( الجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثــــــانـــــــــــــــــى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزء )
...في قصر الامير عبد الله بن محمد المقام بالقصبة القريبة من البلدة كانت أم عبد الرحمن تجلس في الردهة الكبيرة بجوار النافذة المصنوعة من الخشب المعشق والارابيسك والمزينة جوانبها بالفسيفساء
كانت شاردة البال وعيناها تنظران الى الحديقة من خلف النافذة دون أن ترى ما بها
استفاقت من شرودها على صوت زوجها الواقف خلفها وهو يقول بهدوء : لم كل هذا الشرود؟ أخبريني بما يقلقك
تنهدت بحرارة والتفتت اليه قائلة : وما الذي يمكن أن يقلقني الا ابنتك
قال باسما : لا تحملي همها فهي فتاة عاقلة ورصينة
قالت : لكنها منشغلة بأشياء أكبر بكثير من عمرها ، ولا تتحدث الا في أمور لا تهم سوى الرجال
يجب أن تكف عن الذهاب للشيخ أبو الحسن
قال بهدوء : أنت قلقة أن يذهب عنها الخطاب ولا تجد من تتزوجه!ز
قالت بقلق : ومن سيخطب فتاة كل حديثها في العلم وامور الحكم ومصائر البلدان
قال بابتسامة محبة :شخص أحمق مثلي
أفلتت منها ابتسامة عذبة وعادت بها الذكريات الى الماضي البعيد عندما التقته لأول مرة وما تلاها من ارتباط وزواج
اقترب منها وقال بحب : ألا تذكرين الفتاة التي أجلستني أمامها وأخذت تعتصرني بسؤال تلو الآخر عن التزام الصلاة والنوافل وعلى يد من تلقيت العلم ، وماذا سأفعل اذا دعا داعٍ للجهاد وكيف سأربي أولادي وماذا سأعلمهم؟
قالت ضاحكة : لازلت أندهش حتى الآن من قدرتك على الصبر والتحمل عندما أتذكر ذلك الماضي الجميل
أمسك بيدها وتحسس كفها و أصابعها وهو ينظر في عينيها بحنان بالغ : وكنت مستعدا لأكثر بكثير من الصبر
بل كنت على استعداد للقتال من أجل أن أفوز بتلك الجوهرة المضيئة التي أشرقت في حياتي
لمعت دمعة شجية في عمق عينيها : كنت فتاة طائشة ، استفزتني للغاية وسامتك وأناقتك كنت أظنك شاب عابث محب للهووالرقص
ضحك بشدة وزاد من احتضان كفيها بين يديه
نظرت الى ملامحه وتأملت ضحكته التي تطرب قلبها وقالت بحب : ما كنت أظن وقتها بأن الله قد أفاض على بنعمة جليلة ، وأنني حظيت بأفضل زوج وأنبل فارس وأعظم حبيب
قال مطمئنا : اذا فلا تقلقي على عائشة ، فسيؤتيها الله من فضله
خفتت اتسامتها وتنهدت وهزت رأسها موافقة ثم قالت : هل تحدثت اليها ؟
قال مفكرا : ليس بعد ، لا ادري كيف أخبرها بالأمر
قالت وقد عاد اليها القلق : ابنتك تنحاز وتتعصب لما تراه حقا ، وأخشى أن يوقعها ذلك في مشكلات
نظر اليها نظرة حزينة فهمت على الفور الرسالة التي حوتها ولم تأت على لسانه وهو يقول : أليس الأفضل أن تنحاز للحق وتتعصب له بدلا من أن تنحاز لباطل وتتبعه!! ز
أصابتها كلماته في مقتل وطأطأت رأسها تحاول أن تخفي ذلك الألم الذي اجتاح فؤادها ولاح في وجهها
فقال وهو يربت على كفها : سأذهب لأتحدث اليها
كانت تعلم أنه يهرب من حديث لا طائل من ورائه، وأن أي كلمة أخرى ستشعل النار الكامنة تحت الرماد وتزيد الآلام
عادت الى جلستها الأولى خلف النافذة وتركت دموعها تنساب على خديها تخفف قليلا من حرارة البركان المشتعل في أعماقها ولا يهدأ أبدا
وصورة عامر تتشكل في خيالها وهو يبتسم لها داهمتها الحسرة والألم ولم تستطع أن تمنع شوقها اليه ولا السؤال الذي يملأ عقلها : ترى أين هو الآن وكيف حاله؟!
