كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم :)
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
للكاتبة : كَيــدْ !
لا تُشغلكم الرواية عن الطاعات
(6)
وهُنا القلب أيضًا لم يحُز عن تلك القاعدة في الحب، فوقع في حب الشخص الخطأ وابتدأت سلسلة العقاب. هل كان الإلتزام يومًا بالقواعد خطيئة يعاقب عليها المرء؟
اسقطت جسدها على السرير بعد أن كانت جالسةً بقوة، ولازالت ليلة البارحة تتقافز مشاهدها أمامها، وألمهُ يزرع حضوره داخل نفسها. إلهي كيف يأتي ألمها على فقدانهم جميعًا أشدّ من ألمها على خسارة حبها؟ سحقًا للحب إن كان سيذيقها الذلّ بعيدًا عنهم.
سمعت طرقًا على بابها فأذنت للطارق بالدخول، لم تنظر لمن دخل بل ظلت مثبتةً لحدقتيها بالأعلى، بالتأكيد ستكون أم ياسر، سترمي بكلماتها السّامة في وجهها ثم ستُفصح عن عدم رغبتها في البقاء معهم. ابتلعت ريقها وأغمضت عينيها بتوتر، حتى وإن كانت ذا ثقةٍ ببراءتها من كلّ تفكيرٍ سيء في حقها إلا أنها تصاب بالتوتر حين قدوم المواجهة. فتحت عينيها بشكل سريعٍ وأدارت رأسها ناحية الباب فور سماعها لاسمها يخرج بصوت هديل
هديل ويديها على خصرها معاتبة : وش سالفتك إلين؟ اطلعي من غرفتك صايرة مملة هالأيام
ثم مدت شفتيها بامتعاضٍ لتضحك إلين رغمًا عنها مُتناسية لألمها وتجلس، وباستفزاز : واللي يعافيك لا تحاولين نفخها بالغصب ... بتظل اسباغيتي لو وش ما سويتي
عضت هديل شفتها الصغيرة والمزمومة باستفزاز : زين مو إطار سيارات
ضحكت إلين أكثر وأكثر، ثم حركت حاجبيها : موتي بحرتك زين، تبين مثلها بس ما بيدك شيء
ثم حركت فمها المُمتلئ يمينًا ويسارًا بسرعةٍ في حركة تقليدٍ للمصرين.
غطت هديل وجهها وانفجرت ضاحكةً : الله يرجك يابنت
عادت إلين واستلقت وقد تجهم وجهها فجأة، فاقتربت هديل منها لتجلس على السرير وهي تشعر أنها ليست بخيرٍ منذ أيام، واليوم تضاعف ما بها فقررت أن تتدخل وتعرف منها ما الذي قلب حالها هكذا.
هديل وهي تجلس بجانبها : إلين
إلين بشرود : نعم
هديل : وش فيك؟
حركت إلين رأسها يمينًا ويسارًا لتهمس : مافي شيء
هديل باصرار : الا فيه
أدارت إلين لها رأسها بضيق : وش تبين مني الحين؟
هديل بعينين ضيقتين : اعترفي وش وراك؟
أمالت حاجبيها بضيق، أيعقل أنها تشك بها أيضًا.
تابعت هديل بشك : أمس بعد مارجعنا من حفلة الملكة سمعتك تقولين كلام غريب في نومك
تجعد وجهها باستغراب، لكن سرعان ما بدت عليها الدهشة وجلست بسرعة : متى؟
هديل بملامح مستغربة : قلتلك أمس
إلين : متى تحديدًا؟
تجهمت هديل وهي تقف مُبتعدة : بعد مارجعت دخلت لغرفتك مباشرة ... كان ودي أهذر معك شوي بالحفل بس لقيتك نايمة وتتكلمين في منامك
سحبت إلين أنفاسها ببطء، إذن هي من دخل إلى غرفتها وهي توهمت أنه هو، يالحماقتها كيف سيدخل المنزل من الأساس؟؟ وهي بكل سذاجةٍ أصبحت تهذي أمام ياسر لتفتضح أمرها، ياسر! بالتأكيد لن يتخلى عن فضوله لمعرفة ما الذي حدث في ماضيها ولازال قائمًا إلى الآن، وقد يخبر أمه!! يا إلهي ماذا سأفعل الآن!!
أفاقت على صوت هديل المرتفع : هيييييييي أكلمك أنا
إلين بملامح متضايقة : وشو بعد؟
هديل : أقولك كنتِ تكررين اسم أدهم على لسانك
شتت نظراتها وجُف ريقها فجأة، هذا ما كان ينقصها
تابعت هديل بعينين ضيقتين مُتسائلة : منو أدهم ذا يا إلين؟
رطبت شفتيها بلسانها وأعادت حدقتيها لمرمى هديل، ثم تنحنحت لتنطق بأغبى عذرٍ طرأ على لسانها : اسم شخص في الفيس
فتحت هديل فمها ورفعت عضمة وجنتها اليُسرى بغباء : وش دخله فيك ذا؟
إلين بتورط : كان يومها متعرض لي بكلام وشتائم
اقتربت هديل ويبدو أن الموضوع شدها : ليه؟
زمت شفتيها وقد أدركت أنها أدخلت نفسها بمُصيبة، فمن أين ستتذرع لها بقصةٍ تُقنعها!
هديل بحماسٍ جلست بجانبها : قولي قولي وش صار؟
إلين بارتباكٍ واضح : واحد
هديل : أدري انه واحد أجل اثنين .... بس وش سوى ذا الواحد؟
إلين : ماني متذكرة التفاصيل كاملة بس - صمتت قليلًا ثم تابعت - شخص ثقيل دم وانتهى
هديل بإصرارٍ وبعض الملل : يووووه إلين عن السخافة عاد، قولي السالفة كاملة
إلين بجدية : ما يهمك
مطت هديل شفتيها بضيق وامتعاض : خايسة
ابتسمت إلين لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها ليحل محلها التوتر عندما فُتح الباب ودخلت أم ياسر تنظر لهديل بنظراتٍ حادة : ما تسمعيني أناديك من فترة؟ تعالي أبيك بشغلة
ثم وجهت نظراتٍ أشد حدةً لإلين وخرجت وهديل تتبعها بوجهٍ مُستفهمٍ، ما الذي يجعلها غاضبةً هكذا؟
ابتلعت إلين ريقها ما إن أغلق الباب، لا بل ابتلعت فراغًا، تشعر أن فمها لم يعد يستطيع إفراز اللعاب من شدة غصتها. لا تريد لهديل أن تختلط معها! لا تريد لفاسدةٍ مثلها أن تنشر فسادها بين عائلتها الصغيرة، تحتقرها! أمها تحتقرها!!!!
