السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ..
مساء الخير يا أحلى ليلاس .. جمعة مباركة عالجميع يارب ..
و مبارك عليكم الشهر و كل سنة و انتم طيبين , أعاده الله علينا و عليكم بالصحة و العافية , و تقبل منكم صيامكم و قيامكم و صالحات أعمالكم ..
أعتذر و بشدة عن عدم تنزيلي لبارت يوم الجمعة الماضية , انشغلت كثيييير بتجهيزات رمضان و تسجيل الجامعة و غيره ... و ما حبيت اكتب لكم بارت و أنا بالي مشغول لاني بصير اكتب لكم خرابيط
و الحين رجعت لكم بالفصل 15 .. قراءة ممتعة
.
.
.
.
الفصل الخامس عشر 15 :
6:56 م – جنوب الرياض
يتراجع إلى الخلف ببطء آخذًا السكين معه مجددًا و واضعًا إياها في جيبه , لاحظ تقلُّب عبدالرحمن بانزعاج ..
عاود الجلوس على الكرسي محدّثًا نفسه بأن انزعاج عبدالرحمن لم يكن سوى قطرة من بحر !! ..
قام بتمرير سبابته على باطن ذراعه اليسرى , محدقًا إلى تلك البقع التي بدأ لونها الداكن يخف تدريجيًا .. تذكر تلك الإبر الصغيرة النحيلة , و كيف أن مفعولها يعاكس حجمها تمامًا .. تلك الإبر التي تجعله يدخل في حالة من النشوة و الخمول القاتلين ! ..
لم يتوقع يومًا بأن ينتهي به المطاف معزولًا و منسيًا بجانب إدمانه للمخدرات بشكلٍ لا محدود , و أن تصبح هذه المساحيق البيضاء و الإبر الرفيعة جزءً من ممارساته اليومية الأساسية , كالأكل و الشرب تمامًا ! ..
لم يستطع نسيان تلك الليالي القديمة البعيدة .. تلك التي أوصلته إلى ما هو عليه .. قبل 30 عامًا , و عندما كان في السابعة عشرة فقط , قرر بتصرفات متهورة أن يجعل حياته تأخذ منعطفًا خطيرًا و أبديًا ..
كان شابًا ناضجًا بقامةٍ طويلة و جسدٍ حيوي للغاية , جانبًا إلى بشرته الحنطيّة و ملامحه الوسيمة التي ورثها من والدته المتوفاة .. و بعينين حادتيّن للغاية بلونها الفاتح الذي يُجبِر الجميع على التحديق إليها لوهلة من الزمن ..
في إحدى الليالي - والتي تشابه التي قبلها - خرج من المنزل لوقتٍ متأخر دون علم والده الصارم قاسي الطباع .. شعر بالسعادة و هو يكرر اختراق إحدى أهم القواعد التي وضعها والده : لا خروج من المنزل بعد الساعة التاسعة مساءً ! ..
كان كثير التساؤل حول تصرفات والده القاسية , و مع كل مرة يتواجه فيها معه و يحتدّ النقاش , كان يدعو لوالدته بالرحمة سرًا .. فمنذ رحيلها عن الدنيا و والده لا يتعامل معه و مع إخوته سوى بالصرامة و الحزم , ظنًا منه بأن المنزل سينضبط بهذا الأسلوب و أنه سيتمكن من أخذ دور الأب و الأم في آن واحد ! , بعدما كان شديد الاتكال على زوجته اللطيفة , قررت هي تركهم و التحليق عاليًا بروحها الطاهرة ..
مشى فيصل الشاب نحو إحدى الاستراحات التي كان يتردد إليها مؤخرًا , بعدما تسلل من المنزل بنجاح , جلس مع أصحابه و قضوا الليل كاملًا بلعب الأوراق و التدخين , بينما البعض منهم كان يشاهد المباريات الدورية بصحبة شيشة طويلة يملأ دخّانها المكان بأكمله ..
و مع اقتراب وقت الفجر كل يوم , يكون فيصل قد استلقى بخمول و كسل شديدين بعدما امتلأ أنفه و فمه بمسحوقٍ أبيض كان يزوده به أحد أصحابه ..
و في كل مرة كان يدفع نفسه للنهوض بصعوبة متوجهًا لصلاة الفجر قبل حضور والده .. و في كل مرة كان ينجو من كشف أمره , و يعيد الكرّة في اليوم التالي ..!
