المنتدى :
الخواطر والكلام العذب
قصة سوداء
باكرا في آخر الليل و فيما يشبه مداهمة بوليسية محكمة أو خبطة مباغتة بمطرقة باردة على الصدغ، كان من المفروض أن ينتزع السيد "ريباخا" من نومه السميك جدا على وقع الرنين الصاخب و الفظ للمنبه سر..سر..سر..سرررررررر!
بالطبع، كان من المفروض أن يتم الأمر وفق هذا السيناريو، لكن في واقع الأمر، انتزع السيد ريباخا من نومه (هذا الذي قلنا عنه إنه "سميك جدا" و يمكن أن نضيف بقليل من المبالغة إنه "أثمن من الموت!") على وقع رنين آخر أشد ضلوعا في الصخب و الفظاظة، صدر تلقائيا من ذلك المنبه الداخلي الذي كان يقطن بداخله مثل جهاز استشعار بالغ الحساسية و أضحى بمرور الزمن قطعة غيار لا غنى عنها لتشغيل ماكينة الجسد. أما المنبه الخارجي (ذلك الذي تمت الإشارة إليه في مقتتح القصة!)،فلم يرن، أو بالأحرى لم يكن عليه أن يرن سوى بعد مرور عدة ثوان : سر ..سر..سر..سرررررررر!!
داخلي أو خارجي..خارجي أو داخلي لا يهم، المهم أنه منبه و من المفروض أن يرن و يرن على نحو متلاحق و بلا هدنة مؤقتة، حتى يخيل لكم لوهلة أولى أنه يزعق برصيد صبر ضامر مثل معتوه حقيقي، ثم يخيل لكم كرة ثانية أنه يعيد الزعيق عن ظهر قلب مثل معتوه حقيقي آخر برصيد صبر أقل، طالبا منه من كل حدب و صوب بإصرار رهيب غير قابل للنقاش :
أن ينهض على الفور من فراشه كالعادة..
أن يبتلع بلا طعم فطوره كالعادة..
أن يغسل وجهه كيفما اتفق كالعادة..
كالعادة أن يندس بدافع الواجب في ربطة العنق الكلاسيكية و البذلة الروتينية..
كالعادة أن يسابق عباد الله لينقدف في أول حافلة..
و كالعادة أن يلتحق بالوظيفة بمنتهى ما يمتلك أو لا يمتلك من سرعة !
حسن، لو في هذه اللحظة بالضبط و لسبب أو آخر يقع خارج الحسبان، انقطع الرنين بغتة (و هو الأمر الذي لا مناص من توقع حدوثه أحيانا أو دائما!). مؤكد أننا ورطتئذ كنا سنتدحرج سريعا صوب الهزيع الأخير من الحكاية. لكن، لحسن الحظ، كان من المفروض على [المعتوهين] أن يسترسلا في الزعيق حتى يصبح واضحا مثل فضيحة و محددا مثل موعد و مزمنا مثل صداع نصفي. أما عقارب الساعة فكان من الضروري أن تشير إلى الساعة السادسة بالتمام و الكمان؛سر ..سر .. سر .. سرررررررر!!!
عند إذن. عندئذ فقط و آية في الهدوء و البطء الكافيين، سيكون من المفروض على السيد "ريباخا" أن يفتح، بل – إذا شئنا الدقة – أن يجشم نفسه عناء فتح عينيه. هل فتحهما فعلا؟!..نعم،فها هو يحملق بلا مبالاة رحبة في السقف. ها هو يجتمع على ضلوعه مثل أوكورديون و يتمطى مثل لسان نظيف. ها هو يطلق من ماسورة فمه تنهيدة غاضبة، ثم ها هو على نحو غير موضوعي بالمرة يطبق عينيه من جديد نازلا إلى الظلام مثل غواصة!
فلم يكن يليق بتاتا بهذا المنبه اللعين، أن يوقظه أو أن يهشم زجاج سكينته في هذا اليوم بالتحديد. اليوم الذي من المفروض أنه اختاره – بعد تخمين شاق و ماراطوني- ليكون جديرا برجل عادي جدا، قرر أن يقوم بحركة صحيحة قي الاتجاه الخاطىء، كي يبدل حياته مرة واحدة و على نحو جذري. فليس ثمة أفخر من يوم الأربعاء لإنجاز أمر رجيم و رائع كهذا. أليس كذلك ؟!
