السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..
كيفكم يا حلوين ؟ إن شاءالله تمام ؟ .. أحب أقول لكم كل عام و انتم بخير , و عيدكم مبارك ..
أعتذر عن التأخير اللي صار .. كانت عندي شوية ظروف و التزامات منعتني من الكتابة , لكن عندي لكم بشارة حلوة : بارت اليوم طويل طويل مرة , يعني دبل البارت اللي قبل .. تقريبًا 24 صفحة بالوورد: يعني باختصار ( من طول الغيبات جاب الغنايم ) ..
البارت بيكون متعلق بأحداث الماضي لأبطالنا , و الحلوة الأمورة هي اللي رح تقدر تربط أحداث الحاضر بالماضي ..
قراءة ممتعة حبايبي ..
الفصل الثامن عشر 18 :
تابع ( قبل 30 سنة ) ..
خرج من المنزل محملًا بأحلامه و مأساته على عاتقيه , تاركًا خلفه جزئه الآخر و صندوق أسراره , الذي خذله عند أول مصيبة وقعت ..
مشى حافي القدمين وهو يفكر أين سيمضي هذه الليلة ؟! أو بالأصح , أين سيقضي المتبقي من عمره ؟! .. تذكّر أنه لا يحمل المال و لا حتى مبلغًا صغيرًا يشتري به غداءً لنفسه , أدخل يديه في جيوبه و ابتسم سعادةً عندما وجد هاتفه , أمسك به وهو يفكر بمن سيتصل ! .. هل يستعين بالشرطة لإيجاد ملجأ ؟ و لكنه خاف أن يعرفوا بشأن المخدرات التي كان يتعاطاها , و ينتهي به المطاف بالسجن و يكون هذا هو ملجأه ! ..
فكّر كثيرًا وهو يمسك بهاتفه أسفل شمس الظهيرة الحارقة , مشى قليلًا ليستظل أسفل إحدى النخلات في الطريق .. وهو يلمح نظرات السائقين إليه , بعضهم كان ينظر بشفقة , و البعض باشمئزاز و كبرياء !..
أعاد نظره إلى هاتفه و قرر الاتصال بعبدالرحمن , و ما لبث ذاك كثيرًا حتى رفع السماعة قائلًا :
" أهلًا فيصل "..
" عبدالرحمن , أهلًا , لابد من أنني أيقظتك من قيلولتك ! "..
" لا , لا عليك , كنت مستلقيًا فحسب , ما الأمر ؟! "..
تردد فيصل بالحديث قليلًا , حيث قال عبدالرحمن و هو ينهض من سريره :
" فيصل أأنت بخير ؟! "..
قال فيصل بسرعة وكأنما سؤال عبدالرحمن حفزه على الكلام :" لا , لست بخير , أنا في ورطة يا عبدالرحمن , بل مصيبة ! "..
" يا إلهي .. ماذا حصل ؟! "..
" إنه موضوع ضخم للغاية , لا أستطيع الحديث عنه الآن , هل يمكنني أن آتي إليك في منزلك ؟!"
" بالتأكيد , أنا في انتظارك "..
توجه فيصل نحو منزل عبدالرحمن , الذي كان يسكنه لوحده , حيث كانت عائلته قد انتقلت للعيش في الخرج , أما هو فقد بقي في الرياض ليكمل دراسته الثانوية و الجامعية فيها ..
وصل فيصل بعد نصف ساعة وهو يتعرق بشدة و بالكاد كان يستطيع التنفس , فقد قطع الطريق مشيًا على الأقدام و قد كان على وشك تلقي ضربة شمس حادة !..
طرق الباب بسرعة و فتح له عبدالرحمن , و قد تفاجأ بوجه صديقه الأحمر و قد أحاطت بعيناه هالات سوداء , و امتلأ وجهه عرقًا . دخل إلى المنزل و لكن سرعان ما أصابه دوار و سقط على ركبتيه و هو يتنفس بصعوبة , هلع عبدالرحمن من منظر صديقه و انحنى إليه قائلًا :
" فيصل ! .. أكنت تمشي بالشمس طوال الطريق ؟! "..
