تابع ...
كانت الشرطة تحاوط تلك العمارة القديمة .. و قد أخرجوا ساكنيها و بدأوا بالتحقيق معهم في الشارع , أما فرقة الإسعاف فقد أخرجت جثة سلطان محمولةً على سرير و مغطاة بالكامل ! ..
فقد كان هناك من لم يستطع النوم ليلة البارحة أبدًا ! .. كانت زوجة سلطان تدور في غرفتها جيئة و ذهابًا و هي تغرس أصابعها في يدها قلقًا على زوجها .. حاولت الاتصال عليه كثيرًا في الليل و أثناء الفجر , لكنه لم يجبها , فبعدما تحدث معها لآخر مرة , أحست بالخوف عليه من نبرة صوته المودعة ..!
لم تستطع دلال الصبر فقامت بإبلاغ الشرطة أن زوجها مختفي منذ 12 ساعة .. و قاموا بالبحث عن سيارته من أرقام لوحاتها و وجدوها مركونة بالقرب من تلك العمارة القديمة , و وجدوا سلطان غارقًا في دماءه في أعلى غرفة فيها ! ..
و الآن و بينما توجه إخوته نحو المستشفى لرؤيته .. سقطت هي في أحضان أمها و أخواتها نادبةً حظها و حياتها .. و ابنتها الصغيرة ممسكة بعباءتها و تبكي لبكاء أمها المرير , جاهلة ما حدث لوالدها ! ..
بكت دلال كما لم تفعل من قبل .. و كرهت هذه الحياة التي أخذت منها زوجها في نفس اليوم الذي أخبرها و للمرة الأولى أنه يحبها .. !
علمت حينها أنها كانت حمقاء للغاية بتفريطها لحقه .. و مجاراته في تجاهله !! ..
**********
بينما كان عبدالرحمن يقود سيارته باتجاه طريق الخرج , مر بمحاذاة نقطة تفتيش , و ما أن رأوا وجهه , حتى أوقفوه جانبًا بسرعة , ارتبك عبدالرحمن لوهلة , ولكن نشف دمه بالكامل عندما أخرجه رجال الأمن من سيارته بقوة و قيدوا يداه بالأصفاد ! ..
**********
استيقظ العقيد بانزعاج من أصوات السيارات القادم من النافذة , و المعلن ليوم جديد يتجه فيه الجميع لوظائفهم و مدارسهم , نهض عن الأريكة وهو يشعر بألم طفيف في رقبته .. التفت وهو يبحث عن بدر بعينيه و لم يره , لفتت أنظاره أكياس الطعام المأكول على الطاولة , فعلم أن بدر استيقظ قبله ..
وقف و هو يمشي في أرجاء الشقة مناديًا بدر , ولكن ما من مجيب .. توجه لدورة المياه و غسل وجهه ثم أخذ هاتفه و اتصل على بدر بسرعة .. ولكنه لم يجب على هاتفه .. فقد كان ذاك الشاب غارق بالتفكير فيما أمامه الآن ..
كان بدر يقف أمام تلك الخزنة المثبتة داخل الحائط .. نظر إلى لوح الأرقام على بابها :" ماذا قد يكون الرقم السري يا ترا ؟! "..
استغرق بدر في التفكير :" ما هو الرقم ؟ .. لم يخبرني والدي يومًا أنه يمتلك خزنة كهذه , أوه لحظة ! .. هناك واحدة مثلها في المنزل , ولكن تلك لها مفاتيح , و ليس أرقام ! .. تبًا .. ماذا قد يكون ؟ أهناك أي رقم مميز لوالدي ؟! .. أو ذكرى معينة ؟ لا أعرف .. حقًا لا أعرف ! .. "
حاول بدر إدخال سنة ميلاد والده , ولم ينجح الأمر , فوضع تاريخ ميلاده هو .. فلم يتغير شيء ! ..
حاول وضع الكثير من الأرقام العشوائية , ولكن لم يجد ذلك نفعًا ! .. ومع تكرار ذاك الصوت الصادر من الحاسوب , ازداد توتر بدر , وكأن ذاك الطنين يستفزه حد النخاع ! .. فعاد إلى غرفة الانتظار و أخذ الفأس الذي استخدمه الموظفون لفتح الباب , فاتجه نحو الخزنة و أخذ يضرب مقبض بابها بكل ما أوتي من قوة , و الشرر يتناثر عند تلامس المعدنين .. و بعد 5 ضربات استنزفت قوى بدر , فُتحت الخزنة ! ..
