كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم ()
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بأتم صحة وعافية
حابّة أشكر زارا على الجمال التعليقي الأخير ، تعرفين لما الشخص يقرأ شيء جميل ومن كثر جماله وجهه عوّره من الإبتسامة؟ نفس حالي تمامًا كانت ابتسامتي من الأذن للأذن حتى إن عضلات وجهي عورتني :P الله لا يحرمني بس :$$
بسم الله نبدأ
قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(42)
كانت تجلسُ في منتصفِ السريرِ وكتُبٌ وأوراقٌ عديدة تناثرت هُنا وهناك، تمسكُ قلمًا محاولةً تنشيط عقلها والبدءَ في المذاكرة، فامتحاناتها النهايئَة لم يتبقى لها إلا شهرًا ونصف، تراكمت عليها المحاضرات وهناك مالا تفهمه لغيابها في الفترةِ الأخيـرة ، سحقًا للحيـاة، وللحزن المقيت، وللضعفِ المُثير للشفقة! هل وصَل بها الضعفُ لرمي مستقبلها كما ذهب ماضيها؟ ألهَذه الدرجةِ كانت ولتلك المرحَلةِ وصلت؟ يالخيبتها بنفسها، يالخذلانها بقوّتها.
تنهّدت بضيقٍ وهي ترفعُ القلم قليلًا أمام وجهها تنظر إليهِ بشرودٍ عن شكلِه ولونِه، تغرقُ في صورتهِ فقط، بعيدًا عن بقيّة الصورِ من أحيـاءٍ وجمادات، وكأنّ كل المخلوقاتِ أُختُزِلَت فيها فقط، بُحزنها كما الفرح، كيف يجيءُ الفرحُ في عامٍ ما، في شهرٍ ما، في يومٍ ما بكلِّ عنفوانِه واندفاعِه، بكلّ قوّتهِ وتمكّنه في صُنع جناحان تطيران بهما في سماءٍ خاصّـةٍ بها هي فقط ، لتتكسر تلك الأجنحةُ فجأةً بحزنٍ أشدّ عنفوانًا! بخيبةٍ تجعلُ الدمعَ في مقلتيها يتصادمُ ساقطًا كقطراتِ ملحٍ أُجاجٍ ذابَ من حرارةِ الوَجع.
تنهّدت من جديد ، ورَمت القلم جانبًا وهي تستغفر لكلِّ أحزانها السابقة، لكلّ الذنوبِ التي اقترفتها من خلفِها، اللهم اغفِر لِحُزني، فإنّه حينَ يُشتدُّ بهِ ينسى أنّكَ أشد، واغفر لي ، فإنّ ضعفي مُخلْ!
التُقطَت من صومعتها للطرْقِ الذي هاجمَ الباب، نظَرت باتجاههِ لتلفظ بصوتٍ مرتفعٍ بعضَ الشيءِ وهي تمسح على ملامحها : ادخلي هديل
فتَحت هديل الباب لتدخُل باسمةً هاتفة : يا فرعون ، شلون عرفتيني؟
إلين بابتسامة : كل مرة أعرفك تسأليني هالسؤال؟ ببساطة الجواب لأني أعرفك
أغلقت هديل الباب من خلفها واقتربت منها هاتفة : طيب يا فرعون وش جالسة تسوين؟
إلين تُشير إلى الكُتبِ حولها : اللي تشوفينه ، قاعدة أذاكر وأحاول أفهم المحاضرات اللي ما حضرتهم
قفَزت هديل لتجلس بجانبها على السرير، وبلؤم : تستاهلين مين قالك تتغيبين كل هالفترة؟
ضوّقت إلين عينيها، وبضيق : أستاهل صح؟
تغضّنت ملامحُ هديل واستكان اللؤمُ فيها، تنهّدت قبل أن تبتسم قليلًا هاتفة : خلاص صار وانتهى ، قولي الحمدلله
إلين : الحمدلله
هديل بحماس : الحين اسمعيني ، ودي أسوي مسابقة
رفعَت إلين إحدى حاجبيها وبحدة : نعم!! ما هقيتك كذا أنانية
هديل مطّت شفتيها وهي تتصنّع البراءة : شسويت أنا؟
إلين : مسابقة؟ وأنا بضغط مذاكرة؟
هديل تعتدل على السرير شبهَ مُمددةً مُستندةً على مرفقيها ليرتفع أعلى جسدها عن ملامسةِ السرير : وش دعوى تراها بسيطة ومن التزاماتك اليومية بس نسوي عليها مسابقة صُغننة ما تآخذ منك
إلين تُجاريها وهي تُفكر بالرفض : طيب قولي اللي عندك
جلَست هديل بحماسٍ وهي تبتسم : مسابقة القرآن اللي متعودين عليها
فغَرت إلين شفتيها حينَ فهمت وضعَ المسابقة، فهذهِ ليست المرّة الأولى التي يقيمونها ، كانت قد أفرجَت شفتيها ناويَة التّحدث إلّا أنها أخيرًا أطبقتهما وصمتت. أردفت هديل بأسًى وخزي : صاير لي فترة مهملة القرآن بشكل مُخزي! عشان كذا قلت نسوي هالمسابقة من جديد كتحفيز لي عشان أرجع لنفس حفاظي عليه قبل