أيقظ فيصل نفسه من ذكريات المراهقة السيئة .. هامسًا لنفسه :" كم كان الطيش يملأني ! .. و ذاك الشعور بعد التعاطي .. لم يكن يعادله شعور أبدًا .. و لكن المشاعر التي كانت تُسعِدُني قتلتني .. يا للسخرية! .. "
نظر إلى الساعة المشيرة للسابعة مساءً .. أخذ هاتف عادل و أعلن عن الموقع الثاني من هذه السلسلة المنهكة لبدر ...
**********
أمسك بهاتفه الذي أصدر تنبيهًا على وجود تغريدة جديدة بينما كان يتخطى السيارات بسرعة , كان الآلام في رأسه تزداد كل ثانية , و هو يجهل إن كان سيقدر على إكمال مسيرة البحث أم أنه سيفقد قِواه أمام كل هذه الفوضى .. !
قرأ التغريدة المشيرة للموقع الثاني مرارًا و هو يبحث في لوحات الطرق عن أقرب طريق يوصله إلى الموقع , و مع مرور الوقت كان بدر يفكر بجديّة حول أمر العقيد سيف , هل يخبره عن الأمر ليكسبه في صفّه ؟! .. أم يستمر في البحث لوحده و يتخلص من المغلفات ثم يُطلِعهُ على الأمر ؟! ..
كان بدر في أوّج حيرته و هو يفكر في ذلك :" العقيد إن علِم عن حقيقة الأمر فستكون مساعدته كبيرة جدًا , و لكن ماذا إذا استعان بأفراد الشرطة ؟! و نفّذ ذاك المعتوه تهديده بشأن قتل والدي ؟! .. لا يمكن التكهن بما سيفعله أو ما يخفيه .. يبدو بأنني سأمضي في الصمت و أتجاهل أمر العقيد و آخذ حذري , و عندما ينتهي كل هذا و يتحرر والدي سأخبرهم عن كل شيء , و لكن ليس الآن .. "
كانت الطرقات تزداد ازدحامًا مع مرور الوقت , حيث تزيّنت الكثير من الشوارع و المركبات بالأعلام الخضراء و العبارات الوطنية , فيما توقف بعض الشبّان في وسط الطريق مسببين إعاقة كبيرة في السير , وذلك لينزلوا و يبدؤا بالرقص على أنغام تلك الأغاني الوطنية التي تصدح من سياراتهم , متفاخرين بكمية الاستهتار الهائلة التي يمتلكونها و يجعلون الجميع يتوقف بسببها !! .
ظل بدر عالقًا في السير لمدّة 15 دقيقة تقريبًا و وهو على وشك أن ينفجر غيظًا من تلك الممارسات الحمقاء , و لكنه يلوم في المقام الأول فيصل , الذي اختار هذا اليوم الغير اعتياديّ ليمارس فيه حماقاته و تهديده ! ..
كاد بدر أن ينزل و يكمل سيره مشيًا على الأقدام , و لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما بدأت تمشي السيارات بشكل عمليّ .. اقترب بدر من المخرج الذي سيوصله للموقع و سرعان ما اجتازه بسهولة و هو يشق طريقه بسرعة .. فهو قد استوعب تمامًا أنه من اللحظة التي يُعلن فيها فيصل عن الموقع , سيكون المغلف في خطر حتى يجده , أو أنه سيقع في الأيدي الخاطئة و يحصل ما لا يُحمد عقباه ! . أزال بدر شماغه عن وجهه وهو يضعه على كتفه بعدما بدأ يتعرق بكثرة , كان يقترب أكثر من الموقع الثاني , و قد تمكن أخيرًا من الوصول خلال ثلث ساعة , ركن سيارته بالقرب من الموقع المذكور و غطى فمه و أنفه مرة أخرى بشماغه و هو ينزل و يكمل المشي على الأقدام . كان يتلفّت في جميع الجهات و يبحث بعينيه عن أي شيء مثير للغرابة .. و فجأة و دون سابق إنذار , لمح شابّان يمشيان نحو بعضها فيما كان أحدهم يحمل مغلفًا أبيضًا بين يديه و قد علَت على وجهه ابتسامة انتصار !! .
ظل بدر يحدق في ذاك المغلف غير مصدقًا عيناه , لقد حصل بالضبط ما كان يخشاه , و هو وقوع المغلف في أيدي صغار طائشين ..
علِم أنه يمتلك أقل من دقيقة فقط ليستعيد المغلف منهم بأكبر قدر من السرعة و الدهاء ! .. و إلا ستضيع تلك السمعة الثمينة , و ثقة الجميع و احترامهم ..
**********
اقتربت سيارته البيضاء من الموقع فركنها و نزل وهو يدور بعينيه على أرجاء المكان ..