**********
ركب العقيد سيارته وهو يجهل وجهته ! .. أعاد الاتصال على بدر , و بعد عدة محاولات , أتاه الرد سريعًا :
" عقيد سيف ؟ "..
" بدر , أين أنت ؟! "..
صمت بدر لوهلة وهو يجهل كيف يبدأ الحديث :" لقد .. لقد طرأت الكثير من الأمور ! .."
" ماذا حصل , أين أنت ؟ "..
" إن الأمر معقد بعض الشيء , أنا في شركة والدي , عليك المجيء الآن , سأخبرك عن كل شيء وجهًا لوجه "..
" حسنًا إذًا , سأكون هناك خلال دقائق .. "
وصل العقيد إلى الشركة و أخذه أحد الموظفين إلى مكتب عادل حيث يجلس بدر .. دخل العقيد و رأى بدر جالسًا على كرسي والده و أمامه حاسب آلي صغير .. واضعًا يده على جبينه و الضيق منتشر على ملامحه ! ..
" بدر , ما الأمر ؟! "..
رفع بدر رأسه ثم قال بعد شيء من الصمت :" المغلف الخامس .. لقد كان الكترونيًا ! "..
" ماذا تقصد ؟! "..
" لقد كان عبارة عن مقطع طويل و مشين للغاية ! .. و لقد أرسله أحدهم إلى الكثير من الأشخاص , و حسابات القنوات الشهيرة ! "..
" هل رأيت المقطع ؟ "..
" نعم , لقد أرسله فيصل إلى هاتفي .. و قال لي أن آتي لشركة أبي , و ما أن وصلت , حتى وجدت أن هناك عد تصاعدي للرسالة و هي على وشك الوصول , كانت الشاشات في جميع أرجاء الشركة موّحدة على هذا العد ! "..
مشى العقيد سريعًا و نظر إلى الحاسب أمام بدر ثم وقف بجانبه قائلًا :" ألم تستطيعوا إيقافه ؟ "..
" لا , لقد كان هذا الحاسب هو مصدر الرسالة , و كان مخبأ في خزنة والدي , وجدته بعدما اكتمل التحميل ! "..
سكت بدر لثواني ثم قال :" ماذا أفعل الآن قل لي ! .. لقد ضاع كل تعبي .. ولكن أتعلم ما الذي يقتلني فعلًا ؟! .. هو أن الرجل الذي في الصور و المقطع ليس أبي !! "..
عقد سيف حاجبيه بتساؤل قائلًا :" ماذا تعني ؟ "..
" لم يكن والدي , إنه فيصل ! "..
" فيصل ؟ "
" نعم فيصل , لقد التقيته هذا الصباح عند الجسر المعلق ! .. لقد كان نسخة عن والدي .. كأنه هو ولكن ببعض التغيرات الطفيفة , عندما رأيته كان أول ما طرأ على بالي هو الصور ! .. سألته إن كان هو صاحبها , فأجاب بـ نعم ! "..
لم يعرف العقيد بماذا يجيب , ولكن بدر أكمل كلامه قائلًا :" إنني الآن أحاول أن أستر عاره لأن يشبه أبي , لا أحد يعرف بوجوده , الجميع الآن يظن بأن صاحب هذه الممارسات الشنيعة هو أبي ! .. قل لي ماذا أفعل "..
قال العقيد ببعض الحزم :" أرني المقطع "..
" لن يعجبك ما ستراه ! "..
" لم يعجبني أي شيء رأيته حتى الآن ! .. لا بأس دعني أرى "..
أمسك بدر بالحاسب و دخل إلى الرسائل المرسلة في بريد والده , فتح أخر رسالة و قام بتشغيل المقطع المرفق فيها .. ولكن تجمدت أصابعه مما رآه ! ..
لقد كان المقطع عبارة عن دقيقتين من السواد الحالك .. لقد كان المقطع فارغ .. لا صوت ولا صورة ! ..
