كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
قبل ذلك بساعات
جفلت وهي تنظر إلى من يحتضنها لتنسحب الكلمات من بين شفتيها اللتين شحبتا ... هو! تراه الآن أمامها يعانقها بكل حنانٍ وحُب، بعد غيابٍ طال لأشهرٍ طويلة لا تعلم سببها، تسعة أشهرٍ غاب فيها عن كل عائلته، والمخزي في الأمر أنه زوجها وهي لا تعلم سبب غيابه. ابتلعت ريقها وهي تستمع إلى كلماته الدافية : أنا معك .. جيهان
لم تستطع السيطرة على أنفاسها التي أخذت بالتسارع، عاد بعد أن شعرت بأنها قد تحررت تمامًا من ذلك الرباط، عاد لتعود معه كل ذكرياتها المشينة والقاسية معه، شد جسدها الهزيل إلى أحضانه أكثر وهو يغطس بأنفه في بحر شعرها البني ويقبله، عشقه! ... ليهمس بتأوهٍ معبرًا عن شوقه : إشتقت لك يا عيون فواز
وهو بكلماته حرك جسدها الأبيض في اهتزازةٍ مُرتعبة، ليس بعد أن ابتعد، ليس بعد أن ارتاحت روحها منه يعود بهذه البساطة وكأن شيئًا لم يكن، عضت شفتيها المرتجفتين وهي تشعر به يعانقها بقوةٍ أشد وقد شعر بارتجافها وأيقن سببه، بدأ في المسح على ظهرها لعله بذلك القدر من الحنان يبعد عنها الرعب ويفيقها من صدمتها بحضوره
ثانية ... ثانيتين ... ثلاث ... لتدفعه عنها بعد أن استفاقت من صدمتها لا هثةً برعب صارخة في وجهه : ابعد عني فواز
ما إن ابتعد جسده مسافة بضع شعيراتٍ عنها حتى نظر إليها بهدوءٍ وهو قد توقع سابقًا ردة الفعل هذه، رطّب شفتيه ليرسم ابتسامةً اعتاد دائمًا على رسمها أمامها، ابتسامة ثقةٍ وثبات : آسف على تأخري بس .... عظم الله أجرك
بالرغم من أن هذه الجملة كانت تُبكيها ما إن تنطلق من بين شفتي أي مُعزٍ لها إلا أنها بقيت تنظر له بحذر وترقب
احتذب خصلةً من شعرها البني ليلفها على اصبعه بابتسامةٍ شاردة، وعيناه تطوفان على ملامحها بشوقٍ متقدٍ في عينيه، تسعة أشهر! بالتأكيد ليست ضئيلة أمام حجم حبه لها، أمام شوقه إليها، كان يعد الساعات والأيام والشهور، فقط ليلمح عينيها ويُشبع شوقه بها
أغمضت عينيها بهدوء وهي متقينةٌ أنها لو كانت تمر بظروفٍ أخرى لشعرت باللذة من نظراته الهائمة ككل مرة، هو الوحيد الذي يرضيها كأنثى، هو الوحيد الذي يشعرها بالثقة المكسورة داخلها، رغم كرهها وبغضها الشديد له إلا أنها تشعر بالغرور حينما ترى نظرة الشوق والتوق في عينيه، تعلم جيدًا بأنه لا يرى غيرها، وهذا ما يشعرها ولو بالقليل من الثقة
تعلم أنها ليست ككل الفتيات، ليست جميلة، ليست مثيرة، تكره كونها ليست كأرجوان، لا تحمل من الجمال ماتحمل هي، كانت تتظاهر بالثقة سابقًا عن طريق دعم أمها لها، تظاهرٌ لا غير، والآن بعد أن رحلت، كُسر تظاهرها أيضًا، أصبحت تيقن أنها لا شيء حتى ظهر فواز، والذي بنظراته أشعرها بالقليل من الثقة المهزوزة بداخلها
شعرت بشفتيه تلامسان بشرتها بجانب فمها بشوقٍ مضني لقلبه، وهاهو الحب من طرفٍ واحد يدمي شخصًا آخر، لكنّ هذا الشخص ليس بأنثى، بل هو رجل، رجل قادر على فرض سيطرته وقلب الأمور لصالحه
