كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم
صباحكم / مساؤكم سعادة وراحة بال
عساكم بصحة وسعادة من بعد كرف الإمتحانات :$
الله يوفق الجميع ويسعدكم بالنتائج المحمودة يارب
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(27)
صعدَ ينوي الإتجاه إلى غرفتهِ بعد أن أنهى غداءه مع والدته وتركها تستريح في غرفتها. للعجبِ إنّ العمر في بعض الأحيان لا يُعطي المشاعر حقها، أو ربما المشاعر تستحلّ الإنسان وإن كانت طفوليةً وهو في الثلاثين!
تجهّمت ملامحه وهو يزفر بعمق، وماذا إن كان يغار على والدته؟ هل " انتهت الدنيا "؟
لوى زاوية شفتهِ السُفلى بأسنانه للداخل، ثم زفر للمرة الثانية وهو يهتف بحقد : وخير يعني؟ خلوني طفل اففف
توقف على بعد خطواتٍ من غرفته، ثمّ مرر لسانه على شفتيه وابتسم فجأةً وعقله يُقرر على قدميه الإتجاه للجهةِ الأخرى، وصورةٌ لامرأةٍ بهيةٍ تراقصت أمام عينيه، كلّ تفصيلٍ بها يستقر في مركز ذاكرته، كلّ ردّات فعلها المُضطربة يختزنها في عقله وقلبهِ وجسده! وعيناه تختزلان كلّ انتفاضاتِ قلبهِ لتُصيّرها انتفاضةً واحدة، واحدةً بحجمٍ لا يحتملها جسده فيسقطَ مغشيًا على انجذابهِ لها، أو ربما حبها؟!!
لا يهم! لم يعد الأمر مهمًا سواءً كان حبًا أم انجذابًا، يكفي أنه ينصهر بفعل حرارتها، ويكفي أنّها تنجرف بحيائها بفعل موجاته، يكفي أنه يشعر بالتكامل بها، ويكفي أنّ ابتداءه بات بها وانتهاءه إليها. والقصائد اهتزّ وزنها حين التقينا، لم تستوِي القوافي عند محجريْكِ يا أسيل، لم تستوي ولغة الضاد " عيّت تنصاع عند عيونِك "، تضيع الأحرف والكلمات وينتهي الشعر والنثر عندك، ينتهي التعبير وكل اللغات تضعُف فحولتها وتسقط، تسقط كما سقطت أنا من حيث لا أعلم، وبوقتٍ لم أدركه.
دفع باب الجناح الخاص بهما ببطء، الجناح الذي قارب على الإنتهاء والوقت لم يُسعفه ليختار الديكورات معها، لكنّه بالتأكيد سيجعلها تختار بعض الإضافات ليصبح جناحهما مشتركًا في لمستهما، ينبض بهما معًا. قطَع الصالة البيضاء أرضيتها وجُدرانها، والتي غلب على ديكورها اللون الخربزي وبعض التداخلات الذهبية ليشقّ طريقهُ إلى غرفة النوم، وضوءُ الشمس الذي كان يخترق النوافذ ليُهدي الغرفة إنارةً طبيعية جعل عيناه تبتسمان وهو يتخيّلها، تمشي للنافذةِ في بدايات الصباح لتُشرّعها سامحةً للضوءِ بالنفاذ، لكن هل عسى هذا الضوءُ أن يغلب ضوءها ونورها؟ هل عساه يتحداها أصلًا؟!!
اقترب من السريرِ ليرمي بجسدهِ عليه، ثم أغمض عينيه وهو يتنهد وابتسامةٌ زيّنت ملامحه، استنشق ذرات الهواء المُثقلةِ بدفء الشمس التي تجتاح هذه الغرفةَ بهمجيتها فارضةً نفسها على قلبِ الأرض كما فُرضت أنثى على قلبه وانتهى.
ودائمًا ما يُقال " وقع في الحُب " لا " مشى إليه "، ولأن الحُب حفرةٌ لا قاع لها كان لابد للإنسان أن يقع في هذه الحفرةِ دون خيارٍ آخر كالمشي إليها. لحظة! لمَ يتحدث عن الحُب الآن؟؟
قُطعت سلسلةُ أفكاره بهاتفه الذي اهتزّ برنينهِ في جيب بنطاله، لذا مدّ كفه ليدسّها في جيبهِ ثمّ أخرج الهاتف، وما إن رأى المُتصل حتى أشرقت ملامحه وهو يجلس بحدةِ اندفاع الأكسجين إلى رئتيه، بحدّةِ نبضاتهِ التي تسارع مدى ضجيجها. لقد اتصلت به! اتصلت بهِ في حين توقَع تجاهلها له.
ردّ عليها وهو يبلل شفتيه ويُوزن انفعالاته، ثم بصوتٍ مُشرق : صباح الظهر
ارتبكت هي من الجهةِ المُقابلة وهي تقف أمام مرآةِ التسريحة بعد أن كانت تنظر لانعكاس صورتها مطولًا، تُحاول بثّ القوةِ في نفسها لتستطيع الإتصال بهِ في حين تمنت العكس، لكنها وعدته، وعدته ولم تكن لتخلف بوعدها له. حتى انعكاس صورتها يبدو أقوى منها! بينما الجسدُ الأصلي كان واهنًا، جافًا مُتهدلًا، ميتًا حيًا كـ " زومبي " لا يعرف إلى أين يلجأ لأنه شبه ميتٍ في كل بقعةٍ في وطنه! لذا كان الأجدر بها أن تسافر حيث اللا أحد، حيث اللا وجود، حيث اللا مكان.
رطّبت شفتيها بلسانها وهي تنظُر لقدمها التي تتحرك في الأرض راسمةً نصف دائرة، وبهمس : مساء الخير
شاهين بابتسامة : صوتك حلو
احمرّت ملامحها وهي تعضّ زاوية شفتها السُفلى، وباضطراب : ما تعيش بدون غزل أنت؟
شاهين بفخر : المغازلة من أساسيات الحياة
اتسعت عيناها قليلًا بدهشةٍ وهي تهمس مُستنكرة : تغازل؟؟
ضحك وهو يعود لرمي جسده على فراشِ السرير الثخين والعاري دون مفرشه، والذي كان يحتفظ بالكيسِ الذي يُغلّفه : أول محاولاتي في المغازلة كانت في الروضة ، يومتها فيه زميلة صغنونة حلوة كنت أبي قلمها بس رفضت
التمعت عيناها بضَحِك، حاولت بأقصى جهدها ألا تضحك، لكن ضحكتها انسابت دون سيطرةٍ وهي تنطق باختناقِ الأحرف التي ضاعت بين موجات ضحكها : أيا اللي ما تستحي هههههههههههههههه
شاهين وعيناه تلتمعان لضحكتها الأشبه بغناءِ العصافير في مطلعِ الصباح، بصدًى لموسيقةٍ عذبةٍ لا تنتهي : أذكر يومتها تبت عن المغازلة بعد ما جبهتي طارت
وضعت كفها على فمها وملامحها تسترخي لتنتهي بابتسامةٍ صغيرةٍ مُشرقة تجيئُها من حيث لا تحتسبُ حينما يتحدث " باستهباله "، لم تكُن تعتقد، ولا في أعمق أحلامها أن رجلًا غير متعب قد تضحك معه وعلى كلماتٍ ينطقها وهي مُدركةٌ تمامًا أنه يريد بها إضحكاها وإظهار ابتسامتها لا غير، وهي بذلك تُقرّ أنّها لا تستحقه، تعلم ذلك وقد يعلم هو ذلك أيضًا، لكن لمَ يتجاهل هذه الحقيقة؟ لمَ لازال مُتمسكًا بامرأةٍ موبوءةٍ بحبٍ ذهب صاحبه ولم يذهب هو؟ إنها ليست سوى ورقة خريفٍ ذابلة، ذهبيتها مُغريةٌ للنظر، لكنها ميّتةٌ في النهاية فما المُميزُ فيها ليتمسك رجلٌ كشاهين بكمالهِ وميزته بها؟ . . هل هي مجرد مصلحةٍ كما أسلف؟ لأجل أمه فقط؟ أم أن الأمر أعمق كعمق نظراتهِ لها!!