قال بدر بهمس :" لا , غير معقول .. لقد رأيت المقطع في هاتفي ! .. قال لي فيصل بأنه محتوى الرسالة ! "..
أعاد بدر تشغيل المقطع , و كان مثل ما هو ! .. لا شيء سوى سواد ..
استغرب العقيد فقال :" لم قد يهددك أحدهم بهذا الشكل , ثم ينكث تهديده ! "..
" لا أعلم , لم المقطع فارغ هكذا ! .. هذا يعني أن المقطع لم يره أحد سواي , أنا و فيصل فقط ! "..
بعد عدة دقائق دخل متعب – المسؤول التقني – إلى مكتب عادل .. توجه إلى بدر قائلًا :
" لقد وصلنا اتصال للتو من أحد القنوات الفضائية ! "..
هز بدر رأسه كإشارة لمتعب بأن يكمل كلامه , فقال ذاك :" إنهم يسألون عن معنى المقطع الذي وصلهم من بريد والدك ! "..
قال بدر بصوت خافت :" و ما الذي وصلهم ؟ .. ماذا رأوا ؟! "..
" إنه فارغ ! .. يسألون : ماذا يقصد عادل بهذا ! "..
ابتسم بدر سريعًا , فعلم أن فيصل لم يرسل شيئًا , ولا يخطط لهدم أي أحد ..
قال بدر سريعًا :" أخبرهم أن بريد والدي معطّل , و يقوم بإرسال أمور عشوائية ! "..
" أتظن أنهم سيصدقون هذا ؟ "..
" عليهم أن يصدقوا ! .. ماذا قد يكون معنى المقطع سوى عطل فني في الجهاز و البريد الالكتروني ! "..
هز متعب رأسه بابتسامة قائلًا :" حسنًا إذًا .. " و خرج متجهًا إلى مكتبه .. بينما نظر بدر إلى العقيد ثم قال :
" ماذا يقصد فيصل بهذا !؟ .. "
" أظن بأنه .. لا أعلم ولكن يبدو أن هناك شيئًا بينه و بينك أنت و والدك ! .. وليس لأحد غيركم علاقة فيه ! .. لو كان يريد ضررًا شاسعًا , لكان أرسل المقطع دون أن يتردد لثواني ! "..
سكت بدر لوهلة ثم قال :" لقد كان هذا المغلف الأخير , أليس من المفترض أن أجد والدي الآن ؟ .. سألت فيصل عنه و قال بأن والدي سيهاتفني من نفسه ! "..
قطع حديث بدر بعض الضجيج في الخارج .. فخرج هو والعقيد ليجدوا بعض الموظفين مجتمعين و تعلوا وجوههم علامات الصدمة .. تقدم بدر ليسأل :
" ماذا الآن ؟ .. ما الذي حصل ؟! "..
تكلم أحدهم بصوت متقطع خائف :" الــ السكرتير سـ سلطان ! .. لقد وُجد مقتولًا هذا الصباح ! "..
" ماذا ؟ ".. سأل العقيد بتفاجؤ ...
" هذا ما وصلني الآن .. وجدته الشرطة مقتولًا في أعلى عمارة قديمة في جنوب الرياض ! .. وقد وجدوا سكين بها بصمات في احدى حاويات القمامة أسفل العمارة ! "..
" هل عرفوا من القاتل ! "..
" نعم .. إنه عبدالرحمن , صاحب والدك ! .. أخبرونا بأن بصماته كانت على السكين , و سيأخذون بعض منّا للتحقيق ! .. بما أننا نعرفه و نعرف بأنه صاحب عادل "..
**********
فتح عيناه ببطء وهو يشعر ببعض الدوار و الغثيان .. استند عادل على يده وهو يحاول النهوض عن السرير .. نظر إلى ذراعه وقد ظهرت عليها بقعة زرقاء صغيرة من أثر ابرة السكري التي أعطاه إياها فيصل ليلة البارحة ! .. وقف على قدميه و هو بالكاد يستطيع المشي .. تذكر كلام فيصل الذي قاله له :
" عندما تستيقظ , سيكون بدر قد أنهى كل شيء , و أنا كذلك ! "..
