كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكم :)
صباحكم / مساؤكم سعادة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بأتم صحة وعافية
بارت اليوم قصير للأسف .. بس بصراحة استفذني واستنفذ كل قدرة على تطويله
بعض الشخصيات ما ظهرت في هالبارت بس يعتبر مهم ودسم في كتابته بالنسبة لي :$
,
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
بقلم : كَيــدْ !
لا تشغلكم عن العبادات
(17)
من البديهي أن الوجع لا يصيب الإنسان إلا إن أصاب جسده آفةٌ ما، محسوسةٌ تحت عوامل خارجيةٍ عديدة، وعوامل أخرى باطنيةٍ تُؤَثر على الجسد بشكلٍ متفاوت
لكنّ ما يُثير حيرتي كثيرًا هو الوجع الذي يصيب القلب دون آفةٍ أو مرضٍ يعتريه.
كنت أتساءل : كيف أن قلبي يتألم حين يموت عزيزٌ ما، حين تُهاجمني الأحزان، حين وحين وحين!
سيكون حديثي هذه المرة عن القلب ، تلك العضلة التي تم دراستها سابقًا فيزيولوجيًا بطريقةٍ لا تؤديه حقه.
لمَ يتألم القلب حين يذهب حبيبه؟ لمَ يتألم حين يغيب عنصرٌ ما كان لصاحبه مُلازمًا طول حياته الماضية؟
حتى القلب لا يتألم للأشخاص فقط؛ بل إن ألمه يكون أيضًا للأمور المعنوية وحتى الجمادات.
تلك كانت بدايةً لمقالٍ كتبته، بل تشعر في الحقيقة أنه يمثلها هي ولا أحدَ سواها. زفرت بضيقٍ وهي تغلق شاشة الحاسوب، ثم وضعت رأسها عليه وهو المُستقر فوق طاولةٍ مكتبية كريميّةِ اللون.
إن أوراق الربيع تتساقط أمام عينيها والخريف لم يحلّ بعد، والأيام الحلوة تتصارع أنفاسها من خلفها دون أن يكون لها القدرة على الإلتفات ومحاولة إنقاذها. لمَ تشعر أن الحقيقة قد تهدمُ كل ماضٍ جميلٍ لتحيل حاضرها ومستقبلها لليلٍ دائم؟ لمَ باتت ترى بريق السعادة يختفي رويدًا رويدًا وأنفاسها تتلاشى ببطء؟
كيف لها الشعور بوجعٍ خانقٍ في قلبها دون آفةٍ حقيقية؟ تشعر بالضيق، تشعر بالألم وكأنها ستفقد شخصًا ما! .. زمّت شفتيها وهي تلتهم الأكسجين بنهم، لا تريد التفكير أكثر، لا تريد التعمق في أمرٍ قد يلتهمها الآن قبل أوانه.
" كل شيء بوقته حلو " .. هذا ما حاولت إقناع نفسها به لكن كيف لها ذلك؟ ما الحلو في أمرٍ قد يكون لها بدايةً لشيءٍ لا تتمناه!
رفعت رأسها لتضغط بسبابتها وإبهامها على عينيها، ستعلم، ستعلم ما يُخبآنه والدها وخالها، ستعلم سبب الكره المُتقد في قلبه لها، ستعلم كل شيءٍ ولن تتواني عن التحقيق لذلك.
أخذت شهيقًا ثم زفرت بإصرار، لن تُظهر لأحدٍ كان ما يعتري خاطرها، ستكون طبيعيةً أمامهم ولن تُبالي ظاهريًا، يجب عليها أن تكون مع والدها كما العادة، كمن نسيت ما حدث.
