-أشرف لم يمت لحسن الحظ, ولكنه نزف كثيراً وربما تسببت الضربة بنزيف داخلي, ولذا فهو تحت الملاحظة في المستشفى ونحن هنا نبحث عن ترنيمة.
ثم تنهد بأسى:
-أشرف يهدد بالذهاب الى الشرطة.
اتسعت عينا سيف بذهول قبل أن ينفجر بالضحك:
-هو يقوم بالاعتداء وحين تدافع عن نفسها يذهب بها الى الشرطة؟؟ مالذي تقوله يا ابن الراجي.. فكر جيداً..
-نحن لسنا في اوروبا..
هتف مختار بشراسة.. وحين التفت اليه سيف هتف بعنف:
-المرأة في بلادنا لا حقوق لها, ومسألة محاولة الاعتداء ليس لديها فيها شهود, ومن الناحية الأخرى فبصماتها على البلورة التي شجت رأس أشرف, وهناك ألف رجل سيقسم انها من دعته الى غرفتها في عمق الليل.
تجمدت ملامح سيف قبل ان يقول بخفوت:
-يخيل لي أن الموقف ليس جديد عليك على الاطلاق سيد مختار,, وعلى العموم فلا أظن أن الأمر سيصل للشرطة, ليس ان كان لي دخل به..
جلس مختار على أحد المقاعد وبحثت عيناه عن سيف وهمس وقد ظهر أنه كبر لأعوام:
-كل ما نريده منك, هو أن نعرف مكانها, أخبرني أين هي ترنيم, اجعل الكابتن يساعدنا, ثم سنبتعد, سأخذ ابنتي.. أزوجها لابن عمها وانهي هذا الأمر نهائياً.
-تزوج زوجتي؟؟
هدر الصوت من خلفهم ليلتفت الجميع وتقع اعينهم على أوس.
كان بالكاد قد استعاد وعيه بعد العملية الثانية التي أصر الطبيب عليها والتي أقنعه سيف بخوضها, كان بنفسه مقتنعاً, قلقاً بالتأكيد ولكن..
لم يكن لديه الكثير ليخسره..
كل حياته كانت على المحك, كل ما يريده هو الخروج من حالة العجز التي كان بها والرؤية من جديد.. شرح له طبيبه بالضبط كيف أن الأمر لم يكن سهلاً, وأن ثلاث عمليات ستجرى له, اثنتان قد أجراهم بالفعل وتبقت الأخيرة وموعدها بعد بضعة أيام, اعتماداً على تقدم حالته بعد العملية الثانية والتي أجريت له مساء الامس.
-أنا لن أطلق ترنيم.
همس بخشونة.. وتغلب على الغصة التي خنقت صوته ورفع ذراعه ينادي ابن عمه:
-سيف.
لبى سيف نداءه قبل ان يصل لأخر حروفه وبلحظة كان يمسك بكفه التي قبضت عليه بقوة..
كانت عيناه خلف ضمادة واقية من الضوء..
بينما يشرد رأسه بحثاً عن اعداءه:
-أخبرني أين هي زوجتي يا مختار, نحن هنا بعيدين عن مناطق نفوذك, وباتصال واحد فقط يمكنني أودعك في السجن بتهمة الخطف.
اقترب مختار من أوس وعينيه لا تفارقان الضمادات على رأسه:
-مالذي حدث لك؟
رفع أوس رأسه وهتف بقسوة:
-أين ترنيمتي؟ مالذي تفعله أنت هنا؟ وأين هي بالضبط؟؟
-ترنيم هربت.. لقد ضربت أشرف وشجت رأسه, ثم هربت.. كفص ملحٍ ذاب.
-مالذي فعله لها ذلك الوغد؟؟
هدر أوس بجنون ليتدخل خالد بحنق:
-ترنيم دافعت عن نفسها هي لم تقم بشيء خاطئ.
شعر أوس بالدوار, وازدادت قبضته على كف أخيه الذي قاده الى كرسي قريب ليجلس وهو يهمس له:
-أنت لست بخير, عليك أن تعود للداخل, عليك أن ترتاح أوس.
