المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
سمراء العين
رواية
سمراء العين
الفصل الأول
تلك هي أيام الشتاء هنا و لا تزال، تتحدى المخبر و المظهر، صقيع مقعد يكشف العورات و البؤس، تنقله الريشة في لوحات جميلة و يباع بثمن بخس، يعلقها المترفون في قاعاتهم و غرفهم و أروقتهم و مكاتبهم...يتفاخرون و يتباهون بها و هم صانعوها، تتبارز بها الأذواق التي يطربها تناسق الألوان حد الإنتشاء، الذين فقدوا حاسة الشم التي يميز بها الخبيث من الطيب، يقولون أن المال ليس له رائحة، فران بسواده على ذاكرتهم العاجزة عن تحميل حياة هذه الصور المؤلمة التي يعلقونها على الجدران في حضن الدفء و الأبهة...هم الذين تؤلمهم القواطع لما تهجر الأوكار، و لا يشعرأحدهم بمعاناة الأوابد التي يقيدها الوفاء لقضاء متسلط يجلدهم...في الحر تتحول هذه القرية إلى مقبرة ممسية، منسية، تهجرها الحياة، وتسكنها الأشباح، صورة صارخة لأرض محروقة، هكذا أرادوها..
قرية لا تعرف بسمة الربيع وانشراح الورد و تنفس الأزهار، و لا تزينها رومنسية الخريف الساحرة بألوانها الذهبية، ولا تطرب فيها خشخشة الأوراق التي تصنع البهجة والفرجة عبر المسالك . أهلها بين ضرتين، ضرة الحر و ضرة القر، وهم المسحوقون، يصدرجمال و متعة شقائهم وحرمانهم في لوحات بدون مقابل، وصدق من قال أن الروائع تصنع دائما من الغبن والدمار.....
امرأة ملفوفة في قطعة قماش أسود، طمس ذيلها اثار قدميها التي تشكلت في وحل الزقاق، تخشى السقوط،، تبتسم إليهم دائما باستحياء، في عينيها سحر الفتون، تشد بيدها على حائط الطوب، وساعدها يظهر أبيض كالمرجان، رسم الريح عاجزتها المبرومة في جسد ممشوق... مشهد إثارة يثيرالكثير من الفضول ليلامس سر الإلهام، أهو جمال الفقر أم البؤس الذي يصنع الروائع لخلود الشهادات رجما بالغيب ؟..أهو الفن المغرض أم سحر الريشة، أم هو المستأجر يشوه العبرة في كل أصيل؟..
طفل يحمل على كتفه كيس دقيق يخفي به رأسه من زخات المطر، إلتصقت ملابسه الرثة بجسده النحيل، قادم نحوهم، هو كذلك على ثغره ابتسامة الساذجين وعلى خده دموع من رحمة السماء، لا شك أن هذه الإبتسامة هي التي اشترى بها الوقوف هنا في هذه اللوحة المعلقة على هذا الجدار، بعيدا عن الحر و القر ...
شيخ بجبرده الصحراوي واقف عند اخر بيت ينظر إلى السماء الرمادية التي اسود أفقها وانحنت، تزينها الغربان التي تجوب الفضاء...لعله يحلم بسنة هضلاء ضرعاء، ظاهرة على وجهه سيم التوسل و التضرع واثار الغبن الذي خلفته تناقظات المواسم المتمردة...
كلب ضال أنفه في مؤخرته ينام وحده تحت هيكل عربة قديمة، جرده الضياع من طبعه، يغمض عينا و يفتح الأخرى، في سبات عميق، لا شك أنه يستعيد ذكريات أيام زهوه، لما كان مربوطا أمام باب صاحبه، يعيش هو كذلك الزمن المهدور، حوله أربع دجاجات تحت سلطة ديك أحمر كبير، يقاسمونه المكان، لا يظهر أن تواجدهن يضايقه، بالعكس لعله وجد في دندنتهن طربا للإسترخاء يطيب على إيقاعها حلم اليقظة، بجانب العربة شجرة كشفت عن أطرافها المرفوعة إلى السماء، تطلب ستر عورتها، واستعادة لباسها الذي جردها منه خريف مجحف مر من هنا، مسكينة ، إنها ضحية عنف تحرش الريشة ، و القضاء الذي تصنعه يد الفقر لا يرحم ، قبضت روحها على هذا الشكل أنامل اليد السفلى، و شنقتها الأنانية على هذا الجدار الجميل..
.كثيرة هي الأماكن التي لا يدخلها البعض إلا وهم أموات، و هل القبر إلا القبر؟..
هي ذي أغلب اللوحات في صالونات و ملاهي المدينة، صور عين القسوة، القرية المنكسرة على رأس تل مغرور، الذاهب إليها كأنه يصعد إلى السماء، يجلده فيها الحر بسوط لهبه و القر بسوط صقيعه، فيها تروض العزائم للإستكانة، و يغتال البؤس حق الطموح ، المنحدر منها يتكركب كحجرة ليستقر في بطن واد من أودية المدينة، لا يدري أين سيلقي به التيار.
قرية ليس فيها أين تستظل و لا أين تأوي، جرداء محروقة، واسعة الصدر تضيق مسالكها، تعيش الغربة القاتلة وإجحاف الوطن، و عقوق الأبناء. التهمت أشعة الشمس الملتهبة ألوانها، و أحرقت شجيراتها، و شوهت الأمطار الطوفانية شوارعها و أرصفتها و أزقتها، حق المرور رقصات بهلوانبة على إيقاع نوتات عشوائية، تعزفها سيارتك أو دراجتك، و يدفعه الراجل عثرات... حفر و نتوءات و برك ماء زخمة، وحده الشارع الرئيسي وسط القرية يظهر معبدا و جميلا، على حاله منذ العهد الإستعماري بشيء من ترميمات الإستقلال، فيه مخبزة الرومي يمتلكها مجاهد، و ثلاث مقاهي شعبية يمتلكها مناظلون للعب الورق والنرد على كؤوس القهوة والشاي وإيقاع النغم البدوي الأصيل بالقصبة والقلال. وشجون الشعر الملحون
دار البلدية موروث من التراث الفرنسي أعرب، و قسمة الحزب كان يسكنها الرئيس الفرنسي للحرس المتنقل ، و مقر الدرك كان من أشد مراكز التعذيب في العهد الإستعماري، نادرا ما كان من يدخله يخرج حيا ...
هنا تنزل عندما تأتي إلى عين القسوة، و من هنا تتكركب عندما تريد مغادرتها، وقبل أن تصل إلى الرصيف الآخر، تأكد أنك حديث مجالس المقاهي. في أول منعطف تشم رائحة الماعز و تعلنك الكلاب، بل تبلغ عنك، و تحمد الرب أنها مسلسلة، بقدر ما يسيل لعابها لتنهش لحمك، يسيل العرق البارد في ظهرك، و يجف ريقك، و تشعر بانقباض داخلي في أسفل البطن، يدفع حاجتك إلى التبول، كأن وراء كل كلب محرضه، تتغلغل بخطى مترددة حيث تضيق الأزقة و يضيق التنفس، لا تتراجع تلك الإنفعالات حتى ينفخ ضجيج الأطفال فيك الروح من جديد، نداءات الأمهات من وراء أبواب من حديد و خشب، كأنها أبواب زنزانات، تنصفق في وجهك كلما اقتربت، وراء كل باب امرأة تتصنع الحياء، تنتظرك، تنظر إليك من ثقب المفتاح أو من خلال الشقوق و الفجوات، تشعر بهن يتلذذن بهذه النظرة التي يجدن فيها متعة الرغبة المكبوثة التي يقيدها الرهاب، و بمجرد ما تمر، تفتح امرأة الباب، تميل خارجه و يظهر صدرها متدليا كعنقودي عنب في كيس من قماش ، سافرة تنادي الجارة أو أحد الأولاد، لما تلتفت، ترسم على ثغرها ابتسامة كيد عاشقة يوسف، وتتثاقل في تراجعها إلى الداخل، إنها اللحظة الوحيدة التي تختلس فيها الأنوثة جرعة حرية، تكشف فيها عن رغبتها كيف تتمنى أن تكون بصدق، وتشعرك أنها ذلك المخلوق الذي يتمنى الكثير من الرجال أن يراه كما خلق، تحلم بلحظة في حضن رجل تختاره هي بعيدا عن الجبر، و يبقى الإنتظار هو الأمل الوحيد الذي يتحدى في الخفاء كل القيم والأخلاق و القوانين و الشرائع، هي لا تعرف عن الحرام و الممنوع إلا ما تعلمته من أمها و خالتها وعمتها اللواتي صنعتهن قوانين القبيلة و دين العادات و التقاليد...وفي قرارة أنفسهن شيئ اخر يحرضهن على التمرد من حين إلى حين ، ليست هي وحدها التي لا تجد ما يروي ضمأ السؤال، ولا كيف تبرر الخوف الجاثم فوق إرادتها التي قيدتها هذه الأعراف، وتحول بينها و بين ممارسة أشياء تراها هي طبيعية وجميلة ، تكتشف كل يوم أن مبررات هذه القيود المسلطة عليها ظالمة، لأنها تغتال أمل فطرة في ذات أنهكها الإنتظار ولن تعترف أبدا بمرور الزمن و تقادم هذه الجريمة، لكون طلباتها من انسانية بقاؤها مرهون بوجودها، و تهذيبها بهذه الطريقة جور... هي المرأة التي إذا أحبت أعطت كل شيء، و لمن تريد، وإذا كرهت لا تعطي شيئا، و لهذا بسمتها لخليلها ليست هي البسمة التي ترسمها لزوج الجبر..