(( حي الروضة , تقاطع شارع عبادة بن الصامت و شارع الأمير فهد بن جلوي .. ))
كان العقيد راكنًا سيارته عند محل حلوى شهير , بينما بدر كانت سيارته مركونة في الجهة الأخرى للمحل , مشى العقيد مسافة قصيرة عندما لفت نظره ثلاث شبّان يبدو أنهم على خلاف , وقف وهو ينظر إليهم و قد استغرب أن أحدهم كان يغطي وجهه بشماغ أحمر و يبدو منفعلًا للغاية ..!
بدأ العقيد يقترب منهم بهدوء حين اشتبكوا في شجار بينهم فجأة .. كانا شابيّن مقابل واحد .. بدأوا بتوجيه الركلات إلى بعضهم و اللكمات أيضًا .. و كان الشاب ذو الوجه المغطى يبدو و كأنه يريد انتزاع شيء منهم .. قال أحدهم للآخر :" خذ المغلف و توجه إلى السيارة , سأتدبر أمر هذا السافل لوحدي ". و ما أن همّ الآخر بالرحيل و تنفيذ ما طُلِب منه , حتى قام الشاب مغطى الوجه بالركض خلفه و إسقاطه أرضًا , داس على يده التي تحمل المغلف بقوة و انتزعه بسرعة , و لكن الشاب الذي خلفه هاجمه و قام بنزع الشماغ عن وجهه بقوة و كشف هويته .. و ضربه على فمه ثم دفعه أرضًا بشدّة ..
فتح العقيد عيناه بصدمة و هو يحدق في وجه بدر و قد نزفت شفته السفلية بغزارة .. ركض العقيد نحوهم صارخًا :" بدر , توقف مكانك , بدر "..
التفت الشابان إلى العقيد سيف , فاستغل بدر انشغالهما و أخذ المغلف من الأرض و فر هاربًا بسرعة .. أمر العقيد الشابان بغضب :" أوقفوه حالًا , هيّا , لا تدعوه يهرب .. "
نظر الشابان خلفهما فلم يجدا أحد , فقد كان بدر يحاول عبور الشارع و قد استاء السائقون و الركّاب بشدة منه و قد كادوا يدهسونه بسياراتهم .. عَبَر الشارع الأول و ذهب إلى الثاني , توقف أمام سيارة أجرة يقودها رجل آسيوي كبير بالسن , فتح بدر باب السائق بعنف و سحبه إلى الخارج دافعًا إياه على الأرض .. و ركب تلك السيارة و لاذ بالفرار بأقصى سرعته , كان العقيد يلاحقه بسيارته هو الآخر , و لكن بدر أخذ منعطفًا مفاجئً و قد اختفى فجأة داخل أحد الأحياء السكنية المظلمة و الهادئة ..
ظل العقيد يمشي في أنحاء الحي بحثًا عن بدر و لكن لا أثر له , بينما خرج بدر من ذاك الحي بعد دقائق و قد غطّى وجهه بإحكام و توقف بجانب إحدى محطات تعبئة الوقود .
أمر العامل بتعبئة خزّان الوقود بالكامل , و نزل هو متوجهًا إلى قسم تصليح السيارات , خفف من تغطية وجهه و توجه نحو حقيبة موضوعة على جانب أحد السيارات المعطلة , كانت الحقيبة مفتوحة و مملوءة بأدوات و معدّات التصليح , قام بأخذ مفتاح صغير للمسامير دون أن يلاحظه أحد , و عاد باتجاه سيارة الأجرة و مشى بعدما أعطى العامل مبلغًا كبيرًا من المال و طالبًا منه أن يحتفظ بالباقي .
مشى نحو إحدى الأحياء السكنية البعيدة بعض الشيء و هو يمشي بهدوء و يتوقف بجانب أحد المنازل المظلمة , نزل متوجهًا إلى خلفية السيارة و قد حمل معه مفتاح المسامير , نظر إلى لوحة السيارة بسرعة و قام بفك مساميرها و التخلص من اللوحات الأمامية كذلك , كان يعي تمامًا أنه سيكون ملاحقًا من قِبَل الشرطة لسرقته السيارة , و لكنه كان يردد في نفسه :" الغاية تبرر الوسيلة "..
ركب السيارة بعدما رمى باللوحات في القمامة , و جلس و هو يُخرج المغلف الثاني من جيبه الأيمن , فتحه بسرعة و سحب الصور التي بالداخل ..
كانت عبارة عن نُسَخ طِبق الأصل من تلك التي في المغلف الأول , أربعة صور مختلفة و وضيعة و الثابت فيها هو والده .
