الفصل الثامن
بعد ذلك بأسبوعين , وصلت جينا إلي لندن عائدة من مصر بالطائرة , شاعرة بإرهاق فظيع , كانت الرحلة طويلة صادفتهم أثناءها عواصف جوية جعلت الطائرة تدور في السماء كعلبة بين يد طفل عابث , بينما أخذت جينا ككثيرين من المسافرين غيرها , تتقيا , وكانت ما تزال تشعر بساقيها ضعيفتين لا تكادان تحملانها , خصوصا عندما رأت نيكولاس ينتظرها ...... إذ لم تكن تتوقع رؤيته .
وعندما تقدم لملاقاتها , نظرت إليه بإمعان وقلق , ذلك إنها في تلك الإجازة , كانت لا تزال تستيقظ اثر كابوس مفزع يعيد إلي ذاكرتها تلك اللحظات الرهيبة التي أصيب فيها بالرصاص . ولكنه الآن يبدو وقد عاد إلي صحته وشخصيته ما جعل الارتياح البالغ يتملكها .
قالت له لاهثة :" مرحبا ."
فقال بصوت عميق دافئ وهو يبتسم :" مرحبا ." وبقيا لحظات ينظران إلي بعضهما البعض صامتين , فقد تملك جينا شعور بالسعادة لرؤيته وهي تعود إلي الوطن , وكأن وجوده في استقبالها قد جعل عالمها مكتملا .
استلم نيكولاس منها العربة وهو يقول :" ما الذي يوجد في كل هذه الحقائب ؟ لا تخبريني بان كل هذا هدايا تذكارية .... من تلك الآثار المصرية الزائفة ."
قالت وهي تضحك متحديه :" نعم , لقد أحبني بائعو التذكارات المصرية جدا , فقد كنت سائحة ممتازة , إذ لم أكن استطيع مقاومة شراء عقود حجر الجاد المزيف , ونسخ رخيصة طبق الأصل لمجوهرات توت غنج آمون ."
ابتسم متفكها وعيناه تجولان في أنحاء جسدها ما جعل وجهها يحمر :" يبدون أن الرحلة أفادتك , وهذا الاسمرار في بشرتك يبدو رائعا , وهو يناسبك ."
قالت وقد احمر وجهها :" ولكن كان عليك أن تراني الأسبوع الماضي , فقد كنت أشبه بسرطان البحر , ولم احصل علي اسمرار البشرة ألا منذ أيام قليلة ."
" هل كانت رحلتك في الطائرة مريحة ؟ " وجه نيكولاس إليها هذا السؤال وهما يخرجان من مبنى المطار إلي حيث شمس فبراير الباردة والتي جعلت جينا ترتجف , وقد أدركت الآن تماما أنها قد عادت إلي شتاء بلادها بعد حرارة مصر اللاهبة .
أجابت :" لقد صادفتنا عاصفة مخيفة .ما جعلني أظن أن ساعتي الأخيرة قد دنت , ولكننا نجونا منها ."
منحها ابتسامة وقال :" أنني اكره السفر بالطائرة في الاجواء السيئة , هل أصبت بالقيء , أنا أيضا يصيبني هذا ."
فقالت : "نعم , لقد أصبت به ." وتقابلت أعينهما بضحكة مشتركة , ها قد عادت مرة أخرى , تلك المودة الجديدة بينهما , لم تكن تعلم متى وكيف نشأت ولكن ربما كان هذا بسبب المحنة المشتركة لتلك اللحظة التي تعرض فيها لمحاولة الاغتيال .
سألته بقلق وهي تنظر إليه :" الم يحدث شيء آخر أثناء غيابي ؟ هل ثمة تهديدات جديدة ؟"
هز رأسه قائلا :" تظن الشرطة إنها قبضت علي الرجل الذي كان وراء محاولة اغتيالي , فهم لا يتوقعون أن يجازف بقية أفراد العصابة بإعادة المحاولة , لا تقلقي فانا في أمان إذ كان رجال امن خاص حولي في كل مكان اذهب إليه وذلك أثناء الأسبوعين الأخيرين ,فتأكدوا من أنني لم أكن مراقبا أو ملاحقا .