ابتَسمت إلين بأسى، وبعدَ ما كانت تُفكِّر بالرفض شعَرت بالعارِ إن هي اقتَرَفت ذلك، هي أيضًا أهملت الكثير من أمورها الدينية ومن ذلك قراءةُ القرآن ، لذا هتفَت بتشجيعٍ للفكرة : طيب ، موافقة
قفزَت هديل بحماسٍ وهي تتشبَّثُ بذراعها، وبلهفَة : الهديَة هالمرة بختارها أنا ، آخر مرة أنتِ اللي اخترتي وش هديّة اللي تفوز
رفَعَت إلين حاجبيها وهي تهتف دون مبالاة : طيب طيب وش له هالتلزق وخري عني بس
ابتعدَت هديل قليلًا وزاويتيْ فمها تكاد تُلامسُ أذناها من فرطِ ابتسامتها المُريبة، اقتربَت إلين قليلًا وهي تقطّب جبينها : لحظة لحظة ، وش الهدية؟
هديل بابتسامةٍ لازالت تُحافظ عليها : شيء حلو وبسيط لا تخافين ماراح تبتلشين معاي
إلين : وهو؟
هديل : حزري!
إلين بنفادِ صبَر : مافيني
هديل رفَرفَت برموشها وهي تهمس : أبل ماك بوك ، شفتي؟ قلتلك شيء بسيط ماراح أكثِّر عليك
رفَعت إلين إحدى حاجبيها وهي تبتسم : لابِك انتهى خلاص؟
لوَت هديل فمَها : أيه ، من زمان خاطري بماك بس أبوي قالي لابك توه ما كمل سنتين
إلين بابتسامةٍ تظهَر منها أسنانها العلويةُ البيضاء : والله وهو الصادق وش هالتعامل اللي عندك معقولة قد اخترب؟
هديل ترفعُ كتفيها بلؤم : وش يدريك يمكن خرّبته متعمدة
إلين بضحكة : حسبي الله على ابليسك ، توه جديد حتى ضمانه ما انتهى
هديل : اص اص لعبْت على أبوي وقلتله ضمانه سنة وحدة وهو المسكين صدقني ، قال بيصلحه لي بس أنا تمسكَنت عنده لين رضَى يشتري لي جديد بس بعدين رفضت وقلت خلّني أوفر فلوس بابي وأفلّس الجميلة النايمة اللي في البيت
إلين : الله ياخذ عقلك
هديل " باستهبال " : حرام عليك بعدين من وين لكم عقل آينشتاين
إلين ترفعُ إحدى حاجبيها : أيه هين ... عمومًا أنتِ ودك بلاب بس أنا ما ودي لابي وش حليله لازال ناصِع وطازج ، طبعًا ولأني ما أبغى أرفض طلبك بتكون هديّتي شيء مختلف
هديل بنبرةٍ حاقدة : أيه أنتِ الدّلع اللي هنا أول ما طلبتي ماك بوك أشّر أبوي على عيونه
ضحكَت إلين لنبرةِ القهرِ في صوتِ هديل : والله عاد أنا طلبت اللي أبيه وأنتِ البقرة طلبتِ النوع اللي تبينه وش دخلنا احنا تجين وتقولين ما عاد ابيه أبي ثاني؟
وضَعت هديل كفّيها على قلبها وهي تُغمض عينيه وتهتف بنبرةٍ درامية : حقّك أول ما جربته طحت في غرام قبيلته
إلين : ههههههههههههههههه الله يخلف على عقلك ، الحمدلله ما طحتي في غرامه هو شخصيًا
هديل بتكشير وهي تفتح عينيها : لا ما أحب المستعمل أنا ، الا قولي وش طلبك؟ والله إن تطلبين شانيل والا ديور لأمحق وجهك الغبي ذا أعرف استلعانك أنا
إلين بضحكَة : وش عرّفك
اتّسعت عينا هديل : إلييييين! قسم بالله ما أعطيك شيء أجل تبين تخلينه دبَل إفلاس لـي وأنا مخلية إفلاسك بس سمول؟
إلين : وجع! عمومًا كنت أمزح معك ما أبي شيء من شانيل ولا ديور بس حاليًا ما عندي شيء في بالي فودي أفكِّر أول
نهَضت هديل بحماس لتستقيم واقفةً وتتجه للباب وهي تهتف بلهفَة : أجل راح نبدأ من اليوم ، واللي تخلص الثلاثين جزء أول الفوز من نصيبها كالعادة
رفَعت إلين صوتَها قليلًا : بس لا تنسين كل وحدة حسيبة نفسها ويا ويلك تغشّين أو تكذبين
هديل وقفت عند الباب مُمسكةً مقبضه وهي تهتف بابتسامة : يشهد الله علي بكون صادقة وما أغش
إلين بابتسامة : هذا المتوقع وأنا يشهد الله علي بكون أمينة بعَد
ابتسمَت هديل قبل أن تُرسِل إليها قُبلةً وتخرجَ لتتركها تأخذ وقتها وراحتها في المذاكرة.
