَمْئنها في الوقت الرّاهن: يُمّــ
: غيداء
الْتَفَتت لجهة الصوت.. انْصَدَمت في البداية لكنّها بعد ذلك ابْتسمت بِحُب.. فالذي يسأل من أين لعبد الله القَلب الطَّيب، فالجواب هُو هذا الإنسان الذي يقف عند الباب.. والدها.. نعم هُو وَرَث قلبه الطَّيب. خَطَى إليهما وهي تعلم جيّدًا لماذا أَتى.. صَحيح أَنَّه هَجَرَ والدتها مُذ حَصَل الذي حَصل.. لكنهُ الآن قَد عاد.. وجدّيته المُحيطة ملامحه بوِقار أَوْحَت لها بالذي يُريده والذي نَطَقَ به: ما عليه يُبه تتركيني شوي مع أمش
هَزَّت رأسها: أكيــد يُبه.. اخذوا راحتكم
انْتَظَرَ حتى غادرت الغرفة وأَغْلَقَت الباب خَلْفها حتى يقترب من السرير.. جلس عندها، قريبًا منها، هي مُستلقية وهُو جالس.. قال بهدوء: أم عبد الله.. قومي
أَخْفَضَت جِفْنيها لِتُخفي عَينيها عنه لأسْبابٍ عِدَّة.. أَوَّلها خزيها... هُو قَبَضَ بخفّة على ذراعيها من الأَعلى.. شدَّها بلطف لِتجلس هامِسًا: هذا أوَّل شي لازم تسوينه "تساءَل باسْتنكار" ما يَبست عظامش من الانبطاح؟
هي تساءلت بعد أن جلست ببحَّة اجْتَمَعت فيها كُل المَشاعر: ليـ ـش جاي؟
أَجابَ بصراحة وبابْتسامة مائلة: والله اشتقت لش.. وحسيت إنّي طوَّلت.. شهرين كفاية عليش الهجران.. وزيادة بعد.. ومابي أكون أنا وعبد الله عليش
هَلَّت دُموعها واسْتَقبلَها خَدَّاها برِحابة: كرهتني بو عبـ ـد الله؟
تَنهيــدة عَميــقة آخرها آه مُتَحَسِّرة: للأسف لا.. لأن هذا اللي تستاهلينه
أَرْخَى الكَمد حاجِبَيها مع ارْتعاش شَفتاها الكَاشِفَتَان عن سؤالٍ آخر: يعني مو مسامحني؟
هَزَّ رأسه بالنّفي وبهمس: أكيد لا.. ولا بسامحش في يوم على هالشي.. لأن اللي سويتنه مو شوي يا بلقيس.. مو شوي.. هدمتين بيت.. فرقتين زوج عن زوجته.. ما همّش إن هذا ولدش!
أَصَرَّت من بين غَصَّاتها: لأنّه ولدي سويت هالشي.. ما تستاهله.. ما تستاهـ ـل ولدي
هُو الذي يَحفظ عن ظَهر غَيْب خَفايا شخصيتها المَعَقَّدة: حتى لو كنتِ أمّه.. مو من حقّش تقررين من اللي تستاهله ومن اللي ما تستاهله.. هو رجال بالغ وعاقل.. يقدر يدير حياته بحكمة.. لو شاف منها شي ما حزن على فراقها
برّرت: ولدك طيّب.. طيبته تمنعه يشوف أشياء واجد
صَحَّح لها: ولدي طيّب بس مو ساذج.. نُور بنت عمه قبل لا تكون زوجته، يعرف تربيتها عدل.. وصارت زميلته في الدراسة وفي الشغل.. وزوجته اللي عاش معاها أكثر من سنة.. يعرفها أكثر من أي شخص ثاني
: بــس يـ
قاطعها بسؤالٍ أَرْهَبَ بَقايا الإنسان داخلها: بلقيس بحق هالشهر الفضيل.. وبحق هالليالي العظيمة.. قولي لي إنتِ شفتين بعيونش، أو سمعتين بأذونش شي يدل على خيانتها لولدنا؟
أَشاحت وجهها عنه وهي تُغْمِض عيَنيها عن حَقيقة ظُلمها.. هُو كَرَّر سؤاله: قولي لي.. كنتِ شاهدة على خيانتها؟
زَمَّت شَفَتيها بِحَنَق.. تكرهها.. تكرهها بشدّة.. وتكره أنَّها تعلم ببرائتها.. تعلم بطهرها.. وتعلم أنَّ ناصر أَحْسَن تَربيتها
: بلقيـــس
اسْتدارت له وبحدّة باكِية: لااا.. لا ما شفت بعيوني ولا سمعت بأذوني.. بـس.. . بس أدري هي ما تحبه.. ما تحب ولدي.. كانت تحب طَــ ــلال.. صدقني تحبه.. والدليل إنها تزوجتـ ــه
عُقْدة بين حاجبيه تَسْتنكر: تظلمينها عشان علاقة سابقة ما كنتِ شاهدة عليها! مجرّد معلومة أو يمكن ظن من عندش
: مو ظن.. سألت طلال واعترف لي إنّه يحبها
ارْتفع حاجبه: طَلال اعترف يحبها.. بس البنية ما صدر منها أي شي يدل على حُب.. كانت المسكينة متعلقة فيه في طفولتها.. وإن حبّته في الماضي.. يمكن ما صار نصيب بينهم.. يمكن صارت مشاكل.. لا هي أول ولا آخر وحدة تحب وتنحب.. المهم إنها ما غلطت ولا سوت حرام.. الله ستر عليها.. تجين إنتِ تتهمينها وتظلمينها وتأمرينها تطلب الطلاق من زوجها!
