السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل الثالث
المدخل للشاعر أحمد مطر
وضعوني في إنـاءْ
ثُمّ قالوا لي : تأقلَـمْ
وأنا لَستُ بماءْ
أنا من طينِ السّمـاءْ
وإذا ضـاقَ إنائـي بنمـوّي
..يتحطّمْ !
**
خَيَّروني
بَيْنَ مَوتٍ وَبَقاءْ
بينَ أن أرقُـصَ فوقَ الحَبْلِ
أو أرقُصَ تحتَ الحبلِ
فاخترتُ البقـاءْ
قُلتُ : أُعـدَمْ.
فاخنقـوا بالحبلِ صوتَ الَببَّغـاءْ
وأمِـدّوني بصمـتٍ أَبَـديٍّ يتكلّمْ !
توالت الأيام والسنين على العائلة الصغيرة دون علم أحد, لاحظ أهل القرية انشغال حمزة الدائم, كانوا يصرون عليه أن يلقي الخطب, أن يحضر الحفلات, أن يعود كما كان .. مما أشعر حمزة بالضغط من جميع الجهات .
كانت الأمور تخرج عن السيطرة بالنسبة لحمزة الذي بات يراقب خولة تكبر أمام عينيه وتتوسع أفاقها, كان يخشى كثيراً ذكاؤها الذي لا يناسب عمرها والذي افترض أنه عشرة أعوام ..
سألت خولة بفضول : أبي, هناك أطفال بالخارج, وأنا طفلة ؟
لم يفهم حمزة ما تقصد, لكن فكرة أنها رأت أطفال اربكته : ما فهمت, شافوك الأطفال ؟؟!
خولة بشك : بغض النظر عن سؤالك. أنا طفلة أيضاً لكنني لست في الخارج, لما لا أخرج معهم ؟
ابتسم حمزة بربكة, مهما حاول الكذب سيكون مكشوفاً أمامها : بيأذونك, أنا أحاول أحميك
جلست خولة أسفل قدميه محاولة لاستعطافه : هيّا, أنت تعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك, أريد أن أخرج, مللت وجودي هنا !
كانت هذه المرة المائة التي تسأله خولة هذا الطلب, لا جدوى من التأجيل, ربما هذا هو الوقت المناسب, فكّر حمزة في أهل القرية وردة فعلهم عندما يرون ابنته معه : طيب, بكره فيه احتفال بالمواليد الجدد, كل أهل القرية بيطلعون من بيوتهم
قفزت خولة بحماس : رائع, سأوقظك عند شروق الشمس إذاً
أمسك حمزة ذراعها بتعب : اجلسي, وين أمك ؟
اردفت : لا أعلم, قالت أنها تريد شيء ما يتعلق بالزين
عقدت حاجباها وهي تتمتم بحيرة : دائماً تقول أنها تريد الزين
استرسلت : أبي, ما هو الزين؟ ولماذا تريده أمي بشدة ؟!
صخب حمزة بضحكته حتى بانت نواجذه, كان يعلم بأن زوجته تقول "الزين" أي الحلي التي تحضرها امرأة القاسم في آخر الحي : أنا ما أعرفه بعد
بعد مرور ساعات
استيقظ حمزة على ضجيج مروه : هااا ما بك ؟
مروه بسخرية : ما بك ؟ صرت مثلها !
استرسلت مغتاظة : خولة وش فيها ؟
فزّ حمزة من فراشه : صار لها شيء !!
أجابت : لا, بس قاعده تكلم نفسها وتبي تلبس, تبي تطلعها للناس ؟!
حمزة بتوتر, هو يعلم رفض مروه لخروج خولة من المنزل : ايه
مروه بنظرة غريبة : طيب
كانت خولة تبحلق في السماء, تنتظر أول خيوط الشمس.
كانت السعادة تشق طريقها في قلبها الصغير, شعرت بأن هذا اليوم قد يكون بذرة خير لها وأنها ستعلم ماهيتها أخيراً, تود الاقتراب من الأشخاص وتفحصهم, أشخاص ليسوا حمزة ومروة
بعد التفكير المرهق شعرت خولة بأن السماء بدت أكثر حميمية وأن النجوم قد ودّعتها, صرخت بفرحة : أبي, الشمس الشمس, لنخرج بسرعة !!!!