عضّت شفتها وهي تتذكر ما قاله لها البارحة، لكم تخشى حبه أن يُصبح حقيقةً فيلسعها عذاب الضمير، وكم تخشى أن يُلسع هو بحبها فهي تعلم ما معنى الحب حين يكُون الطرف الآخر غير موجود، وهي التي انسلخت عن الوجود فكيفَ قد تُحب مخلوقًا حيًا وهي التي تعلقت بآخر؟
وصل إلى مسامعها صوته الهامس : وين راحت الحلوة؟ والصوت الحلو!
تحشرجت أنفاسها وصدرها يضطرب باضطراب تنفسها، بينما افترت شفتاها عن كلماتٍ راجية : شاهين خلاص، لا عاد تحكي بهالطريقة
بهتت ابتسامته قليلًا وهو يُدرك تمامًا مقصدها من كل هذا، وكيف عساه لا يدرك وهو الذي بات يفهمها في فترةٍ قصيرة؟ ولأنها كتابٌ مفتوحٌ تلفظ ما في صدرها بكل وقاحةٍ كان واجبًا على عقله أن يفهمها في أبسطِ حركةٍ منها حينَ تصمت. لن يُظهر ضيقه هذه المرة، لن يغضب ويُخاصمها لوقاحتها الغير مباشرة، لأمرها له بالسكوت لأنها لا تحب سماع مثل هذه الكلمات من رجلٍ غير .... عضّ شفتهُ بقوةٍ حتى كاد يُدميها، ثمّ حاول رسم ابتسامةٍ كانت مُهتزّةً بحجم اهتزاز صدرهِ في هذه الأثناء، وهاهو يتصنع الغباء ويُحوّر المعنى لآخر : لهالدرجة يعني تستحين؟!
عقدت حاجبيها بانزعاجٍ وهي تتحرك قليلًا لتجلس على كرسي التسريحة، ثم بهدوءٍ تحاول تحوير الموضوع من الجهةِ المُقابلة : ما ودك تحكي لي القصة؟
التوت ابتسامته للجهةِ اليُسرى ساخرةً وهو يردّ بلؤمٍ مُنتقِم : لا ما ينفع ، لازم نلتقي وجه لوجه وأحكيها لك
انسابت إلى أذنيه شهقتها الخافتة، بينما غطّى وجهها العجز الذي غلّف صوتها أيضًا : بس أنت قلت اتصل! .. و
لتصمت وهي تلوي فمها بضيق، رُبما لأنها أصبحت تعلم أنه حين يضع خروجها معه نُصب عينيه سيفعل! ولن يُفيد اعتراضها ولا مماطلتها، لن يفيد أمام عناد رغباتِه.
شاهين بمكرٍ يتشرّب يأسها : أمرِّك بعد العِشاء؟
أسيل بملامح ضاقت وصوتُها خرج منزعجًا، هذه المرة اليأس غلبَ اعتراضاتها وانتهى صوتُ الرفض، اتجهت حبال صوتُها للوداعةِ اليائسة وهي تهمس : طيب
ابتسم شاهين وعينيه ترقّان، ليس هذه المرة، انتهت فترة " رغمًا عنكِ " واضمحلت، تلاشت وباتت غبارًا، هذه المرة لن يُرغمها على الخروج معه بأي شكلٍ من الأشكال، اقترب موعد حفلة زواجهما فمن الأفضل أن يترك لها الوقت بعيدةً عنه كي يكون لها المجال لتُفكر وترضى، يُريد أن يبدأ معها بدايةً جيدة، بعيدةً عن الغصبِ والإرغام، بعيدةً عن عبوس ملامحها المقهورة، بعيدةً عن أهازيجِ صوتها المُعترض/الخائب/الضعيف.
ارتفعت زاويةُ فمهِ للجهةِ اليُسرى في ابتسامةٍ عابثة وهو يلفظ كلماته بهمسٍ خطِر : طيب اتفقنا ... وبعدين أنا ودي أوريك جناحنا وأعطيك مجال تكمّلين الألوان بذوقك
اتسعت عيناها من الجهةِ الأخرى وذاتها تتبعثر ويضيعُ منها الإلتئام، تتلعثم الكلماتُ في حنجرتها وتضيع، تنفد الإعتراضات في حنايا الضياع. كيف نسيت أنه سيأتي اليوم الذي تدخل فيه ذاك البيت مرةً أخرى بعد موت متعب؟ كيف نسيت أنها ستعودُ لتسكن هناك وليس فقط مجرد الزيارة؟ كيف نسيت أنّها ستكون في ذاتِ المكان الذي احتضن أنفاسهُ وموجاتِ صوتِـه؟ كيف نسيت أنّ رئتيها ستستنشقان ذراتِ هواءٍ وُجدت في نفس المكان الذي كان يُسعف رئتيه بالهواء؟ . . والأهم من كل هذا، كيف ستتأقلم؟ كيف ستتجاوز هذه الحقيقة لتعيش؟ كيف ستتأقلم في العيش بين جدارن ذاك البيت؟ كيف عساها تتأقلمُ لتُسعف شاهين بالإنصافِ وكلّ مافي ذاكَ البيتِ يُذكرها به؟
عضّت شفتها وعيناها غامتا بدموعٍ مأساوية، كل شيءٍ ضدها لتبقى تتذكره وتُزعج شاهين بعدم التناسي! كل شيءٍ يُذكرها بمتعب ليُعذّبها ضميرها بضيق شاهين، كل شيءٍ يهوَى ضيقه فما ذنبها هي يا الله؟ ماذنبها ليظلّ ضميرها يُعذبها ليل نهارٍ ولا يضِلُّ هذا العذاب عنها؟ . . وفي كِلا الحالتين هي تضِلُّ طريق الراحة وتمشي في إحدى الطُرق المتشعبةِ له، هي تضِلُّ الطريق الذي يجب عليها أن تسلكه ولا تصلُ للنهاية، لا تريد النسيان، بل التناسي فقط أمام شاهين، لا تهوى تعذيب غيرها وإن كان دون قصدٍ فماذا عساها تفعل؟ ماذا عساها تفعل وهي التي أُغلقت كلّ السُبلِ أمام وجهها وباتت لا تعرف من هي حتى؟ باتت تجهل المخرج الصحيح والقرار الصحيح.
إلهي! إنني لا أضِلُّ الطريق إلى الراحة وحسب، بل أنا أضلُّ الطريق إلى نفسي التي تاهت بين غبارٍ غيرِ مرئي، جعل مني غيرَ مرئية! إنني أضلُّ الطريق إلى ذاتي ولا أجدُ بُدًا من التقوقع بصمتٍ حول نفسي الضائعةِ وحسب، إنني أضلُّ الطريق وكلُّ الطرقِ كاذبة، كلّ الطرق وهميةً لن تصل بي سوى للـ - الوخز -
ضحكَ بخفوتٍ وهو لا يستشعر سوى صمتها، صمتها الذي هو أيضًا شديدُ العذوبةِ منها! وقد قام عقله بتفسير الأمور كما تفكر - تقريبًا - ولم يفهم أنهُ يُحشرج أنفاسها ليس فقط لأنها ستكون في البيت ذاتهُ معه، بل لأنها ستكون في البيتِ ذاته الذي عاش فيهِ متعب.