أَرْجَعَت ظهرها للخَلف وبنفاذ صَبْر: اللحين إنت شتبي؟ " تعثَّرت بالبكاء من جديد" ترى والله اكتفيـ ــت من النّدم.. وهذا حجيكم للحين يرن في أذوني.. لا تزيدهـــ ـا علي
تنهد لحالها هذا وبنبرة حاولَ أن ينثر عليها شيء من حَنان: ما أبيش تظلين حابسة نفس في هالغرفة.. أبيش أول شي تعتذرين من اللي ظلمتينهم عشان الله يقبل اعتذارش
نَظَرَت لهُ باعْتراض: لا ما بعتذر.. أنا أعتذر من طَلالو ومن بنت أخوك!
ببرود: كيـفش... أعتقد تدرين إن الله ما بيرضى عنّش إذا ما صَفّيتين أمورش ويا عباده
تَغَضَّنت ملامحها: أدري.. أدري.. .. بس أنا اللحين ما يهمني غير ولدي.. أبي ولدي يرضى عني.. أبي أشوفه وأكلمه وأحضنه.. أبي أشم ريحتـ ــه
وَقَفَ لِيُفْصِح عن الواقِع الذي لا بديل له: رضا ولدش من رضا خاله وبنت عمه.. اعتذري لهم عشان الله يسهّل المشكلة اللي بينش وبين ولدش
,،
صَوت جَرَس المَنزل.. إنّها الحادية عَشَر صَباحًا، من الآتي في مثل هذه الساعة من يوم الجُمعة وفي شهر رمضان! أُم محمد باستغراب: غريبة.. من جاي هالحزة؟
وَقَف عَلي الذي كان يُشاركها الجلوس بمعيَّة زوجته وشقيقته: بروح أشوف
ثوانٍ وكان يَفْتح الباب الخارجي للمنزل.. عَقَد حاجِبَيه عندما رَأى أمامه فيصل وبجانبه جَنى التي أَسْرَعت للدَّاخل عندما شُرِعَ الباب.. سَأل بتعجّب: شفيها بنتك!
هُو بملامح مُتَغضّنة: مهاوشتني
ضَحكَ وبتعجّب: احْـــلف! "بشماتة" والله زين تسوي.. شكلها هي اللي بتكسر غرورك "تساءل" شنو سبب الهوشة؟
ببرود: مو شغلك "رفع يده" يالله مع السلامة
وهُو لا زال يضحك: الله يسلمك بو جَنى
اسْتدارَ ليخطو إلى سيّارته....: فيـصل
الْتَفَت للنّداء.. كانت هي.. صاحبة القَميص الأبيض... تراجع وعاد ليقف أمامها.. كان قَد دخل علي... فظلَّ هُو وهي فقط.. اسْتَفْسَرت بعدم فهم: فيصل ليش مرجعها من اللحين؟ توقعتك تخليها عندك لليل على الأقل
أجاب وهو يخلع نظَّارته: هذا المفروض.. حتى كنت بخبرش إنّي بنيمها عندي بعد جم يوم.. لكن قالت تبي ترجع
أَرْفَع التَّعجّب حاجِبَيها: ليــش! هي كانت مشتاقة لك.. ومستانسة لأنها بتنام معاك
زَمَّ شَفتيه وهُو يَرْفع كَتِفَيه دَلالة على الحيرة.. لكن هي قَرَأت التَّردد في عَينيه.. لذلك تساءلت: صاير شي؟ لأنها يوم تدخل كانت ساكتة.. جت قعد صوبي بدون ولا كلمة.. حتى يوم سألتها ليش راجعة اللحين ما ردت.. شفيكم؟
حَكَّ ذقنه بتفكير.. دارت عَيناه على وجهها البادية عليها علامات السؤال.. لكنهُ بَدل أن يُجيبها قابلها بسؤال: تدرين شنو داخل الشنطة اللي حاملتها؟
عَقَدت حاجِبَيها مُسْتنكرة الرابط بين سؤالها والحقيبة.. لكنّها أجابته: لا ما أدري.. سألتها ليش بتاخذها معاها قالت تبي تحط فيها من أغراضها اللي هناك
: وصدقتينها؟
هَزَّت رأسها: اي.. الصراحة أقنعتني.. وما حبّيت أجذبها وأحسسها بعدم الثقة.. ليش شنو فيها الشنطة!