,
أنزلت رأسها لأسفل الصنبور حتى تُبلله مع خصلات شعرها، تشعر بأن حرارتها مُرتفعةٌ ولا حيلة لها لتستحم حتى تنخفض حرارتها. وحياتها الآن ومنذ خمسةَ عشر عامًا في تذبذبٍ لا يستقر، أيعقل ألّا يستقر حقًا؟ وستبقى هكذا كالمُشردة لا مكان لها! لا أحد ينظر لها بطبيعيةٍ والكل يربطها بظلمهم لزوجها؟
أنفاسها تخرج وتعود لرئتيها ببطءٍ يشرح خمولها وإرهاقها، يعكس قلة حيلتها، حتى قدماها لا تحملانها كما يجب، وحين شعرت بخمولهما يتضاعف جلست على أرضية الحمام الباردة، بينما جسدها يشتعل حرارة، وهل يمكن أن تُصنف هذه الحرارة تحت تصنيف حرارة قلبها؟ إنّ الحمم الأعظم تكون في قلب الإنسان الذي رأى الظلم ولم يستطع ردعه، لذا مهما احترق جسدها لن تكون تلك النار المُصدرة للحرارة أعظم مما يتأجج في قلبها.
أسندت ظهرها على الجدار الذي يوازي الأرض في برودته، أم أنّ حرارة جسدها جعلتها تستشعر ذلك!
أغمضت عينيها ودون أن تشعر رحلت لعالمِ الأحلام.
استفاقت بعد مرور وقتٍ لم تعلم ما كمّه، وجسدها ازداد خمولًا، بللت شفتيها تسقيهما الرطوبة وتُزيل عنهما الجفاف لتنهض بتعثرٍ مُتجهةً للباب الموصد! لا تذكر أنها أغلقته بعد دخولها!!
وحين فتحته …. كانت الصاعقة!
,
الهاتف تصاعد رنينه، وهو انشغل بالأوراق بل غرق في عمله حين حاول الهرب من أفكاره ونجح، وقد كان الهاتف هو ما أفسد اندماجه بالأوراق ليرفعه بملامح مشدودةٍ تعكس مزاجه السيء.
أردفه على أذنه بعد أن أجاب : ألو
الآخر من الطرف الثاني باندفاع : أستاذ سلطان .. الشقة اللي اشتريتها قبل أيـام احترقت
وقف وقد اتسعت عيناه، وبانفعالٍ دون أن يكون قد استوعب معنى ما يُقال أو بالأحرى لم يرد الإستيعاب : أي شقة؟؟!
الآخر : اللي في حيّ البتلة " اسم وهمي "
تشجنت كفه القابضة على الهاتف، عيناه اتحدتا بالفراغ ... هناك، حيّ البتلة، الشقة التي اشتراها قبل أيـام، الساكن فيها تلك المــرأة، أمــــــه ولا أحد سواها!!
لااااااا ... غيــر ممكن!!!!
,
لم تسقط منه دمعَةٌ واحدة، جامدٌ كان بملامحه ونظراته. كان قد حمل والده وقتها دون استيعابٍ للمشفى وحين تم الكشف عليه علِم أنه ميتٌ منذ خمسة أيام، بالأحرى قبل أن يُسافرَ وهو الذي مرّ على غرفته فـ كيف لم ينتبه؟
لم يبكي، لم يتهاوى، لم يُبدي الحزن والأسى، كان كمن تلقى خبرًا عاديًا لا يُهمه، كان كمن تلقى كلماتٍ لا تعنيه، بالأحرى كان كمن خسر " عشرة ريالات "
قاسٍ هو هذا الوصف لمن كان من المفترض أن يراه كل كنوز الدنيا، لمن كان من المفترض ألا يُقارنه بمليارات الدولارات، لكن أكان يستحق تلك المواصفات؟
والده توفيَ لجرعةٍ زائدة من المخدر! كان يتعاطى المخدرات أيضًا وهو الذي ظنّ أن الموضوع انحصر على الكحولات فقط!
عضّ شفته بهوانٍ وهو يُخفض رأسه، سألوه إن كان هناك أقاربٌ لهم وأجابهم ببساطةٍ " لا " .. وأين أقاربهم منهم؟ أليسوا هم من تركوا والده يضيع؟ أليسوا من تخلوا عنه وخجلوا من كونه ابنًا لهم بدلًا من نصحه؟ حتى أقاربه من جهة أمه لا يعلم إن كانوا أحياءً أم لا!
تنهد وهو يراهم يجرّون السرير الأبيض الذي قبع فوقه والده المُغطى جسده، سيأخذونه للمغسلة ومن ثم للثلاجة كما قالوا، فلربما أراد أن يتصل بأقاربه المُسافرين كما فهموا خطأً.