لفظ شاهين بضحكةٍ مُهدئًا : تطمني تطمني ياحلوتي ، الموضوع مجرد مزحة
لم يبدو على وجهها أي تعبيرٍ للراحةِ ورأسها مال قليلًا لليسارِ في تفكيرٍ جديٍ بعيدًا عن مزاحه، فهي بالفعل ستكون قريبًا معه، في البيت ذاته الذي جمع بعض المواقف بينها وبين متعب، في البيت ذاتِه الذي احتوى أنفاسِهم جميعًا. وكيف يطلُب منها التناسي قبل النسيان مع هذا الظرف الفضائحي؟ كيف يُريد منها أن تنسى وهي في مكانٍ يحمل طفولة متعب إلى موته؟
,
كانت تقف بجانب غيداء التي تصدّ بوجهها عنها ولم تلفظ بكلمةٍ بعد ما قالتهُ غزل، تنظر إليها بصمتٍ تبحث عن كلماتٍ تقولها، وبالرغم من شعورها بإحساسٍ سلبيٍ وهي تحاول بطريقةٍ ما فتح حديثٍ مع هذهِ الطفلة إلا أن شعورًا آخر بالراحةِ والرغبة كان يجتاحها. لن تخسر شيئًا بالمحاولة، فقط المحاولة، وإن لم تكسب شيئًا فستعود للفظاظة، حينها لن تشعر بالذنب أو يواتيها ذاك الشعور مرةً أخرى، شعورها بالحاجةِ لما رأته فيهم، شعورها بالرغبةِ للعيش في مُناخٍ كمناخهم، في تضاريسٍ كتضاريسهم، وإن كثرت التلال وطغت حرارةُ الصحراء إلا أن السهول ستكون شبهَ دائمةٍ على مدارِ الدهر ... هذا بالطبع ظاهريًا، وهي لم ترى سوى الظاهر، وكم جذبها حد الإعياء.
همست بلطفٍ وهي تنظر لما تفعله : أساعدك؟
غيداء دون أن تنظر إليها : مافيه داعي
قطّبت ملامحها في لحظةٍ لكنّها عادت لفردها بلطفٍ وهي تشعر أنّ عقلها يصرخ محتجًا على هذا الحال، يصرخ بالكبرياءِ المطعون أن تلفظ كلماتٍ دفاعيةٍ لهذا الأسلوب الذي تتلقاه من طفلةٍ لا غير! لكنّ قلبها الواهن والعطِش يصرخ من الجهةِ المُقابلة بصوتٍ أقوى محتاجًا لارتواءٍ يُعيد الخصب فيه، وبين هذا الشد والجذبِ كانت روحها المُتمزقةُ جافةً كقلبها، لذا كان صوت عقلها ضعيفًا، ضعيفًا بدرجةٍ لم يجذبها بتاتًا.
تحركت غيداء بعد أن أنهت تقطيع الخضروات لتتجه للطاولة وتضعها في الصحن الموضوع عليها، ومن ثمّ اتجهت للمغسلةِ لتغسل يدها.
تحدّثت دون أن تنظر لها، بصوتٍ فيه من التردد القليل : تعرفين تطبخين؟
ارتسمت شبه ابتسامةٍ على شفتيها دون أن تشعر وهي تُجيب ببساطة : وش عنك أنتِ؟
غيداء تهزّ كتفيها ومن ثمّ تستدير إليها : ما أعرف
اتسعت ابتسامة غزل بإشراقٍ وهي تُجيب بذات البساطة : أنا بعد
حينها ظهر الذهول على ملامح غيداء التي نظرت إليها لخمس ثوانٍ فقط، ومن ثم نظرت لأمها التي كانت واقفةً تتفقد الأرز، لتهتف بوجوم : شفتي!!!
استدارت ام عناد مُبتسمةً لتنطق لغزل بضحكة : عجبك؟ الحين بتلاقي الموضوع حجة
وضعت غيداء كفيها على خصرها لتهتف باعتراض : مالي شغل! يعني أنا اللي للحين ما تزوجت تجبريني أتعلم وغزل المتزوجة ما تعرف!!
ضحكت ام عناد بخفة : لو هي عندي كان علمتها
غيداء بحنق : المهم انها متزوجة وما تعرف، وهذي هي عايشة حياتها بدون كوارث مثل ما تقولين! وأنا اللي توني ما وصلت العشرين غصب أتعلم!!!
ضحكت ام عناد بشكلٍ أشد وهي تُدير رأسها عنها وتتجه للطاولة لتسحب احدى الكراسي وتجلس : ما علي من كلامك .. تتعلمين غصب عنك مالك شغل بالعالم والناس
لوَت غيداء فمها بحنقٍ وهي تسحب كرسيًا آخر لتجلس، بينما بقيَت غزل واقفةً مكانها تنظر إليهما، إلى حزمِ امها الذي تختبئُ الرقةُ خلفه، إلى شدّتها الحنونة. هل كانت أمها كذلك وهي التي لم تنتبه للرقةِ خلف قسوتها أم أن عينيها صادقتين؟ هل كان ما تراه في قسوةِ أمها خطأ؟ هل أخطأت في تمييز محبة أمها من عدمها؟ . . قطّبت جبينها وعقلها بدأ برسم الأعذار الواهيَة لعلّ قلبها ينشرح بذلك. لربما كانت تقسو لمصلحتها، لربما كانت شديدة البأس عليها لأنها فقط تحبها.
" إلهي بس! " . . هزّت رأسها بالنفي وهي تعضّ شفتها بحزنٍ وأسى، ما الذي تحاول إقناع نفسها به؟ ما الذي تُحاول زرعهُ في عقلها الذي تشرّب تلك القسوةَ وانفجر بألمهِ دون أن يكُون انفجاره ظاهريًا؟ ما الذي تريد نيله من تراهاتٍ لن تجلِب لقلبها سوى المزيد من الطعنات المسمومة؟ . . أمها كانت إحدى السكاكين التي طعنتها بنصلٍ مسموم، أمها كانت إحدى الأوبئة التي أصابتها دون أن يكُون لها دواء، أمها كانت فايروس ليس له مصل! فكم عليها أن تحتمل بعد؟ كم بقيت لها من الأيام لتعيشها وقلبها يتضخم بنزيفه الذي عاكس المنطق وتمركز للداخل دون أن يكون للخارج؟ كم بقي لها لتنتظر الموت وترتاح من هذه الدنيا؟ . . لكن هل سترتاح بالفعل؟
راقبتها عينان في تلك الثواني، عينان ملأها الإستنكار لهذهِ النظرةِ المُتألِمة في عينين كان من الأرجح أن تتشربا الفرح فتزدادان جمالًا، عينان التمعتا عطفًا وهي ترى مدى الحُزن في صبيّةٍ لم ترى الكثير من الدنيا بعد.
همست أم عناد بحنانٍ وهي تنظر لغزل التي غرقت واقفةً في بحرِ خلجاتها المُعذِّبة : يمه غزل
رمشت قليلًا قبل أن ترفع ناظريْها إليها لتتجلى نظرة الضياع عليهما، ثم بفتور : نعم
ام عناد بابتسامةٍ حنونة : تعالي حبيبتي اجلسي شفيك واقفة؟
تحركت بآليةٍ باتجاه الطاولةِ التي طافت حولها أربع كراسي من جهاتها الأربع، لتسحب الكُرسي الذي كان مُقابلًا لام عناد ومُجانبًا لغيداء.
أردفت أم عناد بلطفٍ وهي تتأمل لمعة عينيها الواهنة : كيفك مع سلطان؟
ابتسمت غزل باهتزاز : طيّبة
غيداء تندفع بكلماتٍ ساخرة : بس ثقيل طينة صح؟
لم تختلف ابتسامتها الباهتة وهي تهزّ رأسها بالنفي، بينما كانت ام عناد تقيّم ما تراه أمامها، تقيّم هذا الحُزن الذي يلتمع على محياها، تُحلل إنكسار نظراتها وحاجبيها مُنعقدانِ دون رضا، ما الذي قد يجعل فتاةً أقدمت على الزواج للتو حزينةً بهذه الدرجةِ المؤلمة، ما الذي يجعل فتاةً بهذا العمرِ مًنكسرة النظرات، مًنحنيةُ الإبتسامة؟ ما الذي قد يدفع هذا الغزال للحزن ومقوّمات السعادة تطُوف من حولها، أو ربما ذلك!