،
" أبي أهلي يكونون معي بيوم فرحتي ، حتى أمي! "
نظَر إليها ببهوتٍ بعد ما قالته، غادَرهُ الإستيعاب رويدًارويدًا، قليلًا قليلًا! أم أنه يتوهم ويتمنى أنّهُ لم يستوعب! وأن ما التقطهُ فِهمهُ خاطئ! هل جنّت؟ ما الذي يسمعهُ منها؟ هل جنّت؟؟!
عقَدَ حاجبيه باستنكارٍ وهو يهتف بصوتٍ تمايلت نبرته نحو الإرادةِ في أن أذنه أخطأت الإلتقاط : وشو؟
جيهان بصوتٍ ميّت : أبي أهلي يكونون معي ، كلهم، كلهم يا فواز
فواز بصوتٍ باهت : كلهم؟
جيهان : أيه، كلهم .. حتى أمي!
وقف فوّاز مبتعدًا عنها، عيناه الباهتتان ظلّتا متعلقتين بعينيها، ببريقهما الخافت والذي يتباعدُ فيه الإدراك، وجههُ الذي تجمّد كل شعورٍ فيه كان يُقابل وجهها الشاحبَ تمامًا، بينهما تقبعُ مسافةٌ صغيرة، ضيّقة! خافتةً ومزعجة! همَس يُقلّب الكلمَةَ فوق كفّيْ الاستيعابِ كي يقرأها : أمك!
ظلّت تنظر إليه دون تعبير، وجهها جامدٌ كما الأموات، وكأنّ ذلك الطلب استنفذ كل ذرّةِ حياةٍ مُتبقيةٍ فيها . . بقيَت جامدةً لثوانٍ طالت، قبلَ أن تهزَّ رأسها في إيماءةٍ مُجيبةً على سؤالـِه، لا بل استنكارِه!
بقيَت عيناه متعلقتين بِها، وإيماءتُها الباهتةُ ظلّت تتكرر في عقله، قبل أن تنفرجَ شفتاه بنبرةٍ مصدومةٍ وصوتٍ يهتزُّ فيه الفتور : أنتِ مجنونة!
لمْ يتبدّل تعبير الجمُودِ في وجهها، ولا النظرةُ الباهتةُ بين زوايا عينيها، بقيَت تنظر إليه، لتعابير وجههِ الغيرِ مُصدِّقة، من أسنانِه التي وطأت على شفتِه السُفلى حتى حدقتيه اللتين تتشتتان هنا وهناك ... زمّ شفتيْه، وراقبَت عيناهُ زوايا الصّالة الأربع، ولسانهُ يكرر الكلمةَ بحدة : مجنونة! جنونك صار شيء أكيد ، أكيييد!
ابتَسمت! وابتسامتها تلك كانَ ظلّها شبهَ مُتلاشٍ، كانت شبَح ابتسامةٍ وليسَت إبتسامة، كانت كالشمسِ في وقتِ المغيب، ضوؤها فاتر، تسقُط عن السماءِ كما تسقط هذهِ الإبتسامةِ عن شفتيها، السماءُ تُصبحُ معتمةً في وقتِ المغيب، مُشتعلةً حولَ الشمسِ الساقطة، هذا هو وجه الشبهِ بين السماءِ وملامحي! كلّ ما يشتعل فيَّ هو فقَط كلماتي التي تُحيط هذهِ الإبتسامةِ الفاترة! الساقطة! . . إلهي ما هذا الجرفِ الذي تتزحلقُ فيه قدماي ولا أستطيع التشبّث بشيء؟ فواز فقط! فواز فقط هو ما أتشبّث بِه، لكنّني بالرغم من كل هذا أكاد أسقُط ، لمَ؟ لمَ أشعُر أنّك لست لي؟ تبتعد، بشكلٍ قاسٍ جدًا يا فواز.