ارتفعت زاوية فمه بابتسامةٍ ساخرة، أدرك ما معنى أن يموت الإنسان وحيدًا، دون أن يكون هناك من قد يبكي عليه ويُشيّع جنازته، دون أن يكون هناك من يدعو له بالرحمة .... وهذا هو معنى الموت الأقسى، معنى الموت وحيدًا دون ذكرى، أهذا ما انتظرته يا - ابو أدهم - .. أن تموت هذه الميتة الشنيعة؟ خمسة أيامٍ خلت وأنت هُناك جسدٌ دون روح، لا أحد التفت إليك، لا أحد استنكر غيابك، لا أحد ذهب يسأل عنك، ولا أحد انتشلك قبل أن - تتعفن -
رفع كفه اليُسرى ليُغطي بها عينيه لا يريد البكاء، لا يريد ممن سكن أعماقه الإستيقاظ، لا يريد أن يعود ذاك الطفل الضعيف الذي عانى من والده كثيرًا، لذا لا يستحق دموعه، لا يستحق أن يحزن عليه وقناع الجمود يجب أن يبقى، يجب أن لا يسقط، يجب ألا يبكي عليه، هو لا مكان له في قلبه فلمَ يشعر بغصاتٍ عديدةٍ تتدافع في حلقه؟ لمَ يشعر بالعبرة تخنقه؟
يُقال أن المرء إن مات فلا خوفٌ عليه إن كان وراءه - ابنٌ صالح - .. وأنا لست كذلك، لن أبكي عليك فأنا لست صالحًا، لن أحزن فأنا لست صالحًا، لن أدعو لكَ وأنت الذي لا تستحق ... لا تستحق ، فلتذهب روحك، فلتذهب فأنا لن أحزن عليها ومن أنت؟؟؟؟
تراجع للخلف وقد كان يقف في وسطِ ممرٍ شبه خاوٍ في المشفى بوقتٍ مُبكرٍ كهذا، اصطدم ظهره بالجدار الأبيض ونظراته تصطدم بالموت لا حياة فيها، لا يريد البُكاء، لا يريد الحزن، إنه ليس بـ أب، لا يستحق منه الحزن، لا يستحق منه الألم وذرف الدموع عليه .... أتسمعين يا عيني؟ أتفهمين يا مقلتي؟ لا تذرفي الدمع على من أبكاكي وصاحبكِ طفلًا، لا تذرفي الدمع وكم من مرةٍ أُطبقتِ في الظلام تُدارين دموعك.
لكن أتسمع تلك العيون؟ .. هو في النهاية والده لذا سقطت دمعةٌ يتيمة على خده، مهما حاول قبع الروح الصالحة داخله إلا أنها الآن أفاقت لتبكي على من أدخلها في غيبوبةٍ طالت، مهما حاول اغتيالها إلا أنها دائمًا ما تدسّ نفسها خلف الظلام حتى لا تموت، تتشبث بروحه بقوةٍ فهو بشر، والبشر مهما علت قسوتهم إلا أن هناك جانبًا صالحًا فيهم. وهل كان لذلك الأب جانبٌ صالح؟ هل كان له؟؟
رفع كفه الأخرى ليمسح على وجهه وعينيه احمرتا لمقاومته للدمع، وبصوتٍ ميّتٍ همس دون شعور : الله يرحمك ... الله يرحمك يا يبه
,
وصل إلى موقع الحريق، أنفاسه تتصاعد بسرعة، وعيناه تعلقتا بالنار المُتضاعفة من نافذة شقتها تلك من بين بقية شقق المبنى.
وهاهو شخصٌ آخر في حياته سيذهب، الجميع يتركه رويدًا رويدًا، الجميع يبتعدون عنه والأقسى ابتعادًا هو إلى الموت.