هز فيصل رأسه بـ نعم , و هو يسعل و يعود للتنفس بعمق , ساعده عبدالرحمن على النهوض قائلًا :
" أنت حقًا متهور ! , لقد كان من الممكن أن تتعرض لضربة شمس أو أي شيء من هذا القبيل , لماذا لم تأخذ سيارة والدك للمجيء ؟! أو تستقل سيارة أجرة على الأقل ؟! "..
نظر فيصل إلى عبدالرحمن بحدة عندما ذكر والده , وهو يعود برأسه إلى الوراء مسترخيًا على الأريكة و قد وضع يديه على رأسه ..
طال صمت فيصل وهو جالس بهدوء , و قد دارت الشكوك في عقل عبدالرحمن , فنهض ليجلب بعض الماء البارد لصديقه و وضعه على الطاولة و عاود الجلوس و هو يضع يده على كتف فيصل بلطف قائلًا :
" فيصل , ألن تخبرني ما بك ؟! لقد قلت أنك في ورطة , ما الأمر , أنا كلّي آذان صاغية "..
تنهد فيصل بتعب و هو يأخذ كأس الماء و يشربه كاملًا , ثم نظر إلى صديقه قائلًا :
" هل أستطيع أن أمكث هنا معك ؟! أعني أن أمكث طوال عمري ؟! "..
تغيرت ملامح عبدالرحمن وهو يقول :" ماذا حدث يا فيصل ؟! .. لم قد تسكن في مكان غير منزلك ؟ .. عذرًا أنا لا أقصد أنك لا تستطيع البقاء هنا و لكن .. لماذا ؟! و ماذا عن والدك و أخوك ؟! ماذا حصل ؟! "..
تنهد فيصل و هو يثبت نظره على الأرض باستغراق ثم قال :" لقد عَلِم والدي ".. صمت قليلًا ثم أكمل :" لقد عرف أنني أخرج لوقت متأخر كل يوم , لقد عرف عن الأمر برمته ! "..
تساءل عبدالرحمن :" و قد خرجت من المنزل هربًا من عقوبته ؟! "..
نظر فيصل إلى عبدالرحمن ثم قال بهدوء :" لا , لم أهرب .. بل تبرأ هو مني و طردني "..
فتح عبدالرحمن عيناه بصدمة و هو يجهل السبب تمامًا , فقال :" تبرأ منك ؟! .. أنت لم تفعل شيئًا شنيعًا ليطردك هكذا !! "..
" إنه لم يعرف فقط عن أمر خروجي , بل عرف أيضًا بأمر المخدرات يا عبدالرحمن "..
" لقد كنت تتعاطى طيلة الفترة الماضية أليس كذلك ؟! "..
هز فيصل رأسه بالإيجاب و هو يمسح عينيه بيديه و بإرهاق تام ..
قال عبدالرحمن :" لقد كنا أنا و عادل نظن ذلك , و لكننا أحسنّا الظن بك ! "..
نظر فيصل إلى صديقه بحدة قائلًا :" إياك و أن تحدثي عن ذاك الجبان ! .. أهذا مفهوم ؟! .. ذاك الطفل لم يعد أخي .. لقد كسرني صمته أكثر من عتاب والدي و براءته مني !! .. "
" عادل ؟! "..
" نعم , عادل .. لم يحاول التحدث أو توضيح الأمر لوالدي أبدًا , لقد وقف ضدّي .. سأجعله يدفع ثمن ضعفه و صمته ذاك الجبان "..
لم يتمالك عبدالرحمن نفسه و قال :" ستجعله يدفع الثمن ؟! لماذا ؟! .. لم يفعل عادل شيئًا ! "..
وقف فيصل و هو يرمي بكلامه عبدالرحمن :" أنت في صفه أيضًا ؟! .. ستقف ضدي أليس كذلك ؟! .. لابد من أنك تراني الان بصورة الفتى الضائع .. أتعلم شيئًا ! لقد أخطأت عندما استنجدت بك ".. انهى فيصل حديثه و هو يتوجه نحو الباب و ما كاد أن يخرج حتى سحبه عبدالرحمن إلى الداخل مجددًا و هو يقول :
" لن تذهب , أنت لم تفهم قصدي بعد "..
