كاتب الموضوع :
مسلوب الإرادة
المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
رد: رواية لأنني أحبك
2
المختفية
" إننا لا نشعر ، في أي يوم من أيام حياتنا ، بأننا غير محصنين ضد الألم إلى هذا الحد إلا عندما نحب " .
فرويد
بروكلين ، في الضفة الأخرى من النهر ، في الرفاهية الناعمة لمنزل صغير من العصر الفيكتوري ، مزخرف بأبراج صغيرة و ميازيب …
نار مظطرمة تطقطق داخل المدفأة ، كان مارك هاثواي ممدداً على كنبة الصالون ، يلف غطاءاً سميكاً حول ساقيه ، كان لا يزال في غيبوبة ، وكانت الدكتورة سوزان كينغستون تنحني فوق كتفه موشكة على الانتهاء من تقطيب جرحه .
_ جرح سطحي ، أوضحت لنيكول وهي تنتزع قفازيها ، إن ما يقلقني هو صحة مارك العامة على الأرجح ، لديه التهاب حاد في الشعب الهوائية ، و جسده مغطى بالأورام الدموية و التشققات .
حينما تلقت سوزان مكالمة من جارتها نيكول هاثواي ترجو منها المجيء للاعتناء بزوجها الجريح ، كانت تتذوق بودنغ عيد الميلاد وسط أفراد عائلتها ، ولم يكن قد مضى وقت طويل منذ بداية الأمسية العائلية .
على الرغم من دهشتها ، لم تتردد ثانية واحدة في تلبية النداء ، فقد كانا ، زوجها وهي ، يعرفان حق المعرفة مارك ونيكول ، كانت العائلتان على وئام قبل وقوع الحادث المأساوي قبل خمس سنوات ، و غالباً ما كانتا تخرجان معاً لتجربان المطاعم الإيطالية لحي بارك سلوب ، واحداً تلو الآخر ، هازئتين من تجار الأثريات في بروكلين هايت ، وفي نهاية الأسبوع تركضان على مروج بروسبكت بارك الفسيحة .
ذلك الزمن يبدو بعيداً اليوم ، غير واقعي تقريباً .
وبينما تثبت عينيها على مارك ، لم تستطع سوزان أن تقي نفسها الشعور الرهيب بالتورط .
_ هل كنت تعرفين أنه يعيش في الشارع ؟
أومأت نيكول برأسها ، عاجزة عن الكلام .
ذات صباح ، منذ عامين ، أخبرها زوجها أنه سيغادر ، لأنه لم يعد قادراً على العيش (( هكذا )) ، ولأنه لم تعد لديه الطاقة لذلك ، حتى ذلك الوقت ، كانت قد فعلت كل شيء من أجل الاحتفاظ به ، لكن أحياناً ما يكون كل شيء غير كافٍ ، ومنذ ذلك الحين لم تعد تصلها أي أخبارٍ عنه .
_ أعطيته جرعة من المهدئات و كذلك مضادات حيوية ، أوضحت سوسن وهي تحزم أغراضها .
رافقتها نيكول إلى الباب .
_ سأمر غدا صباحاً ، وعدت سوسن ، لكن …
توقفت في وسط الجملة ، مستحية و مرعوبة في الآن ذاته مما كانت ستتفوه به :
_ …… لا تدعيه يغادر في هذه الحالة ، أتمت كلامها ، وإلا … سيموت فيها .
*************************
_ إذاً ؟
_إذا ماذا ؟
_ ماذا سنفعل بزوجك ؟ سأل إيريك .
كان المحامي يذرع المطبخ جيئة وذهابا وكأس من الويسكي في يده .
نظرت نيكول إليه بمزيج من الإجهاد والنفور ، ماذا كانت تعمل مع هذا الرجل منذ ما يقارب العام ؟ كيف حدث أن تركته يدخل حياتها ؟ و لماذا تعلقت به ؟
_ إذا سمحت ، غادر ، تمتمت .
هز إيريك رأسه .