لا لا .. لا ترحلي غفلةً بعد أن ظهرتي غفلة، لا تعودي للإختباء وهذه المرة بين التراب، هو موحشٌ فلتصدقي، هو مُظلمٌ فلتصدقي. أتختارين الظلام بعيدًا عن النور؟ أتختارين الموت بعيدًا عن الحياة وكل العلّة في تركي؟؟
هزّ رأسه بالرفض وهو يتنفس بسرعة، لن يسمح لها بالذهاب بعد أن وجدها، أمه الحقيقيةُ رحلت حين ولدت به، ومن ثم رحل والده وكلهم للموت، ثم جاء سلمان، ذاك الذي رحل بخبثه، ذاك الذي رحل حيًا لكن بعد أن خلّف وراءه الكثير من الألم فهل ستكونين كالإثنين اللذين رحلا للموت قبله؟
اندفع يسأل أحد رجال الإطفاء وكله أملٌ في أنهم قد أخرجوها، وقد كانت الإجابة التي كسرت ظهره : لا! فكل من أخرجوهم من المبنى هم قلائلَ لوجود الناس في هذا الوقت في دوامهم الدراسي والعملي، والقليلون فقط ممن خرجوا نساءٌ لم يصلن إلى الأربعين بعد، أطفالٌ وعددٌ محصورٌ من الرجال كبيري السن
أغمض عينيه بقوةٍ ورفع رأسه للأعلى يُناجي ربه، رحماكَ يا إلهي، رحماك من بقي لي، ليسوا إلّا قلةً فلا تحرمني منهم، ليسوا إلا بعدد أصابعي فلا تقتلعهم من يداي.
ارتعشت شفتاه وهو يوجه حديثه لأحد رجال الإطفاء بعد أن تلفت يبحث عنها بين جموع الناس ولم يجد لها طيفًا : أعطني شيء أحمي فيه جسمي من النار
نظر إليه الرجل بحزم : ما أقدر
سلطان من بين أسنانه : قلت لك أعطني شيء أحمي فيه جسمي من النار
زفر الرجل وهو يعيد تكرار كلامه بحدة : قلت لك ما أقدر ... الرجال ماراح يقصرون وإن كان فيه أحد بيطلعونه، هذا إذا كان فيه لأن المبنى كامل تم إخلائه
أمسك سلطان بمقدمة قميصه ليهمس بقسوة : ما أشوف إنكم سويتوا شغلكم عالوجه الصحيح فأنا اللي بسويه … * ارتفع صوته غاضبًا * فيه مرة للحين داخل وانتو ما طلعتوها
تراجع الرجل بعد أن نفض يده عنه، وبنبرةٍ عملية : لو فيه أحد داخل إحنا بنسوي اللي نقدر عليه حتى نخرجه
سلطان بانفعال : ما أبيكم تسوون اللي تقدرون عليه ، أبيكم تطلعونها أو أنا اللي بطلعها
الرجل يجاريه بإيماءه : بنطلعها تطمن، بس وش اللي يخليك متأكد؟
سلطان بانفعال : اللي هو وش عليك؟
نظر إليه الرجل بعينين ضيقتين، وبجمود : في أي طابق عايشة
سلطان : الثالث، الشقة رقم ستة
قطب جبينه حين أدرك أنها الغرفة التي بدأ اندلاع النيران منها لكنه لم يصرح بذلك علنًا أمامه، وقد ارتبك داخليًّا بينما تصنع الجمود على ملامحه، بالتأكيد ماتت! وكيف قد تكون حيّةً بعد أن انتشرت النيران تقريبًا في كامل المبنى فماذا عن الغرفة التي بدأ منها الإندلاع؟
صدّ عنه ليأمر الرجال بتجهيز سلالم الإطفاء ورفعها للشقة المطلوبة، ليس عنده أملٌ أنّ هناكَ جزءًا من الشقة لم يحترق، لكن لا بأس في أن يتأكد.
عودةٌ لما قبل الحريق
اثنان يتلحفان بالسواد ولا يظهر منهما سوى عينيهما، كانت خطتهما تجري على أن يقوما بحرق الشقة دون أن يبقى هناك أثرٌ يدل على أنه كان حريقًا مقصودًا، كان الأسهل أن يقتلوها لكنّ ذلك سيكون نتيجته تحقيقاتٌ قد تكشفهم جميعًا.
لذلك، حركةٌ مدروسةٌ من أنامل أحدهم على عنقها تُفقدها الوعي دون مخدرٍ يكشف خطتهم، ومن ثم اندلاعُ حريقٍ دون مساعدةٍ من أيّ مادة!