في المجلس
أعاد ظهره للخلف مُسترخيًا وهو يمطّ ذراعيه بكسل، ثمّ همس وهو مُغمض العينين : جوعاااان متى بيخلصون
ابتسم عناد وهو يتفقد الرسائل التي وصلته في هاتفه توًا : يعني أنت ما جيت الا عشان تعبي كرشك؟
فتح سلطان عينيه وهو يعتدل في جلسته وينظر إليه رافعًا إحدى حاجبيه بمكر : جيت وكلّي شوق لأكل أمي والا أنت ما جبت خبرك
عناد : طيب تعرف تاكل تراب؟
سلطان بتكشيرة : لا ما أعرف علمني
وضعَ عناد هاتفهُ جانبًا وهو ينظر إليه بهدوء : أنت شكلك جاي بمبزرتك اليوم وإلا هذي أثار الشوق؟
ابتسم سلطان وهو يرفع حاجبهُ الآخر بمكر : وراك اليوم مع الشوق؟
عناد يُجاريه بابتسامةٍ ويدندن : قتلني الشوق قتلني
سلطان : هههههههههههه تبيني أدوّر لك عروس تطفي هالشوق؟
عناد : أعوذ بالله! تبي تشتغل لي خطابة أنت؟
سلطان بضحكة : وأيش فيها؟ عشانك أكون مليون خطابة
حرّك عناد كفه في الهواء بنفورٍ وهو يهتف : لا حبيبي خلينا الزواج لأصحابه ما ودي أتزوج ، يا زين العزوبية بس والله يهنيكم في وجع راسكم
ضحك سلطان وهو يهزّ رأسه دون تصديق : إذا أنت تقول كذا ما ينلامون العزّاب اللي حولنا
عناد بأريحيةٍ يُعيد ظهره للخلف ويغمض عينيه مًتنهدًا : ما يحس بحلاة العزوبية إلا احنا .. مو بزران تزوّجوا وعمرهم سبعة وعشرين!
سلطان بتهديد يرفعُ حاجبًا : لمين قاعد ترمي هالكلام يا أخ؟
فتح عينيه وهو ينظر إليه مُبتسمًا ببراءة : أبد سلامتك
في تلك اللحظةِ رنّ هاتف سلطان مُفصحًا عن وصول رسالةٍ ليرفعه قبل أن يردّ عليه. ولم يستغرق الكثير حتى قطّب جبينه مُستنكرًا لما قرأه : بين الواحد والأربعة؟؟
عقد عناد حاجبيه وهو يقترب منه ليقرأ ما وصله هاتفًا بتساؤل : وش فيه؟
مطّ سلطان شفتيه وهو يمد الهاتف إليه هاتفًا باستنكار : رقم غريب وواحد قاعد يتسلى
تناول عناد الهاتف ليقرأ الرسالة بصوتٍ عالٍ وجبينه يزداد انقطابًا : " دوّر علي بين الواحد والأربعة " !! ... * رفع نظراته لسُلطان مُستنكرًا ليُردف * وش المقصود؟
سحب سلطان الهاتف ليردّ دون مبالاةٍ وهو يضع الهاتف جانبًا : ما عليك أكيد مزحة سامجة من بعض ربعي
هزّ عناد كتفيه وهو يعتدل بجلسته مبتعدًا قليلًا عنه، ثم سأل بهدوء وهي يُركز بنظراته على أصابعه التي كان يُفرقعها : خبري إنّك صاير ما تطلع كثير مع ربعك من بعد زواجك وشكلك ما صدقت على الله وغرقان بالعسل ... يحق لهم يعصبون ويمزحون معك بسماجة * ابتسم مازحًا ليُردف * والا عندك رأي ثاني؟
لم يسمع ردّ سلطان في الثواني الأولى، لذا رفع نظراته إليه وهو لا يزال يحتفظ بابتسامته، ليراه وقد أخذ هاتفه من جديدٍ يتطلع بشيءٍ ما بنظراتٍ اختلفت جذريًا عن عدم المبالاةِ السابقة، حينها تلاشت ابتسامته وهو يُقرّب رأسه إليه مُستفسرًا بقلق : وش فيه الحين بعد؟
سلطان بحيرةٍ وهو يبحث بين رسائله، دون أن يرفع نظراته إليه : لحظة! .. قبل كم يوم بعد جتني رسالة من رقم كمان غريب! * بلل شفتيه وهو يفتح الرسالة السابقة والتي كانت من رقمٍ آخر مُختلف * هذي!
عناد باستغراب : رقم مُختلف؟
سلطان باستنكارٍ يزداد بها انعقاد حاجبيه وتقطيبُ ملامحه : مختلف ... تهقى يكون من واحد من ربعي؟
انتشل الهاتف من يديهِ ليُدقق بالرسالةِ التي لم تحتوي إلا على حرفين " ست "، وبقراءته للمكتوب ازداد استغرابه، ليهمس بحيرة : ست؟ الرقم ستة؟؟
رفع عينيه قليلًا للرقم الذي كان غريبًا بدرجةٍ أثارت شكوكه، وعقله بدأ بالتساؤل، هل توجد دولةٌ تحمل هذا المفتاح؟ هل الأمرُ مجرد مزحةٍ بالفعل؟ ... ولمَ لم تجيء هاتين الرسالتين إلا لسلطان؟ وفي هذه المعمعةِ التي تحدث من حوله؟؟!
ثارت شكوكه حول هاتين الرسالتين التي لم تكن تحمل في مكنونها سوى لغزٍ يحتوي على الأرقامِ لا غير! من ثلاثةِ أرقامٍ مُختلفةٍ كان تكوينها يُثير القلق قبل الشك.
تناول هاتفهُ الموضوع بجانبه ليبدأ بتدوين الرقمين المُرسَلِ منهما وسلطان يراقبه والقلق هاجمه لانفعال عناد واهتمامه لهذا الموضوع . . هل يُعقل أن يكون الأمر مُتعلقًا بسلمان؟؟
احتدّت نظراته عند تلك الفكرة، ودون أن يشعر عضّ شفته بقوةٍ كادت تُدميها، والشعور يُغادرهُ تلقائيًا حين يُهاجم سلمان عقله، حين يهاجم خلجاته، حين يُهاجم ساعاتِه ولحظاته، وهو المُخترق للوقتِ والمتخلخل له بكل عنجهية، هو الذي فرض نفسه بين المكان واللا مكان، بين الزمان واللا زمان، بين عقلهِ وقلبه، في أواسطِ روحه، بين الحُب والكره! هو الذي فضّل التخلخل في البيْـنِ والإستقرار هناك، يتربّصُ بكل صمتٍ مُزعجٍ لا يُفسَّرُ ولا يُحلل، غيرُ متوقع! . . إنه الرجل الغيرَ قابلٍ للتنبؤ، المُتسلط على الناس بشكلٍ حيادي!
نظر لعناد الذي ناولهُ هاتفه بحدةٍ ليهتف بانفعال : أيش؟ لا تقول!!