قالت وهي تنظر حولها , عند وصولهما إلي الرولز رايس :" ولكن أين هم الآن ؟"
" لقد طلبت منهم أن يتبعونا في سيارة أخرى , والآن لا تقلقي فلم يعد هناك أي خطر ."
تمتمت تقول :" هذا ما كنت تقوله من قبل ."
قالت له بأدب وسائقة يضع أمتعتها في صندوق السيارة :" من الشهامة منك إن تأتي لاستقبالي في المطار , هل هي أمك التي أخبرتك في أي طائرة سأصل؟"
" نعم , لماذا لم تخبريني أنت ؟"
قالت : " لم يخطر هذا في بالي مطلقا ."
كانت تكذب ما جعل نيكولاس ينظر إليها ساخرا بينما كان يساعدها في الصعود إلي السيارة ثم يجلس بجانبها .
قال :" لقد تحدثت أليسا مع أمي هاتفيا , البارحة , من القاهرة قائلة إنها ستذهب إلي جزر المارتينيك لترسم , حيث إن توم تيرني سينتقل من الفيلا في عطلة هذا الأسبوع , فتصبح خالية لها . وقد اقترحت علي أمي إن تلحق بها إلي هناك , ولكن أمي أصيبت بأنفلونزا مزعجة , فهي تلازم الفراش ."
" نعم , لقد أخبرتني أليسا بذلك , أرجو إن تعتني تلك المرأة التي أحضرتها مكان السيدة غرانت , بها جيدا ."
" وأنا أرجو ذلك , يبدو إن أمي تحب السيدة فيريس تلك , أنني لم أر تلك المرأة بعد , ولكن لديها شهادات خدمة ممتازة كما تقول أمي , إنها في غاية الكفاءة ....."
أخذت جينا تتأمل وجه نيكولاس الجاد وقد تأثرت بمقدار اهتمامه بامه وبكل ما يتعلق بها , وإذ انتبه إلي تحديقها هذا , نظر إليها وقد ضاقت عيناه :" كيف كان انسجامك مع أليسا ؟"
" كالسمن والعسل ."
" أحقا ؟ " وبدت علية الدهشة , أتراه كان توقع منها أن لا تحب أليسا , لا لشيء ألا لأنها أخته ؟ حسنا , فهو مخطئ جدا , فقد أصبحتا صديقتين حميمتين أثناء الأسبوعين الذين أمضتاهما معا في مصر , مبحرتين في النيل في باخرة قديمة تسير بالمجاذيف .
سألها نيكولاس :" هل كان هناك أناس كثيرون علي متن الباخرة ؟"
" قيل أن هناك ما بين العشرين والثلاثين راكبا ."
" هل غالبيتهم متزوجون ؟"
لم تفتها اللهجة التي رافقت سؤاله هذا , فرمقته خفيه من تحت أهدابها ,ثم قالت بوجه خالي من التعبير :" اغلبهم ."
" وهم أيضا اكبر سنا منك ومن أليسا , كما أتصور , فنوع الأشخاص الذين يقومون عادة بمثل هذه الرحلات هم في منتصف العمر أو أكثر ."
فأومأت قائلة :" كان اغلبهم اكبر سنا , وقد أقاموا مرتين أمسيات موسيقي كلاسيكية يرافق ذلك مغن وعازف علي البيانو ."
بدا الارتياح علي وجهه , ولكنها لم تكن قد أنهت كلامها بعد , فقالت :" من حسن الحظ انه كان هنالك شاب أو اثنان ."
ردد كلامها مقطبا جبينه :" شابان ؟"
" كان هناك مرشد الباخرة , الدكتور هيث .... وهو بسن أليسا تقريبا , وبالغ الجاذبية .
فقال متجهما :" آه , حقا ؟"
" والمرشد السياحي , جوليان ....... وهو اقرب إلي سني أنا , وقد مضت عليه سنتان في عمله ذاك في تلك السفينة , قال انه لم يصدق حظه السعيد عندما راني و أليسا , نسير معا علي سطح السفينة .
قال نيكولاس بابتسامة لاذعة :" أرجو أن لا تخبريني بأنك أمضيت إجازة حب شاعرية."
