البــــــــــــــــــــــــــــــــــ السادس ــــــــــــــــــــــــــــــارت
............................................................ ..........................
،،،
هب رئيس الشرطة من مكانه وهتف بذهول : الفارس الأسود!! هل عاد من جديد!
وكيف عجزتم عن الامساك به!!
قائد الكتيبة : لقد استطاع الهرب ومعه المجنون وشخص ثالث عن طريق القفز عبر أسطح البيوت
هتف بغضب : وأين كُنتُم ؟؟
ابتلع ريقه بتوتر : كنّا نطاردهم في الأزقة وبين البيوت ، لكنهم نجحوا في الهرب
ضرب كفا بكف وهتف : يا لكم من أغبياء ، كلكم أغبياء
في المرة السابقة ظننت الناس يبالغون ، يحاولون احياء أسطورة البطل المجاهد في عراك الشوارع ، وفي الغالب لن يخرج عن كونه فتى موتور يريد أن يقلد الفارس الأسود الذي استمع الى حكاياته من هنا أو من هناك
لكنه عاد ، عاد بالفعل ، عاد من جديد
يا لها من أيام نحسات
تجمد لحظة ثم التفت الى قائد الكتيبة وتساءل : ولكن ، ما علاقته بالخادم المجنون!! ولماذا يسعى لحمايته وتهريبه من الشرطة!! ومن هو ثالثهم ؟
رد بحيرة : لا أدري سيدي
غلبه توتره فانفعل : عليك أن تقلب البلدة كلها بحثا عنه
أريده هنا مكبلا في أغلاله
قال بحيرة : من منهما سيدي؟
صرخ غاضبا : المجنون يا أحمق ، هل أوهمك غباؤك بغير ذلك!!
أتظن أنك تستطيع الامساك بالفارس الأسود!
تمالك نفسه وازدرد ريقه ثم قال : فلننه قصة المجنون أولا , ثم نبحث بعد ذلك عن الفارس الأسود
............................................................ .....
في غرفته الفخمة الضخمة في قصره الكبير القريب من الكنيسة المشيدة في القلعة
كان ريموند يرتدي أفخر ثيابه وأكثرها أناقة أمام مرآة كبيرة تعكس صورته الطولية من غطاء رأسه وحتى حذاؤه
أشار الى خادمه الرفيع الأسمر ذو العيون الواسعة والخد الهضيم بطرف بنانه , ففهم على الفور ما يريده سيده دون حاجة للكلام فقد كان الخادم أصم أبكم لا يجيد في الحياة سوى إطاعة سيده وخدمته في قصره
فتح الخادم علبة ضخمة تمتلئ بالحلي الذهبية , وأحضر لسيده صليب كبير من الذهب الخالص معلق في سلسلة ذهبية, تناوله سيده و ارتداه حول عنقه بعناية كبيرة وتأمل مظهره بمزيج من الفخر والغرور, ثم أشار الى خادمه ثانية , فأسرع بإحضار أفضل عطوره وأخذ ينثر قطرات العطر على رأس سيده وملابسه بعناية فائقة كما تعود من سنوات
خرج ريموند من قصره على فرسه الصهباء في موكب هائل من أهله وحاشيته يجوب الطرقات , وتجمع الناس من كل مكان كبيرهم وصغيرهم يشاهدون الموكب الذي يتكرر كثيرا وكأنما يتعمد ريموند أن يشاهده سكان القلعة من المدجنين وهو في أوج قوته واستعلائه وهو ذاهب للصلاة في الكنيسة
اقترب من الكنيسة ورفع رأسه يتأمل برجها العالي , وأخذت تغزو رأسه صور المعركة الضارية التي دارت في هذا المكان من سنوات , جدران البرج العالي الذي كان يوما مئذنة عظيمة تؤذن خمس مرات كل يوم وعليها آثار قديمة لدماء المجاهدين الذين قاوموا ببسالة حتى آخر فرد فيهم اقتحام كتيبة الشهاب الصاعق ـ يوم أن كان قائدا لها ـ للمسجد
كانت تلك الدماء القديمة على المئذنة تذكره دوما بعجزه عن الاستيلاء على المسجد الا بعد أن قتل كل من كان يدافع عنه
وكان يوم اقتحامه للمسجد يوم انتصاره الحقيقي على حامية القلعة وأميرها المقاتل الصنديد
وكان أول ما فعله بعد أن سحق أعداؤه وأخضع كل سكان القلعة لطاعته أن دخل الى المسجد وأمر بتعليق الأجراس الضخمة في مئذنته , وملأ قاعاته بالتماثيل والصلبان
رفع رأسه باستعلاء وفخر وهو يعبر البوابة الضخمة للمسجد الذي تحول الى كنيسة واستعادت روحه نشوة الشعور بالنصر ..