,
لم يكن يتوقع يومًا أن قربه منها بهذا الشكل قد يُسعده لهذه الدرجة، أن يُشعره بالدماء تسري حقًا في عروقه. سيكون معها طيلة الأيام القادمة، قريبًا من قلبه المسروق من قِبلها. أغمض عينيه بنشوةٍ وهو يمد يده ليخلخل بأصابعه أصابعها، فانتفضت تحاول نزع يدها من يده : شسالفتك انت؟؟
نطقتها بحدةٍ فابتسم وهو ينظر لعمه الذي كان يتحدث مع حارس المبنى، ليشد على يدها أكثر وابهامه تتجول على بشرتها : زوجتي
استدرات عنه وهي تكشر بأنيابها اشمئزازًا، لتنطق بشيءٍ من القهر و القرف : شيبتني بهالكلمة
ضحك بخفوتٍ وهو يميل إليها ليرفع يده الأخرى يُمررها على خدها باستمتاع : ماني عايدها أجل ... وش أبي في مرة يملأ راسها الشيب
جيهان بضيق : وقف عن حركاتك أبوي موجود
انشدت ملامحهُ فجأةً بجدية : الحمدلله انك للحين معترفة إنه أبوك!!!
ابتلعت ريقها وهي تنثر نظراتها على كل شيءٍ عداه ووالدها، لمَ يأتي الآن ليُشعرها بالذنب؟ ألا يعلم أنها تشعر بالموت كلما فكّرت بالقرار الذي اتخذته؟ ألا يعلمُ أنها نحرت نفسها قبل والدها برفعها لصوتها عليه؟ لكنه يبقى قاتلُ أمها وهذا ما يؤلمها أكثر، يبقى سبب رحيلها وهذا ما يُنفرها منه.
ابتسم فواز بسخريةٍ عندما لم يجد منها إجابة وحررها يدها لترتعش فجأة، يتقرف منها! أجل هو أيضًا يتقرف منها كما تتقرف من نفسها هي، كيف لا وهي فتاةٌ عاقةٌ بوالدها! ... لكن ذلك جيدٌ بالنسبة لها، فليتقرف منها لرُبما يجعله ذلك يكرهها ويُطلقها.
اتجه فواز لعمه الذي كان يضحك مع الحارس بأريحيه، مارك البدين الذي أصبح في نهاية العقد الخامس من عمره. معرفتهم به امتدت لأعوامٍ طويلة، ذلك لأن يوسف سكن بروكسيل لسنين في شبابه وقبل زواجه بمنى التي كانت تقطن في بروكسيل لأعمال والدها التاجر، ومن بعد زواجه بها ظلّ يعانق هذه المدينة التي أحبها والتي أحبتها ابنته لحب أمها لها أولًا ولعيشها فيها نصف عمرها ثانيًا.
ابتسم مارك لجيهان ليرفع يده مُشيرًا بالسلام ويتحدث بلغته الفرنسية الطليقة، فهو تبعًا لعمره ولخبرته يستطيع التحدث باللغات الثلاث التي تتحدث بها بلجيكا، ولمعرفة جيهان للفرنسية فقط تحدث بها : كيف حالكِ يا ابنتي؟ كبرتي كثيرًا
ابتسمت ببهوتٍ وهي ترفع يدها لتتمتم بالحمد وتصمت، فقطب جبينه المُجعد باستغرابٍ ولم يُعلق. استدار لأرجوان ليسألها عن أحوالها وتجيبه بابتسامةٍ نقية، كان قريبًا لجيهان أكثر منه لأرجوان، فهو كان بمثابة والدها وهي كانت طليقةً معه دون قيودٍ بمرحها ومشاكساتها، أما أرجوان فكانت تميل للهدوء والرزانة.
جلس مارك القرفصاء ليمسح على شعر ليان الناعم : وما اسم هذا الملاك الذي جاء للدنيا متأخرًا فلم أستطع اللحاق به ومنشفته تعانق جسده؟
تراجعت ليان ووجهها متجهمٌ بعدم راحةٍ لتتمسك بأرجوان فهو غريبٌ عليها، فابتسم مارك لها ورد عليه يوسف : ليان ... عمرها سبع سنين أي جاءت للدنيا بعد أربع سنين من عودتنا للبلاد
مارك بابتسامةٍ ودودة : كم هي جميلة - استدار ليوسف ووقف يسأله مستغربًا - لا أجد منى معكم، أين هي!
تجهم وجه يوسف وأرجوان بينما أخفضت جيهان رأسها بحزنٍ لم ينضب
فواز وهو يهمس بأسى : ماتت قبل شهرٍ تقريبًا
جفل مارك للحظاتٍ وبدا عليه الحزن، ثم همس : آسف
أومأ يوسف برأسه : لا عليك
أدرك مارك الآن سبب حزن جيهان الدفين وعَذرها، فهي كانت أكثر تعلقًا بأمها من أرجوان التي تعلقت بوالدها أكثر، فبالتأكيد ستشعر بالخواء بعد رحيل أمها.
بعد لحظاتٍ كانوا قد صعدوا إلى شقتهم وفواز ذهب لشقته التي يفصل بينها وبين شقة عمه طابقان، يقطن في رابع هذا المبنى المكون من خمس طوابق وعمه في الثاني، وفور دخوله لغرفته التي تركها لشهر رمى بجسده على السرير الأبيض وهو يلتقط أكسجينًا نقيًا بدل الذي اختلط برائحتها الطبيعية، وكم تمنى لو يستطيع أن يحصر أنفاسه على رائحتها فقط.
,
وضع صحن الطعام على الطاولة أمامه وهو يستمع بابتسامةٍ لتمتمة والدته بأمنيتها في العودة للأكل على الأرض، لكن هشاشة عظامها لا تسمح لها.
عُلا بأسى : يازين الأرض والجلسة فيها ... آه ياذي الدنيا منعتنا حتى من سنة الرسول
أومأ برأسهِ مُبتسمًا وهو يقرب صحن المعكرونةِ منها : غداء متأخر للسيدة عُلا
علا بتجهم : أبي أنزل للأرض
شاهين بجدية : ممنوع
لوت فمها ثم بدأت بالأكل، وهو بجانبها يأكل ويتأملها بابتسامة، يعشق هذه المرأة، يعشق الحياة لوجودها بها، رُبما لو لم تكن معه لكان قتل نفسه منذ موت أخيه، وكم يشعر أن الحياة ناقصةٌ لعدم تواجده بها، وكم يشعر أن نصف روحه غادرته بعد موته، أي أنه شبه حيٍ فهو أخوه، والده، لطالما كان العقل والحكمة والهدوء، وشاهين القوة والدهاء والمكر، لكن ما الذي بقي به بعد أن قُطعت السبل كلها للقائه في الدنيا، ولولا هذا البريق أمامه وروح الحنان لما ارتجى من هذه الدنيا شيئًا.