بخفةٍ استطاعا دخول المبنى المُتغيب حارسه لآفةٍ أصابته، أو بالأحرى أصابوه بها. صعدا السلالم وفي هذا الوقت من الصباح يكون الناس في دوامهم لذا كان لهم كامل الحرية، ومن ثمّ وقفوا أمام باب شقتها.
( الطابق الثالث - الشقة السادسة )
بحركاتٍ مدروسة استطاعوا فتح الباب، ثم اندفعوا للداخل وحين لم تكن أمامهم بحثوا عنها إلا أن وصلوا لباب الحمام المفتوح، والعجب أنها كانت نائمة على الأرضية!
جيد، الأمور تسير كما يجب دون أي حاجةٍ للعنف، أغلق أحدهما الباب ليوجه حديثه للآخر هامسًا : أكيد بتوعى بسبب الحرارة، في النهاية بيكون موتها بسبب الإحتراق وإن ما وصلها النار بيكون دخانه كافي حتى تختنق، نآخذ احتياطاتنا ونسد الباب، فيه احتمال ما عاد ينفتح وبكذا نضمن عدم هروبها
أكملا عملهما، فتحا أنبوب الغاز ليتسرب، وكانت تلك الخطوة ما قبل الأخيرة، ليخرجا من بعد ذلك من الشقة، سينتظران نصف ساعةٍ على الأقل حتى يتمكن الغاز من كل جزءٍ في الشقة
ومن بعد ذلك .. كانت البداية للإندلاع! وكل ما بقي هو أن يرميا عود ثقابٍ من الباب ومن ثم ستتأجج النيران، وكان لهما ما أرادا، أو بالأحرى … كان لهم ما أرادوا!
,
كان قد أخذته غفوةٌ في ذات المكان الجالس به، على إحدى مقاعد المشفى لدقائق قد تكون لم تتجاوز الربع ساعة، ولم يوقظه سوى أحد العاملين في المشفى.
فرك عينيه الباهتتان بإبهامه وسبابته، ثم تحرك ينوي الإبتعاد عن هذا المكان، وهاهو آخر من كان يشغل حيزًا بسيطًا وإن كان سلبيًا من حياته رحل. خرج من بوابة المشفى وشمس الرياض يشعر أنها مُحرقةٌ أكثر من أيّ نهارٍ مضى، أتسخر منه لأنه أصبح وحيدًا الآن بكل ما تعنيه الكلمة؟
حتى السماء يرى أنها باهتةٌ كما روحه، المسافات تزداد، الطريق يطول، يشعر أنه يستنفد الكثير من طاقته ليصل إلى سيارته، وفي تلك الأثناء شعر باهتزاز هاتفه في جيبه، لم تكن له الرغبة ليرد، لم تكن له الرغبة في أيّ شيءٍ لكن لمَ؟ أيعقل أنه تأثر لموت والده إلى هذا الحد وهو الذي وعد نفسه يومًا أن تكون علاقتهما رسميّةً إلى الحد الذي يكونان فيه كالغريبين؟ أيستحق منه كل هذا الحزن؟ أيستحق أن يبذل كل قواه ليُنشئ صدًا ينادي باسمه وهو الذي مات صوته فكيف يكون له صدى؟ وهو الذي ماتت عيناه فكيف عساها ذرفت الدموع منذ دقائق خلت؟
رفع الهاتف لينظر للرقم ببهوت، إنها هي.
أغمض عينيه بقوة، وهو الذي كان منذ ثوانٍ يستشعر أنه وحيدٌ فلا تفرحي أيتها الشمس بنصرك، ليس وحيدًا، بقيت له تلك المتشبثة به فهل عساه يرفضها الآن وهو من ذاق طعم الوحدة المرّة منذ ثوان؟ وكأن الدنيا أشرقت في وجهه حين رأى رقمها يُنير شاشته، رباه هل هي الغيث الآن بعد لحظات القحط التي واجهها؟ هل هي العبق الذي فقدته زهوره؟
ردّ عليها بكل لهفة، خاف أن يتوقف الرنين فيُثبتَ حالهُ وحيدًا، خاف ألا يرد فتلفظها الحياة بعيدًا عنه، لا يريد أن يكون وحيدًا، لا يريد أن يشعر بما شعر به منذ ثوانٍ، بقيت هي ولا أحد سواها، بقيت هي فلا تذهبي أرجوكِ، لا تذهبي لتتركيه الآن.