لم يستطع ريموند اكمال صلاته , فقد جاءه رسول من غرناطة يخبره بفشل الكتيبة التي أرسلها للإمساك ببهلول
انطلق ريموند من فوره الى القلعة للقاء الرسول القادم من غرناطة واستدعى أعوانه ومستشاريه
دخل الى القاعة الكبرى واجتمع بمستشاريه واستمع الى الرسول الذي حكى له كل ما حدث
قال ريموند بعد تفكير : الفارس الأسود!!
التفت الى مستشاريه متسائلا : أظنني سمعت عنه قبلا
قال أحد المستشارين : كان يتتبع رجالنا في غرناطة من سنوات وقتل أفضل جواسيسنا هناك
ريموند : كان هذا قبل أن أتولى امارة القلعة .. أليس كذلك؟
ومن يكون ذلك الفارس الأسود!!
أجابه آخر : لا أحد يعرفه , ظهر فجأة بعد اتفاقية الهدنة , واختفى فجأة دون أن نكتشف فيم ظهر ولا فيم اختفى
ريموند : اذا فهل ظهر من جديد؟؟
قال آخر : ربما ليس هو . قد يكون شاب متحمس يحاول تقليده
أسند ظهره لظهر مقعده وابتسم ساخرا : اذا فهناك من يريد احياء أسطورة قديمة تروى ظمأه لنصر وان كان زائفا
فكر لحظات ثم قال : أرسل لكتيبة الشهاب الصاعق أن تقطع البلد بحثا عن بهلول , وشدد عليهم أن يأتوا به حيا
أفهمت , أريده حيا
قال أحدهم : ولكن , أين يمكن أن يجدوه؟
ريموند : فليبحثوا أولا في الأماكن التي كان يتواجد فيها قبل أن يقتل الشيخ
قال أحد المستشارين : وماذا عن الفارس الأسود!!
قال هازئا : الفارس الأسود , فليرسلوا الى برأسه
............................................
ظل عبد الرحمن وعائشة يبحثان في الأزقة والطرقات عن بهلول يومان متتاليان
عبد الرحمن : وكأننا نبحث عن ابرة في كومة من القش!!
كان بين أيدينا , وكنا في غنى عن هذا العذاب
عائشة بحيرة : كيف نعثر عليه في ذلك البلد الكبير!!
قال بسخرية مغتاظة : علينا أن نفكر كالمجانين لنعرف الى أين ذهب
قالت ساخرة : ها يا ذكي , قل لي ماذا كنت ستفعل لو كنت مجنونا مطاردا في بلدة كبلدتنا تلك؟
قال مازحا : كنت سأعود الى البيت
ضحكت قائلة : أهذا عقلك!! بالتأكيد سيكون هذا هو أول مكان تبحث فيه الشرطة
قال ضاحكا : أنا أفكر بعقل المجانين, مطارد مجنون , الى أين يمكن أن يتجه الا الى البيت؟؟
أخذت تفكر في كلماته, ثم قالت بشرود : البيت!!
..........................................
تحت جنح الليل, وبعيدا عن أعين الشرطة , تسلل عبد الرحمن وعائشة الى بيت الشيخ الراحل أبو الحسن
دفعت الباب ببطء فأصدر صريرا , نظرا في الخارج واطمئنا الى أنه لا أحد في المنطقة
كان البيت مظلما باردا خاويا , تأملته عائشة بحسرة , وملأ الشجن نفسها حزنا على المكان الذي تلقت فيه العلم وعلى صاحبه الذي كانت تعتبره في مقام الأب
انتفض عبد الرحمن فزعا واستل سيفه بسرعة البرق عندما ظهر شبح أسود أمامه في الظلام
طعنه بقوة فسقط الشبح على جانبه محدثا جلبة كبيرة
أخذ يلهث من المفاجأة ويبتلع ريقه , وقالت عائشة : ما هذا!!
