المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
المشنوق.
المشنوق
إنهم يحاصرونه.
أينما توجه لا يأتي بشيء؛ ولا بالخبز الحاف.
هذا مَوْسم منع الصيد - مهنته - لإعطاء فرصة للأسماك للتناسل والنمو، كما يزعمون.
جاس الميناء بحثًا عن أي عمل، بالشحن والتفريغ، أو خفيرًا على البضائع، أو الغلال المصبوبة على الأرصفة، حتى ترقيع وصيانة شباك الصيد - الذي يجيده - عض عليه غيره.
البحث عن أي عمل يضمن لقمة العيش المرة والسوداء، يتم بسلسلة طويلة منالمعاناة والعذاب والألم، وجـولات من المشي المضني، والانتظار بلا بارقة أمل، ووجبات قاسيةمن الإذلال يتجرعها العاطل بشكل يوميّ؛ يدفعه إما للنهب المتوحش الإجرامي، أو لليأس القاتل.
ألقاه التعب طلبًا للظِّل، والرِّيّ، في زاوية الحاج، التي دشَّنها تحت عمارته الشاهقة.
ألم يقل الله - عز وجل -: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا ﴾؟ فلماذا يُحرِّمون على أفواهي طعم العمل، وأنا بسبعة أمعاء؟
استمَع إليه الحاج بافتتان، وإعجاب!
أثنى على رغبته في السعي على لقمة العيش.. ثم جابهه: صراحة أنت جَلد قويّ لا تستحق الصدقة.
لكني أقرضك خمسين قرشًا؛ بشرط أن تتاجر بها فتربح، وتردها لي من كسب كَدِّك وعرقك.
توجَّس الرجل من تحمُّل مسؤولية هذا الدَّيْن.
وسأل سره: أي تجارة يصلح لها هذا المبلغ؟ وهل يكفي ربحه السبعة الكرام؟
وكان الحاج كريمًا، ومُبدعًا.
قال: اذهب إلى سوق الجملة، واسترخص (سبوبة)، كأن تكون فجلاً، جرجيرًا، مقدونسًا، وكسبرة خضراء، وليمونًا، واسْعَ في الشوارع والحواري، وسيكرمك الله مثلما أكرم أُمَّنا هاجر عليها السلام.
خضع العاطل لمشورة الحاج عِوَضًا عن اليأس، وتَجرَّع في ذلةٍ القرضَ المُرَّ.
أجَّرَ عربةَ يدٍ، وأخذ منها مكان الدابَّة، سحَبَها إلى سوق الجملة قبل الفجر بساعتين، اشترى تشكيلة خضار ناضر، رَصَّها على العربة في مجموعات زاهية، جرَّ العربة، وابنه الصبي وراءها يدفعها لاهثًا.
لم يذهبْ لسوق البلد؛ فأرضه محتلة بالقهر، أو مؤجرة بالإتاوة، ولا مكان فيه لعربته المستجدة.
يجوب الشوارع.
ينادي: "رياني يا فجل".
"الليمون البنزهير".
"معي الجرجير، والكسبرة الخضراء، والمقدونس".
فيرجع ابنه النداء - وهو في غاية الكسوف.
ومن النواصي، إلى وسط الشوارع، ومن الشوارع إلى الميادين، ومن الميادين إلى الحارات والأزِقَّة.
نفثت الشمسُ لهيبَها، احمرَّت الأحداق، انتفخت السيقان، ومَجِلت اليدان، وتمرد الظهر، والخصر.
نشج الولد من شدة الحرج، وألم الحفاء.
مالت الشمس إلى المغيب، ولم تغب البضاعة.
انحنى الرجل على بائعة الفجل المفترِشَة أرضًا.
شكاها هَمَّه، نصحتْه بالتخلص من الخضار لأي مطعم من المطاعم بأي ثمن "قبل أن يغدرك ويصْفَرّ"...
أحصى الرجل ما باعه:
حصيلة مبيعاته اليوم بطوله 27 قرشًا.
ثمن البضاعة جملة 35 قرشًا.
رسم بلدية سوق الجملة 3 قروش.
إيجار العربة قرشان.
أما العشرة القروش باقي السلفة، فاشترى بها ما يُمسك رمق بطونه السبعة.
فحصيلة سعيه الهاجري يا مبارك، لليوم فقط: أنه حصَّل الرمَقَ، وخسر الجَلَدَ والعرقَ والمال!
وشنق الدَّيْنُ رقبتَه!
|