يتفحصك الجميع خلسة ولا يكلمك أحد، إذا سلمت يفتحون لك محضرا، و هم الماهرون، في النهار أنت حديث النساء بالغمز واللمز، و في المساء تأكد أنك حديث الرجال بشهية على موائد العشاء، و في الصباح تجد وجوها أخرى تنتظرك على فضول أحر من الجمر في كل منعطف.
بمجرد ما يتنفس النهار يهرع الجميع إلى المقاهي، لا حديث لهم إلا الشماتة و سيرة نسائهم و بناتهم..إنهم بقايا و مخلفات الثورة الزراعية، تلك الأراضي التي استعادها أصجابها ، وعادوا هم إلى المواشي و الأبقار التي كانوا يربونها،.يجلسون على أبواب البيوت و المحلات في الشارع الرئيسي، يجترون ما جمعوا في الليل من أحاديث النساء، أعينهم على الطريق، يحسبون خطوات الرائح و الغادي، ينهش بعضهم لحم بعض، و عندما تمر عليهم دورية الدرك، كأن على رؤوسهم الطير، للأعراض هنا مذاق خاص بلذة الشماتة،
من كان يتوقع أن سمراء ابنة هذه القرية النائية ،تصنع أسطورة تخلدها في تاريخ الحكا ؟
رئيس البلدية موال، يملك الآف الرؤوس، يفوق عددها تعداد سكانها، في المساء لما يعود القطيع، يذكرك برعاة البقر في أمريكا، فقط هو على سيارة البلدية يسوقها به عامل من عمالها، أعضاء المجلس من القبيلتين، الأولى بنفوذها و الثانية بكثرتها، يتداول الكبار على العهدات الفارغة، و الأبناء في الجامعات،أعراب بامتيازات، يؤسسون لحمل مشعل تواصل الأجيال تحت شعار الرزق شطارة و العمل للبقارة ...
دار البلدية في وسط القرية، تحيط بها حدبقة مهملة من عهد الإستعمار الفرنسي، حيث النصب التذكاري من الرخام الأبيض و الأسود، منقوشة عليه قائمة أسماء الشهداء في تلك المنطقة، ليس عليه سياج يحميه من الكلاب و حمير المتسوقين، القاعة مكتظة دائما بالمنتظرين و الفضوليين، الجالسون منهم على الأرض لا حديث لهم إلا الهدرة عن الإنتخابات المقبلة، و العلف، وإعانات الدولة و المساعدات، والإمتيازات...
و الواقفون أمام الشبابيك ينتقدون ويحتجون، و يسبون،فإذا حضر الإداري سارعوا إليه مبتسمين مرحبين... خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا إلا ما شاء الله. هي ذي حياتهم سكارى تقودهم الأيام بيد خفية إلي حيث تريد، نزاعاتهم موروثة، يجمعهم بندير و يفرق جمعهم دركي، و لا يزالون يتكاثرون كل يوم، بوادي تدفع و بطون تبلع، ليتأكد عكس نظرية ابن خلدون وتتحقق مقولة مالك بن نبي.
بجانب البلدية دار الحاج لشرف، أمين الحزب، بناء قديم من عهد المعمر ، لا يقف أمامه أحد، الحاج لشرف رجل عصبي بامتياز، مريض، و لا يعرف الرفق، يتجنبه الجمبع، الصواب ما يفعله و ما يقوله، لا يعارضه أحد، و لا يستمع لأحد، حتى في بيته، الحكم عسكري، عندما تدخل تجد نفسك أمام صورة الرئيس الحالي للجمهورية وبجانبه العلم الوطني، يقشعر جلدك و تشعر أنك في مقر الدرك أو الشرطة، هيبته من هيبة الدولة، يأكل وحده و يجلس وحده، يهدد دائما بالقتل، زوجته تخشاه حد الموت، كانت تقول دائما ، عندما يغضب يفقد صوابه، حقود لا يرحم، و لا يخلو من ضغينة، كان يذبح الخونة أثناء حرب التحرير، بعد نشرة الأخبار يتناول عشاءه و ينام، رغم توتراته لا شيء ينغص نومه، لا تذكر زوجته يوما أنه رأى رؤية أو حلم حلما، هي وحدها التي لا تكاد تنام من كابوس خضرة، الذي لا يزال يكبر معها كأنه تنين، يتغذى من صدرها على الظنون و يهددها في كل لحظة.
خضرة اللغز الذي حبكه قضاء مجهول و تخلى عنه، إنه يغتالها ببطء وفي صمت على نار القلق بهدوء، إنه الجحيم الذي لا تعرف دوافعه الرحمة، تبحث كيف تتخلص منها وتخلص إبنها من حبها بأقل ضرر و بدون ضجيج ، قبل أن ينكشف أمرها، لشرف لن يرحمها، و تكون نهايتها على يده، يشتري بها منزلة و شرفا في القبيلة، يسجل بقتلها بطولة أخرى من وهم بطولاته الدونكيشوتية، ما أفظع أن يعيش الإنسان أكثر من عشرين سنة على الأعصاب، يكتم سرا خطيرا عن رجل مراسه جنون، متهور لا تهمه إلا نفسه، و لا يخشى في باطله لائم، مستغن عن الحميع، لا يبتسم إلا لما ينظف مسدسه و بندوقيته ، ينتظر بشغف و لهف ساعة استعماله، الصيد لا يشفي الغليل، و لا يروي الضمأ، يقال أنه هو الذي قتل شهدة ، تلك المرأة الحسناء التي كان يعاشرها أثناء الثورة، و بقي الخبر مجرد إشاعة...
لا تستطيع أن تنظر إليه حتى و هو نائم، عندما يستيقظ في جوف الليل يتكوم عليها كالأختبوط، وحش وانقض على فريسته، لا يتركها إلا و هي جثة هامدة، قد استنزف كل ما تملك من رغبة أنثاوية جامحة، لا يتقدم بشيء من المداعبة، و لما تصل به إلى النهاية، يعود بسرعة إلى النوم و الشخير، حينها كانت هي تجد في هذه الفحولة المتوحشة ألذ ما تطلب من متعة وارتواء الشغف، و بقدر ما كان هو مفترسا، كانت تراه في تلك اللحظات أضعف مخلوق في الوجود، فتبتسم في اخر المطاف لانتصار رغبتها تحت جناح الظلام،
الآن أفقدته نوباته العصبية الكثير، ورغم ذلك لا يزال يفركها في الوثار، ويحسب له الجميع ألف حساب لجرأته و خشونته وسلاطة لسانه...ككككككككككككككككككككككككككككككككككككك
كان الليل قد غمر الكون، و خيم سكونه، و هجعت الحياة، في مثل هذه الساعة دائما، ساعة مولد خضرة، يرتفع ذلك النداء الذي ينبعث من أدغال الصمت، من عمق النفس اللوامة، يتشكل منه سواد الأشباح القادمة من كل جهة، مقيدة فوق سرير موحش مسكون بلعنة شرسة تترصدها، لا تمل و لا تغفل ولا تيأس...منكمشة تحت الغطاء تحاول إسقاط تلك السنوات من عمرها، و إجهاض حمل الزمن الملعون، في صراع مستمر مع الأرق، يحول الإرهاق زفراتها إلى أنين، أخرجها من الخيال إلى مسرح الإحتمالات الرهيبة. فتحت عينيها، تنفست الصعداء، نبضات قلبها تكاد تطغى على دقات المنبه القديم الذي لا تزال تحافظ عليه تبركا، إنها دقات الذعر التي تراها هي تطارد الزمن لبلوغ ساعة استنفار الحقيقة، كانت الغرفة مظلمة، ترد جدرانها صدى الإيقاع بطريقة عجيبة ومثيرة للأعصاب، مزج فيها السكون بضوضاء النفس و حركات العقارب التي تطوي المسافات من العمر في عجالة مفرطة، تخفي بسذاجتها الحدث بالحدث، و تنتقل من حال إلى حال، تتداول الظنون في نفسها متضاربة، و تتعاقب الزوابع التي تبعثر كل احتمال سليم...النقاط المضيئة وسط الظلام على شكل دائرة مفرغة، ينبعث من مركزها شعاعان، تشير بهما إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إنها لم تنم أكثر من ساعة واحدة، و لم يتخلف ذلك الكابوس الذي يطاردها في النوم مثل اليقظة، و بدأت من جديد ساعات العذاب و التأنيب، يمزق الندم بمخالبه الطوية الكتوم، تتقلب يمينا و شمالا، تدس رأسها تحت الوسادة، تشده بين يديها، تعض على شفتها السفلى محاولة بذلك أن تدفع الفكرة الجنونية بعيدا بكل ما تملك من قوة، تصاعدت وتيرة تنفسها، وامتزج خفقان القلب بهواجس حركت النوابض في كامل جسدها، واستحوذت الروح الشريرة على دوافع الإنقياد، فانسلت من فراشها كأنها حية انسلخت، و تسربت من غرفتها إلى المطبخ، أخذت خنجرا و خرجت تشد بين نواجدها على إرادة تكاد أن تنفلت، تمشي على دقات قلبها، و الدمع متحجر في عينيها و الحسرة تخنقها، تشق الرواق تحت ضوئه الشاحب في اتجاه غرفة خضرة، لما وصلت أمام الباب، التفتت يمينا و شمالا، انتظرت قليلا، ثم دفعت الباب بهدوء و دخلت، أغلقته بإحكام، أسندت ظهرها إليه، تتحسس و تستحمع قواها، تحدق فيما حولها و كأنها لأول مرة تدخل هذه الغرفة، وقع بصرها على صورة خضرة في عيد ميلادها الأول، تحفة فنية صغيرة من متاحف أفريقيا السوداء، و سط إطار أصفر ذهبي على طاولة السرير، يعكس زجاجه الضوء المتسرب من فجوات النافذة، تقدمت قليلا و هي ترتعش، تطوي بخطوات مترددة خمسا و عشرين سنة من العمر في لحظات، تريد القضاء على ذلك الكابوس الذي لا يزال يطاردها، تريد أن تجعل له نهاية في هذه الليلة، أشاحت بوجهها عن الصورة لتقطع شريط الذاكرة، فوجدت نفسها وحدها وجها لوجه مع حقبقتها، أمام واقع جسد الخيال...إنها هنا ممدودة، تتوسد ذراعيها،امنة تعانق الحياة، على ضوء الشارع الذي يتخلل الفجوات و ينعكس على بياض سرير تظهر فوقه صورة من الظل الأسود، جسد ممشوق في حضن الحلم، أروع ما أبدعت يد الخفاء في رسم غرفة نوم لملكة الجمال عند الزنوج، مستسلمة تنتظر أن يقدموها عند الفجر قربانا لذلك الوحش الذي يهددهم، فداء بقائهم و ثمنا لحق الحياة، ذنبها الوحيد أنها جميلة، و أمام هذا المشهد الذي زينته البراءة، تلقت الأم حقنة من منبع العاطفة، فاستنفرت مشاعر الأمومة التي أرادت أن تغتالها، ورفضت اليد الإنقياد، شلت و سقط الخنجر وارتشق النصل في قدمها، فصرخت..إنه سهم الحقيقة التي تستيقظ دائما في اخر لحظة الحسم حتى لا تكون ضحية التزوير،انتشلت خضرة من نومها، و هبت واقفة مستجمعة، تستر جسدها باللحاف، و تزلزل بصرختها أركان البيت، و سقطت سترة على الأرض، أوقدت خضرة المصباح.