اتجه عادل نحو هاتفه الموضوع على الطاولة و اتصل بابنه على الفور ! .. فرد بدر بسرعة دون أن يرى الرقم وقد كان يتحدث مع الموظفين بشأن سلطان :
" نعم ؟ "..
" بــ بدر ؟! ".. قال عادل بصوت خفيف ..
" نعم , من معي ؟ "..
" إنه أنا , والدك ! "..
أبعد بدر الهاتف عن اذنه و نظر إلى الشاشة ليتأكد من الاسم " أبي " ! ..
" أبي , أهذا أنت ؟ ".. قال بدر بخفوت فصمت الجميع و اتجهت عيونهم نحو بدر ..
" نعم .. بدر , أرجوك قل لي أن كل شيء على ما يرام ! "..
همس بدر بـ الحمد لله وهو يبتسم بسعادة وقد غرقت عيناه :" أبي , أين أنت ؟ .. و أين كنت طوال الفترة الماضية ! .. سآتي إليك حالًا , فقط قل لي أين ! "..
" أنا في منزل عبدالرحمن .. أنت تعرفه أليس كذلك ؟ .. لقد زرناه عدة مرات " ..
قاطع بدر والده وهو يقول :" نعم نعم .. أعرفه , سآتي خلال ثواني , ابق في مكانك أرجوك , لا تذهب إلى أي مكان ".. أغلق بدر هاتفه وهو ينظر نحو العقيد سيف قائلًا بصوت باكي :
" إنه أبي , في منزل عبدالرحمن , فلنذهب حالًا .. ! "..
خرج الاثنان بأسرع ما يمكنهما متجهين نحو عادل .. أما بدر فقد كان يبكي بصوت عالي و يتنفس بقوة .. بينما كان يقود سيارته و العقيد بجانبه :
" بدر ! .. هدئ من روعك ! .. سنصل إليه , سيكون على ما يرام "..
" إنه عبدالرحمن , لقد قتل سلطان , و الآن هو يحبس أبي في منزله ! .. ماذا لو ألحق به الضرر قبل أن نصل ؟ "..
" سنصل , لا عليك .. " أخرج العقيد هاتفه و اتصل على أحد رجاله ليسأله عن عبدالرحمن , فأخبره بأنهم اعتقلوه على الطريق السريع بين الخرج و الرياض .. فأخبر العقيد بدر على الفور لتهدأ أعصابه , وما أن وصلوا , حتى قام بدر بركل باب المنزل لمرات متتالية دون توقف وهو يوشك على الانهيار ! ..
كسر الباب و دخل وهو يصرخ بأعلى صوته :" أبي , أبي أين أنت ؟! "..
خرج عادل من أحد الغرف في الأسفل وهو يمشي ببطء :" بدر , أنا هنا "..
نظر بدر إلى أبيه و ركض نحو و هو يعانقه بشدة و يبكي , قبّل يداه و هو يشمها و يعاود البكاء كالطفل وهو يردد " أبي ".. مسح عادل على رأس ابنه و بدأ البكاء أيضًا ما أن تذكر فيصل , فجلس أرضًا بتعب وهو يحتضن ابنه قائلًا :" لا عليك .. لقد انتهى كل شيء .. اهدأ يا بني , اهدأ ! "..
" لقد ظننت بأني سأفقدك ! .. لقد تعبت , تعبت كثيرًا .. أخبرني عنك , ماذا حصل لك , أين كنت .. ماذا فعل فيصل اللعين بك ! .."
" لا يا بدر ! .. لا تقل عنه لعين ! .. لقد أفنى عمك عمره ليحميني أنا ! "..
رفع بدر رأسه من حضن والده و نظر نحوه بصدمة :" عمي ؟ "..
" نعم , ظننت بأنه فعل كل هذا ليحلق بنا العار أليس كذلك !؟ "..
" لحظة , انتظر قليلًا .. ماذا تقصد بأنه عمي .. ولم فعل كل هذا ؟ "..
كان عادل سيجيب على ابنه لولا أنه لاحظ رجل غريب يقف بالقرب من الباب بصمت و بابتسامة طفيفة .. استدار رأس بدر نحو العقيد وهو يقول :
" أبي , لقد نسيت أن أعرّفك على العقيد سيف ! .. لقد كان بجانبي طوال الوقت "..