فضحكت قائلة :" لقد كنت قلت لي أن ابتعد عن كل شيء واستمتع بإجازتي , حسنا , لقد استمتعنا جدا أنا و أليسا ."
أما الذي لم تخبره به فهو أن الدكتور هيث كان متزوجا وله عدة أولاد صغار ولم يبد أي اهتمام بها أو باليسا ما عدا أنهما في مجموعته السياحية .
كانت جينا تعلم أنها لن تنسى أبدا مناظر النيل الرائعة التي كانتا تمران بها والسفينة تنساب بهما أثناء حديثهما , كانت الصور تتلألأ في ذاكرتها .... غابات القصب , الضفاف الموحلة , أشجار النخيل , ثور يسير ببطء وبشكل دائري يضخ مياها موحلة إلي الأرض الجافة , القرى ذات البيوت الطينية , والدجاج منتشر يلتقط طعامه والأولاد يلعبون خارج بيوت ذات سطوح مسطحة تعلوها أبراج الحمام .
كانت مصر مزيجا غريبا من الماضي السحيق والعصر الحديث ..... فهناك ناطحات السحاب , القطارات السريعة وزحام حركة السير في القاهرة , من ناحية ومن ناحية أخرى حياة الفلاحين في القرى والتي لا يبدو أنها تغيرت منذ عهد الفراعنة , قال نيكولاس وهو يتأملها :" لقد عدت إذن من رحلتك راضية عن نفسك تماما ."
" إنني مسرورة جدا لذهابي , إذا كان هذا ما تعنيه , كان علي أن اعرف أليسا حقا , وذلك بالحديث معا ساعات طويلة ."
فابتسمت له برزانة:" وعن ذلك أيضا ."
قال مفكرا :" ولماذا نظرة الشعور بالذنب هذه منك والتي تشبه نظرة قطة أكلت القشدة ؟ ما الذي حدثتك أليسا ؟"
" فلنقل إنها أعطتني رأيها فيك بصفتها أختك ." قالت له ذلك مازحة لتغيظه بينما السيارة تقف خارج المبنى الذي يسكنان فيه , ورآهما الحارس يصلان فأسرع نحوهما ليأخذ الحقائب من السائق , وهو يقول :" سأصعد بها إلي الشقة حالا , يا سيدة تيريل ."
فقالت باسمه :" شكرا ."
وفي المصعد , قال نيكولاس بلهجة عادية :" لقد حدث الكثير أثناء غيابك في مصر , ويجب أن نتعشى معا هذه الليلة لكي أتمكن من أخبارك بكل شيء ."
لم ترفض , فقالت :" في أي وقت ؟"
" سأمر عليك في الساعة السابعة , والي ذلك الحين لا تبدإي في إفراغ أمتعتك وتنظيم كل شيء .... أن عليك إن ترتاحي بعد ذلك الطيران المتعب ."
" إن أول ما سأفعله هو اخذ حمام طويل , وبعد ذلك ادخل السرير ساعتين ."
أخذت بنصيحة نيكولاس فلم تفرغ أمتعتها ...... فهذا يمكن أن تقوم به غدا , ملأت حوض الحمام ووضعت فيه مساحيق العطور , فشعرت بالاسترخاء والراحة . كانت مسرورة جدا لقيامها بهذه الرحلة إلي مصر , لأنها عرفت الكثير عن نيكولاس . كانت لدى أليسا ذكريات خاصة عن أخيها في طفولته وصباه وفتوته ما جعل جينا تراه من نواح كثيرة مختلفة .
وأخيرا خرجت من الحوض كارهة , ثم استقلت علي سريرها وجذبت فوقها الغطاء , ثم استغرقت في النوم .
أيقظها رنين الهاتف , كانت الغرفة مظلمة فأضاءت النور ونظرت إلي الساعة وهي ترفع سماعة الهاتف , كانت الساعة السادسة تقريبا , و لا بد أنها نامت لمدة ساعة ونصف .
قالت :" الو ."