أَفْصَحَ بِوَجْسٍ لا يعلم لمَ كانت نَبْرته الضّحكة: خاشة في الشنطة قميصش مال البارحة.. تقول بتوحشينها.. وتبي تشم ريحتش إذا جت بتنام
احْتــراق.. يا إلهي.. الحَرارة زحفت من قلبها حتَّى قنَّعت وجهها بالكامل.. واصلَ مُبْصِرًا الغَزو الأحمر وَهُو يُصْبِغ وَجْنتيها: خبّرتها إن غلط وما يصير ما دام هي بتنام في حضني.. بس عاندت وصاحت.. وتركتني ونامت مع أمي وأبوي.. ومن الصبح قالت تبي تجيش
بالكاد اسْتطاعت أن تُخْرِج صوتها من قَبْضة الحَرج الشَّديـــد: آآســ ـ "حمحمت" آسفة.. فيصل.. والله ما أدري.. من صدق ما أدري
ابْتسم لها بخفّة: أدري "عَضَّ على شفتيه وبضحكة" هالنتفة قصَّت علينا اثْنينا
شاركته الضحْكة وهي تدعك جَبينها المُحْمَر.. همست مرة أخرى: آسفة والله
: ما يحتاج تتأسفين.. أعرفها هي.. عليها حركات
: أنا بكلمها.. بعلمها إن هالشي غلط
أَيَّدها: اي أرجوش.. وبعد اصلحي فيما بينا
ضحكت: لا تحاتي
خَطى للخلف: تَمام.. أشوفش على خير
وهي تستعد لإغلاق الباب والابْتسامة لازالت تُشارك الاحْمرار تَزيين ملامحها النّاعمة: مع السلامة
عادت للداخل وعقلها يَسْترجع الموقف من جَديد.. ما إن رأوها حتى تساءلَت جُود: ليش مرجعها؟
أَلْقَت نظرة على جَنى التي كانت تنظر لها بصمت وتَحَفّز والحَقيبة لا تزال في مَخْدعها.. ابْتسمت ابْتسامة جانِبية وهي تُبْعِد عينيها عنها.. أجابت ويداها تفتحان أزرار العباءة: يقول عنده شغل وما يبيها تقعد في البيت بدونه.. فقرر يرجعها
,،
اشْتاقت إليه.. اشْتاقت إليه لدرجة غَريبة.. نعم هي تراه في المَشْفى.. لَكن لُقْيا الحَبيب في داره أَحْلى من عِناقٍ في أَرْض اغْترابه.. نعم الحَبيب.. هُو الحَبيب أليس كذلك؟ نَعم الحُب لَم يَسْكن قَلْبها إلا من فَتْرة قَصيرة.. الحُب بمعانيه كُلّها لَم يَتَمكَّن منها مُنذ زَمَنٍ بَعيد.. اعْتَرَفت أَنَّها في صِباها أُعْجِبَت به.. أُعْجِبَت بهدوئه المُميز ورزانته.. وكذلك كان يَجْذبها تحمله لِمسؤولية والدته وَشَقيقته رغم الظروف القاهِرة التي عَصَفت بهم.. لكن حينما اقْتربَ منها.. وأصْبح زوجها.. كُشِفَت لها غرابته.. فهُو من لَيْلَتِها الأولى أَذاقها الدِّماء، وَقَطع بِنَصْلِ ضَرباته جُذور أحلامها التي بالكاد بَدأت نموها.. هُو اقْتلعها من أَرْضها التي كانت أصْلاً تُسْقى بماءٍ آسن، اقْتلعها وأَلْقى بها على أرْضٍ تُخَضَّب تُرابها بالدّماء والدّموع.. أسْكنها مَدينة الرُعب مُنذ أوَّل ليْلة لهما.