.....................................................
دخل الاب عبد الله غرفة ابنته عائشة وأخذ يتأملها وهي ترتدي غطاء رأسها الكامل وتخفي تحته شعرها البني الناعم الجميل , وتلف الوشاح الحريري حول عنقها جيدا ، وغلبه التفكير بها وبأحوالها، فلم تكن ابنته كسائر الفتيات في غرناطة، بل كانت تختلف تماما عن بنات الأعيان والأمراء، فهي تلزم القراءة والتعلم ، وختمت القرآن وتتعاهده باستمرار، وعقلها النشيط يعمل ولا يقر له قرار الا اذا وجد اجابات مقنعة لأسئلته الدائمة
لها من الحسن نصيب، فقد رزقها الله بعينين واسعتين بلون السماء الصافية، وشعر بني مموج بنعومة، وملامح دقيقة رقيقة، تنهد وحمد ربه على أنعمه ثم سألها سؤال يعرف إجابته جيدا : الى أين؟
ابتسمت لأبيها بود وقالت : سأذهب مع التوأم الى درس شيخي ومعلمي الشيخ أبو الحسن، انه موعد الدرس المعتاد
قال بهدوء : ألم أنبهك بضرورة عدم الذهاب ثانية الى بيته؟
لقد أصبحت فتاة كبيرة
قالت بدهشة : فتاة كبيرة!! ما لهذه الكلمة اصبحت تتردد كثيرا في هذا البيت !!حسنا لأنني فتاة كبيرة فأنا بحاجة الى أن أستمع لدرس شيخي ومعلمي وأتفقه في أمور ديني وأتعلم الكثير عن الحياة
قال : هذ لن يعجب الأمراء
قالت بتهكم : ومنذ متى وأى شيء تفعله يعجبهم!! أنسيت يا أبت؟كل فعل وكل كلمة تصدر منك لا تعجبهم ، حتى تربيتك لأبنائك ينتقدونهاولهذا اعتزلتهم وأبعدت نفسك عن مجالس الامراء والسلاطين , وعشت زاهدا في المناصب والمطامع الدنيوية وانكببت على أسرتك تربيهم وتصلحهم وتخالطهم بأهل العلم والتقوى
أطرق براسه مفكرا في كلماتها وهي تكمل : وكان هذا هو أفضل ما قدمته لنا , لولاك يا أبت ما تعلمت شيئا في هذه الحياة , ولأصبحت دمية لا وزن لها ولا عقل ولا رأي كأغلب نساء الامراءلقد علمتنا على يد فَقِيه تقي , انه شيخي العالم الذي أعتز بأنني تتلمذت وتفقهت على يديه
قال محاولا اثنائها : لقد تعلمت بالفعل كل ما يلزمك, والآن جاء دور أخويك التوأم للتعلم.. أما أنت فعليك أن تستعدي لأخذ دورك في الحياة
فهمت ما يرمي اليه فقالت : لا تقلق يا أبت , فأنا الآن أمارس بالفعل دوري الذي خلقني الله لأجله
قال بصوت يختلج بالمشاعر : لا تفطري قلب أمك, هي تنتظر اليوم الذي ستراك فيه عروس ترحل الى بيت زوجها في موكب زفاف فخم ، لقد أنجبت الكثير من الأولاد , أما أنت فابنتها الوحيدة ،درة هذا البيت وزهرته المتفتحة
اتسعت ابتسامتها وظهر التأثر في ملامحها وأخذت تقبل يديه ورأسه ثم قالت بحب : ان دورى الحقيقي هو أن أسعى لأنال رضا ربي , وأن أحظى برضاك ورضا أميولهذا أسعى باستمرار لتعلم العلم والفقه ، والآن اسمح لي يا أبت
قال بحزن بعد أن أسقط في يده وأدرك أنه لن يستطيع أن يخفي عنها الأمر أو يتجنب المواجهة : لقد أمر الوزير أن يبقى الشيخ أبو الحسن في داره لا يخرج منها ولا حتى للصلاة, ولا يذهب أحد لزيارته
قالت بدهشة ممزوجة بالغضب : كيف يفعل هذا!! ولم!!ما الذي قاله الشيخ أو فعله ليستحق تلك المعاملة الظالمة
قال : ان له الكثير من الاعداء بسبب كلماته النارية وآرائه الصادمة
قالت : تقصد بسبب جهره بالحق وعدم سكوته عن المنكر
عذرا يا أبت, على أن اذهب الآن
قال : ولكنه ممنوع من الزيارة
قالت بغضب : هذا الكلام لا يسري على , لا أحد يستطيع منعي من زيارة شيخي......................................................