-خضرة : أمي ؟.. ماذا حصل؟.. ما بك ؟..
- سترة لا شيء، لا شيء..ناوليني الكحول، أسرعي بعلبة الدواء...إنها في الحمام، أسرعي..
تسارعت الأحداث، و تشابكت الإحتمالات، وارتبكت خضرة وضاعت منها البديهيات، تتردد بين الإقبال على أمها و العمل بما تقول، يدها على فمها تنظر إليها بعيون بجاء، تراجعت إلى الوراء و هي تتهيأ للجري، يشدها الإستغراب، تقاوم لتكسر قيوده، اندفعت، تعثرت، كادت تسقط،استوت بصعوبة و أسرعت إلى الحمام.
استيقظت كل العائلة على هذا الصراخ الذي مزق الصمت المطبق وتناسقه مع سكون الأشياء التي شاهدت الحدث، و هبوا جميعا نحو غرفة خضرة التي كانت دائما الحلقة المهملة في كل شيء.
هكذا بدأ النزيف يوما في هذه الأسرة، أحدثته الحقيقة التي ترفض الإغتيال، و لا تؤمن بالموت حتى تقتل الذي يريد أن يزيفها.
التف حولها الجميع، و جلست خضرة أمامها في حيرة، تنظف الجرح و تضمده، تحاول عبثا إيقاف تدفق الدم، و لما أغمي عليها، حملوها فوق السرير، و اكتشف الجميع الخنجر الذي كان تحتها، و ساد الموقف نوعا من الريبة و الإستياء، فأحست خضرة بأنها محل الشك الذي بدأ يساورهم، ينظر إليها الجميع بعين الغضب و الغل، فانتبهت لنفسها، حملت ملابسها و ذهبت إلى الغرفة المجاورة، و لما عادت وجدتهم قد نقلوها إلى المستشفى..
أخذت سفطها و خرجت، وانصفق الباب وراءها كأنه طبل قرع للإعلان عن نهاية فصل من عمرها و بداية فصل اخر.
كانت الشوارع خالية، تمتد كلها نحو المجهول في هذا الظلام الحالك، نحو الضياع الدي صنعته أيام الجحود الموحشة، متعبة تتقدم و هي تلعن التبني الذي يصطنع المومة المزيفة الكاذبة، تلعن المنطق الفلسفي الذي يؤمن بالأصل في الأشياء كلها، و يفرضه على الذات التي ترتكب الحماقات و تتنصل منها. و خرج من عمق البركان الذي تحتويه السؤال الملعون، السؤال الخزي، السؤال العار، سؤال المهنة و البؤس و المذلة...من أنا ؟
تذكرت نظرة أمها المزعومة..غريب كأني ليلها المظلم، إنها تكرهني حد المقت، لأني لقيطة.. لأني سوداء.. و حب إبنها لي جريمة لا تغتفر، لا يزال يسكنها زمن النخاسة و الإستعباد..كريم وحده الذي سيسأل عني، يبكيني.. ليتني أستطيع أن أكون غير أنا، ألغي الماضي و أكون له، فداك ذاتي يا متنفسي في اللحظات الشداد، ليتني أستطيع أن أسلخ جلدي من أجلك ، فقط لتكون سعيدا، و أخدمك كما تخدم الأمة سيدها ، ليتني ، ليتني ... إلتفتت، عبوسا كان الشارع و هو يودعها، تتقدم و لسعات البرد القارص تهاجمها بزخات المطر اللاذعة، شارع معظم مصابيحه احترقت، برك الماء على الرصيف تتلألأ، تعكس أشعة الضوء الشاحب، غمامات الضباب تسوقها ريح القر نحوها، لا تدري ما وراءها، قالت في قرارة نفسها... حتى أنت تشوه لحظة رحيلي و تخفي تحت أكوامك الطريق؟.. عندما تأتي أيها الشقاء، تأتي بالكل، فما أفظعك يا هذا الزمن..
تحاول اختراق عمق الذاكرة، و ملامسة ما وراءها، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة، ربما بثمن بخس، أو بدافع غريزي حيواني، أو بدافع حب غموس، تبحث عن يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة...و لكن..لماذا أنا بالذات ؟..ماذا فعلت للقدر؟..متى و كيف ينصفني؟..و هل ينصفني في الحياة كما جردوني من الحياة ؟..
تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة تحت دموع السماء الباردة، تودع تلك الجدران التي كانت تحضنها برفق أمام قساوة البشر... هنا كانت تأوي في طفولتها، حينما تكتسحها رغبة البكاء أو تعاقب وتطرد لأتفه الأسباب، هنا كانت تخفي دميتها خشية عليها منهم، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من فوق المائدة، فيهذه الحديقة أشياء كثيرة و مؤلمة لا تزال تذكرها، إنها جروخ لعنة الماضي.
هذه دار عمي المبروك الأسود، يلقبونه ببامبرا، ذلك الرجل الرحيم، ااه، عمي المبروك، و ذااك السواد الحاني الذي كان يجمعنا، كلبه ركس صديقي الوفي، كنت دائما أسأل نفسي، لو كانت الكلاب بعقولها، هل يمكن أن تكون وفية للإنسان بهذا الشكل؟.. وقاء وإخلاص بدون تحفظ ولا قيد و لا شرط.. كلما دخلت عايهم، يتشبث بي، يلعقني، يلعب معي مثل الطفل المشاعب، فإذا وشت عايه عمي المبروك، أسرع إلى مكانه.
من هنا كنت أمر إلى المدرسة، زجاج نوافذها مكسر، وبدون مذفأة، يعلمنا جلاد من الأعراب كان يعلم الأطفال القران في الريف، من جامعة العصا لمن عصى، و بعد عقابه يأتي عقاب الأولياء، لأنه معلم ويحفظ القران، لا يظلم عنده أحدا، المدللة الوحيدة التي لا يلمسها أحد صاحبة الجلالة الأميرة بنت رئيس البلدية، الذي لا يعرف ختى المكان الذي يوقع فيه على الورقة، ثم تذكرت ذلك التلميذ المشاعب، فارس المجنونن، هكذا ينادونه، تضجك..اه منه، كان شيطانا ماكرا في شكل إنسان، أرهقهم بقوالبه و مقالبه،و مغامراته التي أمست تحكى كنوادر في جلسات رفقائه، تابعوه حتى طردوه فتجند، تذكرت صديقاتها بنات الريف، كن يقضين ساعات الفراغ كلها أمام باب المدرسة، في الشتاء يتغذين على خبز الشعير و اللبن البارد، كانت تتمنى أن تأخذهن معها إلى البيت ، و لكن.. في بعض المرات تفقد شهيتها و تخنقها الحسرة شفقة عليهن و رحمة،...و هذا دكان عمي سنوسي مغلق و محصن بخمس أقفال، مسكين عمي السنوسي، أصلا هو لبس من هنا، جاء لزيارة صديقه فزوجه أخته واستحوذوا عليه، باع سيارته و فتح متجرا و نسي أهله و ذويه ، قالوا أن أم صديقه ساحرة و ماهرة في ترويض الرجال، حتى قالوا يا ويح من هددته بختة، مثل حتى الآن يضرب أثناء الحديث عن أي امرأة ماكرة ، رغم كل الإحتياطات فتحوا أبوابه و سرقوه عدة مرات، دائما أولاد المشقوق، حياتهم كلها في السجن، يقودون جماعة أشرار ويا ويح من يبلغ عنهم، إذا أدخلوهم السجن،هم أول من يعفى عنه، مهما كانت جرائمهم، الليل عالمهم وحدهم و النهار للجميع..