تذكر اللحظة التي لمح فيها الشابّان الصغيران - و قد كانا في الثامنة عشر تقريبًا - و هما ينظران إلى المغلف بتفحّص , لقد كادا أن يفتحاه عندما أتى بدر إليهم مسرعًا و قال :" عذرًا و لكن .. هذا المغلف لي "
قال الشاب الأول :" لا , إنه لنا .. لقد أعلن عادل سليمان عن وجود مغلف في هذه المنطقة .. و قد حصلنا عليه , هيّا اذهب من هنا "
بدأ بدر بمحاولة اختلاق كذبة مُقنعة , و قد قال بصوت واثق يشوبه بعض الغضب :" في الواقع هذا المغلف لي , لقد طار مع الهواء عندما كنت أضعه على مقدمة سيارتي .. المغلف الذي أعلن عنه عادل كان قد وجده بعض الأشخاص , لقد قال عادل ذلك على صفحته في ( تويتر ) .. يمكنكما التأكد من ذلك , و الآن هل بإمكاني استعادة مغلفي "..
نظر الشاب إلى صاحبه بإحراج , ثم أعطى بدر المغلف قائلًا :" نحن آسفان بشأن هذا , عذرًا .. "
ابتسم بدر بانتصار و هو يأخذه و يمشي عائدًا إلى سيارته و يلتفت إليهما بتوتر .. و لكن الشاب الآخر قال مستغربًا :" عذرًا و لكن .. لماذا تغطي وجهك بهذا الشكل ؟! "..
سمع بدر ما قاله و هو يسرع بالمشي , انتاب الشابان الشك بأنه كاذب , فلحقاه بسرعة و هما يسحبان المغلف منه بعنف .. أدرك بدر أن الكذب لن ينفع في هذا الموقف , و أنه لا مفر منهما سوى بالقوة .. فقرر استخدام العنف و الشجار للمرة الأولى في حياته على الرغم من طِباعه المسالمة ..
رنّ هاتفه فجأة و قد شق الصمت الذي غرق به , رفع هاتفه و كان العقيد هو المتصل , تردد كثيرًا في الرد و لكنه ترك الهاتف جانبًا و تجاهل الاتصال ..
كان عقله مشغولًا بعبدالرحمن بشكل لا يُصدق , حاول الاتصال عليه و لكن .. لا رد !!
رن هاتفه مرة أخرى و كان العقيد , سحب بدر نفسًا عميقًا و هو يرفع كتفيه و يخفضهما ليزيل توتره .. و قرر بذلك الرد على العقيد لعله يتفهّم الموقف ..
أتى صوت العقيد سيف غاضبًا و متجهمًا إثر تصرفات بدر :" ما الذي تحاول فعله ؟! .. إن هروبك و اختلاقك للمشاكل بهذا الشكل يجعلك المشتبه به الأول فيما يحصل لوالدك .. أتعلم ذلك ؟! .. "
" عقيد سيف , إن سلامة والدي مرهونة بصمتي , أتعرف ما يعنيه ذلك ؟! .. أية حرف أو كلمة سأقولها لك ستعرض حياة والدي للخطر .. إن مُختَطِفُه جاد جدًا , جاد بشأن كل ما يفعله .. اعذرني على ما سأضطر لفعله في الساعات القادمة , فإن الغاية تبرر الوسيلة .. عندما ينتهي كل شيء أعدك بأن أعطيك شرحًا وافيًا لهذه المهزلة .. و لكن ليس في الوقت الراهن .. في الواقع أريد منك أن تسدي خدمة إلي "..
" و ما الذي سيدفعني لتقديم أي خدمات إليك ؟! .. "
" لأن هذه الخدمة هي ما ستبقي والدي على قيد الحياة .. أريد منك عدم إبلاغ أي وحدات أمنية عمّا يحصل .. أو اللجوء لأفراد الشرطة لملاحقتي .. أيمكنك فعل ذلك ؟! "..