في السوق الكبير المزدحم بالبشر
كان يوسف يدور على الدكاكين ينتقي أفضل الهدايا لشيخه ومعلمه الشيخ أبو الحسن فهو لم يره من مدة طويلة بسبب موقعه كفارس بالجيش يحمي الثغور
كان يوسف يحب الشيخ أبا الحسن حبا جما ،ولم تكن العلاقة بينهما علاقة تلميذ بمعلم أو شيخ
بل هي أقرب لعلاقة الابن بأبيه
فالشيخ ابو الحسن كان خطيب في أحد مساجد إشبيلية حيث كان يعيش يوسف مع أسرته وهو طفل صغير وكان والده يداوم على حضور دروس الشيخ بانتظام ويصطحبه معه حتى ألفه الشيخ وأحبه ولا يرتضي له مجلسا الا بجواره
فكان يوسف كلما دخل المسجد يتخذ طريقه الى مجلسه بجوار الشيخ ، وكان الشيخ يحرص على ملاطفة الصبي ومعاملته باللين
وعندما حوصرت إشبيلية وأكل الجوع وشدة الحصار أهلها ، ثم رحلوا عنها مرغمين هلكت أسرة يوسف في الحصار ومن تبقى منهم في الطريق
وكفل الشيخ يوسف الذي أصبح يتيما واصطحبه معه الى غرناطة وتولى رعايته حتى صار فتى يافعا والتحق بفرسان الجيش
وتلقى يوسف على يديه العلم والفقه وأدرك أن صلاح الأمة لن يكون الا بالجهاد ، فالتحق بجيش المسلمين للدفاع عن آخر حصون الاسلام في الاندلس
وقف يوسف أمام دكان للعطور وأخذ ينتقي عطرا فاخرا للشيخ وهو يفكر في اللحظة التي سيلتقيه فيها وهل سيعجبه العطر؟ وسائر الهدايا التي انتقاها بنفسه من أجل شيخه؟
............................................
.في بيت الشيخ أبو الحسن..
بيت أنيق بسيط متوسط الحال ملحق به حديقة صغيرة مزدانة بالزهور ونباتات الريحان والنباتات الطبية وبها بعض الخضراوات البسيطة التى تستخدم في إطعام أهل البيت ويفضل التوأم عثمان وعلى البقاء فيها حتى تفرغ عائشة من تلقي دروسها ليبدآ درسيهما ، وأخذا يشاكسان ذلك الجندي القصير المستغرق في النوم على أحد مقاعد الحديقة ، والذي كلّف بمراقبة الشيخ والتأكد من عدم خروجه من بيته بحسب أوامر الوزير ، ولم ينتبه احد لتلك العينين اللتين ترقبان المكان ومن فيه بحرص بالغ ، وذلك الشبح الأسود الملثم الذي يتسلل خفية عن الأعين ويدخل البيت من بابه الخلفي دون أن يراه أو يشعر به أحد
وفي داخل البيت مكتبة جدارية عظيمة مليئة بالكتب التى خطها الشيخ بيده
والى جانب المكتبة يجلس الخادم بهلول ذو الشعر الأشعث والملابس البسيطة البالية على الأرض يداعب قطة صغيرة وجدها يوما في الطرقات ومن بين حين لآخر يهتز جسده برعشة لثواني ثم يهدأ
ويتحدث دائما الى نفسة والى القطة الصغيرة بصوت هامس
وأمام المكتبة جلست عائشة الى منضدة مستطيلة في مواجهة الشيخ المعلم
كان الشيخ أبو الحسن من فقهاء قرطبة بلدة العلم والعلماء تجاوز الستين ببضعة أعوام ، ذو وجه سمح ولحية مستديرة بيضاء وعينين سوداوين تشع القوة والعزم منهما
منذ وفد الى مملكة غرناطة وتولى الخطابة والإمامة في احد مساجدها والتف حوله الناس وأحبوه لما لمسوه فيه من تقوى وشجاعة وجهر بكلمة الحق وعدم مصانعة الأمراء والابتعاد عن مجالس السلاطين
وكان له علاقة طيبة بالأمير عبد الله الذي كان يلازم مجلسه وخطبه ودروسه ، كما أنه عهد اليه بتربية وتهذيب أبناؤه جميعا
وكان لعائشة مكانة لديه لما رَآه فيها من حرص على التعلم والسؤال والفهم والحماسة
تساءلت عائشة بحيرة : لماذا!! لماذا يا معلمي!!