انتشله من كومة أفكاره صوت أمه الحنون : شاهين
شاهين بابتسامة : لبيه
علا : لبيت في مكة - صمتت قليلًا ثم تابعت - ماتحاول تعجل بزواجك؟؟
تنهد شاهين ثم هتف بجدية : ما عندي مانع بس القرار الاول والأخير بيكون لها ... إذا ودها نعجل اوكي، وإذا ودها ناجل ما عندي مشاكل
علا بتجهم : وإذا حكيت معها أنا؟
شاهين بتنهيدة : ما عندي اعتراض
ابتسمت وهي تترك الملعقة لتتلقف كفه الدافئة وتهمس : أبي أشوف عيالك قبل أموت
قرب كفها من شفتيه ليقبلها مرةً بعد مرة : يا عسى عمرك طويل يُمه .. يومي قبل يومك
علا بابتسامةٍ قنوعة : أنا العمر انتهى مني فديتك، أكل فيني المرض وكمل علي موت أخوك ... وش أبي في الدنيا غير أشوف ضناك وأشوفك فوق دايم
شاهين بحزنٍ تجلى على عينيه : وأنا فوق بوجودك معي
اقترب منها ليدفن وجهه في كتفها مقبلًا له بعمقٍ ويكمل بصوتٍ مُختنق : ما أبي شيء من الدنيا غير رضاك، ما أبي غير وجودك معي - استنشق رائحتها العذبة وأردف - الله لا يحرمني ريحتك ولا شوفة ناظريك
مسحت على خصلات شعره بابتسامةِ أسى، هل ستأخذه الحياة البرزخية يومًا كما أخذت ابنها الآخر؟ هل ستحرمه منه ومن بره لها؟ إن كان الحزن والأسى تمكنا منها حين فقدت الأول، فإن الموت هو من سيتمكن منها إن فقدت الآخر.
ابتعد شاهين وهو يبتسم لها ابتسامةً شقية : أشوف المشاعر خلّتك تهربين من الأكل ... يلا ابدي في الأكل أشوف
ضحكت بشفافيةٍ وهي تضربه على رأسه : قليل أدب
شاهين : أفاا
علا : تشوف أمك تاكل وتتركها تاكل بروحها
شمر عن أكمامه بجدية : ولا زعلك يا الغالية ناكل معك ... كم علا عندنا
,
تمشي ذهابًا وإيابًا في غُرفتها التي من المُفترض أن تتركها بعد أن عاد إليها سيف زوجًا، لكنها ولشيءٍ لا تعلمه تشعر بنفورٍ تجاهه لم تشعر به من قبل، فهل غياب شهرين ونصف بنى في قلبها الأسوار ليكون حائلًا دون الإقتراب منه جسديًا وتقَبله حتى وإن كان إلى الآن غارقًا في عشقه!
رطبت شفتيها بلسانها وهي تضغط على أحرف هاتفها تحدث أسيل في " الواتس أب " بشيءٍ من اللا راحة، فبحسب ما قرأته بين أسطر حروفها علمت أنها ليست على ما يرام، تسألها ما بها ولا ترد إلا بشيءٍّ واحد " ما أبي شاهين ".
رفعت رأسها تلتقط أنفاسها، كم تتمنى لو تستطيع الذهاب إليها الآن لكن سيف غير موجود، ولن تستطيع الخروج مع السائق. تشعر أنها عنده ليست سوى سبيةٍ ليتعامل معها بكل تلك الخسّة، لا زوجةٌ ولا حتى أم لأطفاله المُستقبليين، ابتسمت بسخريةٍ على حالها، أمٌ لأطفاله! أي أطفالٍ وهو يرفضهم ليجعلها تتناول الموانع رغمًا عنها، لا يريد منها طفلًا، ألم تطلق على نفسها سبيةٌ منذ دقائق؟ وهاهي تصرفاته تثبت كلَّ معنًا لتلك الكلمة.
خرجت من غرفتها بعد أن أنهت أسيل حديثها معها بالتجاهل، يومًا بعد يوم تموت شخصيةُ أختها كما ماتت شخصيتها يوم تزوجت بسيف. زفرت أنفاسها وتوقفت وهي تنظر لمكتب زوجها المفتوح، غريبٌ أن يتركه مفتوحًا وهو الذي يغلقه دائمًا لوجود الكثير من أوراقٍ تخص عمله.
تنهدت، منذ متى كان غير مُهتمًا وهو الذي يحترم عمله أكثر منها. عضت شفتها من تلك الفكرة التي طرأت في عقلها. أعقلي أعقلي، فأنتِ بأفكاركِ لا تُجهدين سواك.
ولجت الى المكتب بملامح مشدودةٍ بقهر، وبنظرةٍ سريعة تفقدته نظيفٌ كما العادة، لتدخل بخطواتٍ ضيقة تتأمل أوراقًا كانت منثورةً على المكتب، وعلى الكُرسي الجلدي شماغٌ أبيض، زفرت بضعف، رائحته تغلغلت حتى أعماقها، رباه هل لرائحته فقط كل تلك القدرة على جعل اعضائها تسترخي بهذا الشكل؟
لفت نظرها صورةٌ كانت موضوعةً على المكتب، لتقترب مقطبة الجبين وما إن رأت من فيها حتى زمت شفتيها وتأججت نيران القهر داخلها، ودونَ وعيٍ منها أطبقتها على سطح المكتب لتنظر لساعة يدها دون شعور، الرابعة والنصف، إنه مع من في الصورة الآن كما في كل يوم. يا الله! تشعر أن النيران تستعر داخلها، لا تريد أن يكون مع من في الصورة، تريده أن يكون معها هي فقط حتى ترتاح نفسيًا. ظلمها وجدًا، ظلمها فلمَ لم يعطيها هذا الحق أيضًا؟؟
خرجت من الغرفة مُهرولةً تحبس دموعها في محاجرها، لن تبكي بسبب شيءٍ تافه كهذا، قطبت جبينها ألمًا، تافه!! .... انتبهت له يدخل الجناح فتجمدت في مكانها تنظر إليه، وهو كان يُديرها ظهره فبخفةٍ استدارت لتغلق الباب بالمفتاح وتأخذه، حينها كان قد استدار وهي تُديره ظهرها، لا تعلم لمَ كانت تريد عُذرًا يجعلها تبرر دخولها، ربما لأنها لم تكن تريد منه أن يعلم أنها دخلت، ورأت تلك الصورة، رغم أنه في الحقيقة لن يهتم!!