_ لا يخطر ببالي أن أتخلى عنك في لحظة كهذه .
_ عندما كانت السكين في حلقي ، لم يعقك ذلك عن التخلي عني !
جمد في مكانه و أعوزته بضع ثوان قبل أن يحاول التبرير :
_ لكن لم يكن لدي الوقت ل… لم يتسن له إتمام جملته
_ اذهب كررت ببساطة .
_ لو كان هذا بالفعل ما تريدنه … لكنني سأتصل بك غداً ، أضاف قبل أن يغرب عن وجهها .
وقد تخلصت منه انتاب نيكول شعور بالارتياح ، فعادت إلى داخل الصالون ، أطفأت كل الأضواء ، ومن دون أن تثير أدنى ضجة ، دنت من إحدى الكنبات كي تكون قريبة من مارك .
كانت الحجرة التي لم يعد يضيئها سوى الوميض البرتقالي لجمر المدفأة تسبح في جو هاديء الآن .
منهكة وتائهة ، وضعت يدها على يد زوجها و أغمضت عينيها ، لطالما عرفا أوقاتاً سعيدة في هذا المنزل ! ابتهجا إلى حد الجنون في اليوم الذي عثرا عليه ، كان واحدا من تلك المنازل التي شيدت في نهاية القرن التاسع عشر ، بواجهته من الأحجار السمراء و الحديقة الرئعة ، ولقد مرت عشر سنوات منذ شرائهما إياه ، بالتحديد قبل ميلاد طفلتهما التي أرادا لها أن تنشأ بعيداً عن جنون مانهاتن ، على رفوف المكتبة ، كانت بضعة صور مؤطرة تذكر بالأيام سعيدة ، في البدء ، بنظرات متواطئة و حركات ولهى ، رجل و امرأة واليد في اليد ، إجازات رومانسية في هاواي و اجتياز جسور ، بالدراجة النارية ، لجراند كانيون ، ثم صورة إيكوغرافية لطفل في الرحم ، وبعد بضعة أشهر ، صورة لوليد ذي وجه دائري ، يحتفل بأول عيد رأس سنة ، على النسخ الأخيرة ، الوليد و قد صار فتاة صغيرة خسرت أسنانها الأولى ، وهاهي ذي تضع الطعام أمام زرافات حديقة برونكس ، و تعيد ضبط قبعتها تحت سحب مونتانا وتعرض على عدسة الكاميرا سمكتيها - المهرجتين ، إرنيستو و كابوتشينو ، كانت الروائح العطرة للأيام السعيدة قد اختفت للأبد …
عطس مارك في نومه ، فسرت في جسد نيكول قشعريرة ، لم يعد الرجل الذي ينام على الكنبة يمت بصلة إلى ذلك الذي تزوجته ، وحدها الشهادات الجامعية و التكريمات التي تغطي الجدار مثل الغنائم تشهد أن مارك كان ذات يوم عالم نفس شاب و شهير ، فقد جرت العادة أن تقوم الوكالة الفيدرالية للملاحة الجوية ووكالة الأمن القومي باستدعائه عند وقوع كوارث جوية أو اختطاف رهـائن وذلك باعتباره متخصصاً في ردود الفعل الارتكاسية ، وعقب 11 أيلول / سبتمبر، شارك في وحدة علم النفس التي أنشئت بهدف متابعة عائلات الضحايا وموظفي برج التجارة العالمي ممن نجوا من الكارثة ، وذلك أن المرء لا يخرج متعافيا من مأساة كهذه ، بل يظل جزء منه على الدوام حبيس الصرخات و النيران و الدم ، وربما تكون أنت قد نجوت من الموت ، بيد أنك تستم في الشعور بأنك تلوثت ، يتآكلك الشعور بالإثم ، و يلتهمك الضيق الأصم ، و يجتازك السؤال الهائل الذي لن يعرف إجابة أبداً : لماذا نجوت أنت وليس الآخرون ؟ أنت وليس ابنك ، زوجتك ، أبواك …
قبل ذلك ، بالتوازي مع عمله كعالم نفس ، نشر مارك تجاربه في مجلات علمية تصدر بطبعات كبيرة ، و ألزم نفسه في هذه المقالات بأن يقوم بالتعريف بطرائق العلاج الجديدة - أدى الدور ، التنويم المغناطيسي …- التي كان يشتغل عليها رائداً مع شريكه و صديق طفولته كونور ماك كوي ، وشيئاً فشيئاً صار مارك عالم نفس رائج يشاهد على شاشات التلفزة ، ولقد دفعت هذه الشهرة المفاجئة بهما ، هو ونيكول ، إلى صدارة المشهد الإعلامي ، ففي عددها للثنائيات الأكثر شعبية في نيويورك ، كرس لهما اللامع فانيتي فاير مقالة من أربع صفحات مع صور رائعة لتأييد ما ذهب إليه ، وذلك نوع من التبجيل .