قال : لا أدري, ولكنه ليس بشرا, ربما دمية على هيئة انسان أو تمثال
تقدما ببطء , ولم ينتبه عبد الرحمن لتحرك الأرض من تحت قدمه
وفجأة .. سمعا صوتا في الظلام من جهة اليسار , فجذبت عائشة عبد الرحمن من رقبته بقوة , فخفض رأسه واستطاعت انقاذه بصعوبة من شيء ما عبر في لمح البصر فوق رأسه وغرز في الحائط
اقتربت من الحائط وتمعنت في ذلك الشيء المغروز فيه وقالت : انه بلطة حطاب
قال : عجبا!! هل البيت مفخخ؟ من يقوم بتلك الأفاعيل؟ أيمكن أن يكون بهلول؟
قالت : ربما , لا أستبعد ذلك , علينا الحذر
أشهرت سيفها وتقدمت بخطوات حذره , مرت بين عمودين , ولم تشعر بالخيط الرفيع المربوط بينهما وهو يحتك بالسيف وينقطع بلا صوت, فسقطت فوق رأسها شبكة صغيرة من الخيوط الرفيعة , تمزقت على الفور واندفعت منها عناكب كثيرة وحشرات تجري فوق رأسها وجسدها
صرخت فزعا وأخذت تقفز وتنفض الحشرات عن رأسها وجسدها
ألقت بجسدها على الأرض وأخذت تتدحرج يمينا ويسارا لتتخلص من بقايا الحشرات على ملابسها
انفجر عبد الرحمن ضاحكا من منظرها , فهبت قائمة وهتفت غاضبة : بدأت أفقد صبري
قال وهو يقاوم الضحك بصعوبة : لم يعد لدي شك أن من فعل هذا هو بهلول المجنون
قالت غاضبة : فقط , تقع يدي عليه وسترى ما سأفعله به
المهم أن نحترس ونحن نبحث عنه
قال : اذا فأنت مصرة على البحث عنه بنفسك في سائر البيت وتلقي كل الأفخاخ على رأسك والسقوط في كل المصائد التي وضعها لمن يقتحم البيت
قالت : ألديك حل آخر؟؟
قال ببساطة : بالتأكيد , فلنناديه
قالت هازئة : يبدو أنك تقمصت شخصيته بالفعل
وهل تعتقد بذكائك المتقد أنه سيأتي الينا بمجرد أن ننادي (يا بهلول, نحن أصدقاء الشيخ , اظهر وبان عليك الأمان)
سمعا صوت مزلاج يفتح وصرير باب يتحرك , وتسلل ضوء للردهة قادم من احدى الغرف
اتسعت حدقتاهما وحملقا بذهول في بهلول الذي ظهر من خلف باب الغرفة , وهمس عبد الرحمن بدهشة : انه هو!!
لمحا على وجهه علامات الخوف وبدأ القلق يتسلل لقلب عائشة عندما رأت شبح رجل يقف بجوار بهلول
همس عبد الرحمن لأخته : يبدو أننا لسنا أول من فكر بعقلية المجانين
قالت عندما بدأت تظهر ملامح الرجل في الضوء القادم من الغرفة : وكذلك لسنا أول من نجح بتجاوز الأفخاخ والمصائد
بالتأكيد لن ينجح في ذلك سوى شخص يعرف الشيخ جيدا ويعرف هذا البيت
ابتسم عبد الرحمن قائلا : لا أحد سواه , ذلك الذي يعترض طريقنا في كل خطوة نخطوها
تقدم يوسف في الردهة وهو يدفع بهلول أمامه , فوقف الاثنان أمامه , وقال يوسف : جيد أن أتيتما الآن
فلتشرحا لي الأمر قبل أن اجز رأسه بسيفي
عبد الرحمن : ولم لم تسأله مباشرة؟
يوسف : يتظاهر بالجنون
قالت عائشة بصوت غليظ من خلف لثامها الأسود : ولماذا لا تصدق أنه مجنون بالفعل؟!
قال : لأن الأمر لم يعد قاصرا فقط على القتل , بل أصبح شديد الخطورة
تساءلت عائشة بدهشة : ماذا تعني؟
قال : لأن هذا الذي تنعتانه بالجنون على علاقة مريبة بفرسان القلعة , قد يكون جاسوس , وقد يكونون هم من دفعوا له لقتل الشيخ
عبد الرحمن : وما الذي يجعلك واثق الى هذه الدرجة ؟
قال : لأن فرسان القلعة يريدونه حيا, كانت لديهم فرصة كبيرة لقتله لو أرادوا, لكنهم يريدونه حيا
فكيف يمكن تفسير ذلك الا بأنه جاسوس!!