استدارت نحوه بهدوءٍ ظاهري بعد أن أغلقت الباب وأخرجت المفتاح، لتهتف ببرود : كان مفتوح وقفلته
رفع حاجبًا، هل سألها الآن لمَ كانت تغلقه؟ لكنه تجاهل ما قالته وهو يتناول المفتاح من يدها التي مدتها، ثم تخطته نحو غرفتها، لكنَ صوته الهادئ أوقفها : من بكرة بوصلك بنفسي لشغلك
استدارت إليه بسرعةٍ مُتفاجئة، ولم تستوعب ما قاله. أردف هو بعد أن استدار باتجاهها : حتى رجوعك للبيت بيكون معي أنا وغير كذا اعتبري شغلك مرفوض
ظلت تنظر لوجهه ببهوت، تلمح الهدوء وعدم المبالاة لكنها كانت تستشعر دفء ملامحه وبشاشتها معها، هل أدرك كذبتها بشأن السائق؟
سيف ببرودٍ ظاهري : شفيك انخرستي؟ ما عجبك اللي قلته
هزت رأسها بالنفي وهي تتطلع به بوجهٍ لازال مُتفاجئًا، منذ متى وهو يحقق أحلامها خصوصًا إن كانت متعلقةً بالعمل؟ لم تستوعب بعد أنه وافق على عملها بعد شجارهما ذاك.
بقيت نظراتهما معلقةً ببعضهما للحظات، إلا أن تمتمت بصوتٍ فاتر : شكرًا
لم يرد عليها وهو يتأملها، لا يستطيع أن ينكر لمحة الفرح التي زاولت ملامحها، أيعقل أنها من شيءٍ بسيطٍ كهذا أشرقت ملامحها بالفرح معه!
تنهد بجزعٍ ليهمس : تعالي
لم تستجب له وملامحها مُتيبسةٌ في ملامحه كما قدميها في الأرض، قطب ملامحه وهو يعيد نفس طلبه لها والغريب أنّ نبرته الآمرة قد اختفت، لكنها لم تستجب له أيضًا. يشعر بنفورها! أجل هي تنفر منه، أين ذهب شغفها السابق به؟ أين ذهب ضعفها ما إن ينظر إليها بعينين راغبتين؟ أيعقل أنه سيفقد كلَّ تلك الجوانب من شخصيتها؟
ضاقت عينيه برفضٍ لتلك الفكرة، واقترب منها هو بدلًا من أن تقترب هي، ليزرع جسدها بين أضلاعه يتمتم في نفسه برجاءٍ وبكلمتين فقط .. لا تذهبي
فتأوهت هي بألمٍ من شدة ضغطه على جسدها النحيل، ليكتم هو تأوهها ذاك بشفتيه.
,
والأخرى بعد مكالمتها لأختها نصيًا رمت هاتفها لتُنهي الكلمات الخائفة عليها بالتجاهل، فلتخافي علي، فلتخافي فأنا في الحقيقة أصبحت بين الأموات، أعانق يُئسهم فمن ذا الذي يبكي نهاره إلى ليله، ويناجي الموت من ليله إلى نهاره!
زمت شفتيها لتغمض عينيها تهمس لنفسها ببضع كلماتٍ مشجعة : يكفي يا أسيل يكفي .. ما صار شيء، بتخلينه يطلقك، وبيطلقك، بيطلقك * تأوهت فجأةً لتهمس ودموعها تساقطت * المسألة مو بهالسهولة مثل ما تظنين، مو بهالسهولة .... آه كله مني، كله مني
وقفت بتمايلٍ تمسح دموعها، إن كانت كل أبواب السعادة أُغلقت أمامها، وكل دروب الحياة سُدت بخرسانة، فيكفيها على الأقل أن تُفرح أمها وتُضحكها، يكفيها أن تريح أخاها من حملها الثقيل، يكفيها أن تراها أختها فتبتسم مُطمئنةً عليها.
تنهدت بضيق، ثم اتجهت لباب غرفتها، ستخرج لأمها لتُفرحها مؤقتًا على الأقل، فهناك احتمالٌ كبير في طلاقها قريبًا. لكن كيف؟ كيف؟
,
" من جدك انت؟ " ... نطق بها عناد وهو يريح كفه الأيسر على فخذ سلطان الجالس بجانبه
فتنهد سلطان بعجز : عارف إن الموافقة كانت من البداية غلط
عناد بجدية : مو مسألة موافقة، الزواج انت حرّ فيه سواءً رضيت بهالبنت أو لا، بس الغلط إنك تتركها بعد مدة ... وش ذنبها هي؟ يا تكمل الزواج أو تترك السالفة من البداية إن استصعب عليك نسَبها
سلطان : صعب أتركها والعقد تم
عناد : أجل تتركها بعد ما تنتهي أمور الزواج الإعتيادة وتصير في بيتك؟
تنهد سلطان وصمت، فأردف عناد بعتاب : زواج متعة يا سلطان؟
استدار سلطان إليه بانفعالٍ وعيناه متسعتان : أعوذ بالله من غضب الله ... مجنون انت تفكر بالموضوع من هالناحية!
عناد بواقعية : أجل تربط هالزواج بسنة بس وتقول مجنون؟ الجنون هو اللي تسويه يا ولد أمي
سلطان بجزع : هالشرط ما ذكر في صلب العقد نفسه
عناد : ونيتك الحين؟ ... انت تظلمها وإن ما اعتبرنا الزواج متعة بالمعنى الشكلي
لم يُجب سلطان ولم يُرد أن يذكر له أن الزواج لن يكون إلا على الورق، شيءٌ ما ردعه عن ذكر البقية الباقية من الموضوع المتعلق بغزل، ربما شعر بالشفقة عليها، رحمها ففي النهاية ما ذنبها هي في أعمال والدها، لكنه لا يزال يستصعب الأمر ... ومن يدري! لربما الأيام تخبئ الكثير بينهما، والذي سيحول حياتهما مع بعض إلى دائمة.
استأذن عناد ليتجه للحمام، وفي خضم الدقائق التي غابها كان سلطان يقلب موضوعًا في رأسه، يريد أن ينتقم، يريد أن يُعيد مجد والده ويثأر له، لن يرتاح إلا إن رأى سلمان خلف القضبان أو كفنًا يعانقه. ارتجف عند تلك الصورة، أيعقل أن يرتاح حقًا؟ وهو يرى والده الآخر في ثوبٍ أبيض يزفّ إلى لحده كما رأى الأول! .. زمّ شفتيه حانقًا ... يستحق، ذاك هو مكانه. لن يذرف له دمعةً واحدة، بل لن يضعف عن ردع نفسه من التفكير حتى في مسامحته.
بعد لحظاتٍ كان عناد قد عاد وجلس بجانبه، وبقليلٍ من التعمق بملامحه أدرك مافي جعبته : وش فيك؟
هز سلطان رأسه بالنفي، وبجمود : مافي شيء؟
أومأ برأسه، يعلم جيدًا أنه يفكر فيه، بالتأكيد فمنذ عرف الحقيقة وهو لا يريح عقله من التفكير في ذاك الموضوع المُجهد له، إلى أين ستصل يا سلطان؟ إلى أين؟
,
في الثامنةِ صباحًا بتوقيت بروكسيل ... كانوا قد اجتمعوا على طاولةِ الإفطار كلٌّ يغرق في صمته عدا ليان التي كانت تعلق وتسأل أرجوان أسئلةً طفولية وهي ترد عليها ردًا موجزًا، رفع يوسف رأسه موجهًا نظره لجيهان الشاردةُ في صحنها : جيهان
رفعت عينيها إليه بسرعة، ثم ابتلعت ريقها : هممم
يوسف : فواز بيمر عليك بعد ساعة عشان تطلعين معاه
كان يريد لمزاجها أن يتغير فطلب من فواز أن يُخرجها معه. تجعدت ملامحها بضيق لتهمس بعد أن وضعت ملعقتها : ما أبي
يوسف بحاجبين مقطبين : ليه؟
حركت رأسها يمينًا وشمالًا دون معنى، لتهمس : ما أبي أطلع وياه
احتدّت ملامح يوسف، لم ترُق له كلماتها، يعلم بكرهها له ويستغرب سببه، فزواجهما كان طبيعيًا وهي بنفسها من وافقت دون ضغوطات .... أو رُبما ظنّ ذلك.
