كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
وقف أمـام بابِ غرفتها بعد انتهـائهِ من صلاةِ الظهر، رائحة المشفى تخترقُ أنفهُ لتستثير التقزز في داخلِه، كم مرَّ من الساعاتِ وهو هنا؟ بينما هي نائمـةٌ حتى الآن؟ كم مرَّ وهو يتأمّلُ هيئتها الغضّة في نومها، فوقَ السرير الأبيض، ملامحها تستكين باسترخاءٍ يزرعهُ نومها، عيناه تتطلّعان بكلِّ تغيير قد يطرأ على جسدها في هذا الوقت، لم يظهر أيّ تغيير حتى الآن، لكنّه كان من الغبـاءِ حين لم يفكّر بهذا الأمـر، حين لم يفكر لهذا الإحتمـالِ منذ أستثيرَ موضوع الموانِع ومن ثمّ عدم انتظـام دورتها الشهريـة ... كان غبيًا، ساذجًا!!
بقيَت عيناه تتطلعان بجسدها في ذاك الوقت، لتستقرّا أخيرًا على بطنها، يتمايلُ فيهما بريقٌ غامِض، شعورٌ لا يستطيعُ تبيّنه، يريد أن يحسّ بهِ ويتذوّق أطرافهُ حتى يفهم ماهو ... ارتفعَت كفّه لتقتربَ من بطنها، يُلامسها بأطرافِ أناملِه وحاجبيه ينعقدان، أجفانُه تتهدّلُ كموجةٍ قاربت على الإنحلال، مسحَ من فوقِ اللحافِ على بطنها، وعضّت أسنانهُ على شفتِه العُليا، تتوتّرُ كل عضلةٍ بهِ والشعور الأول الذي شعرَ بهِ قبلَ سبعِ سنينَ يعود، ذاك الشعور الذي انطلقَ في أورِدته ما إن علِم أن بثينة تحمل ابنه، ما إن علِم أنه سيصبحُ أبًا، ذاك الشعور كرر نفسه في تلك اللحظةِ وإن شابَهُ بعض المشاعر الأخرى، لكنّه عـاد، عـادَ بعد أن ظنَّ أنه سافَر عن أرضِ أبوّتِه ولن يعود.
تباينَ شبحُ ابتسامةٍ على فمه، وانحنى قليلًا نحو بطنها وكأنّهُ يُوجّه نظراتهِ مباشرةً للجنين الذي يسكن رحمها، يحدّثُه بصوتٍ هامسٍ يكادُ لا يُسمع : خذها وعد مني ، اللي صـار لأخوك ماراح يتكرر معـاك ، تعال بخير يا بطل
والآن هاهو يقف أمامَ البابِ بعد أن انسحَب من الغرفةِ ليُصلي الظهر، مدَّ يدهُ ليُدير المقبضَ ويفتحه، ليتفاجئ بها تجلس على السرير تُريد النهوض ... تحرّكت قدماه نحوها بخطواتٍ طويلةٍ حتى وقف بقربها، وبصوتٍ هادئٍ بهِ من الجمودِ الكثير : لا تقومين ، بنادي الممرضة لك
رفعَت وجهها الشاحِبَ إليه، وكفّها ارتفعَت تلقائيًا لتضعها على بطنها وهي تبلل شفتيها الجافتين، تنظر إليه بنظراتٍ زرعَت فيها الكثير من العنفِ والكثيرَ من الجفـاء! : بقوم أصلي ظهر
سيف بهدوء : خليها تشيل المغذي أول
نظرَت لكفِّها دونَ مبالاة، ثمّ أعادت نظراتها إليهِ لتهتف بجمود : طيب
قـام سيف باستدعاءِ الممرضة، وفي الوقتِ الذي كانت فيه تنزع عنها إبرةَ المغذي كان سيف ينظر لديما المنشدهةِ مع كفّها، قبل أن يهتف بهدوء : الحمدلله على سلامتك ... وسلامة الجنين
قال الكلمتين الأخيرتين بنبرةٍ بها بعض الجفاف، لترتفعَ نظراتها إليه بجفافٍ مقابل، ببريقٍ متمردٍ ولازال تمرّده يزدادُ اشتعالًا، كانت شرارةً وهاهي الآن تعلو وتعلو دون أن تنطفئ.