أجابها صوت روز :" جينا , هل عدت ؟ لقد قالت صوفي انك ستعودين هذا النهار ....لماذا لم تخبريني فنستقبلك في المطار ؟"
" لم أشأ إزعاجك لاحتمال أن تكوني في العمل , أين أصبحت خطة الزفاف ؟"
" حسنا , أن قائمة المدعوين تكبر وتكبر حيث أن أقارب ومعارف دانيال كثيرون , وعدا ذلك فكل شيء حسن , كيف كانت إجازتك ؟ وما رأيك في مصر ؟ الم يكن كلامي صحيحا عن حرارة الجو وكثرة البائعين ؟"
" كان صحيحا تماما , ولكنني عشقت ذلك البلد , فقد شعرت وكأنني أعيش في الأحلام"
" أنني مسرورة لاستمتاعك بالإجازة , اسمعي , السبب في اتصالي بلك هو ..... لقد اتصل بييت بالمكتب عصر هذا اليوم ."
شهقت جينا بعجب :" بييت ؟ هل أنجبت هيزل ؟"
فضحكت روز :" أنت سريعة الاستنتاج ."
" كيف كان ذلك , وكيف حال هيزل ؟"
" المولود ذكر و هيزل بأتم خير , لقد كان بييت متحمسا للغاية حتى لتظنين انه لم يولد لرجل طفل من قبل , لقد قال انه حاول الاتصال بك إلي البيت فلم يحصل علي جواب وهكذا اتصل بالمكتب وكنت أنا موجودة من باب المصادفة فأخذنا نثرثر معا, قال أن هيزل بقيت في المخاض حوالي ست ساعات , ولم يحدث لها أية مشاكل , وكان وزن الطفل خمسة أرطال فقط لأنه جاء مبكرا عن موعده ."
" هذا ما ظننته , ربما انتقالها إلي هولندا وكل ذلك التغيير في وضعها , جعل الطفل يأتي مبكرا , لا بد أن تركها الوطن نهائيا جعلها تشعر بكثير من لوعة الفراق."
فقالت روز :" ربما."
" الم يفكرا في اسم له بعد ؟"
" بييت يريد أن يسميه نيكولاس ....هل تظنين نيكولاس سيعجبه ذلك ؟"
" انه و نيكولاس صديقان منذ سنوات طويلة ."
" إلي أن أعلن بييت انه سيترك العمل عنده ليقيم شركة خاصة به , لا تقولي أن نيكولاس لم يعتبر ذلك خيانة له , لأنني اعرفه جيدا واعرف انه لا ينسى أبدا."
" آه , لقد بقي فعلا مستاء مدة طويلة , ولكنني واثقة من انه لم يعد كذلك الآن ."
عندما وصل نيكولاس عند الساعة السابعة تماما, فتحت له الباب وهي تخبره بولادة هيزل لطفلها , ولكن دون أن تخبره بان بييت اخبرها بأنه سيطلق عليه اسمه.
قال دون أن تبدو عليه أية دهشة :" اعلم ذلك فقد اتصل بي بييت هاتفيا وقال انه سيطلق علي الطفل اسم نيكولاس ."
أشرق وجه جينا بالابتسام فسألها وقد ضاقت عيناه :" لماذا هذه الابتسامة ؟"
قالت :" لأنني مسرورة جدا بمجيء الطفل , إلي أين سنذهب هذه الليلة ؟"
فقال بلهجة ماكرة :" إلي مطعم فرنسي صغير اعرفه ." لم تدهش وهي ترى نفسها تدخل إلي مطعم بيير بعد عشر دقائق , كان المطعم نصف خال , وكانوا قد حجزوا لنيكولاس المائدة المعتادة . قرر نيكولاس أن يكون عشاءه هو الطبق الخاص لهذا اليوم , وذلك بعد مراجعة قائمة الطعام , ثم سألها عما إذا كانت تريد نفس الشيء .
قالت بذعر :" انه ذو حراريات مرتفعة بالنسبة إلي , ولكنني سأطلب سمك السلمون المقلي فقط والفاكهة , هذا إلي زجاجة من المياه المعدنية ."