حمزة الذي كان في الخارج يترقب الآذان, سمع أصوات لم يميزها, تجاهلها في البداية لكنه اقترب من الصوت ليدرك بأنها خولة !
ركض حمزة بسرعة لا تتماشى مع كبر سنه, كان يخشى بأن مكروهاً قد أصابها
عدت خولة إلى حجره وهي تصرخ حتّى بحّ صوتها : لنخرج لنخرج
أمسك حمزة صدره حتى كاد يشعر بقلبه يقفز من الخوف, اردف بقليل من العتاب : خوفتيني, أنا كبرت ما عاد اقدر على الخوف
خولة ببراءة : أنت لا تكبر, أنت أبي !
دلفوا إلى المنزل, أيقظ حمزة زوجته التي كانت مزعجة بشخيرها, أدّى حمزة الصلاة ليلتفت إلى خولة التي كانت تسرع في الركوع والسجود .. عندما انتهت خلعت الرداء لتردف : هيّا بنا
حمزة بهدوء : صلي بشويش بعدين بنروح
خولة برجاء : لقد صليت, أرجوك أبي أشعر بالاختناق, لنخرج
حمزة بصرامة : اختناق بسبب الصلاة اللي صليتيها, صلي بشويش
أعادت خولة الصلاة أمام نظرات حمزة الحادة ووجه مروه الناعس
كانت مروه تلف الخمار حول رأس خولة الصغير حتّى بدت كقطعة حلوى سمراء, شعر حمزة بالغيرة على طفلته الصغيرة : مروه نزلي الخمار على وجهها أكثر
اردفت مروه بتعجب : أكثر من كذا ؟! بتطيح البنيّه
أطرق حمزة برأسه وعلامات التهكم قد شقت سبيلها إلى ملامحه, خولة بهمس لمروه : أمي, أنزلي الخمار يبدو والدي غاضباً !
طبطبت مروه على رأسها وابتعدت عنها وهي ترتدي خمار طويل تجره خلف ظهرها, لحقت بها خولة وهي تحسب الثواني التي تفصل بينها وبين التعثر
كان حمزة يسير بخطوات واسعة وخلفه مروه التي لم تترك حجراً إلا واصطدمت به وتعثرت, وفي الأخير خولة التي لم تمنع عيناها الصغيرتان من الدهشة, بدت الأشجار التي تتحلق حولها مغرية للتسلّق, والعصافير أطربتها بتغريدها الشجي, شعرت بأن الأحلام قريبة , قريبة جداً !
التفت حمزة إلى خولة لتبتسم له بحماس, ابتسم بهدوء وهي يدعو في داخله "يا رب امنعني إن كان في الأمر شر لي ولعائلتي"
كان يراقب محيطه باحثاً عن إشارة قدرية تعيده إلى المنزل, كان يخطو وعقله يرفض بقسوة خروج خولة لأهل القرية, لكن فرحتها أمامه الآن أزالت الخوف, تستحق أن ترى وأن تعيش ..
أمسكت مروه كتفه, شعرت بتردده, ابتسم حمزة برضا وتمتم : وهذي إشارة قدر على الإقدام
مروه باستغراب : ايش ؟ إشارة ايش ؟
ضحك حمزة : ولا شيء
كانت لا تسمع أحاديثهما, كانت تعيش اللحظة بحذافيرها, تشعر .. بالحرية
فجأة
كانت هناك مجموعة أطفال تعدو باتجاه خولة, حمزة بهلع سحبها ناحيته وصرخ غاضباً : لا تقربون منها
لكن الأطفال كما يبدو في أوج حماسهم في لعبةٍ ما !
عندما ابتعد الأطفال, اقتربت مروه بحيرة : حمزة, الأطفال كانوا يلعبون !!
حمزة بتوتر وهو يرى جمود خولة في حجره : خفت أنهم يصدمونها
مروه بريبة : مو لازم نروح, نرجع أفضل
صرخت خولة بذعر : لا لا, أرجوك أبي, سأحضر قوسي وسأقتلهم إن حاولوا إيذائي !!