ديما تبتسم بسخريةٍ بعد أن ابتعدت الممرضةُ وقد وضعَت اللصاقَ على موضِع الإبرة : الحمدلله ، خفت لا تكون دعواتي لبزرك الحلو رجعت لولدي
اشتدّت شفتاه وعيناه اشتعلتا بحدّة، وبصوتٍ حادٍ وهو يشدُّ على قبضتيه : كم مرة لازم أقولك؟
ديما بحقد : لو تهذر لبكرة وتحذِّر ليوم الدين ماراح يتبدّل كرهي لابنك ، أنت زرعت هالكره ومستحيل يزول
سيف بجمود : منتِ منطقية أبدًا
ارتفعَت حاحبيها بسخريةٍ لكلماته : بالله؟ أجل أنت المنطقي * وقفت ببطءٍ لتُردف بصوتٍ حاد * أروح أصلي أبرك لي
تحرّكت بخطواتٍ واهنةٍ حتى تبتعد، لكنّ العجز كان لازال يستقر في جسدها المُتيبِّس حتى الآن لذا ترنّحت قليلًا وهي تمشي، لم تعد تريد سماعَ صوتِه، لم تعد تُريد رؤيـة عينيه، أصبح لامرأةٍ أخرى، أصبَح لغيرها منذ فكّر في إعـادةِ زوجته، ولن تحتمل أكثر! لن تحتمل وكل ما تخشاه أن تنفجر في لحظةٍ تخون فيها نفسها وقوّتها لتضمّه إليها بقوةٍ باكيةً زارعهً لهُ في صدرها كي تُغطّيه عن كل امرأةٍ أخرى ويبقى لها فقط.
تأوّهت وهي تميل ناحيَة اليمين بوهنٍ ينتشر في ساقها، لكنّ يدَا سيف كانتا قد أمسكتا بكتفيها ليثبّتها بسكون، بملامح جامدة، حينها ارتعشَت وهي تشعر بدفء جسدهِ الذي يكاد يُلامس بصدرهِ ظهرها، إلا أنها لم تنطق بشيءٍ وهي ترفعُ كفها وتُمسك ذراعه التي سقطت ليسندها إليه من خصرها ويمشي بجانبها يمدُّ يد العونِ لهـا، بصمتٍ من الطرفين.
،
تنظرُ لانعكاسِ صورتها في المرآة، تعضُّ طرفَ شفتها السُفلى وأجفانُها تسقُطُ على صفيحتي عينيها العسليتين، ترفعُ كفّها لتُزيحَ خصلاتٍ تسقط على وجهها لخلفِ أذنها، هذهِ هي الصـلاةُ الثانيـة التي تصلِّيها! الصلاة الثانية التي ما لجأت هي لتُقيمها ملء إرادتها، مثلها مثل الفجر، كان هو سلطان من قال لها أن تُصلي، وقبل قليلٍ اتّصل بها واهتم بالموضوع حتى نهضَت وصلّت، قال لها بكلِّ حرفيةٍ ونبرةٌ غريبةٌ تتسلل إلى كلماته " اوعديني ما تكذبين علي ، أنـا ما أشوفك بس الله يشوفك، استحي منه اوكي؟ "، ورغمًا عنها تسلل الخجل إليها ككل مرةٍ منذ الأمس، منذ السهرِ أسفلَ القمرِ والنجومِ المُضيئـة.
*
كانت باردة، خطواتها باردة، صوتها ثلجي، همهماتها صقيعية، لكنّ نبرتهُ كانت ولازالت تتحلّى بشفافيةٍ تنثر الدفء هنا وهناك، يدها البـاردةُ بين حنايا يدهِ ترتعشُ بالتضاد الذي تحملها بشرتهما حراريًا.