،
زُفَّت إليه أَخيرًا.. الليلة ستكون زوجته فعلاً.. سَيُخالجها شُعور الانتماء إليه بشكلٍ أَعْمق.. وأَجْمل.. فترة الخُطوبة كانت قَصيرة جدًا بالنسبة لِمُجتمعهما.. اسْبوعان فقط.. ومن ثُمَّ حفلة الزواج الكَبيرة الكائنة في أحد أفخم الفنادق في البَلد.. المدعوون أكثر من نصفهم كانوا من جهة والدها.. أصدقاء عمل ورفقاء درب وغيرهم.. عائلة والدتها كانت صغيرة.. وعائلة يوسف.. لم يكن لديه عائلة.. فمنذ سنوات انقطعت العلاقة معهم، سواء من ناحية والده أو والدته.. تَعَفَّنت الوشائج بينهم مُذ وَقَع والده مُنْتَحِرًا.
انتهت الحفلة في وقت مُتأخر نسبيًا.. الواحدة صَباحًا.. والآن ها هُما يدخلان غُرفة نومهما في الشقة التي سيسكِنانها لحين انتهاء بناء الأرض التي اشْتراها والدها.... اقتربت من المرآة مع ارْتفاع يَديها لشعرها.. بخفَّة بَدأت تُحاول أن تفك الطَّرحة الثَّقيلة مع دُخوله للغرفة.. وَقَفَ أَمامها.. حَرَّكت عَيْنيها جِهته لكنّها لَم ترفعهما لوجهه وابْتسامة خَجولة زادت من جاذِبية شَفتيها المُزَيَنَّتين.. ظَلَّ واقِفًا بِصَمْت لثواني لَم تَحْسبها قَبْلَ أن يَهْمس بأَغْرب كَلِمة قَد تَسْمعها الزوجة ليلة زواجها...
: بتموتيــن
رَفعت عَيْنيها إليه والاستغراب قَد بَلَغ ذروته.. همست بتردد ونَبْضها على أَهب الاسْتعداد: شنـ ـ.. .ــشنو!
ضَغَطَ بِكلتا يَديه على رأسه وهُو يَغمض بشدة، وأَنْفاسه أَصْبحت صَخَبٌ أرْبَكَ حَواسها.. تَجاوزها مُتَجِهًا للسرير مُواصِلاً نفث كلماته الغريبة: ليش توافقين! هُو بيجي.. مثل ذيك اللية
اسْتدارت لهُ والخَوف بدأ بشد رحْله إليها: يوسف شقاعد تقول؟ أنا مو فاهمة!
فَتح عَيْينه.. ازْدردت ريقها وَهي تُبْصِر الاحْمرار الخَفيف المُحيط بهما.. هَمَسَ بأسف: ما كان لازم توافقين.. صدقيني بيجي.. مثل يوم أبوي.. هو يبي يذبح.. يبي أحد عشان يذبحه.. انا اهني.. ما بشوفه.. مثل ذيك الليلة
بنفاذ صَبْر ولحن البُكاء أَخذ يَتَسلق صدرها قاصِدًا حلْقها: يوســــف
كانت ثانيتان.. ثانيتان فَقط اللتان فَصَلتا بَين نطقها باسْمه وَبين الإعصار الذي جَعَل عاليها سالفها.. بَدأ بِكَسر الشمعة العطرية المُتَّكِئة على المنضدة بجانب السَّرير.. وانتهى بِكَسْر قَلْبها الذي انْتَحَر كما انْتحر والده تلك الليلة.. ضَربها بوحشية جعلت منهُ الذّئب لا يُوسف المَسْلوب القَميص.. كان يضرب ويركل ويُلْقي بها.. على الأرض أو على حافّة السَّرير أو يدفعها إلى الحائط.. وكان من بين الحرب التي شَنَّها عليها بلا ذنبٍ منها، كان يصرخ بسؤالٍ واحد