" لا أحتاج لفهمه , إنه واضح ".. حاول فيصل إزاحة عبدالرحمن عن الباب و لكن صديقه أمسك به من كتفيه و هو يصرخ بوجهه :
" فيصل !.. ماذا أصابك ؟! .. هل تريدني أن أكون ذاك النوع من الأصدقاء الذين يقولون أنك على حق دائمًا ؟! ..هل تريدني أن أقول بأنك أحسنت صنعًا عندما أضعت مالك و شبابك في المخدرات ؟! .. أو أن أخرج الآن لأشتري لك المزيد منها ؟! هيّا أجبني ! "..
أشاح فيصل بنظره و قد أنهكه التفكير في نفسه و في وضعه الراهن .. و لم يستطع الإجابة على عبدالرحمن الذي قال :
" نعم يا فيصل , لقد كان عادل على حق , حتى و إن لم يقل شيء , ماذا كنت تتوقع منه أن يقول ؟.. هل أردته أن يدافع عنك و يصرخ في وجه والدك قائلًا بأن المخدرات ليس حرامًا أو عيبًا ؟! .. "
رد فيصل باندفاع قائلًا :" لا , لم أكن أريده أن يقول ذلك , و لكن كان عليه على الأقل أن يجعل والدي يتراجع عن قرار البراءة مني و طردي ! "..
" أنا لست ضدك , عليك أن تضع هذه العبارة في رأسك دائمًا , عندما أتيت إلي قبل ربع ساعة و استنجدت بي , كنت قد وعدت نفسي سرًا أن أقف معك و أساندك حتى النهاية .. و أول أمر سأفعله بصفتي صاحبك هو أن أخبرك أنك على خطأ , لن أكون صديق سوء , و بما أنك في منزلي الآن , فعلينا سوية أن نناقش هذا الخطأ جيدًا .. "
بدأ أعصاب فيصل ترتخي مع نبرة عبدالرحمن المساندة له , و الذي أكمل قائلًا بابتسامة :
" إن كنت تريد المكوث هنا طوال عمرك , فليس لدي مانع .. و لكن بشروطي "..
" شروط , مثل ماذا ؟! أن أعمل كخادمة و سائق لديك ؟! "..
ضحك عبدالرحمن على صاحبه قائلًا :" متى ستصبح أكثر جدية ! .. على العموم , لدي شرط واحد .. لا مزيد من المخدرات , اتفقنا ؟! .. و يمكنك فعلت ما شئت في هذا المنزل "..
" و لكن .. "
" لا تقل و لكن ! .. أنا أعلم بأنك قد دخلت مرحلة الإدمان الآن , و هذا واضح على وجهك .. أعلم بأنك ستختبر أيام عصيبة , و قد تفعل أي شيء مقابل جرعة صغيرة , و لكن لا تفعل .. فُز بمعركتك ضد نفسك أرجوك .. سأفعل كل ما تريده مني و لكن توقف عن هذه السموم "..
تنهد فيصل و قال بتهرّب :" سأحاول .. "..
" إذًا .. مرحبًا بك في منزلك ".. عانق عبدالرحمن رفيقه الذي بدا هزيلًا مقارنة بالأشهر التي مضت .. قائلًا له :
" هيّا تعال معي , هناك غرفة فارغة في الأعلى , ستمكث فيها "..
صعد الاثنان و بدآ بترتيب الغرفة و تنظيف الغبار .. بينما ذهب عبدالرحمن لجلب ملاءات و وسادات جديدة من غرفته و إعطائها لصاحبه ..
انتهى الاثنان من تجهيز الغرفة و اصطحب عبدالرحمن فيصل معه لتناول الغداء قبل صلاة العصر .. ثم توجها لأحد المراكز التجارية لشراء ملابس و أساسيات قد يحتاجها فيصل .. و عندما خرجا قال فيصل بخجل من صاحبه :
" عندما أحصل على بعض المال , سأعيد لك ما دفعته .. "
رمق عبدالرحمن صاحبه بغضب .. فقال فيصل :
" لا تنظر إلي هكذا , أنت لست ملزم بمصاريفي ! .. سأذهب لأبحث لي عن وظيفة ليلية .. "
" و لم هذه الرسميات أيها التافه ؟! .. نحن كالأخوة .. لا داعي لهذا الحديث , نستطيع أخذ المال من بعضنا دون هذه الأحاديث السقيمة ! "..
" أعلم , ولكني لا أزال مصرًّا على إيجاد وظيفة , نحن نتشارك المنزل و لابد أن نتشارك المصاريف أيضًا "..