وقفَ أمامَ إحدى الفساتين الحمراء وهو يوجّه نظراته إليها هاتفًا بعبوس : وقولي ذا بعد شين! شوفي ترى مطلعتني بشكل بايخ وأنا أشوف الحلو والشين لِك ، ليه ما تختارين؟
اضطربَت وهي تُخفض رأسها، وبصوتٍ متوتر : قلتلك ما أبغى شيء
سلطان يرفع إحدى حاجبيه بعناد : وأنا مصر إنك تشترين لك شيء ، لا مين قال شيء! أنا مصر إنّك تشترين كل مستلزماتِك
غزل بعنادٍ مماثل : مو ناقصني شيء
سلطان : عارف إنه ناقصك أشيـاء ، امشي بس واختاري لأنه مافيه طلعة ويدك فاضية
عضّت شفتها بحنقٍ وعيناها تتّقدانِ به، وبقهرٍ مدّت يدها لتأخذ الفستان الذي أشارَ إليه وهي تهتف : بتندم على عرضك ، أنا أوريك
قتل ضحكتهُ قبل أن تخرجَ وهو يؤمئ رأسه بجمود، وبهدوءٍ وهو يتحرّك جاذبًا لها معه : أنا أبي أندم
غزل بنبرةٍ متقدة : ما تعرفني
سلطان يُجاريها بابتسامة : أنا أبي أعرفك
شعرت بالإستفزازِ من طريقته في الكلام، ومضَت تمشي معهُ وتأخذ كل ما تقعُ عيناها عليهِ ويعجبها بينما هو يبتسم بمتعة، بقيت تمشي وتختارُ ما يروقها حتى انسجمَت أخيرًا وشعرت بالتسلية وبدأت ابتسامتها تغطيها وتنسى ما حدث قبل دقائق رويدًا رويدًا، حتى توقفا أخيرًا عند " شورت " قصيرٍ من الجينز تناولته باعجابٍ لكنّ صوتَ سلطان هتف بجانبها : لا تشترينه
استدارَت إليه وهي تعقد حاجبيها، وباستنكار : ليه؟
سلطان بهدوء : عــاري
عبَست غزل برفضٍ لفكرته التي تراها بنظرها - مُقززة - ولا تدل إلا على تحجّره : حلاته بهالشكل
رفعَ إحدى حاجبيه : بالله؟ أول مرة أدري إن الملابس حلاتها بعُريّها ... عمومًا ما عليه رجعيه ما يلزمك
نفخَت غزل فمها برفضٍ وهي تهتف بضيق : أنت تشوفها مو حلوة بس أنا عاجبتني
سلطان بحزم : غـــزل!
رمتهُ بغيظٍ منه : وبترك الباقي لك بعَد
أغمض عينيه لثانيتين وهو يتحوقل بصبر، بينما أردفت بضيق : كل شيء فيني تبي تتحكم فيه، مو كفاية هالعباية المعفنة اللي لابستها ، مليت من هالحـال!
فتحَ عينيه ناظرًا إليها، وبصوتٍ هادئٍ يُعاكس قهرها : مين قال أبي أتحكم فيك؟ * رفع إحدى حاجبيه مُردفًا * واضح نسيتي اتفاقنا؟
غزل بحنق : ماهو ذا اللي خانقني ، أخذ وعطا!!
شدّ على كفِّها وهو يسحبها هاتفًا بصوتٍ ثابتٍ دون أن ينظر إليها : أجل امشي وخليك عليه
غزل تحاول أن تفلت يدها من يده : ما عاد أبي شيء
أدار رأسه إليها وهو يُحاول أن لا يرتفع غضبهُ منها، لـذا صمتَ وهو يشدُّ على يدها بقوّةٍ أكبر متجهًا ناحيـة المحاسبين.
بعدَ وقت، كانا قد خرجـا وسلطان يحمل الأكيـاسَ في يدهِ بينما غزل صامتةٌ تشعر أنها ستنفجر لا محـالة من أسلوبهِ الذي استفزها بنعف، إنه يتجاهلها بكل بساطـةٍ ويقـوم بما يريد رغمًا عنها، دون اعتبـارٍ لرغبتها.
أطبقَت شفتيها وهي تشعر أن الكلمات تتلاحق في حنجرتها، تريد أن تصرخ في وجههِ بغضب، بحنق، بغيظٍ من هذا الإطار المهترئ الذي يلفّهُ حولها وكأنها صورةٌ قديمةٌ لا قيمة لها.