: ليــش توافقيــن؟
اسْتمر في جُنونه المُفْجِع لا تدري لكم قَبْل أن ينبذها على أَرْضٍ باردة ابْتلعت أنينها وآهاتها.. ظَلَّت لِفَترة مَدْفونة أَسْفَل كُثْبان من اللاوعي.. حَواسها ما بين الإدراك وما بين نَفي الواقع.. جَواها بَدأَ يُحيك فكرة أَن يَكون الذي حَدَثَ كابوس.. لَيْته كابوس!..... بعد ساعة فتحت عينيها بصعوبة.. الرؤية مُشَوَّشة، رُطوبة دُموع وتَخَثّر دِماء.. تَحَرَّكت عَدَستاها وَسَط مُقْلَتيها.. كَيَدان تَبحثان عن إنقاذ وَسَط بَحْرٍ مُتلاطم.. عَقْلها يَدور حَول نفسه بمُحاولة للوصول إلى أَصْل الإعصار.. لكنّه في كُل دَوْرة يَصْطدم بالمشهد نفسه والسؤال الغريب ذاته.. لَم يحدث شيء.. لَم تقل شيء.. ولَم تُغضبه بشيء! هي تسمع صوت أَنفاسه.. لا زال في الغُرفة.. لا بل صَوت لُهاثه.. أرادت أن تقوم.. حاولت، لكنّها اسْتَشعَرَت الألم بجميع حَواسِهَا، ترفع يدها بمحاولة عاشرة ولكن لا يرتفع سوى الوَجَع، تنظر إلى المُلقى بعيدًا عنها بعينين نصف مُغلَقَتين سَكَنَ الدمع أطرافهما، رمشت لتسقط إحدى الدّمعات، مَيلان رأسها جعلها تميل عن وجنتيها لتسقط على الأرض أسفل رأسها حيثُ تَجَّمَع نهرٌ من الدموع، ترى في صفحة ماؤه نزيف جروحها وانكسارات روحها... استنشقت من هواء الغرفة الملوّث بذكرى بدأت بنسج خيوطها في زاوية عقلها، تكسرّت جزيئات الأكسجين في صدرها الذي ارتعش، أخرجت الزفير مُشتعلاً كاشتعال روحها.. مع كُل شهيق وزفير يتجدد الألم، ومع ذرف كُل دمعة ينعكس حالها المرير أمامها، دورة ألمها تُؤكد لها أن ما يحدث واقـع.. ليسَ حُلمًا مثلما تمنت عندما شعرت بأول وَخْزَة ألم.
،
كانت تَجْلس على سَجّادة الصَّلاة حينما اسْترجع عَقلها هذه الذكرى الأَليمة.. نَستها في الفترة الماضية.. أَو بالأحرى تَناستها عندما تَأَكَّدت من عِلّة ذات زوجها.. لا يهمها الذي مَضى، لا تهمها الدّماء التي اسْتباحها، ولا الكَدَمات التي وَسَمها على جلْدها.. ستجبر نَفسها على نسيان كُل شيء.. الصدمة، الصراخ.. الضَرب والوجع النَّابض.. ستقتلع صفحة تلك الذكرى من كتاب ذكرياتها.. ولَو اضطَّرها الأمر سَتحرق الكتاب كُلّه لتَتخلص حَتَّى من أَثَر الحِبر الذي دَوَّنها.. كُل الذي تُريده الآن شفاؤه.. شفاؤه وَعودته إلى كَنف أُمّه.. تُريد أَن تُبْصِر بُزوغ فَجْر الراحة من عَيْنيه.. وإشْراق شَمْسِ الأَمَل من بَيْن خُطوط ابْتسامة واسِعة تَيَتَّمت منها شَفَتيه.. تُريده أَن يَحْيا إنْسانًا بِسَلامة قَلبٍ وعَقلٍ ورُوحٍ.. ... .... وذات.