جاء النادل اخذ منه أوامرهما , ثم توارى مرة أخرى , بينما جاء نادل آخر يحضر إليهما المقبلات , وبينما كانت جينا تتذوق أنواعها بشوكتها , نظر نيكولاس من فوق كتفها ثم ابتسم واخذ يلوح بيده محييا شخصا ما .
التفتت جينا فرات كوليت تسي مقبلة , كانت ترتدي ثوبا صينيا هذه الليلة ذا لون فيروزي رائع الجمال , وتحته سروال فضفاض .
تمتم نيكولاس يقول برقة وقد ارتسمت علي شفتيه ابتسامة صغيرة :" إنها كوليت , ألا تبدو مذهلة الجمال هذه الليلة ؟"
نظرت إليه جينا هازئة , كانت تعلم غرضه من وراء هذا القول , فهو يتعمد إثارة غيرتها , وهذا لن يحدث بعد الآن , وجعلته نظراتها الهازئة يدرك ذلك قبل أن تسأله :" كيف يسير كتابها الذي يبحث عن سيرة أسرتك ؟"
لوى نيكولاس فمه, واتكأ إلي الخلف وقد بدا الجمود علي أساريره :" آه , انك تعرفين بأمر الكتاب ؟ أظن أليسا هي التي أخبرتك بذلك ."
قالت :" لقد أخبرتني أليسا بأشياء كثيرة ."
" أحقا ؟ يجب علي أن اشكر أختي لهذا , عندما أراها , لقد كنت طلبت منها أن تكون كتوما وتراقب حديثها إليك ."
" اعلم ذلك , فقد أخبرتني , هي به , ولكن كما قالت , يمكنك أن تعطيها أوامر ولكن هذا لا يعني أنها ستنفذها , لقد قلت انك تريدني أن اعقد صداقة مع أختك , وقد فعلت , وقد عرفنا بعضنا البعض جيدا جدا , ثم ......."
وسكتت عندما احضر النادل الطعام بما في ذلك سلطة الفواكه .
قال نيكولاس :" ما الذي كنت ستقولينه أن أليسا لم تفهم لماذا لم تكن أنت تريديني أن اعرف بان كوليت تكتب كتابا عن أسرة كاسبيان , وتريد أن تقابل والدتك وشقيقتك ما جعل أمك تأتي مع أليسا إلي لندن ."
فقال :" أن كوليت لا تريد إعلان هذا الأمر . إنها تريد أن تنهي الكتاب وتطبعه وتبدأ بنشره قبل أن تذاع كلمه عنه , فهي تخاف أن يسبقها احد إلي هذه الفكرة حالما يعلمون بما تفعل , فبعض كتاب السير أولئك يمكنهم انجاز كتاب بظرف أسابيع قليلة ..... وبإمكانهم أن ينشروا كتابهم قبلها , فهي تقول إنها بطبيعتها , ليست سريعة في الكتابة , ولكنها مؤكد إنها تريد أن تقوم بدراسة شاملة مفصلة قبل أن تكتب كلمة واحدة , وقد طمأنتني إلي أن الكتاب سيكون جيدا ."
قالت جينا :" أنا واثقة من ذلك , فهي ذات كفاءة بالغة . رغم أن هذا أول كتاب تقوم بتأليفه حسب علمي ."
" نعم , لقد أخبرتني بذلك , ولكنها تخصصت في الكتابة عن الشخصيات , ولديها أسلوب حسن وليست مجرد كاتبة مستأجرة , وعندما جاءت إلي تطلب مني أذنا لتأليف كتاب عن الأسرة , ترددت في البداية واستغرقت وقتا في التفكير في ذلك , ولم أوافق ألا علي نقاط معينة .... أولها أن اطلع علي المخطوط حتى قبل ذهابه إلي الناشر , وثانيا أن بإمكاني أن أصر علي تغيير أي قسم منه لا يعجبني ....."
حدقت جينا فيه متفكهة :"يمكنني أن أرى انك لا تنوي أن تستغل أية فرصة ."
بدا العنف في نظراته :" ولماذا علي أن اسمح لها بان تكتب عني ما تشاء ؟ أن ما ارجوه هو أن هذا الكتاب عندما ينشر , سيمنع أي شخص آخر من تأليف كتاب ."