قال الشيخ أبو الحسن بابتسامة هادئة : كل هذا كان متوقعا , بل انه تأخر كثيراقالت : ولكن لا أفهم ما الذي جد في الأمر ليمنعوك من خطبة الجمعة وصلاة الجماعة ويحاصرونك في بيتك؟
ما الذي قلته ليستثير سخطهم الى هذه الدرجة؟
قال بنفس ابتسامته الهادئة : ما أقوله دائما وأبدا , وما سأقوله حتى آخر نفس في عمري
إن هذه الأمة تهوي إلى قاع سحيق, لن ينقذها منه إلا العودة الصادقة إلى الطريق الذي سار عليه سلفنا الصالح
قالت : هذا هو ما أسمعه منك دائما , فما الذي جد الآن؟
قال : يبدو أن بعض الناس قد بدءوا يهتموا لما أقول وينتبهوا للخطر القادم, ويبدو أن عددهم في ازدياد
قالت باسمة : بالتأكيد وأنا منهم.. أنا أصدق معلمي الذي رباني وأدبني, أصدق الشيخ الصالح التقي الذي لم أجرب عليه كذبا قط
قال بثقة : بل تصدقين الحقيقة أينما كانت وإن وردت على أي لسان
لقد مرت الحضارة الإسلامية في الأندلس بمراحل كثيرة, مراحل ازدهار ومراحل انهيار ثم تعود لتزدهر من جديد
قالت بابتسامة متفائلة : جيد , إذا فستعود لتزدهر من جديد
قال بأسى : هذا ما لا أراه , إننا الآن في أقصى مراحل الانهيار الذي لا صعود بعده
قالت بدهشة : ماذا تعني ؟قال : أعنى أن الأعداء حولنا من كل جانب قد قسموا بلادنا واستباحوا أراضيها ولم يتبق لنا سوى تلك البقعة الصغيرة التي نعيش عليها
انظري كم مملكة للأعداء تحيط بِنَا !!
مملكة أراجون وليون ومملكة البرتغال ومملكة قشتاله ، كلها أراض كانت ملكا للمسلمين واستولى الأعداء عليها بسبب الوهن ، ليس بقوتهم، إنما بضعفنا وتكالبنا على الدنيا
الأخ يقاتل أخاه ليوطد ملكه، ليس هذا فحسب ، بل يستعين عليه بالأعداء ويتصنع ويتذلل لملوك الأعداء ويدفع لهم الجزية ، بل يمنحهم جنودا من جند الإسلام ليعاونوه على احتلال أرضا مسلمة وحصار وإسقاط مدن وقلاع المسلمين وتجويع وتشريد رجال ونساء وأطفال المسلمين
قالت بحزن : أنت تقصد اتفاقية العار
اذا فلهذا منعوك من الخطابة ، لأنك تذكر السلطان واتفاقية العار
هتف بغضب وأي عار ، باسم السلام والأمن استبيحت الحرمات وشرد الضعفاء
باسم الحفاظ على الأرض احتلت الأرض وسرقت وهجر منها أهلها
قرطبة لم تجد من ينقذها من الحصار ، كانت تستجدي العون من إخوة العقيدة والدين ولا من مجيب
وانفرط العقد وتساقطت البلاد والحصون وأراضي المسلمين
إشبيلية ضاعت بمعاونة من جنود المسلمين ، مسلمون يحاصرون مسلمين
والسلطان والأمراء يهرولون لتقديم الجزية والهدايا والولاء لملك قشتاله ، بل ويحضر السلطان مجلس الكورتيس كأى والى عينه الملك النصراني على احدى حصونه
كل هذا لماذا!!