لكن حكايةالجنيات هذه على الورق الصقيل تطايرت في شظايا من اليوم إلى الغد ، ففي عصر أحد أيام آذار / مارس، اختفت ابنتهما الصغيرة ليلى ، ذات السنوات الخمس داخل مركز أورونج كاونتي التجاري في جنوب لوس أجلوس ، وكانت آخر مرة شوهدت فيها بينما تحدق في الألعاب أمام واجهة ديزني ستور ، وكانت حاضنتها الشابة ، أسترالية مقيمة ، قد تركتها بمفردها لبضع دقائق ، بما يكفي بالضبط كي تجرب بنطال جينز مدفوع الثمن في محل دييزل المجاور …
كم مر من الوقت قبل أن تلحظ اختفاءها ؟ « ليس أكثر من خمس دقائق » هكذا أكدت الحاضنة للمحققين ، وهذا وقت طويل ، فكثير من الأشياء يمكن أن تحصل في خمس دقائق ، إن الساعات الأولى التي تلي اختفاء طفل هي ساعات حاسمة ، ذلك ما نعرفه من التجربة ، فخلالها يكون هنالك حظ أكبر في العثور عليه حياً ، لكن هذه الاحتمالات تنخفض على نحو خطير بعد مضي ثمانية و أربعين ساعة .
كانت تمطر بغزارة خلال 23آذار / مارس ذاك ، وفي حين حدث الاختفاء في وضح النهار وفي مكان يغص بالناس ، وجد المحققون صعوبة في قطف شهادات موثوقة ، ولم تفض الاستفادة من ذلك إفادات الحاضنة ، المتهمة بالتقصير في المراقبة ، لكن ليس باختطاف طفلة .
في الأثناء ، تتالت الأيام …
خلال أسابيع ، مشط أكثر من مائة رجل بوليس ، تساندهم الكلاب المدربة و المروحيات ، المنطقة بالتفصيل ، لكن لم يتم العثور على أي أثر ملموس يتيح تحديد مكان وجود الصبية .
… ثم الأشهر …
ضلل غياب الأدلة البوليس ، كما لم يتصل أحداً طالباً الفدية ، ولم يبن أي سبيل موثوق ، لا شيء …
… والسنوات …
كانت صور ليلى لا تزال منذ خمس سنوات معلقة في المحطات و المطارات و مكاتب التوظيف ، إلى جوار صور أطفال آخرين اختفوا .
لكن ليلى لم تظهر .
تبخرت .
بالنسبة إلى مارك ، توقفت الحياة 23آذار / مارس 2002
باختفاء ابنته غرق في ضيق مطلق ، وتحت تأثير الزلزال الداخلي من الألم و الذنب انقطع عن مهنته وزوجته وصديقه .