تراجعت بهدوءٍ للخلف محررةً بشرتها من شفتيه، ليصلها همسه الخشن على بعد سانتيمتراتٍ قليلة : كوني واثقة ... إني بكون قربك في محنتك
وقف ناويًا الخروج بعد أن أطلق ابتسامةً واثقة وكأنه يؤمن باليوم الذي ستتشبث به بكلتا يديها، وما إن همّ بالخروج حتى وصله صوتها الهامس والذي يبعثره : ماني محتاجة قربك
إلتفت إليها بهدوءٍ اعتاد على لبسه أمامها، وهو يعلم جيدًا أن بروده يستفزها ويدفعها للغضب. أكملت ببطء وهي تدرك جيدًا عاقبة الكلمة التي ستحررها من بين شفتيها : طلقني
*_-*_-*_-*_-*
كان يمشي في أنحاء الغرفة المُحترقةِ بصمتٍ وذهنٍ مشدود، لكل ورقةٍ بيضاء تحولت إلى سوداءَ مُهترئة، لكل خشبٍ تآكل وأصبح رمادًا أو شبه رماد، لكل إطارٍ تغير لونه ومحتواه الذي كان يحميه تلاشى، والبعض تلاشى نصفه. للباب الضخم الذي تغير لون زواياه فرسم لوحةً لعجوزٍ كهلٍ حزين. لتلك الذكريات الحيةِ داخله، والميتةِ أمامه!
تجول بعينين مرتخيتين بحزن، وهاهو ثباته المزعوم يزول أمام هذا المنظر القاسي على قلبه، العنيف هجومًا على عقله.
زمّ شفتيه وهو يحمل بين يديه بقايًا من صورةٍ هجم عليها النار فأحرق جميع ما فيها إلا يدًا لشخصٍ كان موجودًا بجانب والده في الصورة، كفه, كف سلمان التي كانت مُعانقةً لكف فهد، وهو بهذه البقية من الصورة يدرك أنها رسالةٌ جديدة من القدر، رسالةٌ ستحمل المآسي والمآسي. آخر كتابٍ أنهاه لوالده هو آخر كتابٍ أنهاه والده نفسه قبل وفاته، وقد كانت رسالةً تدل أنّ هذا الكتاب كان آخر ما خطّ فمات صاحبها بعد يومين فقط من بعد أن أنهاه، والآن ماتت ذكرياته عند ولده لتكون آخر ما قرأه.
تراجع للخلف إلى أن وصل للجدار فارتكى عليه نزولًا إلى الأرض، إنزلاقًا ببطءٍ مؤلم، إلى أن استوى جالسًا وقدماه مفروشتان على الأرض الدافئة، بينما كانت يده اليُسرى إلى الآن تحمل ذلك الجزء الباقي وعيناه تنظرآن للفراغ بشرودٍ حزين، يطبق جفنيه ببطءٍ ويرفعهما ببطءٍ أشد، ويده دون شعورٍ تطبق على ذاك الجزء مع كل انسدالٍ لجفنيه.
*_-*_-*_-*_-*
الساعة التاسعة مساءًا
ركضت متجاوزةً عتبات الدرج بقميصها البيتي الطويل ذو الألوان المتداخله، ملامحها مستاءة تُظهر الكثير من اليأس، والقليل من الحياة!
حركت رأسها يمينًا وشمالًا باحثةً عن والدتها لتلتقطها عيناها فورًا جالسةً على كرسيّ من الخشب الهزاز، مُغمضةً عينيها بهمٍ والضيق يتجلى في ملامحها، اقتربت منها بحنقٍ من نفسها، هي السبب في كل شيء، هي سبب ضيق أمها وعدم راحة أخيها، هي الغيمة العقيم التي تُغطي هذا المنزل رافضةً التحول إلى قطراتٍ عذبة، هي شجرة خريفٍ عارية حاولت تظليلهم بلا أدنى فائدة. لكنها الآن، ستُجبر نفسها على الهطول، ستجبر نفسها على الإخضرار وتزيين نفسها بالأوراق!
تنحنحت جاذبةً لحواس أمها نحوها، نظرت إليها أمها بدهشةٍ لم تستطع إخفائها، فهاهي ابنتها تقوم بالنزول مرةً من عدد المرات القليلة التي تخبئها لهم.