نهض عادل واتجه نحو سيف , فتقدم العقيد سيف نحوه بشكل سريع وهو يعانقه بخفة قائلًا :" الحمد لله على سلامتك يا أبا بدر .. "
" سلّمك الله , أنا متأسف , لقد أخذتنا لحظة العاطفة و تركناك لوحدك "..
" لا , لا عليك "..
جلس الثلاثة سوية , و أخذ بدر بيد والده و بدأ يسأله عمّا حصل معه منذ البداية , ولكن ما لبث طويلًا حتّى اتاه اتصال من قسم الشرطة في أحد أحياء جنوب الرياض .. أخبروه بأن عليه المجيء بشأن رجل ما يدعى فيصل , وجد ميتًا أسفل الجسر المعلق صباح هذا اليوم , و قد كان آخر رقم اتصل به هو رقم بدر ! ..
ذهب هذا الشاب برفقة العقيد و والده نحو المركز , و قد تعرّفوا على العقيد سيف على الفور و أخبرهم بشأن فقدان عادل و أنهم وجدوه الآن , أخبرهم عادل بأن الرجل الميت لم يكن سوى أخوه .. و قد انتحر بعدما تعرض للكثير من الابتزاز من قِبل رجل ما يدعى عبدالرحمن ! ..
بدأوا بالتحقيق مع عادل و ابنه , و لكن عادل هو من استلم زمام الحديث بما أنه كان مخطوفًا , و هو المعني بكل شيء ! ..
بدأ بالكلام فاخبرهم أن عبدالرحمن استخدم السكرتير ( سلطان الفهد ) ليتمكن من الولوج لكل ما يريده من أمور عادل الخاصة .. أرقام سرية و مفاتيح المكتب و المصعد الخاص به .. وقرر عبدالرحمن سلب الكثير من أموال عادل عن طريق ابتزاز فيصل بصوره و ماضيه المشين , فأرغمه على اختطاف عادل .. واستخدمه ليقوم بالاتصال على بدر ليخبره بشأن المغلفات , و يكون عبدالرحمن هو الطرف المساعد و البريء طوال الوقت .. ولكن فيصل قرر الانتحار في النهاية عندما رأى بأن صوره قد أصبحت في جميع أرجاء الرياض , و أن عبدالرحمن قد سلب الأموال و غدر به و نشر كل ما يمتلك من صور و مقاطع تخصّه ! ..
كانت هذه الحبكة متقنة للغاية , فقد قرر عادل و فيصل حبك القصة على هذا النحو , و جعل جميع أصابع اللوم و الاتهام تتوجه نحو عبدالرحمن بشكل لا متقن لا يقبل الشك .. و مع السكين ذات بصمات عبدالرحمن , و منزله الذي كان عادل نائمًا فيه , اقتنع الجميع بأن عبدالرحمن هو العقل المدبّر لكل شيء , مستغلًا صحبته لعادل من أجل سلبه أمواله و تشويه صورته ..
و بعد عدة أسابيع من التحقيق المتواصل في شأن القضية , ثبتت جميع التهم على عبدالرحمن :
( القتل عمدًا , الاختطاف , سرقة الأموال و الابتزاز ! ) ..
**********
( الليلة التي تسبق انتحار فيصل ) ..
الساعة 12:00 بعد منتصف الليل :
توقفت سيارة الأجرة أمام منزل عاش فيصل الكثير فيه ! .. نزل و اتجه إلى الباب .. باب منزل عبدالرحمن !
هذا المنزل الذي استقبله عندما بدأ كل شيء , و الذي آواه عندما كان في أشد حالاته اكتئابًا و حزنًا .. و ها هو الأن يحوي في داخله توأمه ..
دخل فيصل إلى المنزل الذي نسخ مفتاحه سرًا بعدما أخذه من عبدالرحمن , و اتجه إلى الغرفة التي أمر سلطان أن يضع عادل فيها .. دخل إليها و رأى أخاه مستلقيًا على الأرض كالميت , كان العرق ينزل من كل مكان في جسده , و هو يرجف بشدة و قد ازرقت شفتاه , علم فيصل أن معدل السكر قد انخفض جدًا , ولكنه اشترى له الأدوية اللازمة قبل أن يجيء , و احضر له بعض الطعام و السكريات التي ستعيده لوضعه الطبيعي ..