" فيصل , إن والدي يبعث لي بمبلغ كبير كل شهر , 5000 ريال , إنها كافية لنا .. لم تريد إرهاق نفسك بوظيفة ؟! "..
" لا بأس يا عبدالرحمن , أنا أعرف بأنك لن تمانع من مساعدتي ماديًا , و لكني أريد قضاء وقتي في شيء نافع , لعله ينسيني رغبتي بالتعاطي ! "..
" صحيح , لم أنتبه لهذه النقطة , و لكن ماذا بشأن دراستك ؟! .. لقد بقي شهران فقط على التخرج ! .. عليك أن تكمل يا فيصل , لا تجعل سنوات الدراسة الماضية تذهب سدًى ! "..
" لا , لن أفعل .."
فتح عبدالرحمن عينيه بصدمة قائلًا :" فيصل , أأنت جاد في كلامك ؟! .. لقد بقي شهران فقط ! .. إن استطعت انهاؤها فستمتلك شهادة ثانوية و هذا سيكون رائع , و إن لم تفعل .. فذلك سيصعب عليك فرصة إيجاد وظيفة ! "..
" لا أهتم .. ليس هنالك أمر أطمح إليه "..
" فيصل , لا يمكنك العيش هكذا بدون أمل , ذلك سيودي بك إلى الهلاك , أنا لست دائمًا لك و لا أحد على هذه الحياة سيدوم لك , عليك أن تكمل تعليمك , تعليمك الثانوي على الأقل ! "..
صرخ فيصل منفعلًا :" لقد قلت لك لا ! .. لا أريد أن أتواجه مع عادل في المدرسة ؟! .. أفهمت الآن ؟! .. و لا أستطيع أن أنتقل إلى مدرسة أخرى , نحن في نهاية السنة الدراسية و ذلك سيكون مستحيلًا , و لن أؤجل دراستي إلى السنة القادمة , و أعاود دراسة كل شيء من جديد ! .. سأتوقف فحسب , لن أكمل دراستي , سأبحث لنفسي عن أي عمل لأقوم به "..
" ستتنازل عن الشهادة حتى لا تصطدم بأخيك في المدرسة ؟! .. أترى أن هذا عذر منطقي ؟! "..
" إن كنت في نفس وضعي يا عبدالرحمن , فستتفهم موقفي , ستعرف كيف أنه من المميت أن تصطدم صدفة أو تلتقي عيناك بعينا ذاك الشخص الذي حطّمك ! "..
" و ها أنت تقول أنه حطمك ! .. فهل ستترك دراستك من أجل شخص فعل ذلك بك ؟! "..
" أنا لن أترك الدراسة بسببه , و لكن ... لقد اكتفيت يا عبدالرحمن , لن أستطيع الإكمال , لا أستطيع التركيز بشيء , لقد تغيرت حياتي رأسًا على عقب , إن أكملت دراستي فسأرسب ! .. إن عقلي لم يعد مِلكي ! .. لا أستطيع .. "
هز عبدالرحمن رأسه بهدوء و هو يقود السيارة متجهًا إلى المنزل .. لقد كان هذا أول يوم لهم سوية , و قد اكتفى عبدالرحمن من الحديث عن عادل , و قد لاحظ أن فيصل مشتت طوال اليوم , و قد ملأت الكسور قلبه و روحه ..
لم يستحمل عبدالرحمن منظر فيصل الذي اختفت منه معالم القوة التي كان يتحلى بها سابقًا , و التي حل محلها الضعف و الخجل , و ذاك التمرد الذي يُخفي وراءه حطام روحه ..
بدأت بذرة صغيرة من الكره تنمو في عبدالرحمن تجاه عادل ! .. و ذاك الكره لم ينمو بسبب شخصه , بل بسبب الأثر الذي تركه عادل في توأمه .. !
**********
مضت الأيام و كان فيصل يتردد إلى جميع المحلات التجارية التي يعرفها و مراكز الخدمات بحثًا عن وظيفة , حيث كان يمضي فترة ما بعد العصر في البحث , و لا يعود إلى المنزل إلا عندما يتوّسط القمر السماء ..
و بعد عدة أشهر.. و بعد عدة محاولات في البحث , حصل أخيرًا على وظيفة بائع في إحدى محلّات الخضار و الفواكه ..