رد عليها دون كلمة، وتلك ما إن رفع الخط هتفت بصوتٍ باكٍ دليل نوبات نحيبها التي لم تتوقف بعد : أدهم
أدهم باندفاع : ورقة تحاليل الـ DNA الأصلية للحين وياك؟
استغربت سؤاله، ونبرة صوته الحزينة لم تخفى على أذنيها، لكنها في النهاية همست ببهوت : اي ليه؟
هتف بكلمات انتشلت الجنون القابع فيها، كلماتٍ انتظرتها لتأتيها الآن كجبلٍ وطأ على صدرها : بجيك ، وأبي هالأوراق عشان تكون اثبات قدامهم
,
ابتسمت له بحُبٍ وهي تُقبل رأسه، من ذا الذي يستطيع تصنع نسيان قلقلها إن رأى وجهه البشوش؟ لا تنكر أأنها كانت قلقةً وتتصنع النسيان، والآن نسيانها ليس تصنعًا، بل هي نسيت ذاك القلق من أساسه، فـ القرب من هذا الأب دواءٌ بحد ذاته.
هتفت بحب : جعلني ما أبكيك يا الغالي
نظر إليها بقلق، أيعقل أن تكون نسيت ما حدث؟
جنان برقة : وش فيك تطالع فيني بهالشكل يا عيون بنتك؟
ابو فارس بهدوءٍ زائف : ولا شيء حبيبة أبوك .. تعالي إجلسي هنا
أشار لحجره لتبتسم وذاك مكانها المُقدس، ومن الظلم أن يكون لغيرها، ولدت ليكون حجره لها وحدها فقط.
اقتربت لتجلس في مكانها المعتاد، وهي مدللته الصغيرة الحسناء ذات الحيّز الكبير في قلبه.
هتف بحنانٍ لم يَخفى به القلق : تبين شيء يا بنتي؟ تحتاجين شيء؟
استغربت نبرته وكلماته، لكنها أجابته بابتسامةٍ رقيقةٍ حنونة : مو قاصرني شيء ، أبو فارس ما خلى لساني يلفظ بالطلب
ابو فارس بابتسامة : حبيبة ابو فارس والله
,
المشقة تزورها من كل بابٍ ومنفذ، الجو باردٌ في الخارج، إنهم على أواخر الشتاء، وجسدها لا يحتمل البرودة بتاتًا لذا بدأت بوادر المرض، لكن لمَ لم تمرض سابقًا وهي بين عائلتها؟ أيعقل أن المرء يكون أقوى حين يقترب من " عزوته "؟
من بين كل التفسيرات البيولوجية لم يكن هناك تفسيرٌ واحد يفسّر سبب ضعفها الذي تضاعف الآن إلا أنها ابتعدت عنهم، ابتعدت عمن اعتادت التفاعل معهم سنين طوال، ابتعدت عمن كانوا لها الأمان وإن تزعزع قليلًا لعوامل خارجية.
سعلت وهي تنقلب على جانبها الأيمن تُدير الباب المفتوح ظهرها، وفي تلك اللحظات كان فواز يدخل لتتعلق عيناه بظهرها، توقع أنها نائمةٌ لذا اقترب حتى يُغطيها، وحين شعرت باللحاف الذي ارتفع إلى جسدها فتحت عيناها وقد صاحب ذلك انتفاضةٌ من جسدها.
فواز : بسم الله عليك هذا أنا.
زفرت وهي تنظر لملامحه بفتور، نظراتها كان بها الكثير من الوهن، والكثير من الجاذبية له أيضًا.
صدّ بملامحها عنها ليزفر هامسًا : الله يسامحك يا عمي على هالسواة
عاد لينظر إليها : أكلتي شيء من اللي جبته لك؟
هزت رأسها بالإيجاب والإرهاق بدا على وجهها، وحين انتبه قطب جبينه : وش فيك جيهان؟
بللت شفتيها الجافتين لترفع جسدها تنوي الجلوس، لكنه مدّ يديه بسرعةٍ ليُمسك بعضديها مانعًا لها، وحين شعر بحرارة جسدها عقد حاجبيه : اوووف .. جسمك حار!