لم تستطع إخفاء ابتسامتها الشغوفة والمغلفة بالتجاعيد لتهمس بحنان مأشرةً لها بيدها نحوها : تعالي ياعيون أمك ... تعالي
اقتربت منها بآلية لتجلس أمامها على الأرض واضعةً لكفيها على ركبتي أمها وعيناها تتأملانها بشرود وحيرة
أمها وهي تمسح على خصلات شعرها السوداء : جوعانة يُمة؟
أسيل بصمتٍ ظلت تنظر إليها، وعينيها اللوزيتان ترسمان لوحةً كئيبة أبت أن تختار غير الإسود لونًا لها
أم فواز تعيد سؤالها : جوعانة؟
أسيل وكأنها لم تسمع سؤال أمها، بل على الأرجح هي لم تسمع بسبب شرودها : ليه تبكين؟
أطلقت سؤالها ذاك على أمها بقلقٍ شديد وبدون حيرة، فقط لأنها تدرك الجواب جيدًا، بل لأنها تظن أنها تدركه جيدًا، وجوابها ذاك كان ( أنا السبب! )
بقيت أمها صامتةً للحظات، بالرغم من أن خيوط الدموع لم تكن مرتسمً على وحنتيها إلا أن عينيها الغارقتان في بحر الدموع قد كشفتها
أم فواز بشرودٍ وعينيها تنظران للفراغ : فواز
انتفضت رغمًا عنها لتتهاوى عيناها بانكسارٍ خريفي، أيعقل أن يكون قد حصل له مكروه، أيعقل أن تفقده كما فقدت متعب؟ لن تستطيع الصمود أكثر، خصوصًا وفواز يحمل عبقًا أخآذًا من الراحل
همست برجفةٍ مترددة خوفًا من الإجابة : و .. وش فيه ... فواز؟
أم فواز بوجوم : كلمته العصر وكان معصب، راح الصبح لبيت عمه عشان يقابل زوجته ... وأبصم بالعشرة إنها سوت شيء خلى شياطينه تفور ... مستحيل يروح عندها ويرجع مبسوط
زفرت أسيل براحة وهي تضع يدها على صدرها، كانت تظن أن الأمر أضخم من ذلك، لكن بما أن الأمر يتعلق بجيهان فلا بأس. ابتسمت ببهوتٍ وهي تتذكر بنات عمها المرحات - سابقًا -، منذ مدةٍ طويلة لم ترهن!
أكملت أم فواز بشرود : ليته ما تزوجها، كل شيء كان بسببي، لو إنّي ما شكيت للحظة في ولدي ما كان تزوجها بعدم رضاي
أكملت أسيل عنها بهمس وهي تغوص في عيني أمها الحزينتين، لمَ؟ لا تعلم، لكنها تكاد تقسم أنها السبب : كان ينتظر الفرصة، وجته على طبق من ذهب بعد المشكلة اللي صارت
صمتت أم فواز تستمع إلى ابنتها التي أكملت بابتسامة حزينة : يمة انتِ عارفة بحب فواز لجيهان، بس مع ذلك رفضتيها زوجة له، ومن أبسط مشكلة استغل هو الفرصة وتزوجها رغمًا عنك
أم فواز بحنق : أبسط مشكلة!