عقد عناد حاجبيه وهو ينظر لسلطان بقلق، لكنّه ابتسم ابتسامةً خادعةً مُهتزّة وهو يهتف : وشو بعد؟ الأرقام واضح إنها ماهي سعودية، يمكن فواز قاعد يلعب عليك برقم ثاني ماهو له ولا هو بلجيكي! * أكمل بمزاح * أكيد ماخذه لناس أجنبية عن بلجيكا هناك وينتقم منك لأنك من تزوجت نسيت العالم
انخفضَ حاجبيْه بشكٍ وعدمُ الإطمئنان والتصديق كان بادٍ على وجهه بدرجةٍ واضحة، لذا أردف عناد وهو يرفع حاجبيه باستفسارٍ حادٍ يُبعد عقله عن نطاق الشكّ في الموضوع : خير؟ لا يكون شاك فيني؟ روح تأكد من ربعك والا من فواز . . أنا وش لي عشان أطلع لي رقم ماهو سعودي بس لهدف ألعب عليك؟ ... هه ، هذا اللي ناقص أضيّع وقتي في المبزرة
لوَى سلطان شفته وهو يرفعُ إحدى حاجبيه ناظرًا له بحدة، ثمّ هتف بترفّع : لك العزّة إذا وقتك ضاع عشاني
,
السقفُ بات مُغريًا للتأمل، جسدهُ مستوٍ على سريره. وعيناه مُتعلقتان بالأعلى في طقسٍ خاصٍ بمن تشرّبتهُ الوحدة واعتاد عليها، في طقسٍ بين إنسانٍ دائمًا ما يكون وحيدًا وبين الجمادات التي حوله، فقط! لا شريك آخر سوى الجدران والطاولات وكل ماهو ساكن، كل مالم يحتوي على روحٍ بعكسه، كل مالم يحتوي على مشاعرَ بعكسه، كل مالم يحتوي قلبًا ينزفُ قرونًا هي في أصلها يومٌ تجلّت الآلآم والخيبات فيه، تجلّت الآفات على روحهِ فيه، تجلّت دموعٌ خفيّةٌ تظهر إلى الداخل وليس للخارج! . . إنه يشذّ عن البشر في كلّ شيء، في وحدتِه بالرغم من كونهِ يُصاحب أناسًا - في أيامٍ معدودةٍ من كل شهر -، في دموعه التي تنجرفُ للداخل، في قلبهِ الذي ينزف بدلًا من أن يضخّ الدم لا أن ينزف به، في كوْنِ الجمادات مُغريةً لعينيْه حتى يتأملها.
ابتسم بأسى وهو ينظر للسقف بحُزن، ثمّ تمتم بكلماتٍ ساخرةٍ على حاله : حتى أنت بيجي يوم وتطيح علي بعد ما تمل من عيوني! صح؟
أغمض عينيه للحظةٍ ثم فتحها وهو يردف بسخريةٍ لاذعة : ليش ما ترد؟ .. اووه صح نسيت إني المجنون الوحيد اللي يكلم شيء ما عنده لسان يحكي فيه، الشخص الوحيد اللي ما عنده إنسان يحب يحكي معه فترة طويلة
صدّ برأسهِ للجهةِ اليُمنى وهو يزفر بضيقٍ تجلّى على ملامحهِ الحادة، وعينيه ضاقتا! ضاقتا بدرجةِ ضيق الدنيا أمامه، ضاقتا بحجم الضيق الذي يجتاح فوادَه، بعكسِ حجم السعادة في حياته، والتي كان حجمها - زيرو -! لا وزن/لا كمية/لا حجم، لا شيء! لا شيء!
لا شيء إطلاقًا. السعادة لم تتبرع له بالقليل منها، لم تتكرم عليْه بجزءٍ منها، بـ - شقفة - تُغنيه عن الكثير، لا يُريد الكثير بحجم ما يُريد القليل، ليس طماعًا، ليس طماعًا، سيَقْنَع بالقليل، لن يطمعَ فقد قالها الإمام الشافعي " العبدُ حرٌّ إن قَنع، والحرُّ عبدٌ إن طمع، فاقنعْ ولا تطمع فلا شيءٌ يشينُ سوى الطمع "! فماذا يُريد أكثر؟!
تنهد وهو يغمض عينيه وكفُّه اليُسرى مُستقرةٌ على صدره، وفي تلك اللحظة سمعت أذناه طرقًا خفيفًا على الباب، ومن ثمّ فتْحُه ليتظاهر بالنوم وهو يُدرك تمامًا من الطارق، يُدرك تمامًا أنها سهى التي ستتركه بسرعةٍ وتواجدها لن يزرع بهِ شيئًا سوى المزيدَ من الأسى والخيبة فور ذهابها. إلهي كم أنَا شقيٌ في هذه الدنيا، إلهي كم تلخّص الجنون في عقلي الذي تشرّب الخيبات حتى مات! إنني شقيٌ بحجم ما أودي بهِ من الأرواح في مأساةِ " هيروشيما "، شقيٌ بقوةِ أمواج " تسونامي "، بعددِ قطراتِ الدماءِ اللا معدودة التي ذُرفت على هذهِ الأرض ومُنذ قُتل هابيل على يدِ أخيه. إلهي كم من الصدمات تلزمني حتى أتجاوز الحُزن وأعتاد؟ كم من الآفآت تبقّت حتى يُصبح جسدي منيعًا؟ كم من العقبات تبقّت حتى أصلِ لنهاية الطريق وأموت؟ ... فأرتاح!
سمع خطواتها تقترب منه، ثمّ شعر بانخفاض السرير إثر جلوسها عليه، وفي تلك الأثناء كان لم يفتح عينيه ولا ينوي فتحهما في ضعفٍ أصابه، لا يُريد مواجهتها، لا يُريد النظر في عينيها ليرى إنعكاس وجهه البائس في حدقتيها، لا يُريد أن يرى في نطراتها رغبةً في الذهاب وهو الذي وعدَ نفسه أنه لن يُخاطر حين تذهب ويستغلّ إلين! ما ذنب تلك الفتاة لتكون عند شخصٍ لا مسؤولية لديه كما قال عبدالله؟ لا يُعتمد عليه، لا يُستند عليه فكيف عسى لفتاةٍ أن تكون في كنفه؟
نظرت سُهى لجفنيه اللتين كانتا تكشفانه، وحدقتيه من خلفهما تتحركان بوضوح. طفل! لازال طفلًا لا يعي الكثير، لازال طفلًا شقيًا حين يُخطئ يتهرب بأي طريقةٍ كانت كما يفعل الآن، لازال كما هو لم يتغير سوى قليلًا في مظهره، بينما لازال جوهرهُ هو ذاته، وإن تحلّى بصفاتٍ بعيدةٍ عنه.
تنهدت قبل أن تنحني لتوازي شفتيها أُذنيه، وعيناها تلألأتا حنانًا وهي تهمس لهُ بكلماتٍ رقيقة، ومن ثمّ قبّلت جفن عينهِ اليُسرى لتقف وتتجه للباب بخطواتٍ مُتزنة .... ومن ثمّ خرجت.
فتح عينيه اللتين غامتا بمشاعر عديدةٍ وهو ينظر باتجاه الباب، يسترجع كلماتها وإحساسها به، إحساسها بضيقهِ وما يختلج فكره، إحساسها بخوفهِ من ذهابها، من عودتِـه وحيدًا يعيش هاهنا بمفردة، يعيش بين جدران البيت وحيدًا لا يُشاركه سوى صوتِ الرياح، وضجيجِ الصمت!
" لا تخاف ، ماني تاركتك ، ماني مخليتك أقل شيء بهالوقت - تُكمل بصوتٍ حنونٍ مداعِب - لين ما تتزوج "
,
صوتُ خطواتها كقرعِ الطبولِ في إحدى - أعياد الموت -، تقطعُ المسافاتِ بخطواتٍ ثقيلةٍ على سمعها وصدرها المُثقل بجراحٍ عديدة كان يزن مئاتِ الأطنان، يزنُ مقدار الدموع التي ذرفتها سابقًا وهاهي تذرفها الآن بكرمٍ حاتمي/بضعفٍ مُخزي!