" أن الأكثر احتمالا هو إنها ستثير كاتبي السير التافهين لكي يحققوا في خلفياتك لكي يعثروا علي فضيحة ما , لم تجرؤ كوليت علي الإتيان علي ذكرها ."
فقال ببرودة :" ليس هناك أي فضائح ."
" حتى ولا عدة صديقات منتشرات في أنحاء أوروبا ؟"
قالت ذلك تغيظه فالتمعت عيناه وهو يقول :" هل يزعجك هذا لو كان صحيحا ؟"
" ولماذا يزعجني ؟"
تجهم وجه نيكولاس وتابع يقول بإيجاز :" كما أنني قلت لكوليت أيضا أن عليها أن تتحدث للناس الذين اختارهم , فانا لا أريد أن يزخر هذا الكتاب بالأقاويل عن فضائح من أعدائي , فقد رأيت كثيرا من السير الذاتية من ذلك النوع ما جعلني لا أريد لنفسي مثلها ."
سألته بدهشة :" وهل هذه أول سيرة ذاتية لك ؟" فأومأ بينما اقبل النادل ليرفع الأطباق الفارغة .
سقطت منشفة جينا علي الأرض , فانحنت لتلتقطها , ومن زاوية عينها رأت كوليت تتناول العشاء مع رجل لا تعرفه .
سالت نيكولاس :" من هو ذلك الرجل الذي مع كوليت ؟"
نظر نيكولاس عبر الغرفة , ثم هز كتفيه :" لا أتذكر اسمه , ولكنني رايته في أنحاء باربري وارف عدة مرات هذا الأسبوع , وذلك في طابق المحررين , انه سريع العمل أيضا ألا إذا كان يعرف كوليت قبل التحاقه بالعمل عندنا ."
قالت :" أتعني انك لم تحضره من إحدى صحفك الأخرى ؟"
قال بحدة وقد قطب جبينه :" لا بد انه مراسل جديد, وكان عليك أن تعلمي الآن أنني لا أتدخل في مستوى عمل كهذا , فانا انقل فقط كبار الموظفين وعادة لمدة سنه أو نحوها فقط , فانا أحب أن احضر موظفي الكبار إلي هنا فهذا يمنحهم خبرة في الأوضاع والتقنيات الأخرى وتساعدهم علي تحسين لغاتهم واتساع آفاقهم ....."
قاطعته :" ولكنك لا تفعل هذا مع الموظفين الانكليز ."
فقال بفروغ صبر :" بل افعل طبعا , فقد ابتدأت انقل موظفين انكليز إلي أوروبا ولكن هذا ليس سهلا تماما لان قليلا منهم من يحسن لغة غير الانكليزية , وهذا هو السبب في أنني ابتدأت بإحضار كبار موظفي صحفي الأوروبيين إلي هنا , وذلك لأجعل الموظفين الانكليز يدركون أهمية تعدد اللغات ويبدو أن هذا ما حصل , فقد ابتدأوا الآن يتعلمون لغات أخرى بمعدل مدهش , وقد تأثرت كثيرا بالطريقة التي استيقظ فيها الانكليز أخيرا إلي حقيقة أنهم أوروبيون وان الانكليزية ليست هي اللغة الوحيدة في العالم , وأنا أتلقى الآن طلبات كثيرة لنقلهم إلي أوروبا , وأنا أرسل منهم بمعدل واحد أو اثنين شهريا كما أظن ."
قالت جينا وكأنها موشكة علي البكاء :" هذا صحيح فروز ستسافر إلي باريس ."
" انك ستفتقدينها ."
تنهدت قائلة :" نعم , هيزل أولا , والآن روز ...... أنني اكره التغيير حيث يتوارى الناس من حياتي ما يجعلني مكتئبة ."
ابتسم لها نيكولاس مسريا عنها :" جينا , أن أوروبا تتقلص كل يوم , وستتضاعف سرعة هذا الأمر خلال العشر سنوات القامة ما يجعل زيارة روز في باريس أو هيزل في هولندا ليست أصعب من الذهاب إلي شاطئ البحر في لندن , حاليا فالطائرة تصل بك إلي شيفول في هولندا , مثلا في نحو ساعة أو أكثر قليلا ومن ثم تذهبين بالسيارة إلي ميدلبورغ حيث تسكن هيزل , وذلك في وقت قصير لا يذكر , وهكذا يمكنك الذهاب والعودة في يوم واحد , عند الضرورة ."