همَست بنبرةِ قهرٍ يصاحبُها الفتورُ ككل شيء، ككل كلماتِي وملامحي ، وعجزي ، وأنت! : قلتلك ، تراني مجنونة وجنوني له وجوه كثيرة .. هذا وجه واحد بس!
شدَّ على أسنانِه بشدةٍ وعيناه تشتعلان بقهرٍ من كل شيءٍ ينزلِقُ منها ويثير حُنقه، وبصرخَة : كااااافي يا جيهـــان!
جيهان تتراجعُ للخلفِ قليلًا مُتَّكئَةً على ظهرِ الأريكةِ وشبحُ ابتسامتِها يثخُن لتمتدّ شفتاها على وجهها بصورةٍ مستفزة! ويبقى الفتورُ في وجهها ساكنًا. هتفَت بنبرةٍ باردَة : هذا وهو وجه واحد واستنفد صبرَك ، لهالدرجة أنا ثقيلة عليك؟
فواز بحدّة : لا تستفزيني ، كم مرّة قلتلك هالشيء!
رفعَت جيهان كتفيها : ما حاولت أستفزّك أبد ، بس اللي أنت فيه حاليًا دليل إنّي ثقل عليك! مو قادر تتحمل جنوني؟
فواز بقهر : يلعــ ... استغفر الله بس
تلاشت ابتسامتُها قليلًا ليحلّ محلّها تمايلُ الحزن في شفتيها، زفَرت، وملامحها انخفَضت للأسفلِ ليتناثرَ شعرها حول وجهها الحزِين، غصّةٌ داهَمَت حلقَها والكلماتُ شعَرت أنّها تقفُ عاجزةً عن التحرّك، كثيرٌ ما في صدرها، كثيرٌ لا تعرفُ ماهو! ابتعادكَ سيء! واللهِ سيء! مهما تصنّعت عدم المبالاةِ كثيرًا تبقى تخشَى هذا الإبتعاد ، يا الله لمَ تخشاه؟ فليَذهَب، فليَذهب!!
ازدردت ريقها عند تلك الفكرَة، وارتفعَ وجهها قليلًا إليه وهي تسمعُ زفرةً خشنةً تخرجُ من صدرِه، شفتيها المُتقوِّستانِ قليلًا بقيتا ساكنتان، هناك ما تريدُ قوله، هناك شيءٌ تريدُه أن يصِلَ إليه ويقفُ الكثير في وجهها، ومن هذا الكثيرِ أنها لا تدرك ما هذا الذي تريده!
جيهان بهمسٍ تطلق اللجام عن بعضِ الذي في صدرِها : تدري فواز!
نظَر إليها فواز بوجهه المتشنّجِ وهو يستعد للمزيد من جنونِها الذي يستفزه! عيناه كانتا محذّرتان لها ولما ستقوله، لكنّها ابتسمَت وهي تُردِفُ هامسة : أوجُه جنوني كثيرة، ومن هالوجِيه أنت!
،
مضَى يومانِ تقريبًا، وِظلُّ هذا اليوميْنِ هو النَّأْيْ، لم يتصادم معها مرةً، يتجاهلها وتتجاهله! كل مقابلَةٍ بينهما يتحاشى كلًّا منهما الآخر، لقد أطالوا هذا الحال! اعتاد دائمًا أن يُزعجها، وأن يبتعدا، وأن يظلّ كلٌ منهما يتجاهل الآخر، لكنّ هذا التجاهلَ لا يزيدُ عن ساعاتٍ حتى تعود الميـَاهُ لمجاريها وتأتِيه سُهى باسمةً تُحادِثُه وتمازِحُه وكأن شيئًا لم يكُن، لم يقُم مرة بالذهاب إليها وإعادةِ المياهِ لوجْهَتِها، ودومًا تأتي، لكنّها هذه المرة لم تجئ، ولم تمازحه بعفويَـتها الدائمة، هل جُرحُهُ هذه المرّة كانَ عميقًا؟ أم أن سنواتِ البُعد التي كانت بينهما ضيّقت من علاقتهما الماضيـة وبدّلت من صفاتِها معه؟ هل تغيّر السنينُ كلّ هذا؟ هل تغيّرَتِ؟ كما تغيَّرْت، وكما اختزَل التناقضُ نفسَهُ في صدري ولم يعد أنا أنا، أصبَحتُ آخر، وأدركُ أنِّكِ تدركين ذلك، لم تعُد صفاتي نفسها، ولا مشاعري نفسها! .. كنتِ شاهدةً على الكثِير، تعلمِين عنِّي كلَّ شيء، ولجَهلي وغبائي لم أتوقّع أن تعلمي هذا أيضًا!