صعَد السيَّـارة بعد أن وضع الأكياسَ في الخلفِ وصعدَت هي، وجالَ الصمتُ على شفتيها وهي تنظر للأمـامِ بمزاجٍ تعكّر، بينما تحرّكت السيارة بصمتٍ أطبق على كلماتِه أيضًا كما هي، ومرَّت دقائقٌ في الصمتِ قبل أن يقطعها سلطان هاتفًا بهدوء : وش صار بموضوعنا؟
كانت ستتجاهله، نظراتها للأمام وكفيْها مشتدّتان على ذاتهما، لكنّ فضولها دفعها لإدارةِ رأسها نحوهُ لتهمس بتساؤل بارد : أي موضوع؟
سلطان بهدوءٍ ينتشر على ملامحه : الصـلاة
اشتدّ فمها في لحظةٍ وانقبضت عضلةٌ في فكها، أدارت رأسها عنهُ وصمتت دونَ إجابةٍ تسطعُ على شفتيها، بينما أمال سلطان رأسهُ قليلًا وهو ينظر للطريق والإجابـة تتراقص أمامهُ بصمتها .. وبهدوءٍ لازال يتلبسه : كم مرة بتتراجعين؟
ازدردَت ريقها بتوترٍ وهي تفرك كفيها ببعضهما، شتت عينيها هنا وهناك وهي تهمس بتحشرج : أنا ما تقدمت لهالخطـوة ، أنت اللي جبرتني
لوَى سلطان فمه : قلت لك جربي ، وهذا غير الإجبـار
غزل باندفاعٍ نظرت إليه : ما أبي أجرِّب طيب
سلطان : هنـا المشكلة ، طيب وش تبين عشان ترضين بالتجربة؟
بللت شفتيها وهي تنظر لملامحهِ الساكنة، وبصوتٍ فاتر : الموضوع صار مقرف! إذا كنت تعظِّم الشيء شلون ترضى تقايضه بأمور أقل بالنسبة لك
نظر إليها سلطان نظرةً خاطفة ليُعيدها للطريق، وبنبرةٍ مسترخيَة : تفكيرك سطحي
غزل باندفاع : أنت اللي تفكيرك سطحي ، هذي حرّية شخصية لي
سلطان بهدوء : حرّية شخصية بعيدة عني ، هذا شيء ضروري بزواجنـا ... عمومًا ما أبي أجبرك، فجربي الموضوع عشاني بس
ابتسمَت بسخريـة : عشانك؟ مو كأنك ماخذ بنفسك مقلب
ابتسم : عشاني بس ، وأنا بالمقابل بسوي شيء عشانك ... شرايك نرجع للأخذ والعطاء؟
صمتت وهي تُديرُ وجهها عنه إلى النافذة، تنظرُ للشارعِ وأنوارهُ ببهوت، تراقبُ لافتاتِ المحلّات التي تمرّها في شطرٍ حزينٍ تاهَ عن قصيدته، ما الأمر الذي قد يستحقُّ عناءها لتقومَ بما يُريد؟ ما الأمـر العظيمُ الذي يُجاورُ مسألـة الصلاةِ لتُضحِّي وتحتجزَ نفسها كل يومٍ في خمسِ صلوات!
من الطبيعي أن تصبح نظرتها للصلاةِ بهذه السطحية، من الطبيعي لامرأةٍ مثلها عاشَت سنينَ من غيرِ دينٍ أن ترى في الصـلاةِ حجزًا أبديًا، لم تتلذذ يومًا بها، لم تجربها لتتلذذ أساسًا! فكان طبيعيًا أن تراها بتلكَ النظرةِ الدونيَة.
اشتدّت كفّها اليُمنى على عباءتها، واستقرّت نظراتها على السياراتِ العابرةِ على الطريق، تنسى نفسها دائمًا في قارعةِ الحزن، تنسى نفسها دائمًا في زوايـةِ الظلام، مظلمةٌ هي، تعيشُ في ساديّةِ الحُزن الذي يتلذذ بعذابِها.
شعرت بغصّةٍ تحتجز الكلمات في حنجرتها، بكلماتٍ حزينةٍ تنوي الخروجَ فصار خروجها متحشرجًا بغصّتها : تقدر؟!