تغلغل البرد في رجليها و هو الآن يصعد، و بدأت تفقد القدرة على المقاومة، يجري الدم في جسدها باردا، و هي ترتعد من الخوف، وحدها في شارع 20 أوت، الشارع الرئيسي، تلتفت يمينا و شمالا، تراودها فكرة التراجع،إلا أن عهدها على نفسها كان أقوى ، والجرح كان عميقا، و الماضي كان أسود، بالعكس معانقة المجهول أرحم، و من يدري. تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم، تطبخ، تغسل، تنظف، تحملت مشقات البيت كلها منذ طفولتها، هكذا نشأت كالخادمة، أحبوها أفرادا و مقتوها جماعات، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا، لقبوها باليابسة و هي أخصبهم جسدا و ألطفهم بشرة و ألينهم طرفا، و أجملهم رسما، و أحسنهم خلقا، و أصبرهم على النوائب، غير مبالية بهم، لم تتعجب، و هم الذين أرزاقهم كلها من مكرمة الأهالي، يغدقون عليهم خوفا من أذاهم و بطش تسلطهم، يهدونهم الصوف و السمن و اللبن و الخضر و الفواكه و الخرفان، يتوسطونهم بالرشاوي لأكل حقوق الناس بالباطل و قضاء حوائجهم، كان المزعوم أبوها أمين الحزب، وحده الحاج لشرف في القرية تصحو على يده و تمطر كما يقال، إنه من قبيلة أولاد سيدي جرة، أسلافهم قيل عنهم "ما يحفروا جحر ولا يباتوا برا"... هي القبيلة التي تمثل الأغلبية الساحقة في هذه المنطقة النائية، أعراب تعصب اباؤهم، و تشيع الأبناء، و هي الخط الأسود في دوامة البياض الغموس، يجب أن لا يطلع الفجر عليها هنا، تتصور إختفاءها مشاهد معوقة في فصول مسرحية يمثلها أبطال الجحود...و هي كذلك حتى سمعت صوت محرك كأنه انفجارات متتالية، أنها شاحنة لشركة سوناطراك، هكذا لقبوها، الشركة الوطنية للبترول و الغاز، شركة تنتج و تصدر، هي ذي وظيفتها، أشارت الى السائق، فتوقف بصعوبة، فيل يقوده فأر، فأسرعت تتسلق السلم، ألقت نظرة أخيرة على القرية من هذا العلو، شدها شيء من الحنين..
-السائق. إلي أين أيتها الجميلة ؟
- خضرة . إلى وهران ... توقفت تنتظر الإذن... توقفت و هي تحاول أن توقف عقارب الزمن المر، ليسجل هذا العقوق بكل معاني التحدي، بل ترغمه على ذلك، كان الفجر قد نشر تباريجه، و المؤذن ينادي في النائمين ، الصلاة خير من النوم، هي الآن تستجيب لنداء اخر لا تعرف من أين، نداء وراء ضبابية يدعوها للتحرر من قيود أدمت معصمها، قيدتها بواقع مزيف، منمق، تصنعه ألسنة و تفرضه نواجد، أرادوه لها قضاء و قدرا رغم تعدد السبل و شساعة الآفاق، هكذا كورقة قذفتها الريح و جرفها السيل، لا تدري أين سيرمي بها، الغربة تسكنها أينما حلت، فما فائدة البقاء، تحاول أن تتجرد من كل شيء، لا تريد أن تأخذ معها أي شيء فرض عليها، ليتها تستطيع أن تنسلخ من كل ماضيها و تقذف به في هذه المزبلة، كي يتحلل و يتحول إلى لاشيء،إلى لا حدث، إلى لم تكن...
- السائق . أدخلي و أغلقي الباب وراءك، مرحبا بك
- خضرة . شكرا
كان السائق رجلا ضخما، يتجاوز الأربعين من العمر،أبيض بشنب أسود، و شعر طويل، عريض الوجه، صغير الأنف بمناخر الثعلب الماكر، رقيق الشفتين، كثيف الحاجبين، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص، تحته قميص أزرق بمربعات صغيرة صفراء، ضخم الركبتين في سروال بني خشن، كبيرالرجلين يرتدي جوارب بنية من صنع إيطالي.
انطلقت الشاحنة تنتفظ من عالم السكون و قيود المكان كأنها وحش يهاجم الزمن عبر المسافات، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا، و مدبر أمرها صغير، ضايقتها رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت التي عكرت الجو الداخلي، و شعرت بالغثيان، ففتحت الزجاج دون إذن السائق، ابتسم و نظر إليها، فتح هو الراديو و قال
-...القران...طاب نومكم في المحطة..
أطفأه و أشعل سجارة، كثرت حركاته و خائنات عينيه إليها، ينتظرها أن تتكلم حتى يعزف على الوتر الذي يستهويها، هذه ليست سمكة، قالها في نفسه، هذه دلفين، تمنى أن تكون أليفة، أو محبطة حد التهور و مروضة، هن كذلك اللواتي يركبن معه دائما، حاول أن يظهر لها جادا و متفهما مهما كانت ظروفها، غرفة النوم في الخلف ، وراء مقاعده، مجهزة لكل رغبات الخلوة الحميمية ، في صندوقه أقراص للمستعصيات و أشرطة غناء لكل الأذواق، يحمل في جعبته موسوعة نكت و نوادر، ماهر في الإيقاع بفريسته...و فهمت خضرة أنه يبحث عن راس خيط للثرثرة فبادرته قائلة
-هل عندك اولاد ؟
-لست متزوجا، أفضل حياة العزوبة، لأنني وجدت في تنقلي عبر المسافات الطويلة متعة ما بعدها متعة، و الزواج مسؤولية و إلتزام و قيود لا أحتملها، الحرية عندي أعظم من قيد و رباط لست واثقا من نتائجه..
في هذه الأثناء كانت خضرة قد غادرت الشاحنة، متحدية سرعتها، تحوم تلك النفس كاليرقاء في فضاء التفكير الذي يحاول عبثا أن يخترق برزخية ماض كله سراب و ضبابية، و ما لا نهاية، يمتد و يلتوي أمامها كامتداد والتواء هذا الطريق ، تنظر إلى هذه الامتدادات التي تزخر ضفافها بالروائع و البدائع التي تعرضها الطبيعة في هذا الفصل الرومنسي الذي يعيدنا جميعا إلى الإلتفاف حول المدفئة و الجدة تحكي لنا عن جمال ذلك الزمن العتيق الذي يشدها إليه الحنين، وا حسرتها هي التي لم تعرف أبدا هذا الدفيء الا في الطبيعة، كلما اقتربت من الساحل تزاداد يقينا أن هذه الأرض الطيبة هي التي تحمل أيات الجمال الحاني للجميع، هي التي تصنع الدهشة و ترسم الابتسامة على تغر البؤساء مثلها دون تمييز، رغم ألم الاجحاف والنكران، و كلما ضاقت و اشتد الغبن، تبكي السماء بدموع الرحمة لتغسل أحزان المحرومين، و أغصان الأشجار العارية المرفوعة الى السماء تطلب سترتها ...في هديان ، كل الطبيعة تغتسل، حبلى و الوحم هيجها تنتظر تباريج فصل يلوح بطرفه في الأفق كفارس أحلامها. تنظر إليه بعيون الهروب من واقعها المشؤوم، تمر مناظره بجانب الوعي كأنها هي الوهم والأشياء واهية، تسوقها رياح الزمن إلى التفكك أكثر فأكثر حيث لا تتشكل أبدا، شعور غريب، تمنت لو كانت نبتة، نعم مجرد نبتة.... أشياء كثيرة يعدها الناس بديهية هي الآن لا تؤمن بها، فمن لا يعرف ذاته كيف يستطيع أن يصل إلى مستقر، و هي الجرم الهائم في صمت مطبق، يدور في فلك مجهول...هل هي اليقظة ؟.. هل هي ساعة الصفر قد بدأت من صوت الصلاة ؟... هي لا تصلي، أم من وخزات المطر الأولى لهذا اليوم الذي سينبذها و يؤرخ لذلك ؟..، أم من صهيل محرك هذه الشاحنة الجموح المسكونة بلعنة الحديد و النار؟..، أم هي الحياة كلها حركة مكبوتة في بطن هذا الكون المغلق، تطلب الإنعتاق و ترفض القيود ؟...استغربت كيف استسلمت كل هذه المدة لدوران عكس عقارب الزمن؟...لماذا الحياة عند الأنثى هي دائما لحظات هاربة ؟..لماذا هي دائما الحرمة المسكينة المضطهدة؟..لماذا هي دائما الناشز اللعوب التي تجلد ؟..لماذا هي وحدها الملاك الذي يسكنه شيطان؟..، لماذا هي بداية الغواية وهي الخطيئة وسبب الخروج من الرحمات؟..تبا لجسد بخس وجوده العطاء،العطاء من أجل البقاء،هوالضحية والأضحية، خلق لأنانية الآخر، و جبروته، و غطرسته، يمارس عليه ما يريد و كما يريد، إنها النخاسة بأبخس رحمة، و العبودية بأبخس ثمن، و صفقة مجانية أو بأزهد الكلمات و لا خيار...ليس لها الحق إلا في الصرخة الأولى..