تحشرَجَ صدرهُ وهو يستذكرُ ما قالتْه لهُ تلك الليلة، هو والله لا يعرف الجواب! لا يُدركه! كل شيءٍ مشوّش، مشوّش!! يا الله، دائمًا ما يتشوّش الماضي، لكن كان من المفترضِ أن لا يُصيب هذا السؤال شيءٌ ولا يسقُط عليه الغبارُ فأنسى جوابَه.
تخطّى عتباتِ الدرجِ ووجهه مُظلم، حاجبيه مُنعقدانِ بمزاجٍ سيء، ومازاد مزاجهُ وقلقه أنّ ماجد لم يُجبْ حتى الآن على اتصالاتِه، لكنّه أرسل له رسالةً لم تحتوي سوى على كلمتين لم تُزِل قلقه " أنـا بخير ".
اتّجه ناحيَة المطبخِ يريد أن يروي عطشه، لكنّه ما إن دخَل حتى وجدَ سهى تصنَع لها كوبًا من القهوةِ وهي تحشُر الهاتف بين كتفِها وأذنها ليلتقط آخر كلماتها : لا تحاتي يا محمد مبسوطة عند ولد أخوي ومرتاحة .... لا ما ودي أرجع بهالفترة كم مرة بتسألني؟ ... طيب ، بنتبه على روحي لا تحاتي ..... يوووه محمد وش فيك تراني عند ولد أخوي!! ... خلاص مع السلامة
أغلقَت وهي تعقدُ حاجبيها بضيقٍ من اتصالاتِه العديدةِ بها وأسئلته ومن أدهم والذي حدَث وكل شيء! رمَت بهاتفِها على رفِّ المطبخ الرخـامي وهي تتأفأف بضيق، وفي تلك الأثناءِ كان أدهم يتنهد بصمتٍ وهو أيضًا يشعر بالضيقِ أضعافًا وأضعافًا، أكملَ خطواتِهِ باتّجاه الثلاجـة بينما شردَت سهى في ملامِح القهوة، فتحَ بابَ الثلّاجة وأخذَ قنينةً من المـاءِ مُمتلئةً ليُمارس عنفه وقهرهُ في فتحها ومن ثمّ شربَها بأكملها يُخفف من النارِ التي في جوفِه وقطراتٌ كانت تنفد عن القنينةِ إلى صدِره متساقطةً عليْه دون أن تُطفئ شيئًا، لا المـاء البارد يُجدي، ولا الصمتُ يجدي، ولا التصبّر يُجدي، لا حلّ لتلك النارِ في جوفي، ستبقى تزداد وترتفعُ وترتفعُ حتى تحرقني وتُحيلني إلى رمـاد.
أنزَل القنينةَ وهو يتنفّسُ بعنف، رمَاها على الأرضيّةِ بقوةٍ لتنتفض سهى منتبهةً من شرودِها إليه وتستدير وعيناها متسعتان بتفاجئ، منذ متى وهو هنا؟؟!!