زمّت شفتيها وهي تفتح باب غرفتها، بقي الباب الأخير، فقط الأخير، وبعدها ستُنار الدنيا في عينيها أو يزداد ظلامها! لم يتبقى لها سوى هذا الحل فإن كان خطأً سترسب في آخر سؤالٍ لتفوز بالسعادة، ستترسب على بحرِ الموت! على بحرِ النفاد والإنتهاء، لن تكُون إلا خواءً أشدّ من الآن، لن تكُون إلا وردةً ذبُلت وانتهى فصُل جمالها، لن تكُون إلا قنديلًا فقد هيْبتهُ بذهابِ صعقاتِه، لن تكُون إلا أرضًا خصبةً استوت قاحلةً وانتهى اخضرارها ... لحظة! منذ متى كانت خصبة؟ منذ متى حملت الإخضرارَ تاجًا على رأسها وهي التي وُلدت قاحلةً وربما ستموتُ كذلك. هي التي ولدت على قشٍ لا غير فكيف لها أن تُصبح على عرشِ الخصبِ والإخضرارُ تاجها؟؟
تقوّست شفتاها وعيونها تلفظُ الدموع تباعًا، تلفظ ملحَ الحياةِ ولوْعة الأيام التي واجهتها، تُعزي ذاتها التي ماتت واستقرّت على نعشها.
وقفت أمام التسريحةِ لتضع كفيها على سطحها تضغطُ بقوةٍ احتبس بها الدمُ واحمّرت مفاصلها. ثمّ نظرت لانعكاس وجهها القمحي عبر المرآة، لعينيها الكئيبتان، لشفتيها المُمتلئتان وحجم وجهها الطفولي، لجمالها الذي لم يُسعفها بالرضا. دائمًا وأبدًا هي ترى نفسها ناقصة، دائمًا وأبدًا هي ترى أن الجمال ينقصها، والسعادةُ أيضًا كذلك، لم تكُن يومًا قنوعة، لم تقتنع يومًا بما هي فيه يا الله! حتى وإن تصنّعت الرضا إلا أنها لم تقتنع! . . تتراكم الآفاتُ والأمراض على قلبها الذي انتفض برغبةٍ عارمةٍ بالرضا ولم يطُلْه، تترسبُ الحمم على صدرها ليحترق! ويحترق معهُ كل ركنٍ في جسدها، كل جزءٍ منها. إنها واهنةٌ افتقدت القوةَ التي لم تكُن إلا - السعادة -، إنها ضعيفةٌ بالقدر الذي ذرفتهُ من الدموع.
مررت كفها على شعرها الذي طال إلى كتفيها لتشدّ على خصلاتها في النهايةِ وهي تُغمض عينيها وتعضّ على شفتها، تُميل رأسها للخلف قليلًا رافعةً وجهها للأعلى مُطلقةً آهةً مُتألمة بحجم الألم الذي ترعرع في قلبها.
دخل في ذاك الوقتِ عبدالله وعلى وجههِ حدةٌ تواجدت أيضًا في نبرةِ صوتها التي أُطلقت إليه ما إن رأته عبر المرآة : لا تمنعني! . . مافيه شخص بيقدر يمنعني بهاليوم
عبدالله بغضبٍ يُشتت نظراته هنا وهناك بكبت : ارتاحي الحين، صار اللي يرضيك ويريحك . . طلقت هالة وانتهينا!!
اتسعت عيناها بصدمةٍ وقلبها سقط في هوّةٍ لا نهاية لها والدُنيا تُعتم في عينيها، فغرت شفتيها تنظر إليه بصدمةٍ وهي لا استوعب. طلقها! طلق زوجته! وبسببها!!! طلّقها وقد كانت السبب! كانت السبب في تشتت عائلة، في تخريب بيتٍ كامل؟؟.
بينما أردف عبدالله بقسوةٍ دون أن يُهدِها الوقت لتستوعب القليل : مالك طلعة من هالبيت، هي الدنيا سايبة ومافيه قانون؟ أنتِ قانونيًا في كفالتي وأنا مسؤول عنك في كل شيء، وبيكون طلوعك من هنا كبير في حقي وحقك.
سقطت جالسةً على كُرسي التسريحة وعيناها خاويتان، تنظران للأرض بعدمِ استيعاب، كلماتهُ عبرتها دون العبورِ الفعلي! عبرتها دون أن تسمعها، دون أن تستوعبها، وكلّ ما يتأرجح في عقلها الآن هو " طلقْتَها "!!!!
ألهذهِ الدرجة؟ إلهذهِ الدرجةِ هي نُقطةٌ سوداءُ في صفحةِ هذه العائلة، ألهذا الحدّ وصل تأثيرها السلبي؟ . . الآن هي تُجزم، إنها زلزالٌ ضربَ هذا البيت في ثوانٍ ليُسوّيه بالأرض، إنها غُبارٌ لوّث هواء هذه العائلة النقي. هل خُلقت لتُصبح بؤسًا يقع على الناس؟ هل خُلقت لتكون السهْمَ المُحرك للتعاسةِ على من تريد؟ هل خلقت لتكُون فجوة! فجوةٌ يقع بها من لا يجب عليه الوقوع؟ فجوةٌ سوداءُ اختارت من لا يصحّ عليها الإختيار؟ . . كلّ من حولها كان أنقى، كلّ من حولها كان لا يستحق هذا، فلمَ فعلت كل ذلك؟ لمَ أجرمت في حقهم ونشرت السواد في حياتهم؟ لمَ تلبّست بثوبِ الملاكِ في أعينهم لتتمثل لهم بالشيطان في أرواحهم؟ لمَ أفسدت هذا الشمل وهي التي تُعظّم الشمل؟!
يا الله! لمَ صنعْتُ هذه الحُفرة وأنا التي تُدرك معنى - العائلة - أكثر من أي شخصٍ آخر؟ لمَ فعلتُ ما فعلتُ وأنا التي عظّمت هذه النعمة حدّ الإفتتان بها؟ إننا الأيتام نشعر بقيمةِ العائلة لأننا فقدناها، نشعر بها أكثر من أيِّ شخصٍ آخر. ونحنُ البشر لا نعظّمُ النعمة التي نملكها إلا إن فقدناها، فكيف فعلت ما فعلت بما عظّمت؟ كيف فعلت ما فعلت بما افتتنت؟ كيف كان بي كلّ تلك السادية حتى فعلت ذلك؟ لمْ يأتِ يومٌ شعرت فيه بالغيرة! لم يأتِ يومٌ حسدتهم فيه على ماهم به! أقسم بذلك، لم أحسدهم يومًا يا الله، لم أحسدهم، لم أحسدهم وأنا البعيدةُ عن ذلك والقريبةُ من الأسى على حالي، لقد تأسّيتُ فقط، تمنيتُ أن أحظى بما هم بهِ ولم أتمنى أن أنتشل ما يملكونه، صدقني يا إلهي لم يكُن ذلك مما دوّن في جدولِ شيمي، صدقني لم أقصد ذلك، لم أقصد ... تالله لم أقصد.
,
الرابعة مساءً
رائحةُ المعقمات كانت تخنقها، وبياض الجُدران كانت تراه في عينيها سوادًا، تلك هي رائحةُ المشفى الذي لم تشعر أنها تكرهها إلا اليوم، ذلك هو لون جدران هذا المكان الذي لم تشعر أن الراحةَ لن تنتمي إليه! . . تتوسل الله في هذا اليوم أن تُنار أضواءُ السعادة في عائلتها، تتوسلُ الله في هذا اليومِ أن تُفتح أبواب الراحةِ ولا تُغلق أبدًا، تتوسل الله أن يأتيها خبرٌ تتمناه كما لم تتمنى سواه.