من أجل الحفاظ على ملكه وقصوره
كيف له أن يتنازل عن حصون ومدن وأراض للمسلمين ويمنحهم للأعداء بلا مقابل
أهي أرضه أم أرض أبيه!!!
قالت تحاول أن تخفف من حدة غضبه : يا شيخي ، لقد مرت سنوات على تلك الاتفاقية ، وقتها ماذا كان في وسعه أن يفعل ؟ كيف له أن يوقف زحف الأعداء ومملكته لازالت وليدة وضعيفة !! كان عليه عقد هدنة
احمر وجهه غضبا وهب قائما : هل أنت مقتنعة حقا بذلك !!
نعم مرت سنوات ونحن ندفع ونتنازل وتنهب أراضينا
ألا تدركين كم من أراض استلبت منا بمثل تلك الاتفاقيات ، كم من مسلمين شردوا من ديارهم وهلكوا جوعا ، كم من نساء وأطفال سبيوا واسترقوا
لقد رأيت كل هذا بعيني ، تركت بيتي في قرطبة وطردت من بلدي ، المسجد الذي عشت عمرا أخطب فيه تحول الى كنيسة وعلقت فوق مآذنه الأجراس والصلبان
وانتقلت من بلد الى بلد ومن قلعة الى قلعة وعشت كل تلك الأحداث الرهيبة الاراضي تنهب والمساجد تتحول لكنائس والنساء تسبى ويباع أطفال المسلمين رقيق
في إشبيلية رأيت الناس يهلكون من الجوع ، وعلى أسوارها من الخارج يحاصرهم مسلمون
وبعد الاستسلام بلا حيلة تَرَكُوا ديارهم وأراضيهم ورحلوا ليحتلها الأعداء
بل وهلك منهم خلق كثير في الطريق من الجوع
ولم يتبق لنا الا غرناطة وهي ليست استثناء ، فهي هدفهم القادم لولا موت ملكهم الذي لقبوه بالقديس من كثرة ما استولى على أراضي الاسلام
أجابت بفهم : فرناندو الثالث
قال صحيح ، والآن تولى ابنه الفونسوا العاشر وبمجرد استتباب الأمر له سيجهز على آخر قطعة أرض للمسلمين في الأندلس
هبت قائمة وقالت وقد داهمها الخوف : علينا أن نوقف هذا ، يجب أن نقاتل حتى نوقفهم
قال بأسى : وأنى لنا القتال وقد غرقنا في ملذات الدنيا واستمرأنا الرفاهية والحياة الهادئة المستكينة
أنى لنا الجهاد ونحن لا نقوى على جهاد أنفسنا وارتضينا عرض الدنيا
كيف نقاتل وقد أغرقنا حب الشهوات وامتلأت البلاد بالمقاهي الغنائية والنساء يخرجن سافرات وانتشرت الملاهي والملاعب بين الرجال وحتى الخمر
أتظني أن الشاب الذي أتقن الرقص الأندلسي يستطيع أن يحمل سيفا أو يبلى بلاء حسنا في ميدان الجهاد!!
أنى لنا الجهاد وأولوا الأمر مشغولون ببناء القصور الفاخرة والتنافس على صرف أموال المسلمين في تزيينها وتعميرها ، وكأنهم يريدون جنة الأرض ، ولم أر أي منهم يحرص على تعمير جنته في الآخرة
غرناطة لم ترب على الجهاد ولا تستطيع تحقيق أسباب النصر لكنها اعتادت طلب النجدة والإنقاذ من بلاد المغرب
أرض دأبت على استيراد النصر من غيرها كلما هاجمها الأعداء
وهذا هو ما جعلها تصمد الى الآن ، كما أنها بعيدة في أقصى الجنوب وبينهم وبينها النهر الكبير
ولكن ..
إذا ما هاجمونا مجددا ستكون النهاية
تلك عاقبة الظالمين ، فكما تركنا أرض الاسلام للأعداء ، فسيأتي اليوم الذي سيمتنع فيه أهل أفريقية عن إنقاذنا وعندما تسقط القطعة الباقية من بلاد الأندلس في يد الأعداء سينتهي الإسلام من بلاد الأندلس إلى أمد لا يعلمه الا الله وسنصبح في التاريخ عبرة
حملقت فيه برعب وقالت بذهول : كلامك مخيف للغاية يا معلمي
قال بصوت بدا في أذنيها عميق للغاية : عندما يترك الرجال الجهاد ويضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس وينشغل الحكام بإزاحة بعضهم البعض عن الكراسي والاستعانة بالكفرة على إخوانهم في الدين.. فالمصير معروف
الهلاك
قالت بخوف : ألا تظن أنك متشائم للغاية!