أطلَق أدهم نظرةً إليها، نظرةً مُعتمةً لم تستطِع فهمَ شيءٍ منها، نظرةً كان في أطرافها عتَب، لأنّها تغيّرت، لم تجئ إليه وتحادثه وكأن شيئًا لم يكُن، غيّرتها السنين كما غيّرته، أي كلّ البشر يتغيّرون وليسَ هو فقَط. صدّت بوجهها عنهُ متجاهلةً نظراتِه تلك وهي تأخذ كوبَ القهوةِ وتتجهَ نحوَ باب المطبخِ حتَى تخرج، بينما بقيَت نظراتُ أدهم تتابعها وهو يُضاعِف من حُزنِه الماضي، لا ضَيْر، فالحُزن فرضٌ في حيـَاته، ماذا يُضرُّ إن تضاعف؟ ماذا يضرْ؟
،
نظَر إليْها، والنظراتُ تمشِّطُ طرِيقَ البهوت، لم يستوعب كلماتها، مابالُ ما تقول اليوم أكبر من استيعابه؟ مابالها اليوم كلماتُها عنيفةً بهذا الحد؟؟ أغمَض عينيه بقوةٍ وهو يستنشق ذراتَ الأكسجين بعنفٍ يوازي عنف نبضَات قلبه، بينما ملامحها تستكين على وجهه، تراقبُ تعبيراتِ ملامحه، لا تُدرك مقدار التبعثُر الذي خلّفته في داخلِه، تبعثرٌ أقسى من حينِ هتفَت بـ " عيوني "، أعوذُ بالله من عنف الكلمات! أعوذُ باللهِ من عنف الكلمات ، ولا أُعيذ نفسي من جمالها! لكنّ هذا الجمال عنيف، عنيفٌ واللهِ يا جيهان.
بللَت جيهان شفتيها وهي تنهَض، كانت ردّةُ فعلهِ هذه والتّخبطِ الذي رأتهُ في ملامحهِ كافٍ لتُرضي القليلَ منها بعد ما استجدَّ في معاملته، في البُعدِ والقساوة، لازال لها، لكنّها أيضًا لازالت تشعر أنّ تشبّثها بهِ لا يكفي حتى لا تسقط في المنحدر، شيءٌ ما بيننا، شيءٌ أكبَرُ مني ومنك.
تحرّكت خطواتُها تنوي الذهابَ لغرفَةِ النومِ منهيةً النقاش العنيف هذا، وما إن واجهتهُ بظهرها وتحرّكت خطوةً حتى شعَرت بيدهِ تُمسِك بزندِها جاذبًا لها نحوه حتى اصتدمَت بصدره، ارتفعَت نظراتها المُتسعةِ إليه، وذراعيه طوّقتا خصرها بينما نظراتُه تطُوفُ على ملامحها البيضاء، يتأملها ذرّةً ذرة، يُلصقُ صورتها في عقلِه لتستكين أبدًا فيه، وهي المستكينةُ دهرًا ودهرين، العُمر عينيها، والحيـاةُ هو صوتُها، صوتها الذي انحدر قبل ثوانٍ عنيفًا بكلماتِه حتى يضربهُ وكأنّ تلك الكلماتِ سيفٌ أُستلَّ من غمدِه.
صوتُه الشائبُ بعاطفةٍ كبيرةٍ انحدَر هو الآخر هامسًا دون تصديق : وش اللي استجد فيك؟
بقيَت تنظر إليه ونظراتُها الخائرةُ تعلّقت ببريقِ عينيه التي تحوّر فيها الإشتعالُ من غاضبٍ إلى آخر، إلى عواطِف وعواصف! توتّرت قليلًا وهي تشعر بذراعيْه تشتدّان حولها في عناقٍ عنيفٍ كعنفِ شعورهِ في هذهِ الأثناء، كعمقِ نظراتِه إليها وصوتِه الذي همَس مُكررًا : وش اللي استجد يا جيهان؟
أغمَضت عينيها لثانيتين وهي تزفُر كل شحناتِها التي خلّفت تيارًا سرى في أوردتِها، لتفتَح عينيها أخيرًا وهي تبلل شفتيها، قبل أن تهتف بخفوت : قلتلك مجنونة ، ولجنوني وجيه فلا تعتبر شيء استجَد
شدّ عليها أكثر ليُلصقها بهِ وكأنها يُريدُ منهما التلاحُم، يُريد أن يُسكنها بين أضلعهِ حتى لا يخشى حزنًا وانكسَارًا لغيبتها، همَس وهو يعقد حاجبيه : سقَى الله هاللحظة بوقفة دَهر
ازدردَت ريقها وتوترها تضاعفَ لنبرتِه التي اتّجهت نحو عاطفةٍ أشدّ وأعمق، نحوَ بؤرةٍ مُضيئةٍ ضوؤها لا تحتمله، نبرةٍ عُنفها باتساعِ السموات والأرض.
فواز وهو يرفعُ إحدى كفيه مُمررًا لها على ظهرها حتى تخلخلت أصابعهُ خصلاتِ شعرها، هتفَ بخفوتِه الذي لا يصلُ إلا لأذنيها وينتهى عندهما : عيديها ، أبي أسمعها مرة ثانية
ارتعَشت أطرافُها وهي تفغُر فمها، عيناها تتسعان رويدًا رويدًا بينما حدقتيها المُهتزتين تنظرانِ لعينيه العاشقتين، عشقُهما كارثـة، كارثــة! كيف تنكر أن عشقهُ يُرضيها؟ يدغدغُ أنوثتها رغمًا عنها، رغمًا عن جمودِها وجفائها، رغمًا عن كل شيء ، لهُ منزلٌ خاصٌ في صدرِها!