-ألا تعرفون أين هي؟
همس بشحوب ليرد خالد بتوتر:
-لقد جئنا للبحث عنها, ظننا لوهلة.. أنك.. أنك تعرف طريقها.
افلت أوس سيف وأسند رأسه بكفيه وعقله يهيج في عاصفة من المشاعر العنيفة والأمر يستقر بصعوبة بين خلايا مخه..
ترنيم هربت منه ولجأت لعائلتها, ثم كان ذلك الوغد..
شعر بالدماء تفور في أعماقه..
العجز.. والغضب
الغضـب والعجــز..
احساسان بالغا القوة ..
أحدهما يثير فورة الدماء, ويفرز هرمونات القتال.. يشعل الروح فيحترق الجسد..
والأخر يثبطها..
يمرغها في الأرض.. يقيدها.. يعريــها على حقيقتها, ويظهر للكون ماهي عليه حقاً..
وكان هو واقع بين الاثنين..
بين فورة الغضب.. وبين مرارة العجز !!
شيء أقرب للجنون..
بل هو الجنون مجسداً.
-ترنيم ارتكبت خطئاً فادحاً أوس, لقد ارتكبت جريمة وأخشى..
هتف والدها وختم متردداً:
-أخشى أن ينتهي بها الأمر كما حدث في المرة الماضية.
-اصمت.
هدر أوس بعنف ثم رفع رأسه باتجاه سيف وقال بحسم:
-اتركني مع السيد مختار لبعض الوقت سيف.. وحدنا.
لم يعترض عليه وقتها, شعر أنه حقاً يريد أن يبقى وحده مع الرجل, ولم يكن الفضول من عاداته بتاتاً لذا اصطحب خالد للخارج وتركا الرجلين وحدهما..
حالما شعر أوس بانغلاق الباب التفت بجسده كله نحو مختار وهتف:
-تكلم.. مالذي فعلته لابنتك هذه المرة سيد مختار؟ أي تهديدات تلك التي قمت بها لتجبرها على الرحيل عني, وتلقي بها بين يدي ذلك الوغد.
تراجع مختار بذهول وهمس:
-لم أقم بشيء, أشرف.. أشرف فعل كل هذا.
ابتسم أوس بسخرية:
-الأن تتنصل من مسؤوليتك.. خطوة ذكية يا عماه, ولكنها لن تنقذك.. ليس حين اواجهك أنا بكل ما فعلته لابنتك خلال تلك السنوات.
-ابنتي ارتكبت اثمها بيديها, كل ما فعلته أنا كان لإنقاذها من جريرة فعلها.
هتف مختار ليرد أوس بقسوة:
-اتهام ابنتك بالجنون ليس انقاذاً, ايداعها مصحة نفسية ليس أفضل ما تفعله لها.
عقد مختار حاجبيه وهتف بحنق:
-لم يكن أنا من أودعها للمصح, كانت هي.. هي دخلت بقدميها, بعد اصابتها بالانهيار, حاربتها للنهاية كي لا تمرغ اسم عائلتنا في الوحل, ليس من السهل العيش مع سجل للأمراض النفسية كما تعرف.
شعر أوس بالارتباك وتساءل:
-ماذا تعني أنها من أودعت نفسها للمصح؟
زفر مختار وقال:
-كان قريب صديقتها طبيب يعمل في تلك المصحة النفسية, لابد أنه أقنعها بطريقة ما لتستعيد هدوءها, ولكن فجأة ظهر تقرير من العدم يشير بكونها مصابة بمرض نفسي وغير مسؤولة عن تصرفاتها.
-أنت لم تكن مسؤولاً عن التقرير؟
اتسعت عينا مختار وهتف:
-بالطبع لا .. هل تظنني مجنوناً, لقد ظهر ذلك التقرير من العدم وقت محاكمتها, صحيح أنها خرجت دون حكم, ولكنها أصيبت بانهيار حقيقي بعدها, كانت بحالة يرثى لها, ولذا تركتها ترحل.