أمسكت بكفِ والدها المُسجّى على السرير الأبيض وعيناها تبكيان، بينما ابتسم لها بعذوبةٍ وهو يهمس : قولي لا إله الا الله
ارتعشت شفتاها وهي تنظر لهُ بألم، ثمّ بهمسٍ موازٍ لهمسه : لا إله الا الله
ناصر بهدوئِه الذي يبعث الطمأنينة إلى قلبها : قولي توكلت على الله
ضحكت بخفوتٍ وهي تمسح عينيها : توكلت على الله ... قولها أنت طيب
ناصر : توكلت على الله ولا حول ولا قوة الا بالله ... طيب حطي يمينك على راسي وادعي لي بالشفاء
وضعت كفها اليُمنى على رأسه مُباشرةً لتلفظ بتوسلٍ يشُوبهُ نحيبُ البكاء : اللهم رب الناس ، أذهب البأس، أشفِ أنت الشافي، شفاءً لا يُغادره سقمًا
اللهم اشْفه وعافه ، وأبرِئْه من كل سقم ، وأتم عليه صحته ، وأَرجعه سالمًا غانمًا سليمًا معافى لأهله وأسرته
اتسعت ابتسامةُ ناصر وهو يهمس لها برقة : زاد تفاؤلي من بعد دعائِك
اقترب فارس منهما ليُمسك كتفيها ويجذبها إليه قليلًا هامسًا برقة : خلاص جنان خليهم ياخذونه لغرفة العمليات * نظر لوالدهِ مُبتسمًا * أنتِ ما تعرفين إن بو فارس بطل؟
ضحكت بخفوتٍ وسبابةُ يدها اليُمنى مستقرةٌ تحت عينها بعد أن كانت تمسح دموعها : إلا أكيد ... وأحلى بطل
اقتربت ممرضتان مع طبيبٍ رغبةً في أخذهِ لغرفةِ العمليات التي سيقطنُ فيها أربع ساعات، حينها تراجعت جنان للخلف وهي تشعر أن قلبها ينقبض بشعورٍ سلبي، تشعر أنّ روحها ممسوسةٌ وصدرُها موطوءٌ بجبلٍ عظيم، تختنق بأنفاسها التي رفضت أن تُسعف رئتيها بطبيعية، تتحشرش بدموعها وتتعثر بقلقها، لمَ تشعر بكل هذا الخوف؟؟!
,
دفعَ الباب بقوةٍ بعد ما وصل إليه من حديثِ الخادمة المتوارية خلف الباب، ووجهه تشرّب أعاصير الغضب بعد أن كان الهدوءُ مترسبًا عليه، متغلغلًا به، إلا أن الحديث الذي وصل إليه على لسان - بثينة - أثار جنونهُ المتعقل فيه.
ألَم يُحذرها من قبل؟ ألَم يكُن تحذيره كافٍ لتفهم جيدًا ما معنى أن تتحداه؟ ألا تدرك من هو سيفَ الآن وليس سيف السابق؟ يبدو أنها تدفعه لما لا يُريد اللجوءَ إليه، تدفعهُ للقوةِ التي لا يبتغيها الآن. حسنًا يا بثين، لكِ ما تريدين!
شهقت الخادمة بعد أن دخل بتهورٍ وألقى عليها نظراتهِ الغاضبة والتي أثارت الرعب في قلبها.
سيف بحدة : نادي بابا
الخادمة تهزّ رأسها بذعرٍ ومن ثمّ تهروِل متجهةً للداخل، بينما تراجع هو للخارج خلف الباب، تحسبًا كي لا يمرّ أحدٌ وهو واقفٌ بذاك الشكل في بيتهم. من الجيدِ أنه تبقى بهِ بعض الحكمِة كي لا يهجم على حصنها دفعةً واحدة. ومن بعدِ خطئـها ذاك، من بعدِ تهوّرها وحماقتها هذه، لن يندم إن أصبح بينهما " المحاكم "! لن يتوانى في أخذ زياد قسرًا إن هي منعته عنه، كانت طِيبةً منه أن تركهُ لها منذ البداية، بل كانت حماقة!
عضّ زاوية شفتهِ السُفلى وهو يهزّ ساقه بغضب، يعدّ الثواني إلى أن يجيء والد طليقته، يتجاوزُ الثانيةَ إلى الدقيقة، والدقيقة إلى ساعة في هذا الإنتظار الذي يرى بعينيه أنهُ طال.
وصل إليه والد بثينة بعد أن كاد صبرهُ ينفذ، وما إن رآه حتى ابتسم له وهو يرد على ترحيبه الطيّب باحترام. وبعد أن تفضّل داخلًا في المجلس بدأ في الحديث بهدوءٍ ظاهري : ممكن أحكي مع طليقتي شوي!
,
لتوهِ عاد من عمله حتى يُصعق بما سمع، هل ذهب من مكانٍ ليعُود لآخرَ اندلعت به النيران؟ هل غادر منطقةً جليديةً باردة ليعود وقد أُحيلت إلى بركانٍ ثائر؟ ما الذي حدث بالضبط؟ ما الذي خالج الجو الصقيعي في البيت ليُشعل النيران به.
نظر لهديل بحنقٍ وهو يهتف من بين أسنانه : أيش صار بالضبط وخلى أبوي يطلق أمي؟
هديل بصوتٍ متحشرجٍ ضايع : ما أدري ما أدري ، ما فهمت شيء! كانت تحكي مع إلين وفجأة ..
صمتت وهي تُغمض عينيها بقوةٍ والضياعُ يهاجمها، الضعفُ تخلخل مساماتها ببطشٍ لتنهار قدماها وتجلس على الأرض ودموعها تسقط مع سقوطها، لم تشعر يومًا بالضياع كما الآن وكما هذه اللحظات التي هي كالسيف يقطع الوقت ليُرديها في اللا زمان! لم تشعر يومًا أنها لن تكُون شيئًا حين تنفصل الرابطة التي جُلبت لهذا العالم عن طريقها، لم تشعر يومًا أنها يتيمة! إن الرابطة تموت، وهي بذلك تموت، إنّ والداها أمام فوهةٍ ستُطلَق منها القنبلةُ الأخيرة قريبًا، قريبًا جدًا، أو لربما قد أُطلقت وانتهى الأمر.
بكت بعد أن تيبّست دموعها في محجرْيها في تلك اللحظات، بكت هذه المُصيبة التي حلّت عليها والتشتت الذي بدأت تشعر به منذ الآن، بكت سنينًا كانت تنظر فيها لأُناسٍ عاشوا بين أبويين مُطلقين ولم تهتم، بكت اللحظات التي كانت فيها تسمع قصص العائلات المُشتتة ولم تشكر فيها الله على ماهي به. كانت تمتلك من الفسوق الكثير كي لا تشكر! كانت تمتلك من النقص الإيماني الكثير حتى نسيت ( واشكروني ولا تكفرون )!! فهل هذه عقوبةٌ لعدم شكرها؟ هل ما تشعر به الآن وما هي به نتيجةُ عدم الشكر!!!
انحنى إليها ليجلس مُستندًا على إحدى رُكبتيهِ وأصابع قدمهِ الأخرى، ويديه امتدتا ليُمسك بكتفيها قلقًا : هديــل!
هديل باختناقٍ تتخبّطُ بكلماتها وهي تمسح دمعاتها وترفع ناظريْها إليه : كانت إلين تبكي و .. وتصارخ! كانوا بروحهم في المطبخ وفجأة صارت إلين تقول بتطلع عند مدري مين .. أنا وأبوي جينا المطبخ على صوتها .... و ، وبعدها طلعت من المطبخ، وتهاوشوا أمي وأبوي شوي ....