كررَ فواز طلبهُ بصيغةٍ آمرةٍ بعض الشيءِ وهو يخفض رأسه قليلًا إليها حتى يصلَ لملامحها : عيديها ، عيديها يا جيهان ، عيدي جنونِك وعظمته!
اهتزّت شفتاها بارتباكٍ وهي تشعر بأرنبةِ أنفهِ تُلامس أنفها، تسارَعت أنفاسُها وللحظةٍ تمنّت لو أنها لم تقُلها، الإرتعاشُ هاجمَها من أعلى رأسها لأخمص قدميها، ضعفَت فجأةً وهذا الضعفُ يؤذيها، تُدرك أنّها كلما ضعفَت تصنّعت العكْس وأفسدَت كلّ شيء، لذا ندمت لما قالته!
كرر فواز طلبهُ الأشبه بالأمر بنبرةٍ مصرة، لذا أغمَضت عينيها وهي تستنشق أنفاسهُ المصتدمةِ بها عوضًا عن الأكسجين، شعرَت أنّ المهمة فجأةً أصبحت صعبة! تكرارُ ما قالته صعب، والفرق أنها الآن ضعفَت تحت موجاتِ عاطفتِه.
طـالت الدقائقُ دون استجابـةٍ منها، حينها عضّ فواز شفتهُ السفلى وهو يُغمض عينيه مُدركًا أنها لن تُكررها، ليت الزمن توقّف عند ما قالته، ليته توقّف دهرًا وعاشَ في ذاكَ الدهر. أطلَق شفتهُ السفلى من أسنانِه لتُفاجئ بهِ يُقبّلها بشغفٍ حتى يتضاعف ارتعاشُ جسدها الذي ضمّهُ إليه أكثر وأكثر، ابتعد عنها قليلًا بعد ثوانٍ طويلةٍ وهو يهمسُ بنبرةٍ ذاهِبة : جهّزي نفسيتِك ، حفلة الزواج راح تكون قريب بس فترة ترتيب وعلى السريع بعَد
فغَرت فمها، وقبل أن يدرك عقلها ما قاله جيدًا كان فوّاز يتراجع وهو يُردف بنبرةٍ قاطعة : وبخصوص شرطك المجنون ، أنا بنفّذه أكيد
رفعَت حاجبيها متعجبة، وباستنكار بعد أن ازدردت ريقها تُهذِّب تخبّطاتِ مشاعرها : تنفّذه؟
فواز : طبعًا ، بنفّذه كامل لأنّ الجزء الغبي اللي قلتيه ما نقدر نحسبه
جيهان وصوتُها يتّجه للرفض : وأنا صدّقني ماراح أكون مبسوطة بالكامل
فواز : أجل؟ بعقلك أنتِ تقولين اللي تقولينه؟
جيهان : مو قلتلك مجنونة؟
ابتسَم فواز رغمًا عنه : وجنونك فاتِن
توترت وهي تشتت حدقتيها، بينما تحرّك فوّاز باتّجاهِ البابِ وهو يهتف : راح أتّصل بعمي يوسف وبشوف الوضع ، ووعد مني ما يصير الزواج إلا وأهلك كلهم حولك
،
في الصبَاح
خرَج من غُرفتِه وهو يُعدّل شماغه، عيناه كانتا مُتعلقتين بغُرفةِ غزل رُغمًا عنه، يستذكر كلّ الليلةِ الماضيـةِ حين كان يُعلّمها الوضوء بعد أن سألها إن كانت تعرفه وأجابته بالصمت! يستشعر إحراجها من هذهِ المسألـة، يستشعر كلّ تحسُّسٍ منها حين يسألها إن كانت تعرف هذا أو ذاك! لـذا ابتلع أيَّ سؤالٍ بديهي حتى لا يُضاعِف إحراجها وفضّل تعليمها كلَّ شيء.
يُشفقُ عليها، قليلٌ جدًا في هذه الفترة من لا يُجيدون الوضـوءَ في هذا البلَد، حتى وإن كان لا يُصلي إلا أنه يُدرك بأن الوضوء كَذا وكَذا، ألِهذَا الحدِّ وصلَ بها الأمر؟ ما المجتمعُ الذي ولدت فيه بالضبط؟ ما كانت حياتها بالضبط؟
تنهّد وهو يشعر بأن مسؤوليته بها صارت إجبـارية، ورغمًا عنه يجب أن يهتمَّ بها ويُعيد توجيهها للطريقِ الصحيح.