كان يشعر ببعض الذل و هو يقف بين الخضار و يملأ الأكياس للزبائن , و قد أحاط به عددًا من العمالة العربية و الآسيوية الذين يعملون معه , و قد كان هو السعودي الوحيد المتواجد .. كانت تجتاحه كثيرًا مشاعر العزة بالنفس و الشعور بتدنّس الكرامة , و قد نسي تمامًا أن العمل و كسب الرزق باليد هو خير و أشرف من طلب المال من الآخرين و التوسل , و لم يكن هو الوحيد الذي يشعر بذلك , بل أغلب العمالة السعودية الذين يعملون في وظائف صغيرة مثل فيصل و برواتب متدنية .. و قد تغلغلت لديهم قناعة سلبية قديمة بأنهم خُلِقوا ليَشغلوا وظائف و مناصب أعلى ! ..
و لكن فيصل كان يفكر كثيرًا في حياته السابقة .. و كيف أنه كان يسكن قصرًا كبيرًا يملأه الخدم و كل ما لذ و طاب , و قد انتهى به المطاف شريكًا في السكن مع صاحبه , و موظفًا في محل صغير ..
و لكن الحرية التي وجدها في وضعه الحالي كانت تساوي عنده ملايين القصور , و قد وجد الراحة و الشعور بالنضج في كل مرة يخرج فيها من المنزل وقتما يريد , و عندما يصحو صباحًا دون أن يقوم أحدًا بالتحقيق معه فيما فعل و ما لم يفعل ..
مضت السنوات , و قد ارتقى فيصل في عمله حيث أصبح يدير المكان بأكمله , و قد زاد راتبه بمعدل خفيف , أما عبدالرحمن فقد كان يخوض تجربته الجامعية بجدارة ..
تخرّج عبدالرحمن , بعمر الـ 23 عامًا , و بدأ والده بالبحث عن وسطاء و معارف ليجدوا لابنه وظيفةً حكومية .. و بعد عدة أشهر , بشّر والد عبدالرحمن ابنه بأنه وجد له وظيفة رسمية في أحد القطاعات الحكومية في الخرج ..!
فرح عبدالرحمن و فيصل لهذا الخبر , و قد خرج فيصل من المنزل ليشتري عشاءً فاخرًا لهذه المناسبة المفرحة .. و ما أن انتهوا من تناول الطعام , حتى تحدّث فيصل قائلًا :
" و للمرة الألف أقول لك , مبروك الوظيفة , أنت تستحق كل خير فعلًا "..
ابتسم عبدالرحمن بهدوء و قال :
" بارك الله فيك , و لكن .. إن الوظيفة في الخرج ! "..
" و ما المشكلة في ذلك ؟! , أعني بأنه أمر رائع , ستكون قريبًا من والديك و إخوتك ! "..
" نعم أعلم , و لكن ماذا عنك أنت ؟! .. إن كنت سأذهب أنا للاستقرار هناك ؟! "..
" عبدالرحمن , أنا لست طفلًا , أستطيع تدبر أمري , قم ببيع هذا المنزل , و أشتري بقيمته منزلًا آخر هناك , أما أنا فسأبحث لنفسي عن منزلًا للإيجار أو شقة , لا تحمل همي "..
" لن أبيع المنزل , لقد حدّثني والدي عن هذا الأمر قبلك , قال بأنه سيزودني ببعض المال لترميمه و إعادة تأثيثه .. أما أنت , فستسكنه في غيابي "..
" لا يا عبدالرحمن , هذا كثير .. أقصد ماذا إذا أراد أهلك أن يأتوا إلى هنا في الإجازات مثلًا ؟! .. أو لزيارة أحدٍ ما ؟! .. سيكون هذا محرجًا "..
" فيصل , أظن بأننا قد تخطينا الرسميات بيننا منذ سنوات ! .. توقف عن الحديث بهذا الشكل , لماذا لا تزال تخجل مني ؟! .. أنا لا أريد منك شيئًا عندما أكرمك , أريدك فقط أن تعيش هنيئًا , أما بخصوص أهلي , فليس لهم حاجة في الرياض ليزوروها , إن كل معارفهم في الخرج .. سيكون من النادر أن يأتوا إلى هنا "..