قالت : سنذهب أنا و روز , لنرى الطفل وذلك حالما نتمكن من الحصول علي إجازة عدة أيام
" بل عليكما أن تمكثا هناك مدة أطول فتريا هيزل والطفل , وتتفرجا علي المكان الذي تعيش فيه , وتعرفا احوال بييت ومدى تقدم عمله ....."
فنظرت إليه باشمئزاز :" أتريدني أن أكون مخبرة سرية لأجلك ؟ أتريد أن يفشل عمل بييت لكي يعود إليك ؟"
احمر وجه نيكولاس واخذ يمر علي شعره بيده متوترا وهو يقول :" اتظنينني حقودا بذلك الشكل ؟ انك مخطئة , فانا لا أعدو أن أكون مهتما به ..... ذلك أننا أنا وبييت , صديقان منذ سنين طويلة , و يهمني أمره كثيرا , فإذا أنا سألته عن أحواله مباشرة فهو لن يخبرني إذا كانت أحواله سيئة , فكرامته تأبى عليه ذلك ."
في هذه الأثناء اقبل النادل بطلبهما الثاني من الطعام , فأخذت جينا تحدق في السلمون المقلي الذي أمامها وهي تفكر في ما قاله نيكولاس لتوه , ثم تمتمت وهي تلتقط شوكتها :" أنا آسفة , يا نيكولاس , أنني أفهمك بالطبع , فانا اشعر بنفس الشيء نحو روز ." ثم تناولت لقمة من السمك , وتنهدت قائلة :" انه رائع , كيف ترى الروستو عندك ؟"
" لذيذا جدا " ثم أردف باختصار :" خذي إجازة أسبوع لتذهبي إلي هولندا وذلك في أي وقت تشائين ."
قالت جينا ضاحكة :" ولكنني عدت لتوي من الإجازة ."
" خذي إذن عطلة أسبوعية طويلة ."
" نعم , أظن هذا ما علينا أن نفعل, أن روز ترى أن بإمكاني أن اذهب إليها في باريس ومن ثم نذهب إلي هولندا بسيارتها ."
فقال :" هذا حسن , وقد يكون أسرع من السفر بالطائرة أو القطار , إذ عليك أن تمكثي وقتا طويلا في انتظار موعد الطائرة , ودوما هناك تأخير في المواعيد , هذا عدا عن الوقت الذي يذهب سدى في انتظار استئجار سيارة في المطار ."
كانا قد أوشكا علي الانتهاء من تناول العشاء عندما ظهر شخص بجانب مائدتهما , وقال بلطف ساخر :" مساء الخير لكما معا , لقد حاولت لفت نظركما من وسط القاعة ولكنكما كنتما مستغرقين في الحديث حتى أنكما لم تلحظاني ."
رفعت جينا نظرها إليه مجفلة وقد شحب وجهها :" سير ديرموت !"
نظر السير ديرموت إلي عينيها الذاهلتين ثم قال برقة :" نعم , لقد عدت , فقد عدت بالطائرة منذ عدة أيام , كيف حالك يا جينا ؟ تبدين شديدة السمرة .... سمعت انك كنت في مصر فهل أمضيت وقتا جميلا هناك ؟ وكذلك أنا في الجزر الكاريبية , يجب أن نلتقي في أسرع وقت ممكن لكي نتبادل الصور التي التقطناها أثناء الإجازة ."
شعرت جينا بعيني نيكولاس تراقبانها وقد بدا العنف في عينيه عندما أدرك المعاني المزدوجة في صوت السير ديرموت . ها قد عاد السير ديرموت قد أصبح قويا نشيطا مرة أخرى , ومستعدا لابتداء معركة مفتوحة في حربة ضد مؤسسة كاسبيان وهو يتوقع منها الآن أن تساعده في تدمير نيكولاس