-السائق ..أنت مريضة أو متعبة ؟
إلا أن امتزاج اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا واحتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال إلى مداه، فهمزها..
-السائق.. عندك مشكل ؟
-خضرة.. لا ، لا شيء، مجرد غفوة من شجون السفر
و حتى تبعد الحديث عن ساحتها تابعت تقول..
-ها هي الأماكن التي أعجبتك في وطننا الحبيب ؟
-السائق.. تعجبني زيتونة سيق، و ورود البليدة، و مياه سعيدة، و ملأة قسنطينة، و سروال العاصمة، و جلباب تلمسان، وحايك وهران، و وشم الصحراء، وعباءة القبائل وأساورها، ، أنا يا أنيستي وطني محافظ حد النخاع،أقدس كل شيء يربطني بالماضي، بالأصل، بالتاريخ حتى الأسطورة على إيقاع دندنة الجدات و هن يغزلن الصوف...كل هذه الأشياء الجميلة اهواها، بل أقدسها كما قلت لك..
-خضرة..الماضي؟..الأصل ؟..التاريخ ؟.. هذه الكلمات عجزت معاجم العالم كلها على احتوائها و إثبات حقيقتها و شرعيتها المزيفة لأنها تصنع في الخفاء، أنا لا أؤمن بها لأنها كلها مزورة و مفبركة، الحياة هي المستقبل، والماضي هو متعة الذكريات عند الأقوياء، و الكابوس المزعج عند الضعفاء، التاريخ هو المستبد
الوحيد الذي يفلت دائما من العقاب عن الجرائم التي يخلفها..
السائق..رغم هذا حضورك اليوم هو تاريخ الغد، و أنت الآن تساليني عن الماضي المؤرخ في ذاكرتي ، و كل حاضر وليد ماض معين، لا شيء يأتي من العدم أبدا، حاضرنا هو تاريخ المستقبل، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل المكان بالزمن..
-خضرة..الطريق مدرسة المتشردين، و المنبوذين، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم
-السائق.. أظن أن النكران قد أصاب منك حده، و الجحود أصابك في الصميم، لا يتعفن الماء إلا في البرك و المستنقعات، أما المياه الرواكد فهي تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية، هي دائما أطهر و أنقى و أجمل..
-خضرة..يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش، إنها مخلفات و فضلات أهلها و بقاياهم لا غير ، إنها التركة التاريخية الحقيقيه، تاريخ الأمة التي تبلع كل شيء دون مضغ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ،، لا تحاول لن يصلك صافيا نقيا ...أحيانا التاريخ يا سيدي هو مجرد فضلات أمة عاشوا أحياء، يقتات منها خلف يعيش الموت ببطء، و صدق من قال إن صدق المؤرخون فأنا أكذوبتهم الكبرى...أرجوك سيدي لا تنبش في هذه المزبلة التي تسميها أنت و غيرك التاريخ حتى لا تفوح منها رائحة خبيثة مثلي.
خيم الصمت من جديد، وانقطع تيار الكلام، وانفرد كل منهما يجتر الحوار ليتموقع...
تحاول أن ترد بتلقائية الواثقة، وبقناعة صلبة تربك بها هجومات الظنون التي يمكن أن تساور محدثها، إنها أول مواجهة للمجهول، هي تعرف أنها في نظره مجرد أنوثة موروثة تلهث وراء إشباع الغرائز و النزوات و الرغبات الذكورية المتوحشة... و لم لا..ثم ماذا؟.. تافهة و فظيعة مقولتهم أن الفرق بين أنثى الحيوان و أنثى الإنسان غشاء للحظر و تبرير الممنوع و المحرم، أنا الآن حرة، من حقي و باستطاعتي أن أتجرد من هذا المفهوم البائد، و أثبت للجميع أن الإنسانيه لا تقاس بغشاء بكارة، وأن الفضيلة أعظم من أن تقاس و تقيد بجسد، سأجعلهم يحنون رؤوسهم بذلة و تأكل طويتهم نارالغيظ، فقط لأني سأكشف عن فخذي أو عن نهدي، بل سأفعل أكثر و بجنون، أجني عليهم ما جنوه علي، و من يمنعني..ما أتفههم... أشتعل في عمقها لهب الرغبة، واستنفرت حرارة تلاطمه في جسدها كل المفاتن ، تطلب اللمس بلهف و تحد، تنتظر اجتياح فحولة تهتك مكامن الغوايات، تسترق النظرات إليه خلسة و هي تريده، إنها على وشك الإستسلام دون مقاومة...استرخت، فتحت أزرار معطفها، استوت على الكرسي، فرجت بين ساقيها، و تنفست الصعداء لترتيب وتيرة نبضاتها وأنفاسها، لأول مرة في حياتها تشعر أنها سيدة نفسها، سيدة جسدها، حركاتها و سكناتها واختفى الرقيب، لها أن تفعل الآن بهذا الجسد ما تريد، ما كانت تظن أن في الحرية نشوة يهون في سبيلها النفس و النفيس، وتستحق كل التضحيات. تشحنت النزوات و تأجج فيها كل شيء، وفي ثوان قليلة تحولت إلى كتلة شهوات ملتهبة، تدفعها الرغبة إلى التحرش وخوض التجربة بشغف ..
حينها كان هو يتظاهر بانبهاره بها ، يفتعل التوتر والإرتباك أمامها كأنه يتحدث مع زنجية أمريكية لما يتميزن به من تعال و زهو وكبرياء و غنج حد الإثارة، يفكر كيف يستغل هذا الإحباط الهجومي الحذر و السخيف في نظره، ليجرها إلى الفخ الذي يجب أن تقع فيه بالكل و لا تتخبط، فقال
-تذكريني بالزنجيات الأمريكيات لما لهن من ثقافة و عزة نفس..لا شك أنك شخصية هامة، وسيدة آمرة ...هل يمكن أن أعرف إسمك الكريم؟
- إسمي سمرة..أعمل ممرضة في مستوصف طبي
- أنت أشرف و أعظم، عمل إنساني نبيل
- و سط الوحوش، بل أفظع و هل...
فقاطعها قائلا.
-مهلا مهلا... العالم ليس من سوادك خلق، أنت متشائمة بامتياز، ظاهرك يوحي بسمو الهمة العالية و قوة الشخصية، و هيبة المثقفة المتحضرة، و هذا الإحباط و اليأس يجعلني أنظر إليك بطرف الإستغراب و النقص، تفتحي أكثر وسترين أن الدنيا لا زالت بخير، مثلك يجب أن يساير العصر و يعيش حياته بمفهوم عصري راق، لا تقيده العادات و التقاليد، حاولي أن تصلحي في نفسك ما أفسدته الطابوهات و حطمي هذه القيود القروية البائدة، واخرجي من هذه القوقعة التي تصنع منك تلك المتحجرة المتخلفة الساخطة على كل شيء، ميتة العزيمة و مسلوبة الإرادة، أنا متأكد أن أسباب تدمرك هذا مجرد خلاف بسيط يفتتقد إلى التفكير الموضوعي الراشد، في الريف والقرى النساء يتقاتلن من أجل ديك، والمرأة في المدن الكبرى تعيش اليوم إنتفاظة كبيرة لتنتزع حريتها كاملة ، تأكل ما تريد و تشرب ما تريد وترافق من تريد ولا تدخل إلا بعد منتصف الليل، دون حسيب لا رقيب، الجسد جسدك و العقل لجلادك يتصرف فيه كما يريد ؟..غريب أمرك ، بهذه العقلية ستلفظك وهران، هيا استيقظي، الآحياء رحلوا...كأني بك في عهد النخاسة و العبودية، و أنت قادرة أن تكوني كالريح المرسلة، حرة طليقة لا يقيدك مكان و لا يحاصرك زمان.