هدر بصوتٍ حاول إخفاء الحدة به : وليه ما تبين تطلعين مع زوجك؟
جيهان بغصة وبهشاشةٍ ترفض تركها : ما أحبه
يوسف بملامح قاسية : ما تحبينه؟ هذا عذر؟
إلتقط أنفاسه ليسطر على أعصابه فيكفي تفاوتًا في المسافات بينهما : انتِ بنفسك اللي رضيتي فيه، الزواج مو لعبة عشان تغيرين رأيك حسب مزاجك، الزواج مستقبل وحياة لها أولوياتها ... * أكمل بصوتٍ هادئ فيه من الحنان الكثير * يا بنتي فواز زوجك ولازم تفهمين هالشيء، ما يصير تعصينه أو تزعلينه والا تبين الملائكة تلعنك؟
أمالت شفتيها بعبرة، دائمًا ما تؤثر بها كلماته، تبعث في نفسها طمأنينةً لا حدود لها، لا أحد سواه يستطيع إقناعها بهذه الطريقة، حتى أمها إن كانت تريد إقناعها استخدمت الشدة أو الإغراء، بعيدًا جدًا عن أسلوب والدها المُنمق بالسكينة.
أمال يوسف حاجبيه وهو يرى ملامحها تتبدل، ستبكي هو يعلم، فمقدمات بكائها قد ظهرت، تقوس شفتيها، إقتراب حاجبيها من بعضهما، وتمريرها للسانها على شفتيها مرارًا وتكرارًا، إضافةً لاحمرار وجنتيها البيضاويين. تنهد وهو يقف متجهًا إليها، حتى ما وصل إلى مقعدها رفعها قليلًا ليزرعها بأحضانه العذبة، وتبدأ هي بالنحيب قبل أن تسقط دموعها، ثم ترتفع شهقاتها إضافةً إلى أنينها، وأخيرًا تنزف تلك العينين الشفافتين.
وقفت أرجوان فجأةً لتمسك بيد ليان وتأخذها معها لغرفتهم المشتركة، بينما كانت عينيها تقاوم الدموع على حال أختها.
وذاك تركها تبكي دون حرف يستمع لعتابها الذي حُصر بكلمة " ليه؟ ". يدرك ضياعها بين شقين، ألمها لموت أمها، وألمها لابتعادها عنه مرغمة، فكيف لها أن تحتمل قربها ممن تسبب في موتها؟
بعد لحظاتٍ كانت قد ابتعدت بنفسها لتتجه لغرفة نومها مع شقيقاتها وشهقاتها لم تُخمد بعد، فجاءها صوت والدها ليذكرها بعد تنهيدةٍ طويلة : فواز جاي
أومأت برأسه وهي تديره ظهرها، ثم تابعت خطواتها للغرفة بصمت
بعد نصف ساعةٍ كان فواز يجلس مع عمه ينتظر خروجها إليه، وفور سماعهِ لخطواتها رفع رأسه لينظر لها مُتلحفةً بلباسها الزهري الطويل لأسفل ركبتيها والفضفاض فوق بنطالها الجينز، يُغطي شعرها حجابٌ سكري أضاءَ وجهها الأبيض. ابتسم دون شعورٍ وهو يتأمل تقاسيم وجهها، هي أجمل نساءِ الأرض في عينيه، هي أزكى زهرةٍ وألذّ ثمرة، هي حُلمه الذي تحقق بتهور والدته.
أوراقُ شجرِ النهار ورغوةُ الندى، مزاميرٌ من رياح، وابتساماتٌ من شذى، أجنحةٌ تغمر الكون بفيضٍ من ضياء، سفنٌ محملة بالسماءِ والبحرِ. لا يعلم لمَ تذكر بضعَ كلماتٍ لبول إيلوار، ربما لأنه رأى أنها تعبّر عنها هي لا غيرها. اتسعت ابتسامته وهو يقترب منها ليقبل جبينها برقة، بينما هي صامتةٌ لا تتكلم، مشمئزةٌ بالتأكيد فلا إحساس يخالجها معه غير الإشمئزاز.
,
وفي السُعودية
العاشرةُ صباحًا
تدقّ أحرف هاتفها مُتعجبة، اليوم لم ترى منشورًا منها، ولا حتى الأمس! مطت شفتيها بامتعاضٍ تُحدث أختها : شكلها حست على روحها وانهت مسرحيتها
تحرك المشط على شعرها القصير بهدوءٍ وحدقتيها تركزّت على أختها من المرآة : مين قصدك؟
" فيه غيرها ستّ الحُسن إلين " ... تنهدت أماني ما إن سمعت تلك الجملة من أختها : وبعدييين
رانيا بامتعاض : ماني منتهية لين ما أشوفها رجعت دار الأيتام
استدارت إليها أماني واقفةً بحنق : انتِ شعليك منها؟
رانيا : محد يعرفها غيري
تأفأفأت أماني مُستاءة : اي محد يعرفها غيرك .. بدليل سكوتك اللي ماله معني غير - الخرطي -
رانيا باستفزاز : أمانــي
أماني : وأنا ماقلت غير الحقيقة ... عندك شيء عالبنت تأكدي منه لا تقعدين تزرعين الشكوك من حولك
ثم دون كلمةٍ أخرى غادت وهي تشعر بالحنق من أختها.
,
وأخرى كانت تجلس أمام المرآة بنفس الوضعية، تنظر لانعكاس صورته في المرآة وهو يرتدي ساعته ويتناول شماغه، وفرشاة الشعر تتحرك بهدوءٍ على شعرها، غريبٌ أمره، في كل مرةٍ يتجدد عندها الشعور بعدم معرفته، غامض، في كلّ مرةٍ يظهر لها بشكلٍ جديدٍ كالحرباء، والسؤال يتكرر في رأسها ... من أنت يا سيف؟
وهو الآخر يُحاول عبثًا عدم توجيه نظراته إليها، لكن عقله رغمًا عنه يوجهها إليها هي فقط، وكأنما هناك قوةُ جذبٍ تختص بها هي وحدها. إقترب أخيرًا من المرآة ليُعدل شماغه، وما إن لامس ظهرها بجسده وانحنى حتى ارتعشت لرائحة العود النفاثة، وأغمضت عينيها وهي تتنهد بقوة، فابتسم .. لازالت هي، أجل هي مَي لم تتغير، فكيف أقترب منها ولا تتأثر! كيف أعانقها ولاترتعش! .. ارتعشي عزيزتي فأنتِ هكذا تثيرين جنوني، تُشعرينني بالنشوة بعد كل الإحباط الذي راودني سابقًا، جيدٌ أنك لا تعلمين ... أنني لم أكن هكذا قبلك!