,،
الساعة الثالثة مَساءً قَرَّرت أَن تُغادر غُرفتها لِتَبْدأ بتحضير طعام الفَطور.. لَكن عليها أن تَسأله في البداية عن الصنف الذي يُريده.. هُو غير مُتَطَلَب، يَتَقَبَّل بِشُكر كل الذي تعدّه، صَحيح أَنَّهُ لا يُثْني عليه، ولكنّه يأكل جيّدًا بدون ذَم.. وعلى الرغم من ذلك فهي تسأله كل يوم إن كان يُفَضّل طبخة مُعَيَّنة من باب الاحترام ووضع الاعْتبار له. ارْتَدَت ملابس قُطْنية من سروال وقَميص واسِعان.. ملابس مُريحة لا تُعيقها وهي تعمل في المطبخ.. جَمَعت شعرها عند قِمَّة رأسها ثُمَّ خَرَجت بعد أَن أَلْقَت نَظْرة على وَجْهها.. تَحَسَّن عن الصَّباح.. فقد كان مُتَوَرِّمًا بَشكل فَظيع.. حتى أنَّها ضاقت من وُضوح مَعالم الحُزْن والبُكاء عليه بهذا الشَّكل. كانت تَمشي بخطوات قَصيرة ناحِية المَطْبخ وعَيْناها على بابه.. لكن شيء على جانبها الأيمن جعلهما تَنْحرفان.. تَوَقَّفت عندما أَبْصَرته نائِمًا فَوق إحْدى الأرائك.. لَم تَره مُنذ الفَجْر.. بعد سؤاله وبُكاءَها العَنيف غادَرَ الشّقة، لا تدري إلى أين ولكنّها رَجَّحت أنّه نزلَ للمَرأب.. ومن تلك السّاعة لَم تَره ولَم يَرَها. كان مُسْتَلْقِيًا على ظَهره.. ذراع مائلة على بطنه، والأخرى تُغَطّي عَيْنيه... لماذا هُو نائِمٌ هُنا؟ أَهذا هُو وضعه منذ الفَجر أم أنَّهُ انتقل إليه بعد الصّباح؟ مَرَّرت بَصَرها عليه، لا تعتقد أَنّه مُرْتاح في نَوْمه، فَرجليه مَثْنيتين بِضيق بِسَبب قُصر الأريكة مُقارَنةً بطوله.. نَظَرت لِصَدْره.. يَرْتفع ويَنخفض ببطء، أَنْصَتت لصوت أَنْفاسه دُون أن تُبْعِد عَيْنيها عن صَدْره.. كانت أَنفاسه ثَقيـلة للحَد الذي أَشْفَقَت عليه.. وكَأنّهُ يَجُرُّ النَّفَس من ثُقْبٍ مَنسي بَين صُخورٍ عِدَّة.. تشعر أَنَّ عملية التَّنفس هذه مُوْجِعة.. أليس كذلك؟ أَم أَنَّهُ اعْتاد عليــ
: مَــلاك
تَراجعت للخَلف بشهقة فَزِعة.. نَظَرَت لوجهه.. مَتى اسْتَيقظ! هي لا تعلم أَنَّ الوَعي زاره مُذ أَخْفَضَت مِقْبض باب غُرفتها.. لكنّه مَثَّل النَّوم عندما وَقَفت عنده، حاول أن يستمر في تمثيله لكن وقوفها الذي طال عنده أَرْبكه.. لذلك قاطَع سَرحانها لتنتبه إليه.... تساءَل لِيَجعلها تَتجاوز لحظة الحَرج الصَّابِغ وَجهها: الساعة جم؟
أَجابت بعدَ أن رَشَّحت صوتها من الرَّبكة: السـ ـ الساعة ثلاث وعشر
مَسَح على وجهه وهُو يزفر وبهمس: أستغفر الله ما صَلّيت
وَقَفَ ثُمَّ مَشى ناحية غُرفته.. سألته وهي تنظر لظهره: تبي شي مُعيّن للفطور؟
أجابها بذات الهَمس البارد: عادي أي شي
دَخل وأَغلق الباب.. ثوانٍ وواصلت طَريقها إلى المَطبخ وهي تَهمس ويَدها تَضرب على جبينها بِخَجل: اللحين شنو بيقول الرَّجال؟ واقفة تتأملني وأنا نايم!
,،
تَنظر لصورتها المُنْعكِسة في المرآة.. جَذَّابة.. جذَّابة جدًا وتكره هذا.. لَم تتوقع أن يُعْجِبها الفُستان.. ولَم تتوقع أن يَكون قَصيرًا! لا يبدو أنَّه فُسْتان زواج وهذه أكثر ميزة أعجبتها فيه.. كان الفُسْتان يَصِل إلى نِصْف ساقَيها، أسْفل رُكْبتيها بِقَليل.. لَيس مَنفوش كما قالت جُود.. ولكن لَم يَكون ضَيَّقًا.. كانت سعته مُناسبة وأنيقة.
بابْتسامة واسِعـة وهي تَرى علامات الرّضا على وَجْهها: هـــا شرايش؟
هَمست وعَيناها لا تزالان تَتَأملان: زيــن
حَنين باعْتراض: بس زين! إلا يجنن
جَنى الصَّغيرة عَلَّقت ببراءة: واااو.. عموو مثل الأَنجِلز في الفيري تاْيلز
ضَحكت جِنان: شوفي بنتي تشبهش بالأَنجِلز وإنتِ تقولين زيــن
بملل: شتبوني أقول يعني!