خضرة..آه لو كنت ريحا، لعصفت بهذا المجتمع، و قذفت به إلى الجحيم، أي حرية هذه التي تتكلم عنها، المرأة عندنا سجينة كل شيء، حركاتها كلها مغامرات، إبتسامتها مغامرة ، دمعتها في عينيها مغامرة، حريتها دائما مرهونة بالجدار الذي تعيش وراءه، هذا المفهوم للحرية هو الذي صنع نخاسة العصر و استعبد عقل المرأة و جسدها، إنها حرية البهائم المسخرة ، يستحيل أن تتحرر المرأة لذاتها بعيدا عن هذا الرجل الذي يريدها أن تكفر بكل شيء إلا به، و تتحرر من كل شيء إلا منه، يستخلصها لنفسه، ويوظفها كما يريد و أين يريد، إنها أنانيتكم يا معشر الرجال، المرأة هذه الأداة الإنتاجية الرخيسة التي تحقق أحلامكم و تلبي طلباتكم، و تشبع نزواتكم و غرائزكم، هي الوسيلة الوحيدة التي تدركون بها غاياتكم، و تصنعون بها العالم كما تريدونه، غرار عندما تقولون أن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، و نحن في الخلف آمات و جاريات و أنتم في الواجهة أسياد، ما أتعسنا يا سيدي و لا أظن أن الفجر قريب..
السائق... هذا كلام لا يعكس الحقبقة التي نعيشها، هذه هلوسة، لو كنت فلاحة لمات الناس جوعا، أنت امرأة هزمتها ظروف معينة أمام تحديات بسيطة و بديهية يعيشها الجميع و في كل المجتمعات، و الباحث عن المثالية كالملهوف وراء السراب
خضرة...الظروف هي أنني لست فلاحة و الناس يموتون جوعا وفي أغنى البلدان، و منهم من يقتاب من الفضلات و على القمامة، و لست حاكمة و الناس يموتون مئات المرات ظلما و جورا...و الناس ...و الناس، أما أنت يظهر أنك تعيش في ما وراء العصر، أنت إبن الوطن البترول و الوطن الغاز، إبن سوناطرك، و ما نحن إلا أبناء الوطن التراب، الفرق كبير بيننا يا سيدي، نحن أبناء الأرض و أنتم أبناء السماء، التواصل مستحيل ، الأفضل لنا أن نتوقف هنا سيدي المالك.
و عاد الصمت ليخيم من جديد، و يفسح المجال لسمفونية الإجترار، اجترار النفس واجترار الحديد ...يستوي الطريق أمامها و يمتد حتى يدرك الأفق أحيانا، ثم تأتي المنعرجات، الأشجار تمر كأن السرعة ترمي بها بكل قوة إلى ما وراء الزمن الماضي ، هو الدهر في نظرها لا تقهره إلا قوة الحركة بسرعتها، رغم أنها تحدث تلك الإصطدامات العنيفة والإنكسارات التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى الموت، والإنسان عازم على الوصول و بسرعة لغايته ولو على حساب حياته ..
التحمت نفس خضرة بامتداد المسافة و شجون السفر من جديد، و دون إنذار قفز تفكيرها إلى حادثة البارحة، ماذا سيقولون بعدها...
سيقولون هربت المجرمة اللئيمة، و يقول آخرون أراحنا الله منها، وحده كريم ، نعم هو الوحيد الذي سيذكرها بخير، و بدأت مراسيم الندم تتشكل في كل مدارك ذاتها المتعبة، اغرورقت عيناها و كادت تنهار بالبكاء ، تصارع فكرة العودة إلى البيت بهوان قلب جريح، وتراجعت دوافع الرغبة في جسد ما خلق في قناعتها إلا لكريم، إما له و إما الإنتحار ، إنه الأمانة الوحيدة التي تخلد حبها له.
الحب، هذا الجبروت المتسلط، والسوط الرهيب الذي يمزج في طبيعة المرأة حلاوة جلده بمرارة الوفاء و الإنتظار فيجعله أحلى من العسل، و أطيب من الطيب، و أجمل من الحلم...كريم شحنة الحياة التي بها تتحدى المجهول الذي ستواجهه لتعود إليه يوما ما، ثم ماذا لو عادت إليه الآن ؟..
حينها كان البيت مسرحا للتساؤلات، و مزرعة لكل الظنون و الإتهامات، يكيلون لها ما يكيلون، الجميع في الغرفة حول سرير الأم الطريحة، رؤوس منحنية أثقلها المقت، و شفاه تأكلها أسنان الغضب الذي تغذيه الكلمات الملتهبة المتطايرة كشظايا النار من كل جهة
حربية الشبح، هكذا يناديها الجميع، هذه العمة المنطوية، واقفة أمام الباب ، تطارد بنظراتها عيون الأم، تريد أن تقول لها شيئا لا يعرفه سواهما، امرأة طويلة بوجه عريض تملؤه عيني البوم، تتابع مجريات الحديث في صمت مريب، توحي للجميع أنها تخفي وراءها السر وتعرف نبع الحدث، فضولية لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة، تساعدها شساعة البيت و تعدد أجنحته على تحركاتها المريبة، تجدها دائما حيث لا تتوقعها، وكالسراب أحيانا، تتسرب في انصرافها ببرودة الأفاعي، تمر أمامك كالشبح، لا تكلمك، أينما تكون يثير وجودها هواجس الشك، لا تتكلم كثيرا، عندما تنظر إليك تشعرأنك أمام مخلوق تتصارع في عمقه لعنات الأرواح الشريرة، على وجهها ملامح الوعيد، تزرع في نفسك رهبة ممزوجة بالحذر، ليلة الحادث شاهدتها خضرة في اخر الرواق، ثم اختفت فجأة، و لما خرجت كانت تراقبها من الشباك في الطابق العلوي، لا يعرف عنها سوى أنها العمة الشقيقة للأب وهي اللبنة الأولى في صرح هذه العائلة ،
لا تقوم بأي عمل، إنها السيدة الشرفية بامتياز، لا يدخل غرفتها أحد، تعيش في عزلة و هي المحور الرئيسي الذي تدور حوله كل الأشياء، إنها العلبة السوداء الملغمة، تظهر و تختفي بسرعة كما تشاء، لا يحدد أحد مكانها سواء بالليل أو بالنهار، في هذا البيت لا تجزم بأنك وحدك أبدا ، لأنها لا شك بقربك، تقاسمك كل شيء، تعرف عنك كل شيء، و لا تعرف عنها شيئا، لا تتعطر و لا تتزين، لا تسمع لها صوت و لا تشم لها رائحة، كأنها في حداد أبدي ترتدي دائما السواد، يتحفظ في حضورها الجميع، إنها صورة لظل ليس له جسد، رغم ضخامتها كأنها حية تترصد، تجمع في طويتها تفاصيل كل حركة و كل سكون، ردة فعلها في عينيها أشد ألما من السهم المسموم، لا تبتسم إلا لأخيها، إبتسامة جافة مبهمة لا تحمل أي شعور ..
ثورة، البنت المدللة التي لا يرد لها طلب ، منحنية على وجه أمها، تنظر إليها بعيني الإستغراب من سذاجتها و غباء طيبتها، تكاد تتفجر مناتح وجهها غضا، تصلبت عضلاته و تداخلت شفتيها حتى أصبح فمها مجرد خط في أيقونة ثائرة ، حدقت فيها جيدا ثم قالت
-هذا أقل ما كنت أنتظره منها، إن لعنة اللقطاء ستطاردها حتى الموت، سترون ، أرجوك يا أمي لا تعودي إلى ذكرها أبدا، بدأت بضربة في الرجل التي جاءت بها هنا ، و المرة القادمة ستكون في القلب الذي حنى عليها، و الغبي يلذغ من نفس الجحر مرتين أو أكثر.
الأم..لقد انتهى كل شيء، لن يكون لها المكان بيننا أبدا، قالها الأولون، المربي ليه ربي ، هي ذبحت الكلب فلا تسلخوه أنتم.
لا تزال الأم في دوامة الحادثة، تنتظر أن يسألها أحدهم عن التفاصيل، و لا من أثار الحديث ، و لا من سأل عن ذلك، كأن خضرة كانت هما جاثما على الصدور وأفرج، لعلهم يرونها ارتاحت و أراحت. ما كانت تتوقع أن ذهابها يحمله الجميع على أنه حكم قضاء كانوا ينتظرون تنفيده.