حمزة ومروه بصوت واحد : لاااا
مروه بتوتر : فهمها حمزة, يا الله
حكّ جبينه بضياع : لا خولة, كنت أمازحكم, بنروح للاحتفال
أكملوا سيرهم وهم يراقبون ردات فعل خولة وهي ترى الأطفال, لكنها كانت تبتسم عندما تلمح طفل يعدو هنا وهناك, تنتابها رغبة باللعب معهم لكنها كبحتها كي لا تغضب حمزة ومروه .. لأنها (بحسب تفكير خولة) لا يريدون منها الاحتكاك بأحد
أثناء سيرهم باتجاه الساحة الكبيرة سمعوا صرخة خلفهم, التفتوا معاً ليجدوا محمود صاحب المخبز ينظر بفرحة إليهم, انسحبت مروه بهدوء لكن خولة بقيت تراقب الرجل الغريب الذي اقترب وهو يتفحصها بعينيه اللتين هطل عليهم شعر حاجبه
ابتسم محمود : ما أصدق عيوني
ضحك حمزة بتوتر وابتسمت خولة بسبب منظر الرجل الظريف, أشارت بأصبعها الصغير وهي تقول : أبي, من هذا ؟
ضحك محمود بفرحة : خولة كبرت وتحجبت ..
ازدرد حمزة ريقه بصعوبة, لم يلاحظ كلامها .. الحمدلله : خولة, هذا محمود الخبّاز
محمود بحماس : أنا أعطيتك أول خبزة سويتها في القرية
استرسل بحنق : لكنك رميتيها في التراب
ضحك حمزة ليردف : كان عمرها ست شهور, ما كانت تعقل للي تسويه
خولة بربكه : إذاً لم أتذوق خبزك ؟ أأستطيع أن أتذوقه الآن ؟؟
حمزة باستنكار : خولة !!
محمود بفرحة : اتركها يا حمزة, اللحين أعطيك خبزة طازجة
دلف محمود لغرفة صغيرة, ثواني حتى عاد وفي يده خبزة دائرية تفوح منها رائحة شهية
أعطاها بيده وهو يردف بفخر لم يجاهد ليخفيه : هذي أول خبزة صنعتها لاحتفال اليوم .. وضع سبابته في جبينها .. وأنتِ أول من يتذوقها
فتحت خولة فاها الصغير بأقصى اتساع قد تصل إليه وقضمت قطعة صغيرة, عانت كثيراً وهو تلوكها أمام ابتسامة حمزة المتوترة وقهقهة محمود العالية
اردفت بصعوبة : إنها لذيذة, أنت خبّاز رائع !
محمود بضحكه : ليه تتكلم كذا ؟
لكنه لم ينتظر إجابة وهو يداعب رأسها الصغير براحة يده العملاقة
كان حمزة يصرخ في داخله "لاحظ, لاحظ .. يا رب استر"
اردف مسرعاً : ما نبي نتأخر, نشوفك في الساحة
جرّ خولة خلفه, سمع محمود يقول : يا رجل, أننتم مبكرين !!
اقتربوا منها لتردف بتذمر : ارفق فيني, الشمس اوجعتني
حمزة بعجل : معليش يا مروه, مشينا للساحة
عندما وصلوا, لم يكن هناك أحد, جلست مروه تحت أحد الظلال وهو تدندن بملل, جاورتها خولة وهي تقطف من خبزتها قطع لتناولها لمروه : تذوقي أماه, إنه لذيذ
أمسكت بالقطعة لتحشرها بين ثنايا خمارها حتى وصل فاها, مضغت القليل لتردف بهمس : خبز محمود .. لذيذ
كان حمزة منتصباً كعمود إنارة في منتصف الساحة, ما أن لمح النساء قادمات من كل الأفواج حتى قال بذعر شديد : الحريم !!
خولة !!
بيكشفونها !!
صاحت مروه باستهجان : أرفع صوتك, ما اسمعك !!
هروّل حمزة حتى وصل إليهما, سحب خمار خولة إلى الأسفل حتى غطّى عيناها الصغيرتان, قال بتوتر لم يسبق لمروه أن تراه هكذا : حاولي تخبينها عن الحريم, يمكن فاتت على محمود, لكن
ما تفوت على الحريم !
بانتظار توقعاتكم
بحفظ ربي :*