عقد حاجبيه حين صمتت ليحثّها على المتابعة : ايه كملي ، وش صار بعدين؟
هديل بنحيب : ما أدري ما أدري ... تهاوشوا شوي وصار اللي صار بعدين
شدَ بقبضتيهِ على كتفيها وهو يهتف بانفعال : طيب وينها أمي؟
نظرت إليه ببهوتٍ وحاجبيها ينعقدان بغرابة : أمي؟
ياسر بحدةٍ وجبينه يتقطّب ليخرج صوته منفعلًا : ايه وينها؟ لا تكون طلعت!
هزّت رأسها بالنفي وهي تزدرد ريقها، تشعر أن حنجرتها باتت جافةً كما جفّ قلبها من شدّة حزنـه في تلك الساعات : خوفتني أكثر من اللي صار نفسه!
رفعت رأسها للأعلى تستنشق الأكسجين بعنف، ثم أخفضته وهي تمسح دموعها بكفيها لتُردف بصوتٍ تحشرجت بهِ الكلمات : تخيّل ما سوّت شيء من كثر صدمتها .. حتى طلعة من البيت ما طلعت! حبست نفسها بغرفتها وما عاد طلعت منها
اتسعت عيناه قليلًا مُستنكرًا ردة فعل أمه، كان من الطبيعي أن تغضب وتخرج من البيت مُباشرةً ولا تظلّ به، لكن ردّة فعلها أخافته! أخافته حتى من فكرةِ خروجها من البيت.
هتف ياسر بسرعة : ووينه أبوي الحين؟
هديل تهزّ كتفيها قبل أن ترد : طلع لغرفة إلين بعد اللي صار ، وشكله قالها كم كلمة تمنعها من خروجها وطلع لأني ما عاد شفته
عضّ شفته بقوةٍ وهو يقف ليتجه للأعلى مهرولًا، وكل ما خطر في عقله الآن هو أمرٌ واحد ... أمه!!
,
قطّب جبينه ينظر إليه باستنكارٍ بعد ما سمِع منه، ليبتسم الآخر بهدوءٍ وهو يلحَظُ استنكاره لهذا الطلب، ثمّ تقدّم بجسده للأمام قليلًا ليُردف بثقة : اعذرني يا عمي بس بنتك قاعدة تسلب حقي في ولدي! أنا لو ودي آخذه غصب عنها كنت بلجأ للمحاكم مباشرة وندخل في مليون باب! . . وبحسب الشرع زياد صار بعمر يسمح له بالإختيار بيننا، حتى لو كان متعوّد على امه أكثر مني والأرجح إنه بيختارها هي أنا أقدر أكُون خسيس وألعب على عقله وهذاني أقولها لك بدون أي تردد . . أقدر آخذه بكل سهولة بس ما ودي تصير الأمور بيننا كذا
لذلك الأفضل أوقفها من البداية عند حدها قبل لا أسوي شيء ما يرضيها . . أبي أحكي وياها مع تواجدك طبعًا
تنهد والد بثينة وهو ينظر إليه دونَ تعبيرٍ مقروء، دون تفسيرٍ اتضح على ملامحهِ الهادئة بطبيعتها، ثمّ لبث ثوانٍ قليلة، ينظر فيها لعيني سيف الواثق ليتمتم بعدها بكلماتٍ ما ومن ثمّ يقف خارجًا من المجلس.
اتسعت عيناها وشهقةٌ عاليةٌ انسابت من بين شفتيها وهي تنظر لوالدها دون استيعاب.
ما الذي سمعته للتو؟ ما الذي لفظ بهِ والدها الآن؟ تُقابل سيف؟ تتحدث معه؟
شعرت بقلبها يهوي بذعرٍ وهي تفكر بما سيقولهُ لها، لكن هل عساه يتجرأ ويهددها أمام والدها؟
بثينة بذعر : أنت شتقول يبه؟ أكلمه؟؟؟
أومأ عبدالعزيز بهدوءٍ ليلفظ : تطمني أكيد بكون وياك ... البسي عبايتك وتعالي
عضت شفتها بقوةٍ وهي تُمسك بذراعِ والدها مذعورة، سيأخذه! سيأخذ زياد منها، سيأخذ روحها منها كما أخبرها قبلًا، حذرها سابقًا من أن تفعل أمرًا خاطئًا لتشوّه فكر زياد عنه أو تمنعه منه وهاهي تجاهلت تحذيرهُ ليأتيها! هاهي لم تُهدي الأمر بالًا ليجيء سيف بكل جرأةٍ ويطلب الحديث معها، ليُهددها أو ربما يُخبرها برفع قضية حضانة زياد ... أمام والدها!!!
إلهي! سيقتلع روحها! سيُمزق قلبها، إلا هو، إلا ابنها، إلا زيـاد الذي تخلّت عن أمورٍ عديدة لأجله، فكم من رجلٍ تقدّم إليها ورفضته؟ وكم من فرصٍ للزواج جاءتها لتغضّ طرفها عنها لأجله، فقط لأجلهِ فلا تجعله يأخذه مني يا الله، لا تجعله يقتلعُ حياتي من جذورها ويقذفني في صحراءٍ خاوية/جافة، لا تجعله يا الله يخنق أنفاسي بأخذه مني. إنه ابني، ابني أنـا فقط، روحي فكيف لجسدي أن يحيا دون روح؟!
تقوّست شفتاها وهي تهمس بعذابٍ ودموعها بدأت بالإنهمار دون انتظار : لا تخليه ياخذه، الله يخليك يبه زياد لـي أنا! لا تخليه ياخذه مني
قطّب والدها جبينه، ثمّ تنهد وهو يضع كفهُ على كفها المُتشبثةِ بذراعه، وبصوتٍ مُطمْئِن : تطمني .. ما أظنه بياخذه منك وهذا واضح من كلامه ... بس في النهاية أنتِ قاعدة تغلطين لما تحرمينه من حقه
بثينة بذعرٍ وهي تهزّ رأسها بالنفي وصوتها الباكي والواهن يعبر من بين شفتيها بعذاب : والله ما أحرمه .. خلاص ماراح أحرمه منه بس لا ياخذه ... الله يخليك لا ياخذه
أومأ والدها مُطمئنًا : ماراح ياخذه إن شاء الله . . أنتِ بس البسي عبايتك والحقيني
بثينة بذعر : ألحقك؟؟
والدها بتروي : أيوا خلينا نشوف وش عنده ... وبعدين منتِ خايفة ترفضين الحين وياخذه عناد؟
انتفضت وهي تتراجع للخلف تزدرد ريقها بتوترٍ عظيم، تتلعثم بكلماتها التي أضاعت الأحرفُ المُكونةُ لها مخارجها : جايـة .. خلاص جايـة
كان يجلس مُنتظرًا، جالسًا يهزّ ساقهُ وعلى ملامحه تعبيرٌ هادئٌ مموِّهٌ لا غير، بينما هو في داخله يُحاول زعزعة الأعاصير دون أدنى فائدة، اليوم سيضعُ حدًا لوقاحتها، اليومَ سينتهي من - وجع الرأسِ - هذا ويعلمها درسًا من الواضح أنها لم تتعلمه في الفقه، وهاهو سُلّط عليها ليُعلمها إياه بطريقةٍ لا يفهمها إلا الحمقى المُتمردين.
سمعَ صوتَ خطواتٍ ليرفع ناظريْه وهو يدرك تمامًا من الذي جاء، دون من يريد! عضّ زاوية شفته السُفلى بحنقٍ وهو يرفع إحدى حاجبيْه سائلًا : ما ودها تقابلني؟
جلس والد بثينة ليزفر بخشونةٍ ثمّ ينظر إليهِ بهدوء : جايـــة
.
.
.
يتبع في الجزء الثامن والعشرين
طبعًا بحطه لكم بعد ما أصحى من نومي :$
تركيزي صاير شبه زيرو فبكمل موقف بالأول وأنام
وبعد ما أصحى براجعه وأنزّله لكم ()
تحياتي.
|