و تحول الكابوس الذي أرقها سنين إلى عذاب فظيع يمخر طويتها، تحاول دون جدوى استدراجهم إلى الخوض فيه، إلا أنه يظهر أنهم على يقين أن خضرة كانت تريد بأمهم شرا، و بقدر ما اتسعت غرفة نومها، بقدر ما ضاقت عليها الدنيا على اتساعها، كأنها في قفص من حديد، و هاجمتها وحشية فعلتها من كل حهة ، هي تعرف أنها زادت في تشويه الحقيقة، و أنها اقترفت جريمة بشعة بهروبها إلى الأمام مرة أخرى، كادت أن تنهار وتعترف أمام الجميع أنها السبب الحقيقي في مأساة خضرة لتريح ضميرها وليكن ما يكون، واكتستها قشعريرة الخوف من المصير المحتوم فتراجعت، تنظر إلى نفسها في مرآة الدولاب الذي أمامها، إنها امرأة قصيرة بيضاء، كحيلة العينين، معتدلة القد، خصبة الجسد، جميلة الأطراف، شامخة الصدر، لا يزال ثغرها يحاقظ على سحر أخاذ لا يرحم فحولة، في بسمتها الخجولة سهم مسموم من سهام العشق الأسطوري، ذلك العشق الذي يوقع بين أعقل الفرسان، تحاول أن تخفي عبثا مياسم اللعوب، على منخرها الأيسر شامة محتشمة، و في عينيها خسوف جذاب، رغم سنها لم تستسلم الأنوثة فيها لعوامل الزمن، بل بمراسها الحاني تبقى هي الغواية و هي رغبة النفس التواقة التي تعرف كيف تثمن في نفسها المحاسن ، تعشق بشغف المختلسة، أينما تحل تصنع الإستثناء و الدهشة، خلف كل استغراب تخفي جواب فضول، مزيج من الكيد بمكر المتمرسة، يتحول دهاء لما تعود إلى طبيعتها و تمتطي صهوة التلقائية، تناقظاتها تربك أعقل الحكماء، صعقتها كضربة الجبان السفيه ،قاتلة لأنه يبذل فيها كل ما أوتي من قوة ، فإذا تحاشيتها يموت وحده، إلا أنها نادرا ما تخطيء، يثير مراسها اللين فضول كل الرجال، تمارس الإثارة بامتياز في غياب جبروت الحاج لشرف، يتمناها الجميع و لو نكالا، و في حضوره ملاك بفيض بالعطف والحنان، أنزله الرب من أجله و من أجله فقط، رغم هذا فهي الوفاء المقيد بالرغبة و الخوف، لا تستطيع أن تخونه لأنها تدرك فيه غايتها و تخشى شره، وحده سر خضرة كان يهدد استقرارها و ينغص عليها الحياة، لا تخشى الآن إلا أن يكون هذا الخلاص الذي جاء صدفة موبوءا و يتحول إلى لعنة تطاردها مدى الحياة.
بجانب السرير، فوق الطاولة البنية كحول و قطن و كمادات و أدوية أخرى، الغرفة باللون الرمادي الفاتج، الآثلت كله بني اللون، فقط الستائر صفراء، لوحة وحيدة على الجدار تعلن عن قدوم الخريف بلون ذهبي يحمر تدريجيا ليضاهي الغروب، تزينها ألوان أخرى باهتة تتدافع، تداخلت لإستقبال الليل الذي بدت ملامحه ترتسم في الأفق يمينا و شمالا، تحتها بندوقية صيد و خرطوشية من الجلد الآحمر الخالص، فوق الدولاب حقيبتين بينهما نسر محنط ينشر جناحيه، مثبت في غصن ، و على رأس السرير شمعدان من نحاس قديم وضع خصيصا لإنقطاعات الكهرباء المتكررة،الأرضية من البلاط الأسود و الأبيض، مغطاة بزربية جمراء مزركشة كأنها بساط من منمنمات ، و الغريب أن هذه الألوان المتنافرة و المتناقضة صنعت الإستثناء للشعور بالراحة، لما تجلس وسطها كأنك اللبنة الأخيرة لإكتمال المنظر الرومنسي المريح والجميل، تتأكد من مجرى الجديث، أن هذا الترتيب كان من صنع أنامل الصدفة ولا دخل للذوق فيه ، لأن الحاج لشرف ليس للرفق في ذاته و لا في مزاجه مكان ، و زوجته أعرابية بالطبع ، قضت حياتها بين أربعة جدران ، تفتقد إلى أدنى إحساس يجعلها تتفاعل مع الإبداع في أي فن من فنون الحياة، لا تحسن إلا التأنث الذي اكتسبته من المحيط الذي حعلها انثى ، فقط أنثى...لعلها جبلت على أن ترى الأشياء عادية و لو في غير مكانها، و تكتفي بكونها امرأة
-ثورة...كنا نحنوا على جحود، سواد باطنها أحلك، انظروا إلى ذلك الأبله، أراد أن يتزوجها ...كم أنت غبي و ساذج، هكذا يعيرون أبنائك بأولاد اللقيطة، ما بقي في سيرة أهلنا إلا هذه الشارة السوداء النتنة
-الأب....يتزوج ؟.. يتزوج من؟..
-ثورة....يتزوج خضرة
-الأب...يتزوج خضرة ؟.. هراء، أيحصل هذا في بيتي و أنا حي ؟..هذه طعنة مسمومة في ظهري ،كيف أكون أنا أخر من يسمع في هذا البيت؟ إلا هذه...
التفت إلى زوجته ساخطا يتوعدها ، يلعن و يسب، يكيل لها الشتائم و يعير إبنه بخيبات أخواله و تصرفاتهم التافهة
الأم....هون عليك يا حاج، أقسم أنه مجرد كلام أطفال، لم يكن من الأهمية بمكان لنطلعك عليه، هذه مجرد تفاهات لا تشغل بالك بها...وأنت يا ثورة كفى، قلت لك كفى
كريم....سأبحث عنها ، لعلها تكون عند عمي المبروك
الأم....لا تحاول يا ولدي، إنها الكابوس وانزاح ، و لا أظنها تفعل، خضرة هربت و لن تعود، أنا متأكدة، فقط لا نريد أن يسمع أحد بهذه الفضيحة حتى نجد لها مبررا
ظهرعلى وجه الأم ارتياح مفبرك، قالتها بحسرة و ألم، نسيت جرحها و همت بالوقوف، فأعادها الألم إلى وضعيتها، تنهدت و هي تنظر إلى السقف و همهمت...أخيرا جاءت النهاية بتكلفة أهون..
كريم....ماذا تقولين ؟
الأم...لا ، لا شيء، أراحنا الله منها...
نظر إليها مستغربا،ما الذي حولها إلى كيان تجرد من الفطرة الإنسانية و نزع منها الرحمة، ما كا ن يظن أن أمه تحمل كل هذا الكره لخضرة، خضرة تلك البنت الخادمة التي أفنت عمرها في خدمتهم جميعا ، ما عاد يصدق أن هذه أمه...بدأ يستعيد الحدث ، هناك حلقة مفقودة في الإخراج وحدها الأم تعرفها ، تمنى لو كان محققا ليفك هذا اللغز الموبوء، امرأة جاهلة مثل أمه استطاعت أن تموه المجريات ، و لا يعرف أحد تفاصيل بدايتها و لا نهايتها ...و شعرت أمه بريبته، فتغمدته ببسمة حنان و حنو المعاتبة لتمسح ما كان يدور في طويته.
الأب...هيا تفرقوا ، كل واجد إلى شأنه واتركوها ترتاح قليلا
كأنهم طيور حول صائدة ميتة وداهمهم سبع فتفرقوا و بقي كريم بجانبها، و لما استوت على سريرها، وضع على صدرها الغطاء، و همس في وجهها..
-لماذا كل هذه القساوة يا أمي ؟ ؟.. لماذا كل هذا البغض ؟؟..لماذا، لماذا ؟؟..
-الأم...كم أنت طيب يا كبدي ، ليت الناس كلهم كريم و مثلك رحماء، يسامحون و يتجاوزون و يرحمون، ولكن هيهات هيهات، يا بني الدنيا أكل و مأكول لا ثالث لهما.
خرج كريم يجر الخطى و هي تنظر إليه بعين الشفقة، تنهدت و قالت...من أجلك و من أجلها و ليس لي خيار، لعل هروبها يكون قد حمل معه كل الافتراضلت المأساوية التي كانت من المحتمل أن تضرب هذه العائلة ضربة في الصميم فتفجرها...اللهم افتح لها باب تخرج منه ولا تعود إلينا أبدا، واحفظها لأنها حملت معها خطئي لترميه بعيدا.فإلى غير رجعة يا بنيتي..
وصلت الشاحنة إلى محطة الوقود، تزودت و تزود هو كذلك ببعض المشروبات ، قهوة و حلويات و علبة سجاير، واشترى لمجتين همبورجير، أعطاها واحدة و احتفظ بالأخرى لنفسه، لا يزال يلتزم الصمت، يحاول أن يفتح مصرفا للحوار يصب حيث يريد، يسترق النظرة بعد الأخرى، جوهرة سوداء ، يراها مرة جسد سادية تتعاطى طقوس الغرام مستسلمة، و مرة يراها فهدة شرسة تمارس العشق بوحشية ، إنه الآن يلهث ، إنه يختنق، شيء بداخله يدفعه إلي ترك المقود و الهجوم عليها، و ليكن ما يكن، يستحيل في عرفه أن تفلت منه هذه السمكة التي تسبح ضد تيار نهره، زاد في السرعة يميل مع المنعرجات يمينا حتى يلامس كتفه كتفها و يتماسك شمالا و بدت العصبية في حركاته وعلى وجهه، كأنه ثعبان يتحين الفرصة لينقض على فريسته... يجب أن يوقع بها، و بدأ يرسم خطته ،و أحست هي بسخونة الموقف، و شعرت باستعداد غريب يغزو جسدها، و بدأت الرغبة تكتسح عينها، شعرت بنوع من الإسترخاء و انقياد جامح لمكامن أنوثتها الى هذه الفحولة العنيفة، تكاد تصرخ لهفا في عمقها ، أنها تقاوم لهب الرغبة بصعوبة كبيرة، تنتظر ملامسة كتفه، تقاوم ميل المنعرج الى الجهة الأخرى لتمكنه من كتفها، لعل شرارة التناقر تضرم نار الشغف فترتمي في حضنه و اليأتي الطوفان من بعدها إن شاء، و ما قيمة جسد لا يعرف من أين جاء و لا إلى أين هو ذاهب ، شيء غريب تطلبه خصوبة بدنها، يدفعها هي كذلك إلى اغتصاب المبادئ و القيم التي لم تشرع إلا عليها، و أصبح الشرف و العفاف و الكرامة في نظرها مجرد كلام فارغ ، مجرد سراب لأوهام كانت تسكن خراب ذاتها التي أنهكها الضياع، الضياع، الضيااااع...الضيااااع... هكذا ترددت هذه الكلمة في ذاتها وانتشرت، فارتعشت و تزحزحت بعيدا تلتصق بالباب، كأنها استيقظت من كابوس، وحش كاد ينقض عليها... و تيقن السائق أن صائدته قد استعادت روحها، و استعدت للمواجهة إذا فرض عليها النزال، فتراجع قليلا يستعيد هدوءه و توازنه ، ابتسم و خفظ قليلا من السرعة، يدندن من حين إلى حين، في جيب الباب بجانبه كاظمة أخرجها و أعطاها لها ، ثم ناولها فنجانين ، فصبت له و صبت لنفسها ، تناول جرعة بضجيج مضخة، و وضع فنجانه أمامه في المكان المخصص له ، كانت هي تشربها رشفة رشفة و تتلذذ، زاد خفظ هو من سرعة الشاحنة، و فتح الراديو، كانت حصة غنائية رائعة ، أطربتهما...