جُود بثقة: قولي يجنن.. قولي أنيق.. قولي يذبح من الجَمال.. " وبخبث" قولي طَلال بيروح فيها إذا شافه علي
ضَرَبتها على كتفها بقهر: جَب يا قليلة الأدب.. ما فيش حَيا
حَنين بمُشاكَسة وهي تغمز لها: وهي صادقة
همست وهي تعود للمرآة: مالت عليكم
جُود بتعليق: هذا وهو بس زين وصار لش ساعة تتأملينه! لو كان يطيّر عقل طَلال؟ يمكن تروحين له اللحين وإنتِ لابسته
رَفَعت سَبَّابتها بتهديد: كلمة زيادة وبخليه حقش ماني لابسته ولا في حفلة بعد
:أووه آسفة آسفة مَدام طَلال
احْتَدَّت نَظرات نُور فوضعت حَنين يَدها على فَم جُود وهي تتدارك الأمر: ما عليش منها.. تعرفينها ذي هبلة ما تعرف تسكت
وقفت جِنان: احنا بنطلع عشان تبدلين وعشان ندفع باقي المبلغ
الْتَفَتت للمرآة مرة أخرى بعَد خُروجهن.. تَأَّملتهُ بدقّة من أَوَّله إلى آخره.. مالت شَفتاها بابْتسامة لاطفها خَجَل فِطْري وهي تَمس أَطْراف الفُسْتان بنُعومة جَمَّلتها.. فعلاً أَحبَّت الفُستان!
,،
تَأَنَّقَت بِتَكَلُّف هذه المَرَّة.. لَيس كَعادتها.. فملامحها النّاعمة تُليق بها البساطة.. لَكن نَزْعة داخلها دَفَعتها إلى ذلك... حَواجب مَرْسومة بِدقّة.. كُحل كَموجٍ مُلتوٍ نهاية عَيْنيها، وأَحْمر شِفاه بلونٍ قُرْمزي تَناسق مع فستانها اللحمي القَصير.. اسْتَدارت يَمينًا ثُمَّ شِمالاً قَبْلَ أن تبتسم بثقة وهي تَرى كَيف بَرَزَ الفُسْتان جَمال جَسَدها. رَتَّبت شعرها المُموج الأطراف بسرعة وهي تسمع رَنين الجَرس.. تَطَيَّبت بِعطرها الأَذْفر ثُّم غادرت غُرفتها قاصِدة الطَّابق السُّفلي.. كان يَقِف عند الباب الدّاخلي بعد أن فتحت لهُ الخادِمة.. تَقَدَّمت إليه بابْتسامة ناعِمة: مساء الخير
بادلها الابْتسامة وهُو يَسْتقر بذراعه خَلف ظهره: مساء النور
كانت تنتظر من عَيْنيه نَظْرة مُختلفة.. نَظْرة خاصَّة كَتِلك التي كانت تُحَلِّق من عينيه إلى جِنان.. لَكن واجهها بنظرته الاعتيادية.. نظرة الدكتور فيصل لِطالبته ياسمين... أجبرت نفسها على تجاهل الأمر وهي تُشير إلى المَجْلس: شلونك؟ أحس من زمان ما شفتك
أَجاب برسمية: الحمد لله.. اي صار أكثر من يومين "تساءلَ عندما دَخلا للمجلس" محد في البيت؟
هَزَّت رأسها: لا محد.. معزومين في بيت صَديق بابا
قالَ بحرج: أووه آسف.. صارت جيّتي اليوم
نَفَت: لا بالعكس.. أحسن يكون البيت فاضي عشان تاخذ راحتك "اسْتطردت وهي تُشير لطاولة الطّعام الصغيرة المُتوسّطة المَجْلس" تفضل ارتاح.. دقايق وبجيب الفطور
غادرت هي وهُو تَوَجَّه للطاولة المَوضوع فوقها الأطباق والكؤوس والملاعق وما يُصاحبهم بترتيب وأناقة واضحة.. جَلَس على أحد المَقْعَدين وهُو يَزْفر بتعب.. لَم يَنم مُنذ الأمس إلا ساعتان رُبَّما.. ومُتَقَطّعتان أيضًا.. دَعَكَ جَبينه والإرهاق قَد رَسَمَ خُطوطه بَين ملامحه.. أَرْبَكته تلك الصَّغيرة.. ابْتسامة حُب مازَجت تَعبه.. وضعته ووضعه جِنان في مَوقف مُحْرج جدًا.. وهي أَيضًا دَقَّت باب مَشاعره المُوارب، ذلك الباب الذي يرفض أن يُخْتَم