همس وهو يمرر كفه على ذراعها المُغطى بروبٍ حريريّ مشمشي : مو كنتِ تبين تداومين اليوم!
ديما بخفوتٍ وهي تنظر للأسفل : اليوم الخميس وببدا بالدوام يوم الأحد ان شاء الله
أراح كفه على عنقها الطويل وهو يقطب حاجبيه : والمسرحية اللي أمس! لعبة في يدينك أنا؟
رغمًا عنها ارتبكت، وهي تشعر بأطراف أنامله المستقرة على حنجرتها، لكنها حاولت تلبس ثقةٍ مُزيفة وهي ترفع عينيها لتقابل عينيه من المرآة : بغيت أطلع .. تعرف الملل والبؤس ما يتعب يجاورني هنا
تجعدت ملامحه وكلامها أغضبه، البؤس! ... زم شفتيه ليهمس بتحذيرٍ قرب أذنها : لا توصفي حياتك بالبؤس ... أنا لو بغيت أعيشك بائسة كنت خليتك تتمنين الموت في كل ثانية
تراجع للخلف وهو يرمقها بنظراتٍ غاضبة، هل لمحت في زوايا عينيه الألم؟
توقفت لتستدير إليه بستارٍ رقيقٍ من الثقة : ومين قالك إني معك الحين ما أتمنى الموت!
ابتسم ساخرًا : ماكنتِ كذا ... معقولة من زلة لسان انقلب حالك
ديما بقهر : انت بفعلتك نقصت مني
سيف بعينين ضيقتين : انتِ اللي استفزيتي لساني
ارتعشت ديما بقهرٍ تشد بأناملها على الروب : استفزتك رغبتي بالعيال؟ هذا حقي ... وأكرر عليك نفس الموضوع ... أبي عيال يونسوني وينسوني قهري بعيشتي معك .... والا ... - ابتلعت ريقها لتردف - طلقني
نظر إليها بعينين مُتسعتين يُرسل إليها نظراتٍ مُحذرة، لكنها لم تُبالي ولن تبالي، لن تعرض نفسها للذل أكثر بعذر الحب، لم يستحق يومًا حبها فكيف تهديه بثمنٍ غالٍ ككبريائها، كان حبيبها الذي اعترفت به، لكنه الآن، حبيبها الذي لن تعترف له!
ديما بإصرار : مافي شيء يجبرني أعيش معك غير رباط الزوجية .. نحلّه من الحين أفضل، لأنه لو كان لي طفل منك ما تجرأت آخذ حريتي ... طلقني ياسيف وفكني من ظلمك وأنا اللي عايشة معك دون رضاي
صرخ سيف ينهي حديثها محذرًا : ديــــــــمـــــــــــــــــا
ابتسمت بسخريةٍ لاذعة، لا ينطق اسمها الا إن كان غاضبًا، وهو غاضبٌ الآن، فليغضب، لم تعد تهتم، سابقًا كانت تتبع أوامره صغيرها وكبيرها، عُذرها الطاعة، زوجها ومن حقه طاعتها له، أدت جميع حقوقه وأضافت عليها مشاعرها، لكن ماذا فعل هو؟ لم يُعطها سوى حق الإستمتاع وهذا لا يكفي، فالزواج ليس علاقةً للتمتع جسديًا وحسب، الزواج حقوقٌ إن لم تؤدى كان معناها رائبًا. وهو صنع من زواجهما هذا المعنى المُفلس، حتى حق الأطفال منعها منه، فلمَ تُطيعه؟ لمَ تحترمه؟ لمَ تؤدي جميع حقوقه؟
زمت شفتيها المرتعشتين تُغطي رعشتهما، ستبكي لكن ليس أمامه، ليس أمامه. ضعفت كثيرًا وبكت كثيرًا، ذُلت ولازالت تُذل، يكفي إذن، لن تبكي وهو ينظر إليها، ستختبئ في الحمام بعد خروجه، فقط كي تتأكد من عدم رؤيته لها إن عاد مُضطرًا، ستُعزي نفسها في بيث الخُبث والخبائث، ستغسل وجعها بالدموع لكن ليس أمامه، ليس أمامه. أرجوكِ يا عيناي ليس أمامه.
اقترب منها وهو يعلم مليًا أنها تبكي داخليًا، وستنفجر لا محالة، يحفظ جميع تفاصيلها وإن لم تدرك هي، يحفظ كل ارتعاشةٍ منها، وكل ضعفٍ قد درسه سابقًا ونُسخ في عقله، وهو دون جهلٍ يُلصقه مرةً أخرى بها كلما تشاجرا.
أمسك عضدها فسحبت نفسها منه بعنفٍ لتصرخ بنفورٍ وقهر : ابعد عني ... لا تلمسني ... في كل مرة تجرح وأنا ساكتة، تطالب بكل حق لك وأنا أرضى مو عشانك ... عشان اللي فوق بس، عشان أرضي ربي بس .. وانت ... وانت ولا مرة أرضيتني، ولا مرة أسعدتني بكلمة، ولا مرة حسستني إني انسانة وزوجة .... لا تلمسني يا سيف ماعاد أقدر أتحمل أوجاع أكثر منك!
جُفل من انفجارها الغير متوقع، لكنه لم يُوضح صدمته بل كما اعتاد أظهر الغضب في ملامحه : ميْ!