كانت نظراتها مُعلقةً به بوهنٍ دون أن تجيب، وهو اقترب منها قليلًا دون أن يكون جالسًا بل واقفٌ وجسده من الأعلى مُنحنٍ قليلًا نحوها، قام بتعديل اللحاف عليها ثم همس بالقرب من أذنها : جايك
قبّل أذنها وأنفاسه عبرت في تجويفه لتُغمض عينيها، ثم رفع جسده ليخرج ينوي إحضار الكمادات وإن لم تنخفض حرارتها خلال ساعات سيأخذها للمشفى.
استنشقت القليل من الهواءِ ثم بعثرته، هل كل شيءٍ حارٌ هنا أم أن أنفاسه هي وحدها الدافئة؟ صوته عبر بحباله ناحية الماضي، بعيدًا هناك، قريبًا إليها، وكل أنفاسها انحصرت بينها وبينه، دون أن تتجه لأنفها، دون أن تُسعف رئتيها لتريدهما مخنوقين يناديان الأكسجين دون جدوى.
تلك الزهرة البيضاء في يومها الأسود ذبلت، تلك البراعم دُهست قبل أن تنمو، تلك اليرقات قُتلت قبل أن تكبر، ترى نفسها تسقط، السائقُ نسي ربه أو تناساه، وحيدةٌ كانت في المنزل في يومٍ أُرهقت فيه حد الإعياء، كما اليوم!
كانت ستضيع لولاه بعد الله، كانت ستنتهي لو لم يكن هو قد جاء، وماذا بعد!
*
تمسكت به وهي ترتعش، دموعها بللت وجهها وتلك العينان الماطرتان اتسعتا حتى كادت مقلتيها تقذفانهما، كادت تنتهي يا الله! ومن ذا الذي جاء الآن؟ من هذا الذي أنقذها من بين براثن ذاك؟
لم تنظر لمن هي مُتمسكةٌ به، ولم تفكر إن كان رجلًا أم امرأة، وكل ما أرآدته هو الأمان، الأمان ولا شيء آخر.
كانت قد غابت عن الدنيا للحظات، لم تعلم من جاء ليُنقذها، ولم تعلم ماذا حصل من حولها، فقط سمعت صوتًا تعرفه جيدًا لكنّ عقلها أبى أن يترجمه ينادي باسمها، ومن بعدها تشبثت بذراعيه تبحث عن مأمن.
فواز بانفعالٍ وصدره يرتفع ويهبط في صراعٍ جنوني : الحمار هرب!!!
نظر إليها ثمّ شتت نظراته بعيدًا عنها، ولم يكن منه سوى أن يرفع شماغه عن رأسه ويُغطيها به، هامسًا بارتعاش : جيهان!
جيهان بصوتٍ مُرتعشٍ باكي : ي يبه .. يـ م ـه …. آآآآآآآآه
لتنخرط في بكاءٍ ونحيبٍ تصاعد ليقطع نياط قلبه، ابنة عمه كادت أن تضيع لولا الله ثم تواجده، ابنة عمه كادت تنتهي، ماذا لو لم يكن قريبًا من هنا؟ ماذا لو لم يكن قد مرّ ينوي رمي السلام على عمه؟ ماذا لو لم يأتي؟ ماذا كان ليحدث؟؟؟ّ
ارتعش ولم يستطع السيطرة على نفسه ليصرخ في وجهها : شلوون دخل للبيت شلوووون؟ وليه انتِ بروحك هنــــا؟ ليه محد موجود غيــــرك!!
لم تجبه، فهي لم تعد تسمع، لم تعد ترى، والدنيا من حولها أصبحت بلونٍ أسود، ثقل جسدها فجأةً ليفزع ويمسكها جيدًا، هاتفًا بصوتٍ هيهات ان تسمعه في هذه الأثناء : جيهان .. جيهان
.
.
.
لا إله إلّا الله سبحانك إنّي كنت من الظالمين
انــتــهــى
وموعدنا القادم سيكون إن شاء الله يوم الثلاثاء :$
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|