اشتدّت حواسُ سلطان لهمستها بعد أن ظنّ أنها غابتَ في صومعةِ صمتها ولن ترد، وقبل أن يسألها عن مقصدها أردفت بحزنٍ وهي تستدير إليه : تقدر تسعدني؟ ليوم واحد أقل شيء؟! تقدر تخليني أحش بهالشعور اللي أقرا عنه وما جربته!!
لانت ملامحه وبهتت عيناهُ فجـأة، هذهِ الفتـاة في كل مرةٍ تصنعُ على ملامحهِ الذهولَ بتفكيرها! ماهي بالضبط؟ يريد أن يفهمها أكثر؟ لا يستبعد أنه لم يفهمها أصلًا ولم يقرأ منها شيئًا.
نظرَ إلى عينيها الناظرتين إليه ببريقٍ يخفت، وتعرقلت الكلماتُ في حنجرته قبل أن تعتدلَ مندفعةً إليها بسؤالٍ مستفسر : وش تبين بالضبط؟
غزل : أي شيء ، بشوف إذا تقدر تسعدني ولو بشيء قليل
سلطان يبتسم بفتور : طلبك غريب
غزل بأسى : شفت كيف؟ تراني أشفق على نفسي قدامك ، شسويت فيني؟
سلطان بشفافية وهو يفهم مقصدها تمامًا : ليه تشفقين على نفسك؟
غزل : فاهمني ما أظن يحتاج ..
سلطان : لا أبيك تحكين
غزل بوجعٍ تبتسم : كل مرة تخليني أفضَح حزني قدامك
سلطان يشدُّ قبضتيه على المقود : منتِ الوحيدة اللي تحزن ، عيبِك الوحيد ما تدورين على نقاط فرحتك
غزل بابتسامةٍ ساخرة : هو فيه أساسًا؟
سلطان : فيه بس دوّري عليها ، مو بس أنتِ اللي تحسين بالحزن
غزل تنظر إليه مطولًا وملامحه ساكنةٌ تمامًا بينما عيناه تشتعلان بنارٍ استطاعت قراءتها، لـذا تجرأت على سؤالِه : وأنت؟
تشنّجت ملامحه، واتّجهت حدقتاه بسرعةٍ خاطفةٍ إليها قبل أن يُعيدها للطريق وصدره ينتفخُ بالهواءِ البـارد، ما الضير في أن يُهديها ثقةً أكبر بهِ حتى تفتحَ أوجاعها له، ما الضيرُ في أن يبثَّ إليها كلمةً تُشعل في نفسها كلمات .. همسَ بصوتٍ هادئ يناقض الأعاصيرَ في صدره : أنا مثل كل العـالم ، أحزن وأفرح
غزل بفضولٍ يدفعها للسؤال أكثر : اللي يغلب وشو؟
هزّ سلطان كتفيه وهو يشدُّ شفتيه في كلماتٍ باردة : أحـاول يكون الفرح
أخفضَت نظراتها إلى حُجرها، والتفَّت سبابتها حولَ زوايةِ " طرحتها " وهي تلوي فمها بشرود، أفكارها تتصارعُ في رأسها في موجةٍ عاتيـة، في مدٍّ يرتفع، وجـاء صوتُ سلطان كالشاطئ الدافئ الذي استقبل جنونَ أفكارِها بصوتهِ الهادئ والدافئ : أنـا بحياتِي انصدمت كثير ، أولها طبعًا بموت أبوي ... أنتِ وش اللي مخلي حزنك هالقد؟
زمّت شفتيها وهي تزدردُ ريقها بتوتر، وبصوتٍ ينطلقُ فيه الحُزن بعد دفءِ سؤالِه : يمكن اللي جـاك قليل قدامي
توقفَت سيارةُ سلطان جانبًا أمـامَ إحدى الحدائق التي أصبحت شبهَ خاويـةٍ سوى من رجلٍ وآخر، لا يؤنسها سوى صوتِ الريحِ الخافتِ بين الأعشابِ وأوراقِ الشجَر. استدارَ إليها بانشداهٍ هذهِ المرّة دون أن يُشغله الطريق عن صوتها والنظر إليها، وبهدوء : ممكن ، وممكن أنتِ اللي مكبرة الموضوع ، أوقـات اللي يصيبنا ما يستاهل، بس احنا نخلق منه حزن كبير يمشي معانا لفترات ويسبب فينا ندوب ما تختفي
غزل بغصّة : كل اللي مرّيت فيه ما كان هيّن ، يستاهل والله!