ديما بصراخ : ديما ديما ... اسمي ديما متى يفهم عقلك هالإسم؟؟؟
سيف بغضبٍ وهو يمسك ذراعيها بقوةٍ ليغرس أنامله بقسوةٍ في بشرتها : صوتك لا يعلى أو بتشوفين شيء ما يرضيك
سقطت دموعها دون أن تستطيع كبحها أكثر (الظلم ظلمات يوم القيامة ) هكذا كانت ترددها في نفسها بصدًا باكي، وهكذا كانت ترددها أمامه على لسانها بصوتٍ نازف، ظلمها في العيش معه، وظلمت نفسها بحبه، هو ظلمها وهي ظلمت نفسها، كلاهما ظالمان، وكلاهما مُذنبان، وهي من عوقبت على إجرامها في حق نفسها أما هو فنجى من الشنق حُبًا كجزاءٍ على تعاستها، كانت سترضى لو كان يُحبها، لأنها كانت ستدرك أن ما يفعله ليس نابعًا من قلبه، بل هو نابعٌ من سببٍ مُقنع. فما عُذره الآن على كل ما يذيقها به؟ ما عذره الآن على كل سكينٍ غرسه في قلبها فنزفت عيناها غلًّا على قلبٍ اتصل قسرًا بالعينين في أمور العشق. ما عذرك ياسيف لتذيق قلبي كلّ هذه المرارة من الحب؟ وكيف سيأتي يومٌ تواجهني فيه بكلمة - آسف - فأرتضيها، أين سأهدرها وقد نزف قلبي إلى أن جفّ وتجعد؟ إلى أن تهدل وأصبح لا يسعه ماءُ حُبّ يرتويه، لا يسع قطرة ندى تعيد زهوه بعد أن بهت وشحب. أين سأصرف أسفك حينها يا سيف؟ قلْ لي أين سأصرفه؟
تشبثت في ثوبه فوق كتفيه، تبكي أسًا وألمًا وموتًا! وهو متجمدٌ في مكانه ينظر للفراغ، آلمه بكاؤها هذه المرة كما لم يؤلمه من قبل، آلمه عجزها حتى كاد يرديه ضعيفًا أمامها، لكنه عض شفته ليُعيد رشده، لن يُخطئ كما السابق ليخسر كل شيء، كبرياءهُ وقلبه!
وضع كفه خلف ظهرها ليمسح عليه وينحني قرب أذنها قليلًا، ويهمس بصوتٍ جفّ فيه الألم ولم يمت : ارجعي لصوابك يا مي، كل هالحركات ماراح تقنعني في شيء
تقنعه في شيء!!! ما الذي يقصده الآن، ما الذي فعلَته ليظن أن كل ما جعلها تبكي هو محاولة تصنعها البراءة؟. ارتفعت شهقاتها لتبتعد عنه، كيف لها بعد كل مافعله أن تتخذ حضنه مواسيًا لها؟ كيف لها أن تُكمل اغتيال كرامتها بيديها؟ ... سحقًا لحبي لك يا سيف!!!
أكمل بجمودٍ وملامح قاسية : لا تحاولي تستفزيني في أمور انتِ عارفة إني أفقد فيها أعصابي كليًا ... خصوصًا - ركز نظراته الحادة عليها - مستر السواق
لم يُتبع بكلمةٍ واحدةٍ وخرج، وهي تراجعت لتجلس على السرير تُكمل بكاءها، لعلّ الدمع يحمل جزيئات الألم ليُخرجها مع كل قطرةٍ مالحة، لعلّ الملح ليس سوى قهرٍ وأسى، يخرج بذاك المذاق لملوحته في النفوس.
,
ولج للغرفة بشيءٍ من " الطفاقة " لتُفزع تنظر إلى الداخل، بينما ابتسم يقترب منها ببطء إلى أن جلس بجانبها على السرير : يا صباح الورد
نظرت إليه ببهوت وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها التي ارتبكت فور دخوله، ثم بصوتٍ ميتٍ همست : أهلين
تعجب منها، ما بها؟ يعلم أنها لازالت إلى الآن تُجدد تلك الحادثة في رأسها، لكن الآن هُناك شيءٌ آخر صاحب ما بعقلها لا يعلم ماهيته تحديدًا، لكنه رأى الإنكسار والألم في عينيها : غيداء!!
همس باسمها بملامح متجهمة، لم يرتح لنظرتها، مابها أخته؟ مابها صغيرته!!
بينما نظرت هي إليه بانكسار، لتهمس بغصة : نعم
عناد بضيق : وش فيك؟؟
حركت رأسها يمينًا وشمالًا ليرفع يده يضعها على جبينها، لكن حرارتها كانت عادية، مابها إذن!!
أردف بتساؤل : تحسين بشيء؟ تعبانة؟ أكلتي؟
كانت تهز رأسها بالنفي مع كل سؤال، ليس نفيًا بمعنى إجابة، بل نفيًا لمُعاملته هذه، لمَ يعاملها بهذه الطريقة؟ لمَ يكذب؟ لمَ يتصنع الإهتمام وهو في الحقيقة لا يهتم! لا تحب هذه المعاملة الكاذبة، لا تحب الإهتمام منه وهو يُبغضها / ينفر منها / يشمئز منها!! لا تحب ذلك، لا تحب ذلك
تراجعت فجأةً لتنفجر بالبكاء، صارخةً في وجهه بألم : إطـــــلع بـــــــــرااا .. إطلــــــــع
جُفل ليتراجع، لكنه سرعان ما محى صدمته ليعود للإقتراب منها، ثم أمسك يدها بحنانٍ هامسًا : بطلع حبيبتي، بس على الأقل طمنيني وش تحسين فيه
هزت رأسها ويدها تشنجت، لتتمتم له : ولا شيء، ولا شيء .... بس إطلع، تكفى إطلع ما أقدر أتحملك!!
صحيحٌ أنه كان ليصدم بشدةٍ لردة فعلها هذه، ولا ينكر أنه تفاجئ منها، لكنه يعلم سابقًا أن تلك الحادثة سيبقى أثرها، لكن بالتأكيد ليس على هذا النحو، فهي لا تدرك الكثير مما حصل، ويعلم ذلك جيدًا، إذن مابها الآن؟
غيداء بألم من فكرة أنه لا يعاملها بهذه الطريقة إلا شفقةً أو ربما واجبٌ كونها أخته، لكنه في الحقيقةِ يمقتها : إذا بقيت لي شوية معزة عندك ... فاطلع
ما مقصدها من هذه الجملة؟ ما الذي تعنيه بـ ( إذا بقيت ) ... زم شفتيه وهو يتأمل عينيها بهدوء، إلى أن همس أخيرًا : أوكي طالع ... بس راجع لك وبفهم منك سبب هالحركات
ثم دون كلمةٍ أخرى خرج، هناك ما استجد بالموضوع، حالتها ليست مُطمئنةً له، والحادث وحده لن يفعل بها كل ذلك إلا إن كانت تفكر بشيءٍ آخر أعمق، أيعقل أنها أدركت ما حصل لها؟؟
توجس من تلك الفكرة، وكيف يمكن أن تُدرك ولا أحد في المنزل تحدث عن هذه الحادثة أمامها، حتى أقاربهم صمتوا احترامًا ولم يذكروا الحادثة من أساسها، فهل يعقل أنها عرفت من القليل ممن عرفوا من الناس؟
ثبتت الفكرة الأخيرة في رأسه، هي لم تخرج هذه الأيام إلا لمدرستها، فهل هناك من يعلم ممن في إطار ذاك المجتمع؟
,
يجلس بجانب تلك التي تتلمس عينها اليُسرى بينما الأخرى تنظر إليه بضعف : مافي أمل تسعدني؟؟ إذا كانت أعصاب هالعين تالفة ولا أقدر أشوف، فشلون بعيش بهالضعف في الثانية؟؟
زم شفتيه حانقًا على شاهين، يكرهه، يُبغضه، رغمًا عنه سيقوم بالعملية، ورغمًا عنه سينجح، ورغمًا عنه سيجلب الإبتسامة لوالدته.