عليه بالشَّمع الأحمر.. الأحْمر.. اللون ذَكَّره بشيء.. نعم، حُمْرة الخَجل المُعانِقة خَدَّيها.. هي كذلك ارْتبكت، رَأى ذلك في أهْدابها التي تَصافقت مثل جُنْحَي فَراشة. انْتبه لِدُخول ياسمين مع الأطباق ومن خلفها الخادمة تُساعدها.. ضَغطَ بالإبهام والسَّبابة على مَدمع عَينيه.. وَجع رَأسه يزداد ساعة بعد ساعة.. هذه المرة الثانية التي يَفْطر في منزلها.. المرة الأولى كانت باجتماعٍ مع أُسْرتها.. هي أيضًا فَطَرت معه مرة في منزل والده.. العلاقة بينهما هادئة.. رَسمية أكثر من اللازم والسبب هُو بالطَّبع.. لا يستطيع أن يتعامل معها كزوجة.. لأنّه وللأسف لَم يستوعب حتى الآن أنَّها زوجته! جَلست أمامه وبدأت تغرف إليه وهي تقول: إن شاء الله يعجبك طباخي
ابْتسم لها وعَيْناه تَطوفان على الأطباق: الريحة تشجّع.. بس متعبة نفسش.. واجد مسوية
بخجل وَضَّحت: ما أدري شنو يعجبك بالضبط.. فسويت طبختين
: تسلم ايدش
ضَحَكت: كل أوَّل وبعدين قولي تسلم ايدش.. يمكن ما يعجبك
شاركها الضّحكة: لا مبيّن من الشكل إن الطعم بيرفكت
بَدأ الاثنان في الأكل.. هُو أكَل لُقمتان ثُمَّ أثنى على طبخها من جَديد مُؤكّدًا على لذاذة الطعم.. الصَّمت كان سَيَّد المَكان ما خلا من بِضع جُمَل قصير لا تُغْني ولا تُسْمن جُوع قَلْبها.. هذه الرَّسمية قريبًا سَتُثير غَثَيانها، كأَنَّها طالبته، أو زميلته أو أي شيء عَدا زوجته!.. هُو حتى لَم يمسك يَدها لمرّة، آخر مرّة أمسكها ليلة عَقد قَرانهما من أجل التصوير.. لَم يُحاول أن يقترب منها ليُزيح خَجلها، لا قُبْلة على الجَبين وعلى على الخَدّين.. حتى لِسانه لَم ينطق بكلمة ودّية! أَخفت تَنهيدتها في صدرها وأَصْمَتت ضَجيج تَساؤولاتها.. انْتبهت لهُ يدعك جبينه، لاحظت ذلك لأكثر من مرّة مُذ شاركته الجُلوس.. يدعك جبينه أو صدغه.. اسْتَفسرت باهْتمام: فيصل فيك شي؟ شكلك تعبان
أَجاب ببحّته التي كانت مُضاعفة: مو نايم من أمس فجاني وجع راس
عُقْدة حاجبين: ليش مو نايم عسى ما شر؟
ابْتَسَم بخفّة وبنبرة أقرب للهمس: متهاوش مع جنى وزعلت منّي
ارْتَفَع حاجباها: متهاوش مع جَنى... ليـش!
حَرَّك رأسهُ مُشيرًا إلى عدم أهميّة الأمر: ولا شي.. بس عناد أطفال
ضحكت مُعَلّقة: بعد تعرف تتهاوش
هَزَّ رأسه: اي وتزعل زعل قوي.. تركتني وراحت تنام مع أمّي وأبوي
: أوووف قويّة
تَمَتم بحب: ما ينقدر عليها هالنتفة
تَساءلت: تبيني أسوي لك شي حق وجع راسك.. يعني عادةً إنت تشرب شي؟
نَفى: لا مشكورة ما يحتاج تتعبين نفسش.. أحتاج بس أنام ساعات كفاية
هَزَّت رَأسها بتفهم ثُمَّ أخفضت رأسها لطبقها.. حَسنًا ستعذره الليلة.. فهو مُتْعَب وهذا واضح جدًا.. وكذلك باله مَشغول مع زعل صَغيرته.. ستترك الهواجس جانِبًا.. رُبما سيتغير الوضع في الأيام المُقْبلة.. لَم يَمر إلا ثلاثة أشهر على عقد قرانهما.. هما للآن في بداية الطَّريق، يجب ألا تستبق الأمور.. وبالذات أن زوجها هذا ناجٍ من عِلاقة خَطِرة وجدًا.. علاقة مع حَبيبة عُمْره.. جِنان.
انتهى
|