إنهما الآن على مشارف مدينة وهران الباهية، تكاد الشمس تختفي، كانت هي نائمة مستندة على الباب ، همزها فقامت مفزوعة ..
-غريب إنه الغروب؟.. نمت ؟...كأنني كنت ميتة..
-تعطلت الشاحنة و توقفت في الطريق ، صلحت العطب بصعوبة ، رأيتك نائمة فتركتك حتى لا تجزعي، الحمد لله أننا الآن ندخل مدينة وهران بسلام أمنين ، مدينة عشقتها و أنا في المهد، إنها المدينة الساحرة التي سلبت عقول الكثير من زوارها، بمناظرها الخلابة و شوارعها و محلاتها الجميلة، و ساحاتها الرائعة، وأثارها التاريخية و شواطئها الذهبية...متعتك هنا لا تنتهي أبدا ، ستسكنك وهران قبل أن تسكنيها و تفرخ في أحشائك أزمنة اللهو و الطرب، و تنجبي أسطورة من أساطير الليالي الملاح ، بجمالك هذا ستسقطي عروشا وتبني على أنقاذها ما تشائين.. فكوني في الموعد و في مستوى التحديات...
لا تزال تركات الإستعمار الفرنسي العمرانية تتحدى بجمال هندستها و عراقة ثقافتها الزمان و الإنسان ، إنها التاريخ الذي لا يزول ، إنها النبع الذي ترتوي منه النفس الأخرى التواقة إلى تخليد بصمات مرت من هنا ...ساحة جان درك ، وكنيسة سانتاكروش ، هذا المعلم النصراني الذي يقف فوق وهران ، و كأنه الملاك الذي يحرسها، يقف في شموخ و تحد ، و مقام سيد الهواري الولي الصالح المتواضع الذي وضعته يد قدر ما في أدنى أرض وهران ، لا شك انه قبل بالنزول هنا لتكون بركاته اقرب إلى مريديه، قلب تابض في وسط الفقراء و المساكين، هذا الحي القديم قدم الزمان لا يزال يصنع بأشياء كالكرامات عجائبه...ستبهرك أشياء كثيرة لا تصدق في هذه المدينة الموبوءة بالعشق في كل شيء ، فقط لأنها وهران ، وحدها القادرة على صنع البهجة و الفرجة في زمن الجحود. و لكي تعيشي في وهران يجب أن تحيا وهران فيك، و تدب في شرايينك، يجب أن تتنفسيها، و لكي تعشقك وهران يجب أن تقرأ في عينيك صمت هجيرتها،و شغب صباحها، و هرج عشيتها، و هديان ليلها الحالم، إنها ذلك الجسد الخضرم لإمرأة لا تحب من يساومها، وهران الساحرة في واجهة البحر الممتد أمام رجليها، المتزين بها، يداعبها، يسامرها،يدللها، و هي شامخة ، عبثا يحاول أن يرغمها على الإنحناء ليجردها من ذلك الكبرياء الذي ورثته من تعاقب ليالي أمم و نهارات أمم أخرى، تطل بشوق أحيانا على الشاطيء الآخر لما يشدها الحنين...
إذن لن أعيش الغربة فيك يا وهران، هكذا قالت في نفسها، سأحتسيك خمرا و أنتشي بنشوتك لأنسى من أنا، أدوب فيك ، و تمتزج ذاتي بكيانك،بعهودك، و سأكون تلك الغجرية الإسبانية التي ترقص على مشارف رغبة المشتاق، أزاحمك بتمايل خاصرتي ، و أقرأ على كفك مشاغبة الأيام الآتية، أمارس مثلك العنج على إيقاع الكعب العالي و أتحداك لأرضيك، وسترضي، لأنني من سواد عينيك خلقت و أنت عروستنا،سأكافح حتى اتغلغل فييك.كان الحديث مع وهران ممتعا و شيقا، و تفاعلت معه حد الشعور بالغبطة ، و أحست بنسمات الإرتياح تلاطفها، إنها همسات وهران...
فإذا بالسائق يكسر الصمت بصوت فيه حشرجة
-ها نحن في مدينة وهران، هنا يا انستي يتنفس التاريخ الصعداء، بثقافاته و بموزاييكه البشري، هنا البربري، و البزنطي، و الروماني و الفنيقي ،و التركي،و اليهودي و الاسباني، و الفرنسي والإيطالي ،كلهم محسوبون على العنصر العربي ، وحدهم القبائل لا يزالون رومان كما يقولون و بالنظر إلى فيزيولوجيتهم التي تختلف عن الأفارقة و العرب ، يكاد المتمعن أن يصدق ، لأن الأفارقة يتميزون بالشفاه الغليظة و الأنوف العريضة، و المصريين رغم بياض بشرتهم إلا أنهم أقرب الى هذا الوصف من الأمم التي مرت من هنا..
كثيرة هي الأشياء التي ستكتشفيها خلف ممارسات غريبة، تشكل لونا اخر في هذا الموزايك البشري ، أناس سود يجلدون ظهورهم بسياط من أذناب البقر، و يطعنون بطونهم بالخناجير و السكاكين ، يستعيدون في شطحاتهم ظواهر و عادات و ديانات اسلافهم، سجلها التاريخ بحروف من فلاذ،أناس اخرون يلعبون بالجمر، يأكلونه، يتخذون من اللهب رمزا لتهذيب الروح بانصهار الإنس بالجن، في حلقات روحانية مثيرة للجدل، لا شك أنها مخلفات الذين مروا من هنا، كيان وهران لا يتميز بشيء ، تجمعهم في اخر أعمارهم عربة تسمى الاسلام، إنها عربة التقاعد التي تنقلهم إلى القبر ...فلا تتعجبي ، هناك طقوسا أغرب من الخيال..
خضرة....هذه ليست المرة الأولى التي اتي فيها إلى هنا ، و هران هي قبلة الأمل و الألم، إنها الصدر الحنون الذي يحضن الجميع دون تمييز، كنت أمر من هنا مر الكرام، أرافق بعض الحالات الصعبة في سيارة الإسعاف عند تحويلها إلى المستشفى الجامعي مثلا ،للقيام بالإسعافات الأولية عند الضرورة أثناء الطريق
السائق...إذا كوني حذرة، هنا يراك البوليس و يتفرج، إذا كانت باريس مدينة الجن و الملائكة، فمدينة وهران مدينة الجن و الرواحين...المهم أنا محسوبك عثمان من أصول تركية، ربما يجمعنا الطريق مرة أخرى حينها لا شك سنعزف على نفس الوتر لأن نوامس وهران تكون قد صنعت منك عازفة على المقاس.. أتركك بخير
ابتسم و وقفت الشاحنة وقال
-لا يسمح لمثل هذه المراكب بدخول المدينة، هناك محطة للنقل إلى كل الإتجاهات
نزلت، ابتسمت له و نزعت خاتمها و مدته إليه
-خذ إنه من الذهب الخالص..
نظر إليها، هز رأسه رافضا، رد الإبتسامة بأجمل منها، و تحركت الشاحنة بكل قوة، أعادت خاتمها إلى أصبعها تحركه يمينا و شمالا، كان الغروب قد بدأ ينشر ستائر الليل على وهران التي استقبلتها بأنوارها الجميلة و نسماتها العليلة و همساتها الرومنسية الحالمة، شعرت بالبرد و بألم في فخظيها و ساقيها كأنها كانت مكبلة، فقررت أن تمشي بعض الأميال لتسخين أطرافها ثم تفكر ماذا تفعل، حتى الآن لا مأوى لها سوى أن تستأجر غرفة في فندق متواضع و تنتظر...همت بالمرور إلى الرصيف الآخر، شعرت بدوران، فإذا بضربة تسقطها مغشيا عليها...
|