و عند هذا الحد، كان من المفروض أن يتوقف كل شيء و يقفل السيناريو بمشهد الرجل الذي نام لتوه بعد أن قرر أن يبدل حياته و المنبه الذي ما زال الزعيق نابتا في حلقه و الغرفة التي تغطس كثيفا في الظلام. لكن بخلاف ذلك، فتح السيد"ريباخا" عينيه بغتة وسط العتمة ( ترى، لماذا لم يفكر في إضاءة المصباح الجانبي ؟!) و أنهض نفسه قليلا، ثم أرسل يديه خارج الشراشف، بحثا عن المنبه:
إلى الأمام .. على الكومودينو .. لا ..
إلى الأسفل قليلا .. فوق السجادة .. لا ..
إلى الأسفل كثيرا .. تحت السرير .. لا ..
لكنه سرعان ما تخلى فورا عن مسعاه و عاد ليسحب يديه. ففي نهاية المطاف، سماع ذلك الرنين الوقح و المتشابه مثل ذكريات الغرقى بالقرب من الوسادة اليمنى للسرير، يناسبه إلى أقصى الحدود و يؤكد له بلا أدنى ريب أن اللحظة الحاسمة و الاستثنائية التي يعيشها ليست مجرد فكرة كاذبة في رأس الهواء و أنه أصبح فعلا مفصولا عن عالمه القديم مثل جنازة عائمة !
فليرن و يرن و يرن كما يشاء و ليزعق و يزعق و يزعق ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، معلنا أنها السادسة صباحا أو السادسة مساء أو حتى منتصف الليل . لا ضير و لا فرق. فهو لن ينهض على الفور من فراشه كالعادة و لن يغسل وجهه كيفما اتفق كالعادة و لن يبتلع بلا طعم فطوره كالعادة و لن يندس بدافع الواجب في ربطة العنق الكلاسيكية و البذلة الروتينية كالعادة و لن يسابق عباد الله لينقذف في أول حافلة كالعادة و لن و لن و لن كالعادة كالعادة كالعادة يلتحق بالوظيفة بمنتهى ما يمتلك أو لا يمتلك من سرعة. فكل هذا الهراء أصبح الآن قبض ريش في مهب الماضي و على ذمة النسيان . و هو لم يعد يهمه أو لا يهمه أن يفعل ذلك،ما دام لم يعد واقعا تحت سطوته و تأثيره.
فليرن و يزعق على هواه، فهو لن يكترث و لن ينصاع بعد اليوم، لا الآن و لا فيما بعد!
- و من يستطيع أن يمنعك من ذلك يا "ريباخا"؟!- سأله من داخله صوت "ريباخا" السابق. هذا الذي اعتقد أنه ترسب بأعماقه منذ سنوات طويلة مثل طبقة جيولوجية أو مات و دفن بوجدانه مثل قنفذ صغير في صحراء واسعة . ها هو الآن يطلع من تحت جلد هذه اللحظة المصيرية ليردم ثغرة جسيمة في جدار الروح – لا أحد يا "ريباخا" . لا أحد يمكنه عمل ذلك! – رد على "ريباخا" السابق مبتسما، ثم انقلب بخفة و مرح غير معهودين ليعاود النوم. النوم الذي كان من المفروض فيه أن يرى – فيما يراه كل نائم – أنه استيقظ و جمع حقيبته، ثم نزل من العمارة ليشتري من أقرب مكتبة علبة ممحاوات كاملة، و قبل أن يغادر أخرج من العلبة واحدة و محا العمارة و الشارع و المكتبة و كذا جزءا غير يسير من المدينة . يصل إلى المحطة و يمحوها بدورها قبل |أن يستقل الحافلة إلى جهة غير معلومة ( حتى هو من المفروض ألا يعلم عنها شيئا!؟). و في منتصف الطريق، ينزل و يمحو الحافلة و الطريق، و عندما لم يتبقى في يديه سوى ممحاة واحدة يمحو بها نفسه!
في هذه اللحظة بالضبط، زعق المنبه مشيرا إلى الساعة السادسة صباحا، فقام السيد "ريباخا" من فراشه على الفور كالعادة و في أذنيه يتردد ذلك الرنين الصاخب الفظ الأبدي : سر .. سر .. سر .. سرررررررر !!!!
|