" حسنًا ... ".. كان فيصل يفكر بطريقة ليشكر بها صاحبه , و لكن ضاعت الكلمات منه فجأة , فقرر أن يشكره دون مقدمات :
" شكرًا , أنا حقًا لا أعرف كيف أرد لك الجميل .. لا تقل أنني أتحدث برسمية الآن , أنا حقًا عاجز عن رد المعروف لك "..
" في الواقع أنا من يجب أن يشكرك , لقد كنت تؤنس وحدتي و غربتي طوال السنين الماضية , لقد اعتدت وجودك معي .. و إن المعروف الوحيد الذي أريد منك إسدائه إلي , كنت بالفعل قد أسديته فيما مضى ! "..
" ماذا تقصد ؟! "..
" إدمانك يا فيصل , لقد تخلصت من إدمانك , إن رؤية وجهك و قد دبت فيه الحياة مرة أخرى , و زوال ذاك الشحوب الذي اكتسى ملامحك و جسدك كفيلٌ بجعلي أحمد الله على ما أكرمك به "..
تمتم فيصل قائلًا :
" صدقت , الحمدلله "..
كان لا يزال مكسورًا من الداخل على ما حدث منذ 5 سنوات .. أن يعبر من خلال نقطة تحوّل قاسية , بعدما تخلى عنه أقرب الناس إليه , توأمه : عادل .. كان شديد التعجب لأمر أخيه , كيف أنه لم يحاول البحث عنه أو إصلاح من اقترفه .. أو حتى زيارة سريّة يصلح بها بعضًا من الماضي ..
" كيف له أن ينساني هكذا ؟! .. كيف انتهت هذه السنوات الخمس دون أن أصادفه ؟! .. لماذا لم يبحث عني ؟! .. أو حتى يحاول الاتصال بي ؟! .. كنت سأسامحه إذا التقيته و رأيت نظرات الندم تشوب عيناه ! .. و لكنه لم يأتِ .. يا ترى ماذا يفعل في هذه اللحظة ؟! .. أين هو و ماذا يدور في عقله ؟! .. هل انهى دراسته الجامعية , أم أنه دفن نفسه بذكراي مثلما فعلت أنا بنفسي ؟! و والدي , ماذا بشأنه ؟! .. ما الذي طرأ في حياته خلال هذه السنوات ؟! .. هل ما يزال غاضبًا مني ؟! .. أم أنه سيعانقني بذراعيه و دموعه إن حصل يومًا و جمعتنا طرقات هذه المدينة ؟! "...
**********
انتقل عبدالرحمن إلى الخرج فور صدور قرار تعيينه , تاركًا فيصل يعيش حياته في الرياض , و قد أعطاه المسؤولية و الحرية الكاملتان للتصرف في منزله ..
مضت الأشهر و فيصل يواجه أيامًا روتينية للغاية , و لكن كان الإحباط و اليأس يزدادان في داخله بشكل مأساوي .. و لكنه ظل يقول لنفسه أنه سيعتاد على هذه الحياة لوحده , خصوصًا بعد رحيل عبدالرحمن , و انعدام الحياة من هذا المنزل ..
كان يقضي ليالٍ طوال و هو يجهل ماذا سيفعل غدًا أو حتّى ماذا يريد من حياته ! .. كانت عيناه لا تعرفان النوم الهنيء , مجرد غفوات صغيرة يتخللها الكثير من الفزع و التعرق ..
بعد سنة من رحيل عبدالرحمن , لم يعتد فيصل شعور الوِحدة الذي بدأ يكتسي كل شيء من حوله , بل زاده ذلك انتكاسًا و رغبة في العودة إلى سمومه القديمة ! ..
فقد أصبح ينفق ثلاثة أرباع راتبه في شراء المخدرات بشكل دائم , و قد رأى بأن حياته لم تتحسن خلال الست سنوات التي مضت و التي ظن أن حياته ستزدهر فيها مع كل هذه الحرية و الاستقلالية اللتان دخلتا حياته و ملأتها ..