سلطان : أنـا ما أعرف وش مريتي فيه ، بس متأكد أن فيه لحظات فرَح زارتك ولو مرة ومرتين ، كل البشر ينبسطون ويحزنون، ومافيه حزن ما يقدر قلبك يتجاوزه ، اعطي كل ذي حقٍ حقه، لا تعطينه أكبر
أردفَ وهو ينظر لعينيها اللتين تلتمعانِ بدموعٍ تحارب كي لا تسقط : وابكي ، البكاء ماهو عيب ، وإذا ودّك تحكين أنا موجود
لم تردّ عليه بشيءٍ وهي تسمح لدمعةٍ يتيمةٍ أن تسقط من عينها اليُسرى بعد " ابكي "، يا الله ماهذا الضعف؟ ما هذه الدموع التي أصبَحت تسقط بكلِّ بساطةٍ وانسيابية، لم تكن دموعي هكذا ، لم تكن هكذا قبل أن تجيء في حيـاتي.
لفظَ سلطان بصوتٍ حازمٍ بعد سلسلةِ صمتها التي لم تنقطِع : وبخصوص صديقتك
استدارت إليه بسرعةٍ وقد انقبضَ قلبها فجـاة، في حينِ كانت نظراتهُ متابعةً لعينيها ولدمعتها التي تصتدم بقماشِ نقابِها، أكمل بحزم : إذا كانت آذاك في يوم، فأكيد طبعًا هي عايشة حياتها الحين ، وش هي عشان تنفرين من مكان لأنه جمعك فيها بيوم؟ وش هي عشان توقفين عندها طول عمرك؟!
زمّت شفتيها وهي تخفض رأسها، لا تستطيع مقابلـة عيناه، لا تستطيع مواجهةَ ملامحه، لكنّ صوته أكمل وهو يمدُّ يدهُ إلى كفّها اليُمنى ويمسكها بحنان : وبعد وش لبوة ذي؟ هذي من جدها تشبهك باللبوة؟ ، القوة ماهي كل شيء، واللبوة على قوّتها عمرها محد بيقرب منها غير جنسها، أنتِ غزال، جميلة، تجذب النظر، ومن جمالها يطمع الكثير فيها! أنتِ جميلة وحرام يضيع جمالك بهالحُزن، وصدقيني لو تزوجنا بظروف مختلفة كان بيكون وضعنا مختلف ، بس الظروف ضدنا والا أنتِ ما ينقصك شيء ... بس لك على لسانِك شوي
ابتسم عند جملته الأخيرة، بينما اتّسعت عيناها بشدّةٍ وفغرت فاهها بذهولٍ مما قاله، من الإطراء الذي لم تسمعهُ يومًا بهذا الصدق ومن شخصٍ كسلطان! نسيَت كل كلمةٍ قالها قبل " أنتِ غزال "، واكتست ملامحها حمرةٌ بينما توتّرت عضلاتها حتى قلبها الذي اضطربت نبضاتِه، كفّها التي يمسك بها تجمّدت رغم دفءِ كفِّه وعاكست قوانين الفيزياء، بينما كانت ابتسامته الصافيةُ معيارًا للتوترِ الذي استفاقَ بشكلٍ أقوى لتسحب يدها بشكلٍ عنيفٍ وتستدير عنه، لن يخدعَ بعقلها عن طريق كلماته، لن تسقط في فخه!!!
أغمضَت عينيها بقوةٍ وهي تسند جبينها على النافذة، تحاولُ تثبيطَ تنفّسها الذي أودى بصدرها مرتفعًا بعنفٍ ومنخفضًا باضطراب، ليست ممن اعتادوا الإطراء، ليست ممن تنفّست المديحَ ولطالمـا كان المديحُ الذي يأتيها من أفواهِ الغير كمجامـلة، أو لغايـةٍ مـا!