خلال الأشهر الأولى ، جند أفضل المخبرين السريين ليقوموا بالبحث مجدداً في أدق التفاصيل ، لكن دونما نتيجة ، والحال كذلك ، ارتمى هو نفسه في استقصاءات عبثية ، استمر البحث المنذور للفشل ثلاث سنوات ، بعدها اختفى مارك بدوره ، من دون أن يترك أي خبر ، لا لزوجته ، ولا لصديقه كونور ، لم تعرف نيكول انحرافاً مماثلاً ، في البدء ، ضاعف من قنوطها شعور خاص بالذنب : كانت هي من ألحت على ليلى كي ترافقها إلى لوس أنجلوس ، حيث كانت تقدم سلسلة من الحفلات الفنية ، كما كانت هي أيضاً من جند الحاضنة التي تسبب تقصيرها في حدوث المأساة ، ولمواجهة الأسوأ ، لم تجد استعراضاً آخر غير مضاعفة النشاط ، فراحت تنظم الحفلات الموسيقية و التسجيلات ، موافقة حتى على استدعاء مأساتها على الصحف أو في التلفزيون ، كضحية راضية بالفرجة غير السوية ، مع ذلك لم تمر بضعة أيام حتى صار الألم لا يحتمل ، وحينما لم تعد نيكول قادرةً على مقاتلةً أفكارها المرضية ، استأجرت غرفة في فندق ولزمت مرقدها تحت الأغطية كما لو كانت في حالة سبات شتوي ، على المرء أن يبقى على قيد الحياة بقدر ما يستطيع …
*****************************
فجأة ، فرقعت حطبة داخل المدفأة ، فبدرت عن مارك حركة مفاجئة فتح معها عينيه ، هب جذعه منتصباً بعنف ولثوانٍ راح يتسأل عن المكان الذي يوجد فيه و عما حصل له ، بينما ينظر في وجه نيكول ، عاد وعيه إليه ببطء
_ هل جرحتِ ؟ سأل امرأته .
_ لا ، بفضلك .
للحظة ، بدا كما لو أنه عاود السقوط في وهنه قبل أن ينهض بوثبة واحدة .
_ ابقَ مضطجعاً أرجوك ، أنت بحاجة إلى الراحة !
كما لو لم يكن يسمعها ، تقدم بضع خطوات نحو الواجهة الزجاجية ، خلف الحاجز الزجاجي ، كان الشارع يتلألأ ناصعاً وساكناً
_ أين ملابسي ؟
_ رميتها ، كانت متسخة يا مارك .
_ وكلبي ؟
_ أتيتٌ به هنا معك ، لكن … هرب .
_ سأغادر ، صرخ وهو يتقدم مترنحاً باتجاه الباب .
اعترضت طريقه بهدف إعاقته عن التقدم .
_ اسمع ، الوقت ليل و أنت مجروح ومنهك … لم نر بعضنا منذ عامين ، ينبغي أن نتحدث ،
مدت ذراعيها ناحيته ، لكنه دفعها ، تشبثت به ، فراح يتخبط مصطدماً في طريقه بالأرفف ، سقط إطار على الأرض مصدراً ضوضاء زجاج يتحطم ، التقطه مارك وأعاده مكانه ، انزلقت نظرته على صورة ابنته ، بعينين خضراوين ضاحكتين وبابتسامة على الشفتين ، كانت تلهم السعادة و بهجة الحياة .
حينئذٍ ، تحطم شيء ما في أعماقه و انخرط في النشيج بينما يسند ظهره إلى الحائط ، بدورها تكورت نيكول على صدره ليبقيا هكذا وقتاً طويلاً ، خائرين في أحضان بعضهما ، يكابد كل منهما الضيق نفسه ، بشرة رقيقة إزاء بشرة خشنة ، الرائحة النفاذة لعطر جيرلين تختلط بنتانة أولئك الذين يحيون في الشارع .
************************************************************ ****************
أمسكت نيكول يد زوجها وقادته باتجاه صالة الحمام وفتحت له رشاش الدش قبل أن تتوارى ، ثمل بالرائحة المسكرة للشامبو ، بقي مارك ما يقارب النصف ساعة تحت وابل المنزلي الكاوي والمجدد للنشاط ، كان الماء لا يزال يقطر من جسده حينما تدثر بمنشفة كبيرة و خرج إلى الرواق مخلفاً وراءه مع ذلك غدراناً صغيرة من الماء على الأرضية الملمعة ، فتح خزانة ملابسه فتأكد له أن أثوابه لا تزال في مكانها ، لم يلق أي نظرة على بدلاته القديمة التي تحمل ماركة أرماني و بوس و زيجنا ، بقايا حياة لم تعد حياته … مكتفياً فقط بارتداء كالسون و بنطال جينز من كتان سميك وقميص بأكمام طويلة و كنزة واسعة .