في إحدى الأيام خرج من المنزل و قد أمضى 4 ساعات و هو يتجوّل في الشوارع من غير وِجهة محددة , و قد قطع مسافة كبيرة بعيدًا عن المنزل .. و ما أن وقف أمام محل للعصائر لشراء بعض المشروبات .. حتى لفت نظره شاب يقف بعيدًا و يحدق إليه .. تجاهل فيصل أمر الشاب و عاد إلى المشي نحو المنزل مرة أخرى , و لكنه توقف عندما اقترب ذاك بشكل كبير و هو يقول :
" هذا مستحيل ! .. رُبّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد !! "..
التفت فيصل إلى الرجل متسائلًا :" عفوًا ! .. هل أعرفك ؟! "..
" أنت فيصل أليس كذلك ؟! فيصل سليمان ؟! "..
" نعم , هذا أنا , ما الأمر ؟! "..
ابتسم الرجل و عيناه تحملان بعضًا من الصدمة و قال :
" أنا محمد ! .. لقد كنّا زملاء في الثانوي , ألا تتذكرني ؟! "
كره فيصل الوضع كونه قد تصادف مع صديق قديم قد يعيد له ذكريات لا يريدها , ولكنه اضطر للوقوف و الابتسام للصديق القديم :
" أها نعم , نعم , تذكرتك ! "..
وقف الشابان يتبادلان التحية و السلام حين قال محمد :
" أين كنت يا فيصل طوال هذه السنين ؟! .. لقد قلب عادل الدنيا عليك ! "..
سرت رعشة في جسد فيصل من حديث محمد , و رد قائلًا :
" و لماذا كان يبحث عني ؟ "..
" لا أعلم , و لكنه لم يترك مكانًا لم يبحث فيه , و قد سأل الجميع عنك و حقق بشأنك "..
" متى كان ذلك ؟! "..
" لا أعلم ! .. قبل سنوات عديدة , ربما في أيام الثانوية ! .."
صمت فيصل غير مصدقًا ما قاله محمد للتو ! .. و قد بدأت يتساءل في نفسه :
" عادل كان يبحث عني ؟! .. هل كان حقًا يكترث لشأني ؟! .. "
قال فيصل بسرعة :
" نعم , تذكرت الآن ! .. لقد حصل خلاف بسيط بيننا في أحد الأيام و غادرت المنزل , و لكنني عدت من جديد , شكرًا على سؤالك يا محمد "..
صمت فيصل قليلًا ثم أخذ يفكر : إن كان عادل قد بحث و سأل الجميع عني , فلابد أنه سأل عبدالرحمن عني أيضًا ! ..
قال محمد :" لم يكن عادل يبحث لوحده , بل كنّا جميعًا معه ! "
" جميعكم ؟! من تقصد ؟! "
" أقصد أصدقائك القدامى , أنا , أسامة , عبدالرحمن و الآخرون ! "..
هز فيصل رأسه بشرود ثم قال : " لم يكن عليكم أن تحملوا همّي "..
" لا عليك , لقد قلقنا كثيرًا بشأنك , و لكن تسعدني رؤيتك الآن "..
" هذا لطف منك , أعذرني الآن , علي الذهاب لإنهاء بعض المشاغل , ربما ألتقيك لاحقًا "..
قرر فيصل قطع الحديث بسرعة , قبل أن يقوم محمد بسؤاله أكثر عن تفاصيل حياته .. و عاد متوجهًا إلى المنزل و رأسه مليء بالأسئلة :
" عبدالرحمن شارك عادل في البحث ؟! .. و لماذا لم يخبرني عن ذلك ؟! .. لم أخفى هذا الأمر عني ؟ لماذا لم يكن يريد جمع شملي مع أخي ؟ هل لأني كنت دائم الشتم لعادل بعدما تركت المنزل ؟ و قد كنت أرمي كل اللوم عليه طوال الوقت ؟ لم لَمْ يحاول عبدالرحمن أن يجعلنا نجتمع سوية لحل خلافنا ؟ ربما خشي أن أرفض ملاقاة أخي و التعرض للإهانة مرة أخرى ! .. هل اتصل عليه و أسأله ؟ أم التمس له الأعذار ؟ "..
ظل فيصل يلتمس لعبدالرحمن الأعذار على عدم إخباره بشأن بحث عادل عنه ! .. و قد حاول الاتصال كثيرًا بعبدالرحمن و لكنه خاف أن يحرجه , فظل فيصل ملتزمًا الصمت و مفضلًا العيش في عزلته لأيام عمره القادمة ..
يتبع ..