اتّجه نحوَ الباب الخارجي ليفتحهُ ويخرج، بينما كانت غزل في الداخِل قد وقفَت عند المغسلةِ في حمامِ غرفتها وهي تنظر للماءِ الذي يتدفقُ من الصنبورِ بحزن، تُحاول مدّ يدها نحو اندفاعِ الماءِ حتى تُجرّب ما علّمها بهِ سُلطان، لكنّها تشعر أن شيئًا ما يجعلها تتراجَع، وشيئًا آخر يُريد ذلك، يُريدهُ بقوّةٍ وكأنها تحتاجه! كأنّ ما ينقصها قد يكمُن فيه، قد تجدهُ في ما يدفعها سلطانُ إليه.
عضّت شفتها السُفلى بقوةٍ حتى كادت تُدميها، واستقرّت كفّاها تحت الماءِ لتغسلهما ثلاثًا، لكنّها سحبَت يدها أخيرًا ودموعها تسقط بقهر، هاتفةً بصراخ : وش اللي أنـا فيييه وش اللي انا فيييييييه !!!
أغلقَت المـاء وهي تنسحب عن هذا الأمر، مسَحت على وجهها وهي تخرج من الحمامِ وملوحةُ دمعها استقرّت في كفّها، لمَ اندفعَت مُستجيبةً له؟ لمَ مشَت خلفهُ ووافقت؟؟!
في جهةٍ أخرى
وصَل سلطان بعد دقائقَ لمقرِّ عمله، صعدَ للطابقِ الذي يقبعُ فيه مكتبه، مرّ على السكرتير وهو يبتسم لهُ ويصافحه سائلًا لهُ عمّا كان في الأمس حين غَاب، حينها هتفَ له السكرتير باهتمام : طال عمرك جاء أمس واحد شكله ما يطمن
عقَد سلطان حاجبيه : كيف يعني؟
،
بعد صلَاةِ الظهر
عـاد للمنزِل اليومَ أبكَر من كلِّ يوم، كان قد أوصل ديما في حدُودِ الساعةِ الحادية عشرة ومن ثمّ عاد لعمله، دخَل الجناحَ وهو يخلعُ شماغهُ ويتّجه لغرفـة النوم، وما إن وصل إلى الباب المفتوحِ وأفرجَ شفتيه يُريدُ مناداتها حتى تجمّد في مكانه وعيناه تتسعانِ وهو يرى ديما تُصلّي، بقيَ مُتجمدًا للحظاتٍ وحاجبيه ينعقدان، شفتيه بقيتا مُنفرجتين وهو يُحاول الإستيعاب، ما الذي يراه؟ ما معنى هذا؟
تقطّبت ملامحه بشدةٍ وعيناه التمعتا، تراجَع يبتلع صدمتَهُ مما فهِم، هل تكذبُ عليه؟ هل وصَل بهما الحال لتكذبَ عليه حتى تبتعدَ عنه؟ هزَّ رأسه بالنفي يُريد استبعاد تلك الفكرة، فليسَت ديما من تفكّر بهذا الغبـاء، لكن ماذا عمّا رآه؟؟ ... اشتعلت نارٌ في صدرِه، زفَر وهو يُخفي جُرح رجولته، لكنّ الغضب كان كبيرًا، كبيرًا حد أنّه لا يعلمُ ما الذي يريد أن يفعله!!
عاد ليتّجه للغرفةِ بعد دقيقتين ووجههُ مُتشنجٌ بغضبِه، كانت ديما قد انتهَت لحُسن حظّها وفتحت باب الخزانَة حتى تضعَ رداء الصلاة والسجادةَ فيها، لكنّ صوتَ سيف الذي هتفَ باسمها عُنفًا جعلها تشهقُ بقوةٍ وهي تستدير إليه وكفّها تُغلق باب خزانتها بقوّة.
.
.
.
انــتــهــى
طبعًا ما أدري بطول البـارت صراحة لأني كاتبته في الجوال -> " متخانقين مع الكتابة في اللاب " :)
بس حابّة أقولكم إنّ فيه مفاجئة في الطريق، ماراح أعلمكم الا بيومها :D
قراءة ممتعة ()
+ البارت الجاي يوم الأحد القادم بإذن الله وبعدها راح نرجع لنظامنا القديم بإذن الواحد الأحد :""
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|