نزل السلم كي يلتحق بنيكول في المطبخ ؛ الذي هو مزيج من الخشب و الزجاج و المعدن ، بحيث يبدو شفافاً ، وكان سطح أفقي فسيح بخطوط انسيابية يمتد على طول الجدار ، بينما جزيرة مركزية جيدة التجهيز تدعو إلى الشروع في الطهي ، قبل ذلك بسنوات ، كانت هذه الحجرة تردد أصداء البيئة المرحة لوجبات الإفطار العائلية ، لتصبيرات الفطائر ، ولوجبات العشاء الغرامية ، لكن منذ وقت طويل لم يٌعِد أحد وجباته هنا بالفعل .
_ أعددت لأجلك عجة البيض و شرائح من الخبز المحمص ، صرحت نيكول فيما تصب القهوة في قدح ، القهوة يتصاعد منها البخار .
ما إن جلس مارك أمام طبقه حتى نهض في الحال تقريباً و قد بدأت يداه في الارتعاش ، كان يجب عليه أن يشرب بعض الكحول قبل أن يلمس طعامه .
تحت نظرات نيكول المندهشة ، فتح بتهيج أول قنينة نبيذ وقعت في يده وأفرغ نصفها في جرعتين طويلتين ، وقد هدأ مؤقتاً … تناول وجبته ملتزماً الصمت إلى أن تجرأت نيكول فسألته أخيراً :
_ أين كنت يا مارك ؟
_ في صالة الحمام ، أجابها من دون أن ينظر إليها .
_ لا ، أين كنت خلال هذين العامين ؟
_ في الأسفل .
_ في الأسفل ؟
_ داخل أنفلق المترو ، في البالوعات ، في أنابيب القنوات ، مع المشردين .
والدموع في مآقيها ، هزت زوجته رأسها لعدم الفهم .
_ لكن لماذا ؟
_ أنت تعرفين لماذا ؟ ، قال رافعاً صوته .
اقتربت نيكول منه كي تمسك بيده .
_ لكن لديك زوجة يا مارك ، مهنة و أصدقاء ……
سحب يده ناهضاً عن الطاولة .
_ دعيني بسلام !
_ وضح لي أمراً ، صرخت كي تستبقيه ، ما الذي حملك على العيش متشرداً ؟
نظر إليها بحدة .
_ أحياناً هكذا لأنني لا أستطيع أن أحيا بطريقة أخرى ، أنت تستطيعين ، أما أنا فلا ...
_ لا تحاول أن تشعرني بالذنب يا مارك .
_ أنا لا ألومك على شيء ، أعيدي بناء حياتك ، إذا كان هذا يلائمك ، أما أنا ، فإن الألم هو ما لا أستطيع أن أتجاوزه .
_ أنت عالم نفس يا مارك ، ساعدت الناس على تجاوز كل نوع من أنواع المصائب .
_ هذا الألم ، لا أريد أن أتجاوزه ، بما أنه الشيء الوحيد الذي يبقيني على قيد الحياة ، إنه كل ما بقي لي منها ، هل تفهمين ؟ لا تمر دقيقة واحدة من دون أن أفكر بها ، من دون أن أسأل نفسي حول ما يمكن أن يكون قد فعله خاطفها بها ، هذا من دون أن أسأل نفسي أين يمكنها أن تكون بالضبط في هذه اللحظة .
_ لقد ماتت يا مارك ، تخلت عن نيكول ببرود .
كان ذلك يفوق طاقة مارك على التحمل ، فرفع يده باتجاهها ، وأمسك بعنقها كما لو كان سيخنقها.