-من فعلها؟؟
همس بصوت متحشرج ليخفي مختار وجهه بكفيه:
-كنت أشك دوماً بأشرف, كان يبحث عن أي طريقة لاخراجها.. كان هو من أخبرني عن كونها بالمصح, وهو من قال لي عن الحادثة وأصر على اخراجها.
رفع أوس رأسه:
-عن أي حادثة تتحدث؟؟
رفت عينا مختار بارتباك.. ليزمجر أوس وقد فهم الصمت:
-ترنيم لم تصب بأذى, لم يمسها أحد..
-ماذا تعني؟؟
هدر أوس بعنف:
-قلت لك.. افهم جيداً.. ترنيم كانت عفيفة, بريئة كطفلة قبل أن أتزوجها.
نهض مختار ينظر لأوس بذهول:
-أنت كاذب.
زمجر أوس:
-ولم سأكذب, ولأجل من؟؟ أخبرك الحقيقة, ترنيم لم تتعرض للاغتصاب ابداً..
-لم قال.. لما فعل هذا؟؟
-عمن تتحدث؟
تساءل أوس بجفاء, ليجيب مختار بإنهاك:
- أشرف, أشرف هو من جاء بالخبر, هو من رتب كل شيء لإخفاء الاوراق الرسمية..
-الاوراق التي لاوجود لها من الأساس.
علق أوس بعنف..
ثم نهض وبدأ بنزع ضمادة عينيه لتتسع عينا مختار بجزع:
-ماذا تفعل؟؟
-سأذهب لأبحث عن زوجتي.
-أنت لا تستطيع الخروج.
هتف بيأس.. ولكن أوس لم يتوقف, أبعد الضماد كلياً, ووقف أمام الباب يتحسس طريقه نحو الغرفة, قائلاً:
-استدعي سيف..
تحرك مختار بتوتر لا يعرف كيف يتصرف مع رجل بهذا العناد, خرج ونادى سيف الذي أسرع الى الداخل وتعالى صوته وهو يهتف بأوس و ينهره عما ينويه, والتفت مختار لخالد:
-ذلك الفتى قد فقد عقله.
تجاوزه خالد الى الداخل, حيث وقف أوس يرتدي قميصه, ويقول بصوت جامد:
-لا أنت ولا أي أحد في هذا المكان قادرون على ايقافي سيف, انا سأغادر في الحال, وأريدك أن تحجز لي في أول طائر متجهة الى البلاد.
-أوس.. أنت مجنون أنت لم تتجاوز مرحلة الخطر بعد.
هتف سيف بحنق ولكن أوس تجاهله واتجه بخطوات قصيرة نحو الباب..
عيناه.. لا يستطيع الرؤية .. ولكن فليلعنه الله لو بقي مكتوف اليدين..
هو سيذهب خلف ترنيم وان قطع المسافة بينهما على يديه وركبتيه..
لن يستسلم قط..
كل ما عليه هو التركيز فقط.
-أوس انتظر على الاقل حتى يأتي طبيبك؟
-لن أنتظر أحداً, وأن لم تتحرك معي الان فسأذهب وحدي.
صرخ أوس ليجيبه سيف بصراخ ممثل:
-يا أحمق أنت غير قادر على رؤية أطراف أصابعك.. كيف ستستطيع البحث عنها؟
-سأجد طريقة..
-أووووس..
زمجر سيف ولكن أوس لم ينصت, هو فقط تحرك يتبع بصيص ضوء لاح له من بعيد, مهما كان الأمر فهو سيتبعه وان كلفه حياته.
تلك كانت ترنيم..
ترنيم التي هجرته لتحميه من رجل عديم الرحمة, والضمير..
رجل سبق له أن دمر حياتها وهاهو الان يحاول تدمير البقية الباقية!!
رحلت ودافعت عن نفسها بشراسة لتختف من جديد, ولكن هذه المرة هو يعرف أنها لم تبتعد..
بقي فقط أن يفكر جيداً ويستدل على مكانها..
مهما كان الثمن.
***
أبدعتي بيرووووووووووو