قال بضجر : أنت أيضا تحاولين الهروب من الواقع الأليم!!
قالت بإصرار : علينا أن نجد حلا لإيقاف ذلك المصير الرهيب
قال : لا حل إلا بأن يكف الحكام عن الظلم وأن تراقب الرعية ربها وتخشاه
نظر نظرة جانبية وظهر القلق على وجهه وسكت لحظة فتساءلت بقلق : أهناك شيء؟
قال وهو يرسم على وجهه ابتسامة مطمئنة : لا ولكن هل سنظل نتكلم طوال الوقت ونترك الصبيين ؟ إنه موعد الدرس الخاص بهما
قامت من مقعدها مضطرة ، فهي تعرف شيخها جيدا لا يحب الاعتراض ، كما أن الحديث قد وصل الى نقطة مؤلمة ، مما جعلها بحاجة الى بعض الراحة واستنشاق الهواء لتهدأ قليلا
قالت طائعة : حسنا .. سآتي بهما
قال : هلا قطفت لي بعض أوراق الريحان من الشجيرات التى في الحديقة
ابتسمت قائلة وهي تخرج من الباب : حبا وكرامة يا معلمي
التفت الى بهلول وقال آمرا : بهلول ..
هب بهلول قائما وهو يقول : أمرك سيدي
قال : اذهب بسرعة الى السوق وإتني ببعض الفاكهة
قال بهلول بحيرة : ولكني ذهبت الـ..هتف الشيخ زاجرا : أسمعت ما قلته ؟ اذهب الآن ... على الفور
قفز بهلول من مكانه وهو يقول : على الفور سيدي
بمجرد أن غادر بهلول , ظهر الشبح الأسود في المكان وكأن الأرض انشقت وأخرجته
كان الشيخ جالسا وظهره له فرفع الأسود خنجره وهم بأن يطعن الشيخ في ظهرهالتفت له الشيخ فجأة فتجمدت يده الممسكة بالخنجر في الهواء وأخذ ينظر بتوتر في عيني الشيخ الممتلئتين بالثقة والثبات وارتجف قلبه رغما عنه
قال الشيخ بفهم : اذا فهذا هو آخر ما في جعبتهم, أن يستأجروك لقتلي
ظل الأسود صامتا ساكنا لا يدري كيف يرد على جرأة الشيخ
كان الشيخ يتحدث بمنتهي الشجاعة والهدوء ورباطة الجأش : لقد صرفت من في البيت لتقوم بعملك في هدوء ولا يطالهم أى أذى..هيا ، قم بعملك وانصرف على الفور قبل أن يعودوا
ضاقت عينا الأسود من تحت لثامه وقال مندهشا .. ألا تخاف على حياتك؟
قال : بل ما من شيء أحب الى من شهادة في سبيل الله
شعر الشيخ باقتراب صوت أقدام عائشة وأخويها فقال آمرا : هيا انتهي بسرعة وارحل ولا تفزع الأطفال
أصبح صوت أقدام عائشة وأخويها أقرب وشعر بهم الأسود فطعن الشيخ بخنجره طعنتين ودخلت عائشة وهو يطعنه الثالثة
فأصيبت بالجمود للحظة ثم استفاقت بسرعة وأطلقت صرخة مدوية وتناولت كتاب كبير من على رف قريب منها وأطلقته بقوة نحو الأسود فاصطدم بجبينه لكن العمة السوداء التي يلبسها تلقت أغلب الضربة
واندفعت عائشة نحوه بشجاعة وأخرجت خنجرها الذي تحمله معها وضربت به كف القاتل الذي يمسك بالخنجر المغروس في صدر الشيخ فجرح كفه جرح عميق وقطع جزء من لحمه فتأوه الأسود بصوت مكتوم وسحب الخنجر من جسد الشيخ ووجهه الى عائشة التى صدت اندفاع الخنجر نحوها بخنجرها وتقاطع النصلان وتدافعاوالشيخ يقول له وهو يسقط أرضا ابتعد عن الصبية وارحل من هنا