كان فيصل قد فكر في كل ما سيقوله لينهي الأمر مع أخيه , لينهي كل شيء حصل من قبل .. ليخبره عن كل ما يجول في رأسه , و السبب الحقيقي وراء كل ما يفعله تحت مسمى " انتقام " .. !!!
اتجه فيصل نحو عادل و رفعه عن الأرض و بدأ بعلاجه و إطعامه حتى يستعيد وعيه .. حتى يكون مستوعبًا لكل ما سيقوله فيصل .. و ما أن استعاد عادل وعيه حتى قال ذاك بهدوء :
" كيف تشعر الآن ؟! "..
اعتدل عادل بجلسته و اسند ظهره على السرير وهو يقول :
" اسمع , لن أقاومك بعد الآن أو أطيل الحديث معك , فقط أخبرني ماذا تريد ! "..
رفع فيصل نظره إلى عادل وهو يقول :" حسنًا , من أين سأبدأ بالحديث ! .. أمِن المراهقة ؟.. أم ما بعدها ؟! .. لقد كانت تلك الأيام هي أسوأ ما مر علي في حياتي .. كل ذاك التيه , الضياع .. لا أعلم كيف ظللت حيًا إلى الآن ؟! .. إنها معجزة أليس كذلك ! .. لقد كنت في أتعس أيام حياتي على الإطلاق , ولكن أتى ذاك اليوم الذي بدأ شيء من الأمل ينمو بداخلي , لقد التقيت بصديقنا محمد , صديقنا في المدرسة الثانوية , كنت في الرابعة و العشرين على ما أعتقد .. لقد قال لي ذاك اليوم بأنك كنت تبحث عني بعدما خرجت من المنزل .. !
لقد كان يكفيني سماع ذلك ليتبدد كل ما في قلبي عليك ! .. أنا سيء هذا صحيح , ولكن كان يكفيني أن أعرف بأنك كنت نادم على صمتك , و أنك قلبت الدنيا بحثًا عني .. ما أن سمعت هذا حتى اختفت كل الضغينة التي أحملها تجاهك ! .. و قد اختفت بالكامل بعدما زرتني في المشفى عندما تعرضت لنوبتي القلبية , و قد أكدّت كلام محمد و قلت بأنك كنت تبحث عني فعلًا .. "
تحدث عادل قائلًا :" و كذبة موتك ؟ .. كيف استطعت خداعي طوال هذه السنين ؟! .. كيف لك أن تفعل هذا ؟! .. أنت تعرف أني لم أكن لأتركك وحيدًا حتى لو قتلني والدي في ذاك الحين ! "..
" الكذبة ؟! .. كنت بأمس الحاجة إليها .. لقد كنت أريد الخروج بالكامل من حياتك حتى أراك عن قرب ! .. كل تلك المشاريع الخيرية التي فعلتها من أجلي , لقد عرفت بشأنها , و علمت بأنك لم تمس حصتي من ورث أبي .. كما لو أنني كنت حيًا ! , لقد تركت تلك الحصة لي بالكامل , سخرتها كلها من أجل سعادتي في آخرتي , و الآن تعتقد بأني سوف أضرّك بعدما فعلت هذا من أجلي ؟! .. "
" لم كل هذ إذن ؟! .. الاختطاف , و إدخال ابني في متاهات ليس لها نهاية .. لم هذا كله ؟! "..
" هذا كله ؟ .. إنه ليس لك , و ابنك بدر ليس سوى مظهرًا أخفي وراءه المقصود الحقيقي في كل هذا الأمر, إنه عبدالرحمن .. !
طوال هذه السنوات من الصحبة التي تجمعكما , لم يتردد لحظة في التخطيط من أجل الإيقاع بك و بحياتك ! .. لقد كان يريد الانتقام لي , لقد ظل يحرضني على الانتقام منذ سنوات .. وعندما شعرت بذلك , بدأت أرى ملاكًا وسط جحيمي ! ..