همس مُبشرًا لها : تطمني يمه أنا تكلمت مع الدكتور شاهين، أفضل دكتور في المنطقة وأكيد بيسوي لك العملية وبتنجح بإذن الله
انتفخت أوداجها، وهو بكل أنانيةٍ يُسعدها سعادةً مؤقتة، لم يحسب في عقله أن تضمحل هذه السعادة إلى أن تتلاشى نهائيًا، بفعل يديه!!
,
يجلس بين أكوامٍ من آلات ومستلزمات البناء، والعمال يتحركون من حوله بينما يوجههم بين حينٍ وآخرى، وابتسامة نصرٍ ارتسمت على شفتيه بينما التمعت عيناه وهو يقرأ رسالةً وصلته.
( تم التنفيذ مثل ما أمرت )
ضحك، ليجذب أنظار العمال، ليهز رأسه يمينًا وشمالًا وضحكه لم يتوقف، وبخفةً اتجه لرقم سلمان ليرسل له رسالةً نصية وابتسامةٌ عابثة تزين ملامحه الحادة. وبعد أن أرسل وضع هاتفه جانبًا ليُعيد رأسه للخلف مُسندًا له على رأس المقعد، مغمضًا عينيه وابتسامته تقلصت قليلًا.
لا يشعر بالسعادة حقًا، ولا بالراحة لما فعل، ليس لأنه سلمان، بل لأن فعلته لم يكن يومًا ليبتسم لأنه قام بها .... إذن، كيف لسلمان أن يسعد ويرتاح مع كل ما يفعله من قذارة؟ كيف له بفعل ذلك مُتشدقًا وهو بعملٍ واحد شعر بالضيق إلى هذا الحد! زمّ شفتيه حانقًا على نفسه، سيضحك، مثلما يضحك هو مع كل شيء، سيبتسم، كما يبتسم هو مع كل معاصيه.
تنهد وهو يقف، يريد الخروج قليلًا يشتم هواءً بعيدًا عن كل هذه الآثار التي خلفها سلمان بفعلته، والتي ارتدت عليه اليوم بصاعقةٍ قد تقيده لأيامٍ وأيام مقهورًا.
فور خروجه من الباب الرئيسي للبيت وقف عاقدًا لحاجبيه وهو يرى امرأةً يبدو عليها الكِبر تتحرك بتوهانً في أرجاء الحديقة، تتفقد كل جزءٍ وكأنها تتأكد إن كان هناك ماتغير بعيدًا عن عينيها.
بقي قليلًا ينظر إليها متعجبًا، لكنه سرعان ما انتبه لتنحنح جاذبًا انتباهها، فاستدارت كالملسوعة لتفتح فمها فور رؤيتها له، بينما هو لم يرى ردة فعلتها تلك فهي قد كانت مُغطاةً بالكامل.
اقتربت منه ببطء وهي تهمس بصوتٍ متحشرج، بان به العجز والإختناق : عمي فهد!!
بهت ليتراجع دون قصد، أيعقل أن يكون شبيهًا بوالده لدرجةٍ تسمح للناظر بالظن أنه فهد حقًا، لكنه يعلم أنه لا يشبه والده إلا قليلًا، بينما كان لسلمان النصيب الأكبر من الشبه.
ابتسمت بحنين، لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها وبهتت، وهي تفكر أنه من المستحيل أن يكون فهد، ففهد مات ورأت جثته بكلتا عينيها، وإن كان حيًا فهو سيكون في نهاية العقد الخامس من عمره تقريبًا، إذن من هذا الشبيه به! حتى سلمان سيكون في العقد الرابع بينما هذا يبدو عليه الصغر. همست بتساؤلٍ مُتعَجب : مين انت؟
زفر بضيقٍ من ذكر اسم والده الذي ارتبط في ذاكرته بسلمان، ليبتسم ببهوتٍ هامسًا دون أن يسأل عن هويتها هي أولًا، لكنه لا يعلم كيف شعر بالراحة تجاهها : سلطان فـ
قبل أن يُكمل اسمه كانت قد شهقت لتردد : سل سلطان .. انت سلطان؟؟؟
تعجب يؤمئ برأسه مستغربًا، لتقترب منه ودموعها التي خفيت عنه بسبب الخمار تساقطت، لتمد يدها تريد لمس وجهه المحبب لها، تريد الشعور بذاك الطفل الذي كان يسكن أحضانها سابقًا، بذاك الطفل الذي كانت أناملها تمسح دموعه.
تراجع مصعوقًا مما كانت ستفعل لتنتبه هي لنفسها، فزمت شفتيها ألمًا، تذكرت أنه لم يعد ذاك الصغير المُشاكس، لم يعد ابنها الذي لم تولد به، لم يعد سلطان الذي رأته آخر مرةٍ وهو في الثانية عشرة، يوم اغتيال والده! بالتأكيد لن تستطيع لمس وجهه كما السابق، لن تستطيع مسح دموعه كما مسحتها آخر مرةٍ يوم توفي فهد، فهو كبر وأصبح رجلًا، كما أنه إن تذكرها لن يقبل بها، فهي ....... زوجة قاتل والده!!!
,
عيناه المتوهجتان بنور الهاتف تتابعان الكلمات بقلق، يكررها على لسانه مرارًا ومرارًا. ما الذي يقصده؟ توجس وهو يعيد الجملة المكتوبة اخيرًا، إلهي ما الذي يقصده؟
( العين بالعين، والسن بالسن، و ... - النار بالنار - )
متوجسٌ من آخر كلمتين، مامعنى ما يرمي إليه، النار بالنار! النار بالنار!!!!عض طرف شفته بقلق، ليس من الحكمة أن تعمل شيئًا يزعزع هدوئي الآن، ليس من مصلحتك يا سلطان
وفي خضم تفكيره العميق بالمعنى، كان هاتفه قد صدح بصوته في الأرجاء، ليرفعه دون رغبةٍ في الرد، لكنه رد أخيرًا وهو يرى رقم أحد مسؤلي مخازنه، لمَ قد يتصل؟ ما الذي حدث؟؟؟؟
الكلمات التي كانت ترشق من الرجل على الطرف الآخر أخرسته، لم ينطق بكلمةٍ وعيناه تتسعان تدريجيًا، فعلها!! فعلها! هاهو يرد أول ضربة، هاهو يبدأ بانتقامه
أغلق الهاتف بغضبٍ ليتمتم من بين أسنانه : سلطــــــــــــــــــان!!
لكنه سرعان ما هدّأ غضبه ليبسم بحنق : ما عليه ... مشكلتك ما تدري إنك آخرتها بتندم!!
.
.
.
انتهى
وموعدنا بإذن الله بيكون الخميس القادم
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|