أسكتهما رد يوسف وجعلهما يفكران مليا في الأمر
لكن عائشة قالت : لا , ليس هو من قتل الشيخ
يوسف : وما الذي يجعلك متأكدا ولم يكن موجود في المكان سوى ابنة الأمير
أخذت عائشة تعمل عقلها بسرعة محاولة ايجاد مخرج أو اجابة مقنعة , لكن عبد الرحمن سبقها بقوله : هي من أخبرتنا
نظر له يوسف باهتمام وصمتت عائشة مترقبة ما سيقول فقال : كنا هناك قبلك وسألناها , ويمكنك أن تسألها بنفسك
كاد قلب عائشة أن يتوقف وهي تنتظر من أخيها أن يكشف سرها أمام يوسف
لكنه صمت
وقال يوسف بحيرة : ولكن , ما علاقته بفرسان القلعة؟
قالت : هل تعرف من أى جماعة دينية هم؟؟
قال : أظنهم منشقين من جماعة فرسان قلعة رباح أو فرسان القنطرة , لست متأكدا
لكنهم اتخذوا من القلعة مقرا لهم واقتطعهم ملك قشتالة مساحات شاسعة من الأراضي حول القلعة مكافأة لهم على بأسهم وقوتهم وحماسهم في خوض الحروب ضد الممالك الاسلامية تحت امرته وانتصاراتهم المتلاحقة واسقاط الكثير من الحصون والقواعد الاسلامية
قالت : وما الذي يريدونه من بهلول؟؟
رفع سيفه مهددا بهلول الذي انكمش على نفسه بخوف : هذا هو ما كنت أحاول استخراجه منه قبل وصولكما
فجأة انفتحت أبواب البيت بدوي مرعب واقتحم البيت مجموعة من فرسان القلعة بأقنعتهم البرونزية وملابسهم الحمراء المطرزة بعلامة جماعة فرسان القلعة
حصرهم يوسف بسرعة فوجدهم عشرة
انتشروا في المكان وحاصروا كل من فيه
تراجع الثلاثة للخلف وضموا على بعضهم البعض ورفعوا سيوفهم لأعلى بتحفز
أما بهلول فقد انبطح أرضا وأخذ يزحف على بطنه حتى اختبأ خلف أحد الأعمدة
تقدم أحد الفرسان ووقف في وسط الردهة وأخذ يدور برأسه وكأنما يبحث عن شيء ما
نظر نحو العمود الذي يختبئ خلفه بهلول , ثم أشار برأسه اشارة فهمها فرسانه واتجه أربعة منهم نحوه وانتزعوه من خلف العمود وهو يصرخ فزعا وأخذوه للخارج
هز الفارس رأسه مجددا للفرسان المتبقين في المكان
فتقدموا نحو يوسف وعائشة وعبد الرحمن في تشكيل نصف دائرة يضيقون الخناق حولهم
همس يوسف لهما : لو تفرقنا فسيصطادوننا , فلنحمي ظهور بعضنا البعض
أعطى كل منهم ظهره للآخر مشكلين شبه دائرة وجوههم لخارجها
والفرسان الستة يتقدمون منهم وينتشرون حولهم في دائرة واسعة
همس لهما يوسف : استعدا
مرت لحظات حذرة متوترة , والفرسان الستة يتقدمون مضيقين الدائرة حول الثلاثة
صرخ يوسف فجأة : هجوم
كانت لهم الضربة الأولى , لكن الفرسان صدوا ضرباتهم بمهارة فائقة وهاجموا الثلاثة
ودارت رحى معركة حامية , وكان من نصيب كل واحد منهم اثنان من الفرسان يهاجمانه بضراوة
كادت رأس عبد الرحمن أن تشق نصفين بضربة قوية من أحد الفرسان, لكنه تفاداها بصعوبة شديدة
ونال يوسف ضربة قوية في ساقه من أحد خصميه وهو مشغول بصد الآخر فجرت دماؤه
وسقطت عائشة على الأرض وكادت أن تفقد رأسها لولا أن صد يوسف السيف عنها في اللحظة الأخيرة , مما منحها فرصة للوقوف على أقدامها بسرعة وصد ضربات خصمها والانخراط في نزال الآخر
ازداد الوضع سوءا وبدأت سيوف الفرسان تجد طريقها نحو أجساد الثلاثة ودماؤهم تسيل من جراحهم المتعددة
وشبح الهزيمة يقترب بسرعة والموت يحوم فوق الرؤوس
لكن صرخة هائلة مرعبة دوت في المكان جعلت القتال يتوقف للحظة
وانشقت الأرض عن شبح ضخم متشح بالسواد من رأسه حتى أطراف قدميه يقفز في الهواء دورة رأسية كاملة وتستقر قدماه على الأرض واستل سيفا ضخما حادا
تعلقت عيون الجميع بذلك الغريب الذي اقتحم المكان , واتسعت عينا عائشة بانبهار وهمست : الفارس الأسود!!
عقد عبد الرحمن حاجبيه وقال بذهول : انه حقيقي!!
وأخذ يوسف يراقب الموقف بتوتر وهو يقلب عيناه بين عائشة وهي في زي الفارس الأسود وذلك الذي اقتحم المكان
استحوذ الفارس الأسود على انتباه الفرسان الستة مما أعطى فرصة للثلاثة للملمة شتاتهم والوقوف على أقدامهم والقبض على سيوفهم
تقدم الفرسان نحوه متحفزين بسيوفهم
فأطلق صرخة مهولة كالرعد وهجم نحوهم هجمة شرسة
........................................
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع باذن الله