_ كيف يتسنى لك أن تتلفظي بشيء كهذا ؟
_ مضت خمس سنوات يا مارك ! صرخت وهي تخلص نفسها .
خمس سنوات من دون أدنى دليل ، خمس سنوات من دون أي طلب لفدية !
_ يظل هناك حظ دائماً …
_ كلا ، يا مارك ، هذا الأمر انتهى ، لم يعد هنالك أي أمل للتشبث به ، لن تعاود الظهور بين ظهيرة وضحاها ، هذا لا يحصل أبداً ، أتفهم ، أبداً !
_ اخرسي !
_ إذا تم العثور على شيء فسيكون جثمانها ، لا شيء أكثر .
_ لا !
_ بلى ! ولا تعتقد أنك الوحيد الذي سيتألم لذلك ، ماذا يجب علي أن أقول ، أنا التي ، علاوة على البنت ، فقدت زوجاً أيضاً ؟
من دون أن يجيب ، خرج مارك من المطبخ مهرولاً ، لحقت به نيكول وقد قررت تهاجمه داخل معقله الأخير :
_ ألم تفكر قط أن بوسعنا امتلاك أطفال آخرين ؟ ألم تقل لنفسك قط أن الحياة يمكنها أن تتخلق من جديد داخل هذا المنزل ؟
_ قبل أن يكون لدينا أطفال آخرون ، أريد أن أستعيد ابنتي .
_ دعني أتصل بكونور ، منذ عامين و هو يبحث عنك في كل مكان ، بمقدوره مساعدتك على الكف عن الاستسلام للانحدار .
_ لا أريد أن أكف عن الانحدار ، ابنتي تتألم و أريد أن أتألم معها .
_ إذا كنت ستثابر على الحياة في العراء ، ستموت ! هل هذا ما تريده ؟ إذاً ، اذهب ! أطلق على نفسك رصاصة في الرأس .
_ لا أريد أن أموت ، لأنني أريد أن أكون هنا في اليوم الذي سيجدونها فيه .
كانت نيكول بحاجة للمساعدة ، أخذت هاتفها النقال و أدخلت رقم كونور .
ارفع السماعة يا كونور ، ارفع السماعة !
في مكان ما من الليل ، ترددت بضع رنات في الفراغ ، أدركت نيكول أن كونور لن يرد و أنها خسرت المعركة ، إذ بمفردها لم يكن بوسعها أن تتوصل إلى استعادة زوجها .
في الصالون، اضطجع مارك على الكنبة و نام بضع ساعات إضافية .
نهض مع بزوغ النهار ، والتقط حقيبة رياضية من داخل خزانة الملابس كي يضع داخلها غطاء و سترة و علب بسكويت ، وبضع قنان من الكحول .
توجت نيكول هذه العدة بهاتف محمول و بطارية و شاحن .
_ إما أن تقرر إجراء مكالمة مع كونور أو أسعى أنا للإنضمام إليك …
عندما دفع مارك باب المنزل كان الثلج قد توقف و كانت أضواء النهار الاولى تلون المدينة بانعكاسات زرقاء .
بمجرد أن وضع قدمه على المعطف الثلجي ، كما لو بفعل السحر ، ظهر اللابرادور الأسود من وراء صندوق قمامة تاركاً نباحاً يفلت منه ، فرك له مارك رأسه علامة على العرفان ، نفخ داخل يديه ليمنحهما بعض الدفء قبل أن يضع حقيبته على كتفه و يسير باتجاه بروكلين بريدج .
من على عتبة الباب نظرت نيكول إلى رجل حياتها وهو يبتعد في الصباح ، حينئذٍ ، تسمرت وسط الشارع ورفعت صوتها بالصراخ :
_ إنني بحاجة إليك !
مثل ملاكم مترنح استدار مارك على مسافة عشرات الأمتار أمامها ، بحركة عريضة ، باعدما بين يديه كما لو ليعرب لها عن أسفه .
ثم اختفى في ركن الشارع .
|