كان الأسود حجمه ضعف حجمها وقوته تدفع الخنجر باتجاهها لكن صرخة مدوية انطلقت في المكان لم تكن هي صاحبتها .. بل كان بهلول الذي راعه المنظر وأفزعه فانطلق يصرخ ويولول ويندب ويقفز ويدور حول نفسه بجنون
ثم أخرج من جيبه قارورة صغيرة تحوى حبيبات سوداء صغيرة تشبه الفحم المفتتفتح سدادتها وقذف بما فيها على وجه القاتل الذي صرخ بألم شديد بمجرد ان لا مست الحبيبات لثامه وملابسه ودفع عائشة دفعة قوية أسقطتها أرضاغطى وجهه بكفيه وتصاعدت من ملابسه أبخرة سوداء غريبة لها رائحة لاذعة فحمل خنجره وولى هاربا من المكان
فزعت عائشة عندما وجدت الشيخ مدرجا بدمائه وهتفت بأخيها : عثمان , أحضر الطبيب بسرعة
ساعدها بهلول وعلى على نقل الشيخ الى فراشه , وحاولت عائشة جاهدة ايقاف النزيف, وأخذ الشيخ يتلو الشهادتين عدة مرات
بكت عائشة وانتحبت فقال لها : لا تبك يا صغيرتي, بل ابتسمي ابتسامتك المشرقة , فاليوم أنالها
ضغطت أسنانها بغل : صدقت يا معلمي , أمة تقتل عالم تقي ورع
أمة تسحق كلمة الحق فيها لا تستحق الحياة
قال وهو يزفر زفرات الموت : علينا أن نبذل ما في وسعنا لإيقاف ذلك السقوط
يشهد الله أنني بذلت ما في وسعي لأنبه الحكام حتى طردوني, وعشت بين الناس أؤمهم في الصلوات وأحذرهم وأشرح لهم في كل خطبة حتى حبست في بيتي, ولم أسكت فبقيت أحذر تلاميذي وأنبههم للخطر القادم
وأدعو الله أن يشفع لي ذلك
لقد دافعت بكل جهدي عن أرض الاسلام وشاركت في معركة أنيشة وبذلت كل ما في وسعي حتى لا تسقط إشبيلية
قالت بغضب وهي تبكي : يستحقون الهلاك , قتلة, كلهم قتلة
قتلوك يا شيخي كي لا يسمعوا الحقيقة
قال وصوته يخفت : عليكم أن توقفوا ذلك ، أنتم الشباب ، يا من تربيتم على الاسلام ودرستم العلم وفهمتموه.. انقذوا بلادكم ودينكم ، أو موتوا وأنتم تحاولون
لو ضاعت آخر أرض نقف عليها في تلك الجزيرة فستغرب شمس الإسلام عن بلاد الأندلس وتكون فاجعة وطامة وعار يتوارثه الأجيال الى أن يرث الله الأرض ومن عليهافتح عيناه عن آخرهما وهو ينظر في الفراغ وكأنما يصف مشهدا رآه رأي العين : ستهدم المساجد وتعلو الصلبان وتتفجر بحور الدماء ويقتل الرجال ويسبى الأطفال وتغتصب النساء
سيفتن الناس في دينهم وسينزع الاسلام منهم بالارهاب والتعذيب ويهجرون من بيوتهم ولن يبقى شيء من الاسلام في الاندلس
يجب أن يتدخل أحد ليوقف هذا المصيريجب ان يبقى الناس على كلمة سواء .. لا اله الا الله محمد رسول الله
أغمض الشيخ عيناه مسلما الروح لبارئها وانخرطت عائشة في بكاء شديد هي وعلى وبهلول
وعندما سمعت صوت حصان بالقرب من الباب ظنت أن عثمان عاد ومعه الطبيب
دفع الباب ببطء فارس يبدو من زيه أنه محارب, دخل عليهم بخطوات متمهلة والصدمة المروعة تعلو وجهه وهو ينظر الى جسد الشيخ الغارق في دماؤه
جلس على ركبتيه بجوار الفراش وتحسس جسد الشيخ وتأكد من موته وترقرقت عيناه بالدموع وتشكلت ملامحه بالغضب العارم وضغط أسنانه بغيظ وهو يقول : من فعل هذا بشيخي ومعلمي!!