لقد بدأت أنسى كل ما تعرضت له من مصائب و اتجه تفكيري نحوك أنت , يكفي ضياعي أنا , لم قد تضيع أنت أيضًا !؟ .. لذلك , ماشيت عبدالرحمن فيما أراد , طلبت منه أن يخبرك بشأن وفاتي , و لم يتردد لحظة في الكذب عليك .. عندها علمت بأنه هو الوحيد الذي اريد الانتقام منه , ذاك الذي يريد أن يطعنك في الظهر , لقد شعرت أنني ملاكًا في الجحيم أتعي ذلك ؟ ".. ضحك فيصل و هو يكمل كلامه :" كل هذا .. كل هذه الصور و ما أفعله بك ليس سوى شكليات .. أنت لست سوى كبش فداء يا عادل ! .. كان علي أن أجعلك تعاني قليلًا .. ! "
صمت فيصل لولهة تحت أنظار عادل الحائرة , و ما لبث طويلًا حتى قال :" غدًا صباحًا , سينتهي كل شيء .. سيلقى عبدالرحمن جزاء خيانته و نفاقه لك .. ولكن لن أحصل على شرف مشاهدة الأمور و هي تتلاشى .. و العقد وهي تتفكك ! .. "
" ماذا تقصد ؟! "..
" لقد انتهى دوري في كل شيء , لقد كشفت لك من كان يخونك .. عبدالرحمن , و سلطان أيضًا لم يكن بالسهل , لقد كان يزودنا بكل ما احتجاه عنك ! .. فرأيت أنه بحاجة للتأديب , المؤبد !! "..
" ولكن .. "
" ماذا يا عادل ؟! "..
" كيف ستجعل كل التهم موجهة نحو عبدالرحمن ؟ .. كيف ستخرج نفسك ؟! .. "
ابتسم فيصل وهو يقول :" في الماضي , لم تستطع تزكيتي و اقناع والدي بأني لست حقيرًا, ولكنني سأعطيك فرصة ثانية , غدًا , أريد منك تزكيتي , ولا تصمت كما فعلت من قبل .. استغل الفرصة .. اجعلني ملاكًا يا عادل .. "
رفع فيصل باطن يديه نحو عادل وهو يقول :" انظر , لا بصمات لي ! .. لا يمكن اثبات أي شيء علي .. يمكنك أن تحبك القصة مثلما تريد , ولكن اجعل عبدالرحمن مذنبًا , لأنه فعلًا كذلك ! .. اكسره قبل أن يكسرك هو ! "..
اخفض عادل رأسه وهو يفكر في كلام أخيه ! :
" كيف سأنسج القصة ! .. كيف ؟! ".. " ولكنه قطع تفكيره ذكرى ما يريد التأكد منها , فسأل فيصل قائلًا :
" أين كنت تعيش بعدما خرجت من المنزل يا فيصل ! قبل 30 عامًا ؟! "..
نظر فيصل حوله وهو يقول بهمس :
" هنا ! "..
نهض وخرج من الغرفة , و لكنه توقف قليلًا بمحاذاة الباب و هو يقول :" إلى اللقاء "..
" إلى أين ؟! .. أين ستذهب هذه المرة يا فيصل ؟! .. ألم يحن الوقت لترتاح ! "..
" لن أرتاح أبدًا , قيل لي مرة بأن الموت راحة , سأجربه , مع أنني أشك في صحة الأمر , ليس هناك راحة أبدًا "
خرج فيصل من المنزل , ولكن صراخ عادل خلفه كان في ازدياد , كان يصرخ باسمه طالبًا منه الرجوع .. ولكن فيصل أكمل طريقه نحو المجهول .. منتظرًا الصباح ليأتي .. و العمر لينجلي !!
****
.. انتهت ولله الحمد ...
.. في الخامس عشر من يناير 2016 ..
كانت هذي أول تجربة لي بالكتابة و ان شاءالله ما رح تكون الأخيرة ..
شكرًا للعضوات الحلوات اللي كانوا متفاعلين معي , و اللي كانوا يقرأون بصمت ..
شكرًا ع الوقت اللي أخذتوه من أيامكم عشان تقرأوني ..
ولي بكم لقاء آخر بإذن الله ..