" أستطيع تتبع هذه المكالمة و معرفة موقعك .. و لكنني لن أفعل .. فأنا أصدقك جزئيًا .. لقد رأيت عيناك عندما أخبرتك بشأن فقدان والدك .. و تلك النظرات التائهة التي اكتست عيناك لا يمكن أن تكون تمثيلًا .. لقد قضيت كل سنوات عمري في هذا العمل .. و أستطيع تمييز الصادق مِنَ الكاذب .. لذلك أنا اختار أن أُصدقك و أعرض عليك إخباري بما يحصل يا بدر .. إن أنا صدّقتك فغيري لن يفعل ذلك .. "
" أنا آسف , حقًا آسف .. أتمنى لو أستطيع أن أكون عند حسن ظنك و لكن لن أستطيع إخبارك عن أي شيء .. سأفعل كل ما في وِسعي في هذه الساعات و أرى كيف سينتهي الأمر , بعد ذلك سأعطيك زمام الأمور بالكامل .. و لكن ليس الآن و ليس في هذه اللحظة .. "
أغلق بدر هاتفه بسرعة دون سماع الرد , و نظر إلى الساعة المشيرة إلى السابعة و أربعون دقيقة .. لقد استغرق وقتًا طويلًا ليتمكن من الفرار من العقيد و جعله يضيع في وسط الأحياء .. أعاد ظهره بإرهاق شديد وهو يتأوه بتعب .. يتمنى لو يستطيع أن يشتكي و يخبر أحدًا عمّا يحصل .. كم يتمنى لو بإمكانه إخبار الشرطة عن كل هذا و إنقاذ والده خلال دقائق , كان يفكر كثيرًا بتجاهل تهديد فيصل و اللجوء إلى الشرطة و لكنه لا يستطيع التنبؤ بما سيفعله فيصل عندما يعلم .. لن يضحي بوالده و يستدعي الشرطة بسبب لحظات عابرة من الإرهاق و الألم المفرطان .
قرر الاستمرار لوحده في كل هذا , و لا يزال عقله غير قادر على استيعاب كل هذه الأحداث التي حصلت خلال يوم واحد فقط , لقد فقد والده يوم أمس و ذهب إلى الخرج صباح هذا اليوم , التقى بعبدالرحمن و عاد بصحبته إلى الرياض و سرعان ما بدأ الإعلان عن تلك المواقع التي كانت تحمل له أسوأ الأسرار على الإطلاق ..
أخذه تفكيره إلى عبدالرحمن و قرر الاتصال به للمرة الألف ! .. و قد كان الأمل في قلبه يتلاشى مع كل مرة لا يجيب فيها ذاك ..
و لكن بدر تفاجأ عندما رُفع هاتف عبدالرحمن .. قال بدر بتردد :" عبدالرحمن , أتسمعني ؟! أين كنت يا رجل ؟! .. لقد قلقت جدًا بشأنك , كيف لك أن تختفي فجأة هكذا ؟ .. أأنت بخير ؟! .. "
لم يكن في الطرف الآخر سوى صوت أنفاس منتظمة .. و هدوء تام , كما لو أنه في مكان معزول تمامًا ..
استغرب بدر تجاهل عبدالرحمن له :" عبدالرحمن ما بِك أجِبني ؟! "..
" لِمَ أنت قلِقٌ إلى هذا الحد على عبدالرحمن ؟! "..
لم يكن ذاك صوت عبدالرحمن , و لكن بدر استطاع تمييزه على الفور ! ..
" أنت ؟! .. كيف وصل هاتف عبدالرحمن إليك ؟! "..
" أنا لا أمتلك هاتفه فقط , بل عبدالرحمن بأكمله في ضيافتي الآن .. "
تلفت أعصاب بدر تمامًا من تصرفات هذا المعتوه , صرخ بدر قائلًا :" أيها المريض الحقير , ماذا فعلت به ؟! .. أختطفته هو الآخر ؟! .. إن ما بيننا متعلق بوالدي فقط , ليس لعبدالرحمن شأن فيه .. إياك و أن تلمس شعرة منه أهذا واضح ؟! .. "
قال فيصل بهدوء :" أنا لست مريضًا حقيرًا , أنا فيصل , أما بشأن عبدالرحمن , فأنا لم اختطفه أبدًا , و إياك أن تدافع عنه و تهددني من أجله .. لأنك ستشكرني على ذلك يومًا ما ! .. "
" أشكرك ؟! .. لا علاقة لعبدالرحمن فيما بيننا , ضعه خارج الموضوع .. "
" انس أمر هذا البدين و أخبرني ؟ كيف تسير الأمور مع المغلفات ؟! "..
" إنها مزيّفة , أنا متأكد .. لم يكن والدي ماجنًا يومًا "..
" و لم هذه الثقة العمياء ؟ .. هذه الثقة ستوقعك في المصائب صدقني .. "
" مصيبتي الوحيدة هي أنت ! .. ماذا تريد ؟! .. لنفترض أنني وجدت جميع المغلفات , ماذا سيحدث بعدها ؟! لنفترض أنك استطعت اقناعي أن الصور حقيقة و أن والدي ماجنًا فعلًا .. ما شأن الجميع ليعرفوا هذا أيضًا ؟! .. لا أكترث إن فقد الجميع ثقتهم بوالدي و لم يعودوا ليحترموه , لا أكترث بشأن هذا أبدًا .. كل ما أكترث له هو استعادة والدي " ..
" و لم أنت غاضب لهذا الحد ؟! .. إن هذا اليوم الحافل فوائده عائدة إليك .. انظر للأمر من هذا المنظور , ستفقد بعض الكيلوجرامات إثر البحث و المشي الطويل " ضحك فيصل بشكل مُستفِز للغاية ..
صمت بدر لعدة ثواني ثم قال :" ماذا فعَل ؟! "
استغرب فيصل السؤال :" مَن تقصد ؟! "..
" أقصد والدي , ماذا فعل لك لتقوم بهذا كله ؟! "..
" عندما تستعيده بسلام , يمكنك سؤاله عن ذلك .. " أغلق فيصل الهاتف و أعاده إلى عبدالرحمن الذي نهض من نومه عند انتهاء الاتصال ..
" من كان ذا ؟! "..
" إنه بدر , لا عليك لقد تخلصت منه .. "
" شكرًا , لقد كنت أفكر في عُذر مُقنِع لغيابي .. كما أنني لن أتمكن من الاستمرار بالتظاهر معه و كأنني أكترث لشأنه "..
" و لكنك تظاهرت كثيرًا مع عادل أليس كذلك ؟! .. لأكثر من 28 عامًا و أنت تتظاهر "..
" أنا أفعل ذلك من أجلك , لقد أخبرتك مسبقًا بأنني سأفعل كل ما في وِسعي لأجلك "..
ابتسم فيصل وهو يحدق في عيني عبدالرحمن باستغراق , قال هامسًا :" لقد فعلت كل شيء لأجلي , لا أعرف كيف أشكرك حق الشكر .. أنت أعز من الأخ بالنسبة لي أتعلم هذا ؟! "..
" لا داعي لهذه الرسميات أرجوك , إن كنت تريد شكري حقًا, فعليك أن تُحسن التصرف بكل شيء أعطيتك إياه , أريد منك تحقيق ما كنت تنويه لعادل , و كل ما خططنا لسنين من أجله .. اتفقنا ؟ "
هز فيصل رأسه بالإيجاب , كان يتنفس بعمق و هو يرفع رأسه لأعلى قائلًا :" دعني أسألك عن أمر ما ! .. "
نهض فيصل و هو يشعل سيجارة و يضمها بين شفتيه , و أكمل قائلًا :" لا أريدك أن تغضب من سؤالي و لكن .. لماذا تقف معي ضد عادل و ابنه ؟! .. أعني بأنني أنا الذي عانيّت منه و كانت المشكلة بيننا نحن الاثنان .. لماذا اخترت الوقوف بصفي ضده ؟! "..
عاد عبدالرحمن للاستلقاء مرة أخرى على الأريكة , واضعًا ذراعه على رأسه , ثم قال :" دعنّي أخبرك شيئًا , على الرغم من أنك كنت مدمن في صغرك , و كنت في مشاكل عويصة فعلًا , إلا أنني لم أقدر على تركك تخوض في هذا الجحيم لوحدك .. أنت لم تكن أنت على حق دومًا , ولنكن صريحين بعض الشيء , لقد أخطأت كثيرًا في حياتك يا فيصل , لقد أوشكت على الموت بسبب ما كنت تتعاطاه , و لكن بالرغم من ذلك , لم أستطع أن أدير لك ظهري و أرحل , لم أستطع رؤية الجميع ينفضّون من حولك لتبقى وحيدًا , أنا معك بالرغم من عيوبك , و أنا لا أكترث بشأن العيوب لأنني لم أعد أراها .. أما عادل فخطيئته الوحيدة هي الجحود , إنها خطيئة لا تغتفر أبدًا "..
استند فيصل إلى الجدار و أكمل التدخين و كلام عبدالرحمن يدور في ذهنه , لاحظ عبدالرحمن أن فيصل قد بدأت تضيق ملامحه و كأنه مستاء من أمر ما ..
نهض عبدالرحمن و توجه إليه وهو يحاول تلطيف الجو :" لماذا لا أبحث لك عن زوجة ؟! "..
اتسعت ابتسامة فيصل و رد قائلًا :" لماذا لا تعود إلى النوم أرجوك ؟! "..
" أنا محق , لماذا لا تتزوج ؟! .. إنك لازلت تتمتع بالصحة و اللياقة , كما أن وجهك القاسي و ملامحك المتجهمة دومًا هي مطالب الفتيات في هذا الزمن "..
" حقًا ؟! .. و لِمَ قد ترغب الفتيات برجلٍ قاسٍ ؟! يا للحماقة !! "..
" لا أعلم , إن الفتيات مخلوقات بعقليات غريبة فعلًا "..
" دعنا لا نخوض في هذا الحديث الآن , فأنا لم أتحدث مع أنثى منذ عقود "..
**********
7:45 م
جالسًا في سيارته أمام أحد المحلّات التجارية و بالقرب من الموقع الثالث , و هو يستعيد تمامًا كيف دخل إلى هذا المنعطف الخطير في حياته ..
" لقد بدأ الأمر بأكمله قبل عدة أشهر , 9 أشهر على ما يبدو , لا أتذكر جيدًا , كنت أمارس عملي باعتيادية تامّة , أجلس على مكتبي بالقرب من باب مكتب عادل , أكتب له جداول أعماله الأسبوعية , أراجع بعض الأوراق معه , و أستقبل ضيوفه كل يوم و أطلب منهم الانتظار حتى ينهي عادل اجتماعه , كانت هذه أعمالي كسكرتير خاص و بعض الأعمال الجانبية الأخرى , أُغادر المكتب في العاشرة مساءً كل يوم و قد أنهكني العمل تمامًا , و لكن عِوضًا عن الذهاب إلى المنزل للنوم , كنت أتجه لأصحابي في إحدى الاستراحات القريبة من جنوب الرياض ..
كنّا قد اتفقنا على استأجارها لسنة كاملة و المجيء إليها بعدما يخرج كل منا من عمله , ذهبت إليهم و قد ملأ النوم عيناي ولكنني استطعت المقاومة , جلسنا سوية لبضع ساعات .. و عندما قاربت الساعة من الواحدة صباحًا كنا قد انهينا لعب الورق و اتفقت مع أحد الشباب المتواجدين للخروج و البحث عن مطعم مفتوح إلى هذا الوقت المتأخر .. توقف صاحبي بالقرب من أحد المطاعم المجاور لعمارة سكنية قديمة , نزل هو لطلب الطعام و أنا بقيت لانتظاره .
ولكن استوقفني أمر غريب بعض الشيء , كان أمام تلك العمارة سيارة مركونة أعرفها جيدًا , و عرفت لوحاتها و استطعت تذكر صاحبها على الفور , كانت تلك سيارة عبدالرحمن صاحب عادل منذ الطفولة , لقد كان في زيارة لمدة 3 أيام في الرياض , كان قد زارنا في المكتب مغرب اليوم السابق و قد جلس مع عادل يحتسي القهوة العربية و يتناقل أطراف الأحاديث معه , كان دائم الزيارة لنا , مرة كل شهر تقريبًا .. و كنت على علاقة جيدة و سطحية معه .. و لكن أثار فضولي حقًا وجود سيارته في هذا المكان و هذا الوقت , فهو لا يسكن هنا بل في منزل صغير يملكه هنا في الرياض , يبات فيه حتى وقت رجوعه للخرج .
حاولت تجاهل الأمر حتى رأيته خارجًا من تلك العمارة بهيئة غريبة فعلًا , فقد كان يغطي وجهه بشماغه , و لكني عرفته على الفور من عيناه و بنية جسده , و قد تزامن خروجه مع خروج صاحبي من المطعم و الجلوس بجانبي , كان صاحبي دائم المجيء إلى هذه المنطقة و هو يعرفها و يعرف معظم سكان هذا الحي , سألته و أنا أشير نحو سيارة عبدالرحمن :" غانم , هل تعرف هذا الرجل ؟! "..
نظر غانم إلى السيارة و أجابني على الفور و هو يعود بالسيارة إلى الوراء :" نعم , أنا لا أعرفه شخصيًا و لكنّي أراه معظم الوقت هنا .. "
" معظم الوقت , ماذا تعني ؟! .. أنا أعرف هذا الرجل إنه يدعى عبدالرحمن و هو من سكان الخرج , إنه لا يأتي إلى هنا سوى مرة في الشهر , يمكث لـ 3 أيام ثم يعود , و ليس لمعظم الوقت كما تقول ! "..
" لا أعلم يا سلطان , و لكني أرى هذه السيارة و هذا الرجل نفسه كثيرًا , كل يومان تقريبًا "..
هززت رأسي و أنا شارد تمامًا في الوضع , لِمَ قد يأتي عبدالرحمن إلى هذه العمارة المتهالكة ؟! و ماذا يفعل في هذا الوقت ؟! .. لقد كان الفضول يكبر في داخلي يومًا بعد يوم إلى أن عرفت ما يحصل بالضبط ! ..
لقد قررت الصبر و الانتظار حتى يتضح الأمر لوحده و لكن لم يظهر شيء , و أنا لم أستطع الصبر أكثر , كنت أتصل على غانم كل يوم تقريبًا و أسأله إن كان لا يزال يرى تلك السيارة و ذاك الرجل نفسه , و كان جوابه دائمًا : نعم , إنه هناك ! ..
أخبرني غانم أنه يراه في وقت الليل فقط , ربما بين الساعة الحادية عشر مساءً و الثانية صباحًا . كان يسألني كثيرًا لِمَ أنا مهتم جدًا بشأنه فأجبته قائلًا :" لأن عادل كان دائم السؤال عنه و عن الوقت الذي سيأتي فيه إلى الرياض , و لكن ذاك كان يرد دائمًا بأنه سيأتي الشهر المقبل , فجدوله مليء بالأعمال ولا يمكنه تأجيلها !! .."
" و لِمَ أنت قلق إلى هذا الحد ؟! .. ربما كان أحد أقاربه يسكن هناك أو ربما صديق له ؟! "..
" و لكن في المرة التي رأيته فيها كان مغطيًا وجهه , لم قد يفعل ذلك إن كان في زيارة عادية ؟! "..
" إنه يغطي وجهه دائمًا وليس تلك المرة فقط "..
" أرأيت ؟! .. إن الوضع مثير للغرابة , شيء غير طبيعي يحصل هناك أنا متأكد ! .. "
و بعد الذي عرفته عن عبدالرحمن و زياراته السريّة إلى جنوب الرياض , قررت اللحاق به و رؤية ما يحصل بالضبط !! ..
أخبرت أصحابي في تلك الليلة أنني لن أستطيع الذهاب إليهم بسبب مرض ابنتي الصغيرة , يا للحماقة ! .. لقد ادعيّت مرض تلك الصغيرة المسكينة حنين , كنت أستحق لقب أسوأ والد على الإطلاق !! ..
قررت الذهاب إلى تلك العمارة السكنية و ركن سيارتي بعيدًا عنها لإبعاد أي شبهات عني , و انتظرت و أنا أراقب مجيء عبدالرحمن , أتى بعد 10 دقائق و دخل إلى هناك وهو مغطى الوجه كالعادة ! ..
نزلت خلفه و أنا أغطي وجهي بشماغي أيضًا و ألحق به بهدوء, سمعت صوت حذائه و هو يصعد الكثير من السلالم و يبدو بأنه سيصل إلى سطح العمارة ! , فلحقته و أنا أمشي على أطراف قدماي , وصلت إلى السلالم العلوية التي تخلو فيها الجدران من أي إنارة , كان منظرها مخيفًا بالفعل , رفعت طرف ثوبي خوفًا من السقوط و تفاجأت بانتهاء السلالم أمام بابٍ حديدي مغلق ! ..
اقتربت من الباب و أنا أنظر خلفي خوفًا من وجود أحد , التصقت بالباب و أنا أضع أذني و أحاول استراق السمع , و بعد فترة من التركيز و الانصات الحادّين , تمكنت من الاستماع إلى جزء من حديث عبدالرحمن و شخص آخر , كان حديثهم مثير للريبة فعلًا ويدور كله حول عادل سليمان , رئيسي في العمل !! ..
كان الشخص الذي مع عبدالرحمن يمتلك صوتًا واضحًا , خشنًا و قويًا , و منذ اللحظة الأولى التي بدأ بالتحدث فيها و أنا أشعر بأنه شخص خطير بالفعل , كقاتلٍ مأجور مثلًا , كنت ألتصق إلى الباب أكثر حتى توقف شعر يداي من الرعب بسبب ذاك الصوت الذي سمعته ! ..
كان الباب قد فُتِح بسبب استنادي عليه و قد كان غير مغلق تمامًا , أصدر الباب صوت صرير قوي و مزعج و هو يُفتَح ببطء و يتضح الرجلان الجالسان أمام بعضها , كان الأول هو عبدالرحمن , أمّا الآخر , فقد تجمدت حواسي تمامًا و توقف شعري عندما رأيته ! .. لقد كان آخر شخص أتوقع وجوده في الحياة ! ..
( نهاية الفصل 15 ) ..
يلّا يا جميلات , منتظرة توقعاتكم و تحليلكم للأحداث
و مثل ما انتو شايفين , عبدالرحمن لايزال حي ! .. ايش ممكن يكون الشي اللي سواه فيصل فيه في البارت السابق باستخدام السكين ؟!
و ايش سبب تفاجؤ سلطان لما شاف فيصل أول مرة منذ 9 أشهر ؟!
و باقي الأحداث اللي ما سألت عنها أبغى تحليلكم و أسألتكم الشخصية عنها ..
إلى اللقاء في الجمعة القادمة , دمتوا بحفظ الله يارب , صيام مقبول و عمل متقبّل يارب