فتحَ سلطان بابهُ وهو يبتسم لردّة فعلها التي تثبت أنها لا تثق بنفسها بتاتًا عكس ما تتصنّع، ليهتف برقّة : انزلي نتنفّس شوي من هالهوا ، خبري الغزال ما يحتمل الأماكن المُغلقة ، ما أظن سمعتي بغزال ما يركض في الهوا ويبسط نفسه فيه!
كان يُريد دفعها للكـلام، إلا أنها التجأت للصمت وتقوقع صوتها حوله، حينها تسللت ضحكةٌ خافتةٌ من شفتيه وهو ينزل ويغلقُ بابهُ خلفه ملتفًا حولَ السيّارةِ حتى وصلَ لبابِها وضربَ النافذةَ بأصابعهِ بتسليةٍ لتتراجع بتوترٍ وهي ترفع نظراتها إليه دون ادراكٍ لما حولها، لكنّها حين استوعبَت فتحت بابها بتعثرٍ ونزلت وهي تهمس بتوتر : معليش
سلطان يبتسم ويمسك بكفّها للمرةِ الألف لهذا اليوم، لكنّ ملمسَ كفِّه الآن كان لهُ تأثيرٌ أكبَر ليسري تيارٌ قويٌ في جسدها جاعلًا لها تنتفض بتوتر.
سحبَت يدها بعنفٍ منه وهي تغلق البـاب بشدةٍ مما جعلها تنتفض مرةً أخرى لانفعالها، لمَ تنفعل الآن؟ لمَ تنفعل بسبب كلماتِه.
اتّسعت ابتسامـة سلطان وهو يهتف بلطف : وش فيه الغزال منفعل؟
نظرت إليه بعنفٍ وتوتر لتهتف بغضب : اسمي غزل ، لا تناديني غزال!!
سلطان بعنادٍ رفعَ حاجبيه : وش فيه الغزال معصب؟
عضّت شفتها بتوترٍ وهي تتحرّك ناويةً الابتعاد، إلا أنّه أمسكَ بكفِّها وجذبها لتمشي معهُ وهو يبتسم لها بعطف : بخصوص طلبك الغريب ، أوعدك بتحصلينه
*
وهاهو أخبرها صباحًا حين ذهبوا للمطعمِ أنّهُ يحضِّر لها مفاجئةً ستسعدها كما وعدها، مفاجئةً باتت تتلهف لمعرفتها! لن تنسى أبدًا كيف اكتملت ليلتهم البارحة في الحديقة، كيف أنه ناداها " غزالـة " عديدًا حتى باتت تغرق في خجلها كلّما قالها لها، وكما وعدها أنه سيسعدها، فهي وعدته بأنها ستحاول، ستجرّب، بشرط أن تتعلم هي بمفردها عن طريق الانترنت كي لا تُحرَج أمـامه، ووافق هو على ذلك بعد أن أهداها مواقعَ موثوقةً لن يخشى عليها منها. وانتهت ليلتهم بأن مرّ على إحدى الأسواق ليشتري لها رداءً للصلاةِ وسجادةً لتكون تلك هي بدايتها التي يريد.
والآن هاهيَ تقفُ ناظرةً لوجهها في المرآة، والذي زيّنته بقليلٍ من المكياجِ لتبرز جمالها كما قال عنها، " أنتِ غزال، جميلة، تجذب النظر، ومن جمالها يطمع الكثير فيها "، " أنتِ جميلة، وحرام يضيع جمالك بهالحُزن ".
لكنّه وإلى الآن لم يُدرك حزنها، حزنها الذي سيجعل منها قبيحةً به، لكنّها ستحاول، ستحاول أن تبرز هذا الجمال الذي لا تراه.
كانت ترتدي فستانًا عنابيًا ينسدلُ حتى نصفِ ساقيها، وحذاءً ذو كعبٍ طويل بلونٍ أسودَ وقد استعدّت تمامًا قبل مجيء سلطان الذي أخبرها أن غداءهم اليومَ سيكُون في منزلِ عائلته.
يتبــع ..
|