رفعت عائشة وجهها الباكي ونظرت للفارس بعدما انتبهت لكلمة شيخي ومعلمي في حديثه وفهمت أن الفارس الشاب هو أحد تلامذة الشيخ
فقالت بصوت يختلط فيه الغضب بالدموع : رجل طويل عريض متشح وملثم بالسواد ولا يبدو منه سوى عينين سوداوين تمتلئ حقدا وشرا
تذكر الفارس يوسف ذلك الملثم المكسو بالسواد الذي رآه ليلا يعبر الطريق ويختفي في الأزقة
قال بدهشة : ولكن من هو؟
ردت مباشرة : قاتل مرتزق, لديه خنجر بمقبض فضي مرصع بالجواهر والياقوتوقطع غائر في كفه الأيمن وهو زبون دائم في الحانات
قال بدهشة : وكيف عرفت كل هذا؟
قالت : رائحة الخمر كانت تفوح من ملابسه والجرح الغائر صنعه خنجري
قال ودمعة تفلت من عينه : ومن يجرؤ على قتل عالم على تقوى وصلاح!!
رد على نفسه دون أن ينتظر ردا من أحد : فهمت, انه شخص لا يريد أن تصل الحقيقة للناسنظرت عائشة نحوه وهزت رأسها موافقة وتيقنت بالفعل أن الفارس هو أحد تلامذة الشيخ
..............................
انزوت عائشة حزينة متألمة في غرفتها لم تغادرها منذ جنازة الشيخ
دخل ابوها الى الغرفة وجلس أمامها يتأمل عينيها الحزينتين ويبحث عن ابتسامة جميلة غابت عن محياها ، ثم تنهد بألم وقال : الى متى هذا الحزن يا ابنتي!
لقد لقى الشيخ ربه شهيدا كما تمنى .. نحسبه كذلك ان شاء الله
كانت صامته تماما فأكمل : لقد رأيت جنازته المهيبة .. البلد بكاملها خرجت لتشيعه وتصلي عليه, الكل كان يحبه ويحترمه ويستمع اليه
عصرت قبضتيها وهبت قائمة وهتفت بغضب والدمع ينسكب من عينيها من يريد قتل كلمة الحق بين الناس؟ من يريد أن يضرب على آذانهم وأعينهم فلا يروا الحقيقة ولا ينتبهوا للخطر المحدق بهم؟
تنهد الاب بأسى : كثيرون.. أكثر مما تتصوري
الشيخ رحمه الله كان يؤلمهم ويقض مضاجعهم بكلماته
هتفت : لا يمكن أن يفلت القاتل بجريمته. لا بد للقتلة أن ينالوا العقاب.. لابد من القصاص للشيخ
قال مهدئا : دعي هذا الكلام لأولاده, هم من يجب أن يطالبوا بالقصاص لأبيهمقالت باستنكار: اولاده في بلاد المغرب, والله وحده يعلم ان كان الخبر قد وصل اليهم أم أنه لازال في الطريق
أولاده تركوه وحيدا وتفرقوا في البلاد كل يسعى على رزقه من الدنيا أما تلامذته فهم يملئون البلاد
كان الشيخ يعتبرني في مقام أولاده ويحسن الى كما لو كنت ابنته التى أنجبهاوعلى أن أسعى للقصاص له
قال الأب بدهشة : أنت يا فتاة!!
أدارت وجهها ونظرت في مرآتها الكبيرة التي تحتل ركنا من غرفتها وتأملت شعرها الطويل وملامحها الغضة الرقيقة وهيأتها الأنثوية وملابسها الحريرية ثم قالت : نعم.. أنا الفتاة المنعمة التي نشأت في بيت الأمراء.. سأثأر لشيخي
التفتت لأبيها وقالت بغل : لقد تخلى القضاة عن واجبهم والشرطة غضت الطرف والحاكم لا يبالي والوزير لا يخفي ارتياحه لمقتل الشيخ
وكلهم ساهموا في هروب القاتل بجريمته , ولم يسع أحد حتى لمعرفة من دفع له لقتل الشيخ ولماذا؟
أما أنا ....
فسأعرف , وسأجد القاتل , وسأسعى خلف من دفع له ، وسأقتص لشيخي
عادت تنظر لمرآتها ثم هتفت بعزيمة وأصرار : سترى يا أبت
.................
يتبـــــــــــــــــــــــ باذن الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــع