لم تمكنها خبرتها المحدودة من فهم غالية الحديث الدائر بينهم لكنها استطاعت أن تسجل الملاحظات نقلاً و هى تحمد الله على مهارتها فى الاختزال, لم تدر إذا كان سيمون ممتناً لجهودها و لكنها شعرت على الأقل بالارتياح لأنه لم يوجه إليها أى نقد. و فيما بادلها الآخرين بعض التعليقات المرحة بين الحين و الحين, اختار سيمون أن يتجاهلها و مع ذلك لم تقد هى إلا أن تحس بوجوده الحانى إذ انه اهتم بتأمين كل احتياجاتها, و كان حين ينظر إليها بين الوقت و تلآخر ترفع بصرها إليه و تجيبه بابتسامة حلوة تقوس شفتيها المليئتين.
و بالرغم من تشجيعه الصامت انتابها الارهاق فى آخر النهار و تحسرت إلى حد ما على تجوالها المعتاد كل سبت, و الذى اعتبرته نزهة بالمقارنة مع العمل الشاق الذى ادته اليوم, و هكذا تنفست الصعداء عندما قرر فى الخامسة أن يتوقف.
ودعا الحاضرين و انطلقا عائدين إلى البيت.
انابها احساس غريب بأنهما يتبادلان وعوداً معينة و قد ابهجها هذا الشعور مع انها اكدت لنفسها عدم صحة هذه الفكرة. ألقت رأسها على ظهر المقعد و اغمضت عينيها فى استرخاء.
و بعد مرور أكثر من ساعة خاطبها قائلاً:
ـ ليزا استيقظى, لقد وصلنا.
افاقت مجفلة و هى بالكاد تعى أنها كانت نائمة ثم هبت جالسة و شهقت قائلة:
ـ وصلنا؟ أين؟
لم تشأ أن تصدق حقيقة اغفائها لأن سيمون وعد بسلوك طريق مختلفة اثناء الرجوع و كانت هناك أماكن كثيرة تود رؤيتها!
تأمل محياها العابق بدفء النوم و غمغم مجيباً:
ـ انظرى حولك أيتها الأميرة النائمة, سمعتك بوضوح تقولين أنك لست متعبة لكنك استسلمت للنوم حالما غادرنا بريستول.
لم تصغ إلى كلامه إذ كانت تحدق من النافذة بخيبة. لقد وصلا إلى المكان الذى ارادت الهرب من زيارته, إلى البيت الذى عاشت فيه قديماً.
حين تحدث سيمون عن زيارته أثناء العودة حسنته يلقى الكلام جزافاً.......
وجدتت أنهما متوقفاً فى ساحة القرية بالقرب من المنزل القديم انما يبدو الآن أكثر فخامة من أى نزل آخر, فقد توسع فأصبح فى مصاف الفنادق الحديثة و احست ليزا بأنها لا تحبذ هذا التحول. هتفت كأنها تخاطب نفسها:
ـ اعتقد أن اصحابه تغيروا ايضاً و صار تحت ادارة جديدة.
فقال سيمون مقترحاً:
ـ تعالى ندخله و خابرى أمك لبينما أطلب الطعام. لم يحن موعد العشاء بعد, و سوف نمضى الوقت باستكشاف القرية لبينما يجهز الطعام, و يمكننى كمشاهد, أن ادرس وجوه الناس لاستطلع فيها امارات التعرف عليك.
هل سبق و قمت بهذه اللعبة ليزا ؟
كانت منشغلة بافكار عدة فأجابت بارتباك:
ـ ألا تظن أنه من الخير لنا أن نتابع السفر؟ سنصل إلى البيت بعد ساعة و بوسعك أن تتناول الطعام عندنا, ستفرح أمى بزيارتك.
قال بصوت يشوبه الضحك:
ـ هذا يدل على أنك تعتبرين تحصيل حاصل, لماذا نرهقها مجدداً بعد الحفلة التى اقامتها أمس و خصوصاً أنى قادر على تزويدك بعشاء جيد هنا؟ اضافة إلى ذلك, اريد الانفراد بك لساعة أو اثنتين. ألا تدركين أنى لم أحظة بهذه المتعة حتى الآن؟
خابرت امها ثم انضمت إليه عند الباب الأمامى و أكدت لنفسها ان تعليقاته الغامضو لن تؤثر فيها, انما لماذا يخفق قلبها بهذا الشكل لمجرد رؤيته يقف امام الباب بقامته الطويلة و غروره و عينيه المطبقتين قليلاً بفعل الشمس الغاربة؟ تطلعت إليه و صدرها يجيش بجملة عواطف مربكة.
قبضت يده على مرفقها فى حركة باتت مألوفة لديها و قال:
ـ هل نتمشى؟
أومأت بصمت و لم تتكلم ثانية إلا حين اقتربا من المعبد. القرية نفسها تغيرت و بدا أن المعبد هو البناء الوحيد الذى بقى على حاله, القرية ازدهرت بالعمران و معظم البيوت القديمة بُيعت و تجددت حتى لا تكاد تعرفها و قد ساعدها على الازدهار قرب القرية من المدن و البلدات المحيطة بها.
أما البيت فلم تزره ثانية منذ أن انتقلت و أمها إلى منزل سيلاس, و قد دُفن والدها فى لندن, مسقط راسه, وقفت تتأمل مربع طفولتها و قالت بهدوء:
ـ أترى لقد اضعنا الوقت ليس إلا, إذ لا أجد أى مكان يستحق الزيارة, و لا يوجد حتى ضريح.
نظر بتأنيب إلى وجهها الفتى المتغطرس و قال:
ـ عزيزتى ليزا, تبدين مقتنعة بأنى جئت هنا لأعاقبك فى حين أن الفكرة لم تخطر لىّ اطلاقاً, لقد اثار فضولى فقط وقوفك الدائم على سلاحك و من شأن مطلق رجل أن يتسأل عن الأسباب التى ما تنفك تشغل ذهن الفتاة التى يهتم بأمرها؟
سهمه كاد يصيب عظمها هذه المرة....اشتعل الخوف فى داخلها فشهقت قائلة:
ـ قد تكون رئيسى........
توقفت حين غرز اصابعه فى مرفقها و ارتفع الألم المبرح إلى كتفها, فهتفت و هى تحاول انتزاع نفسها من قبضته:
ـ أنت شيطان أيضاً!
رفض إخلاء سبيلها و قال بصوت كسول:
ـ قد لثبت لك فى يوم من الأيام إلى أى حد استطيع أن أصبح شيطاناً عندما أثار. أما الآن فيجب أن تأكلى, إذ لا يمكننى أن أحصل من فتاة جائعة على ردود الفعل المناسبة.
كان يركز بصره على عنقها الجميل البض فغضبت و أرجعت رأسها العنيد إلى الخلف. أدركت أنه يداعبها غير أنه لم تقدر أن تتحمل مزاحه البتة. ارتجفت شفتاها قليلاً واتسعت عيناها فيما تعمقت زرقتهما و احست بغربة واضحة, قد يكون مصيباً نم الناحية الظاهرية, أنها جائعة بالفعل.
تكهنت منذ البداية أن السهرة ستكون فاشلة, و مع أنها لم تخل من لحظات المرح إلا أن قناعة ليزا ظلت كما هى حتى النهاية, فلما شرعا فى تناول حساء كثيف بالكريما ذى وصفة فرنسية, خف بعض استيائها حين كف عن اغاظتها و سألها:
ـ هل كانت أمك ترسم هنا أم أنها بدأت الرسم بعد استقرارها فى بيرمنغام؟
لم تكتشف ليزا إلا بعد وقت طويل مدى السهولة التى وقعت بها فى الشرك, إذ افترتضت ببراءة أنه يركز اهتمامه على موهبة امها الفنية. قدرت فيه هذا الشعور النبيل فزال خفقان قلبها العصبى و حل مكانه دفء اضاء محياها, ابتسمت بآسى يمازجه عطف و قالت:
ـ اعتقد أنها بدأت قبل مجيئها إلى هنا. أن ولعها بالرسم يلازمها منذ سنوات طويلة- رسم الريف, افراد عائلتها, أى شئ. كان والدى يقول أنها تنوع موضوعاتها كثيراً أما سيلاس فكان ينتقد ضعف لوحاتها حتى جاءت إلى هولوز آند و اقتصر رسمها على المناظر الطبيعية. أنى أعجب بلوحاتها ضمناً مع الاعتراف بأنى ليست ناقدة فنية. معظم انتاجها السابق مخزون فى احدى العليات و هو بحسب رأيها غير قابل للبيع بتاتاً. على أى حال أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقى لتعليقها بـ هولوز آند.
فعلق سيمون بشئ من الاستغراب:
ـ أما تزال تعتقد أنها لا تستطيع الرسم فى مكان آخر؟ قد تكونين مخطئة بشأن انتاجها السابق لأنه إذا استطاع احد الفنانين أن يشتهر إلى احد ما فغالباً ما يتضح فى ما بعد أن لوحاته السابقة ذات قيمة كبيرة.
اجابته و هى تحدق إليه شاردة:
ـ ربما, لكنى اتمنى لو تتخلص من تعلقها برسم الحقول.
ـ قد تكون واهمة فى اعتقادها بأنها لا تستطيع استيحاء الرسم من مكان آخر, ربما هى تميل فى الوقت الحاض إلى التعلق بالماضى و إلى التحسر على الأشياء الكثيرة التى فقدتها, ربما لا تملك الأيمان أو الجرأة لكى تربط أفكارها بالمستقبل.
استمرت ليزا تشخص إليه ثم قالت و نظرتها تزداد يأساً:
ـ قد لا تفعل ذلك ابداً, إلا إذا حصل زلزل و أبقظها!
فابتسم سيمون ليلطف مزاجها المتهاوى إلى حضيض القنوط و قال:
ـ ليس الوضع مأساوياً إلى هذه الدرجة. لا تبتئسى يا ليزا لوسون و إلا انتهى بنا الأمر إلى البكاء. إذا فشلنا فى محاولتنا فلدى بيت ريفى فى جنوب فرنسا سأغريها بالذهاب إليه, و قد تبرهن على أنها اسلس قيادة من ابنتها فى أمور كهذه.
اشاحت بصرها عنه إذ شعرت باستياء غريب, و بلسعة غيرة لا داعى لها بتاتاً. هل سيعيد سيرة سيلاس من جديد فيبذل الغالى و الرخيص من اجل أمها و بدون أى مراعاة لها هى؟ أن تصرفاته لغاية اليوم تثبت صحة هذه النظرية, مع وجود فارق مهم, هو أن تصرفات سيلاس لم تكن تأبه لها فيما يجرحها موقف سيمون فى صميم الصميم!
رفعت رأسها بجهد, و قالت و هى تبتسم له بوهن كيلا يفطن إلى ما يدور فى ذهنها:
ـ طالما تصوورت متعة السكن فى كوخ ريفى, لم أفكر بالطبع فى مكان رائع كجنوب فرنسا لأن مثل هذه البيوت لا يراها المرء المرء إلا فى أحلامه.
ـ ستحبين هذه المنطقة من فرنسا يا ليزا, لأن اشراقها و دفئها سيليقان بك, و قد تتخلصين حتى عن بعض تلك التحفظات التى تنكد حياتك.
ـ أنها لا تنكد حياتى!
كرهت نبرته الساخرة و الهز الذى عاد إلى عينيه الرماديتين, ثم اضافت باحتراس:
ـ من الجائز أنها زرعت فىّ من أجل حمايتى.
ـ لتحميك من ماذا؟
عجزت عن الجواب و حتى عن احتفاظها برباطة جأشها لأكثر من لحظات معدودة. ترددت ثم نظرت بارتباك إلى الشراب المتألق فى كأسها,
لم تقدر أن تتذكر نوعه أنما فى داخلها شك مقلق بأنها احتست منه أكثر مما يجب.
استشف سيمون افكارها فقال يأمرها و قد تضايق من شكوكها:
ـ اشربيه يا حلوتى ليزا, أما إذا كنت تفضلين القهوة فلنتناولها فى قاعة الاستراحة.
ادركت لحظتها أنه يسخر منها و كانت هى نفسها قد فقدت روح المرح.
شعرت فجأة بوجوب الابتعاد عنه و لو لوقت قصير فقالت:
ـ لن أتناول المزيد, لقد تناولت الكثير من السوائل فى بريستول.
فأشار بسرعة إلى عامل المطعم حين رآها تنهض من مكانها ثم قال:
ـ إذن سنتحرك فوراً من هنا.
شعرت أنه متردد فى العودة فقالت معترضة:
ـ لا تنهض, أرجوك, أكمل شؤابك و سأوافيك بعد قليل. كانت توجد فى الماضى بحيرة اصطناعية خلف الفندق و كان القيمون عليها يسمحون لوالدى أن ينزهنى فى القارب و أنا صغيرة. أود أن ألقى عليها نظرة سريعة.
أهداها ابتسامة مثيرة للجنون و قال:
ـ أتقولين هذا بعد حلول الظلام؟ أجلسى يا ليزا و هدئى اعصابك لبينما أتأكد من وجود البحيرة. بعد ذلك سنرى أن كنت تودين زيارتها فى الظلام بدافع الحنين أم بدافع شئ آخر.
ـ سألاقيك عند السيارة بعد عشر دقائق
استدارت بعد ذلك و خرجت من الغرفة مهرولة.
منتديات ليلاس
كانت تعلم أن غضبه سيحمله على اللحاق بها انما لم يخطر لها أنه سيأتى بهذه السرعة.....لقد وجدت البحيرة فى مكانها السابق فوقفت أمامها تتأمل التماع سطحها فى ضوء القمر. كانت نخفية عن الطريق بأجمة أشجار كثيفة و حالما أدارت بصرها عنها رأت نفسها تواجه سيمون الذى جاء خلفها بسرعة.
قال بتمهل و رزانة مع أنه بدا يصارع صبره:
ـ يصعب علىّ أحياناً أن أقارنك بالسكرتيرة الهادئة المتماسكة التى أعرفها.
كان يتأمل وجهها المغمور فى ضوء القمر فيما بقيت عيناه محجوبتين فى ظلمة نسبية و سمعت نفسها تهتف على الرغم عنها:
ـ لست مضطرة أن أكون هادئة و متماسكة باستمرار. على الأقل لا يمكنك القول أنى اخترعت قصة البحيرة.
طوحت يدها فى نصف دائرة ثم صرخت فى وجهه الجامد و هى تنشج قليلاً:
ـ أعرف أنى تحامقت فى الخروج إلى هنا و فى الطريقة التى تصرفت بها أنما فعلت ذلك من دون قصد.
هزا رأسه بتمهل و قال محولاً بصره إلى المياه:
ـ زرت الفندق مرتين من قبل و أعلم بوجود بحيرة. لابد أن حنينك قادك إليها.
ـ و مع ذلك تتكلم بارتياب؟
ـ كنت اتساءل فأنا أعجز أحياناً عن فهمك. كنت اعتزم اصطحابك إلى الشقة لنشرب القهوة, إن شئت.
ـ من أجل ذلك فقط؟
سؤال متهور ينطوى على خطر لكن الكلمات خرجت من شفتيها المرتجفتين قبل أن تتمكن من ايقافها. هناك مزيج من الاثارة و الغضب يدوران فى رأسها.........
تأمل فمها المرتعد و قال :
ـ كلا, من أجل أكثر لكنه غير ما تظنين. لقد رغبت فجأة فى احتضانك و تقبيلك على أمل أن يجعلك ذلك تتخلين عن الكثير نم روادعك و تحفظاتك, لكنك افسدت علىّ خططى المحكمة تلك, إذ اضعنا وقتاً طويلاً فى القرية و تحدثت كثيراً فى المطعم, و الآن تهدرين مزيداً من الوقت أمام بحيرة مهجورة فلا يسعنى بعد هذا التأخير إلا أن اعيدك إلى بيتك.
كان يغيظها و كرهته لأنه يفعل ذلك لكن معنوياتها ارتفعت بشكل غريب. فمن السهل عليها أن تواجهه حين يصفى مزاجه. قررت أن تتجاهل تلميحاته عن الشقة و اجابته بخنوع:
ـ اعتذر عما سببته لك من خيبة.
ـ مادامت السيدة مستعدة للاقرار بمكرها فقد نستطيع انقاذ الوضع بطريقة ما.
ثم سألها و عيناه تضحكان فى الظلام:
ـ قلت أن لك ذكريات سعيدة مع هذه البحيرة؟
ـ لم تكن دائماً دائماً سعيدة, ليس عندما سقطت فيها ذات يوم........
عاد يتأمل امتداد البحيرة و سألها:
ـ و هل هى شديدة العمق و الاتساع ليغرق المرء فيها؟
ـ مساحتها حوالى أثنتى عشر الف متر مربع و عميقة جداً فى بعض الأماكن, أو بالاحرى كانت هكذا فى تلك الأيام. لقد زرع بعضهم أشجار حولها, و كان يحلو لىّ أن أتكئ على حافة القارب و أتأمل ظلالها على سطح الماء حين تحركها الرياح. و ذات يوم انحنيت أكثر من اللزوم و سقطت.
ـ و بدوت وقتها كفأرة مبللة ذات جدائل.
امتدت يده لتقبض على شعرها بقسوة ثم جذب رأسها صوب كتفه و اردف قائلاً:
ـ كبرت و لم تعد لديك جدائل لكن شعرك كثيف و مغر و يناسب ذوقى تماماً.
اتقدت عيناها بامتعاض جامح, انها لا تمانع فى مداعباته انما ليس بهذه الطريقة. حاولت التحرك فجمدها بقبضة آلمتها. هتف و الدموع تلسع عينيها:
ـ لقد نشأت فى بيت خلوق و الطبيعة هى التى انعمت علىّ بهذا الشعر.
تجاهل اعتراضها الواهن و قال باسماً:
ـ لم أر فى حياتى فتاة جاحدة على غرارك, ليكن فى علمك أنى لا أعمال كل سكرتيراتى كما أعاملك.
ضمها إلى صدره, لقد عانقها من قبل و من المفروض أن تعتاد على ذلك, كادت ان تضحك بهستيريا و احست بقلبها يركض بين ضلوعها.
ترددت قليلاً فقال يأمرها بلطف:
ـ أخبرينى, بما كنت تفكرين فى هذه اللحظة؟
ـ لا شئ معين.
بدا أنه لم يقتنع و قال ليعذبها:
ـ ما بك لا تقاومين يا حبيبتى؟ قد تقولين بعد لحظة أنك عاجزة عن مقاومتى و عندها نحرز تقدماً فعلياً.
انفجر رأسها غضباً و مذلة, حاولت الأفلات منه لرغبتها الملحة فى الأنتقام لكن قبضته الحديدية حالت دون ذلك.
قالت باختناق و رعونة:
ـ لا أمانع شخصاً فى أن يعانقنى رجل لكنك تختلف كثيراً عن سائر الرجال!
ـ إذن دعنى اثبت ذلك.
لقد اصبحت تحت رحمته كلياً, و قد أثارت فيه عبارتها شراسة لم يحاول اخفاءها. اعتقل كتفيها من خلال شعرها الكث و لم يأبه لايلامها. ارتعدت و ما عادت قادرة على المقاومة, ضمها فدارت الدنيا حولها ثم اختفت. انهما وحدهما على الأرض و لا تسمع إلا أجراس تقرع فى سكون الليل.
لا رقة فى عناقه أنما عاطفة تخيفها. مع ذلك لم تستطيع منع ذراعيها من الالتفاف حول عنقه. ثم طفحت عيناها بالدموع, و هنا لمس ابتلالها فابتعد عنها بحركة تلقائية هاتفاً بصوت أجش:
ـ ليزا, لم أقصد أن أخيفك, فاستفزازك لىّ ليس تبريراً عادلاً لتصرفى. الحقيقة أنى أكبر منك سناً و أنت تحتاجين وقتاً أطول لتنضجى.
صعب عليها أن تفهم إذ اختلطت كلماته بخفقات قلبها. حاولت جاهدة أن تستجمع شتات ذهنها. لقد تكلم بتوتر أنما بنبرة هادئة. مع ذلك لم تفهم قصده.
ابتسمت له بارتجاف و قالت برقة:
ـ أرجوك, لا تعتذر. أحسب أنى فقدت اعصابى بسبب الارهاق. ما كان يجب أن آتى إلى هنا من الأساس.
ادارها صوبة بسرعة ثم قال بإيجاز:
ـ كان نهاراً شاقاً و من الطبيعى أن ترهقى, سآخذك إلى البيت.
مشت إلى جانبه بتعثر و غمغمت كالبلهاء:
ـ يؤسفنى أن تشعر بالخيبة.
امسك مرفقها ليسندها فى الظلام و قال:
ـ لا داعى للاعتذار يا فتاتى.
فى السابق, و كلما احتواها بين ذراعيه, كانت تحاول اقناع نفسها بأنها تكرهه, أما هذه المرة فقد اتضح لها العكس. كان يجب أن تستشف الحقيقة من خلال دموعها و خفقات قلبها المجنونة التى بدأت تضنيها منذ وقت طويل. لقد وقعت فى حب سيمون ردفورد. لا مفر لها من مواجهة هذا الواقع انما احست بذهنها يتلبد من هول الصدمة. لو أنها تركت الشركة لدى وصوله لم حدث أى شئ من هذا, لا ريب أنها سوف تمنى بتعاسة مجنونة لأن سيمون لن يبادلها حبها ابداً......من الحمق أن تأمل بمعجزة كهذه.....قد يكون منجذباً إليها بشكل ما لكنه سوف يتسلى بها لفترة ثم يتزوج فتاة مثل لورا تنسون, لأن الرجال على غرار سيمون لا يسمحون لعواطفهم بأن تتحكم بهم فهم يعرفون طريقهم جيداً و لا يحيدون أبداً عن اهدافهم.
إذا كان هذا الاكتشاف قد أحدث لها صدمة فأن ظهور لورا تنسون فى ردهة الفندق اصابها بصدمة أكبر, و لا سيما أن سيمون بدا مسروراً لرؤيتها و قد عزز ابتهاجه بابتسامة عريضة كانت بمثابة الضربة القاصمة لعواطفها.
قال لـ لورا بغموض استعصى على فهم ليزا:
ـ بدأت اعتاد على ظهورك المفاجئ.
ثم اردف و هو يدفع بـ ليزا إلى الأمام:
ـ أنت تعرفين ابنة خالى طبعاً؟
التفتت إليها لورا بلا اكتراث و قالت بتقطيب خفيف:
ـ أجل هل كنتما تعملان؟
اوحت نبرتها أن العمل هو السبب الوحيد لوجودهما معاً, و سارع سيمون إلى التوضيح:
ـ كنا فى بريستول و قد توقفتا هنا لتناول العشاء.
ـ لماذا هنا بالتحديد؟
ارتفعا حاجبا سيمون و قال:
ـ أين الغرابة فى ذلك يا عزيزتى لورا؟ انما اشباعاً لفضولك اعلمك أن والد ليزا كان يشغل مركزاً دينياً هنا.
فواجهت لورا عينيه الساخرتين بقولها :
ـ و هكذا فكرت أن تقوم بهذه البادرة اللطيفة. اعتقد أنه يمت إليك بصلة قرابة؟
الحاح لورا, سواء كان مقصوداً أم لم يكن, أثار فى ليزا غضباً لجوجاً فتدخلت بسرعة لترد عن سيمون:
ـ كنا عائدين إلى البيت فى الواقع.
ثم استغربت أن يشدد قبضته على ذراعها كأنه يحميها, و أن يقول بحزم:
ـ ليزا متعبة, سوف نتوجه عائدين بعد أن آتى لها بشراب.
ـ ولىّ ايضاً يا حبيبى سيمون أن كنت لا تمانع.
ثم ابتسمت بجاذبية و اجابت بما بدا لـ ليزا تخابثاً مقصوداً ـ أن كانت ليزا متعبة فلِمَ لا يوصلها سائقى بالنيابة عنك؟ كنت ازور اقارب لىّ فى المنطقة – زيارة واجب لشخصين مسنين – و شعرت برغبة فى أكمال السهرة هنا. أنى ازور الفندق احياناً على أمل الالتقاء بأناس اعرفهم و ها انذا احظى برؤيتكما هذا المساء.
بوسع لورا تنسون, عندما تريد, أن تطغى بسحرها على الآخرين و إلى حد أزال شكوك ليزا بالنسبة إلى ظهورها المفاجئ فى الفندق. اضافة إلى ذلك لا يعقل أن تكون اخترعت ذلك التبرير إذ لم يكن بوسعها أن تعرف مكان تواجد سيمون, لكن خطة لورا للتخلص منها واضحة كعين الشمس مما اعجز ليزا عن كبت ابتسامة خفيفة. قد لا تلام لورا وحدها على اتباع هذه الأساليب إذ يبدو أن تأثير سيمون المدمر يدفعهما معاً إلى الاصطراع على قلبه. أفلم تلجأ هى ايضاً إلى اساليب مماثلة؟ قد تكون ليزا بحاجة فعلية إلى هذا الدرس الأخير........أن ترى فى سيئات لورا انعكاساً قاتماً لسيئاتها هى.
بعد ذلك لم تدر ليزا هل كان عليها أن تغتاظ أو تبتهج لكون غريمتها فشلت فى محاولاتها الوقحة لاقناع سيمون بترحيلها مع السائق. كانت احاسيسها المنجرحة تحثها على الانصراف بهدوء إلا أن سيمون أصر على بقائها و أجلسها على مقعد وثير قبل أن يطلب الشراب. بعد ذلك طلب إلى السائق أن يرجع بمفرده ثم أوصلهما بنفسه إلى بيرمنغام .
لكن ليزا شعرت بخيبة حين اخذها إلى البيت رأساً. ولما هبطت من السيارة ركز بصره على وجهها الشاحب و قال:
ـ لقد تعبت هذا النهار و خير لك أن تنامى باكراً.
وقفت على الدرج تراقب رحيلهما و على شفتيها ابتسامة حزينة. بدا واضحاً أنه يعتزم اكمال السهرة مع لورا هذه الفكرة لم تخفف شيئاً من ألم قلبها بالغم من العطف الذى ابداه نحوها. أن لورا تنسون ستنتصر عليها فى كل مرة. و النظرة الشامتة على محياها الجميل تدل على قناعتها بأنها تملك كل الاسلحة اللازمة للانتصار.
منتديات ليلاســــــــــــــــــ