أسيل بغموض : في الحب ... تصير كل العقبات بسيطة، عشان ينال العاشق معشوقه
تنحنت أم فواز وهي تلمح نظرات أسيل الشاردة والحزينة، لتُدرك جيدًا أين ذهب عقلها، همست بغصةٍ وهي تمسح على خصلاتها المموجة : أكلتي شيء؟
تعلقت نظرات أسيل الشاردة بعيني أمها للحظات، فبدت كوردةٍ ذابلة أبى الربيع أن يُزهيها. رُبما كان من العدل أن تموت معه تلك اللحظة، فلم لم تطبق العدالة ذلك، اشتدت قبضتها بدون شعورٍ منها على ركبة والدتها التي تجعدت ملامحها ألمًا من تشنج يدا ابنتها على ركبتيها، لكنها لم تعلق وبقيت تتابع بقية الأسى والحزن في نظرتها الشاردة بألمِ أمٍ حنون ليس لديها في هذه الدنيا سوى ابنٌ وابنة، وإن حصل لهما شيء ... ستجن
ارتسم الخط المالح بشفافيةٍ على خدها الأيسر، ويداها تتقلصان أكثر على ركبتي أمها بدون شعورٍ منها ... لو أنها ماتت معه ... لو ماتت معه ... كانت لتريح والدتها من كل هذه المعمعة، كانت لتريحها من ثقلها الذي يزداد يومًا بعد يوم، بالرغم من حجم الجروح داخلها وآثار الإنكسار الكبير في ملامحها، إلا أنها ضاهت جميع وحدات الوزن قوة، فأصبحت ثقلًا لا يحتمله آدمي
همست بدون وعيٍ منها ودمعةٌ سقطت من عينيها الأخرى قسمت ظهر أمها نصفين ألمًا : موافقة على شاهين!
*_-*_-*_-*_-*
كان يرمي الكُرة وهو ممددٌ على سريره الذي يكفي شخصًا واحدًا لترتطم الكرة المطاطية بالجدار عائدةً إليه ومن ثم يعيدها إلى الجدار من جديد، وابتسامته العابثة لا تفارق شفتيه، ملامحه كانت كالأسد الجائع والذي يبحث عن فريسةٍ يلتهمها، والسؤال الوحيد الذي يتردد في ذهنة .... متى ستصل الفريسة؟
كانت الغرفة تأخذ طابعًا رجولي وبها سريران اثنان، وكل سريرٍ كان يكفي شخصًا واحدًا فقط، بينما الآن، أصبح سريران أحدهما خاوٍ تمامًا رفض صاحب السرير الثاني اخراجه من الغرفة، فقط ليعيش ذكرياتهِ المُقدسة بالنسبة له ولا يضعها على الحافة!
تردد صوت طرق الباب على مسامعه ليتأفأف بانزعاجٍ ممن أفسد خلوته في وكره، وهو في نفسه مستغربٌ من الطرق, أيعقل أن تكون الممرضة وقد احتاجته؟ تعجب فوالدته من المستحيل أن تصعد إليه مع تعبها, وتلك الممرضة من المستحيل ان تحتك به لالتزامها الكبير .. صرخ بغضب : نعم خييير ؟؟
ليصله صوتٌ مرهَق بانت به معالم العجز والشيخوخة : أنا يا وليدي
نهض بسرعةٍ مُتفاجئًا والجدية حفرت طريقها إلى ملامحه لتزول ابتسامة العبث تلك، اتجه للباب ليفتحه غير متداركٍ غضبه، وما إن ظهرت له صورة المرأة التي غطت ملامحها التجاعيد ووصله صوتها المُرهق حتى زمّ شفتيه بغضب : ماتبي تتعشى؟
شاهين ولم يستطع منع نفسه إذا حمل جسدها المُمتلئ بين ذراعيه هاتفًا بغضب : كم مرة قلت لا تطلعين تناديني ولو سمعتي إني أحتضر
كانت سترد بوجومٍ إلا أنه قاطعها برجاء : تكفين يُمه حالتك ماتسمح لك تطلعين وتنزلين الدرج كل ما بغيتيني
أمه عُلا وابتسامةٌ مهزوزة ظهرت على شفتيها : الله لا يحرمني منك يا نظر عيني
شاهين بجدية لا تخلو من الغضب وهو يحكم ذراعيه حولها : ثاني مرة لو طلعتي بكسر رجولك هاه
لم تستطع منع نفسها من الضحك على جملته التي لطالما كررها على مسامعها مرارًا وتكرارًا كلما تحركت لمكانٍ قد يُرهقها، لتشعر به يتحرك خارجًا وهو يحملها بجسده الضخم مفتول العضلات، نازلًا بها إلى الطابق السُفلي وهو " يتحلطم " : أنا خلاص قررت من اليوم ورايح أنام في غرفة في الطابق الأول، عشان الست عُلا ماتفكر مرة ثانية تصعد لفوق, وبعدين وين ذيك الممرضة, والله اني قلت إن ما منها فايدة بس هي مُصرة عليها يُقال تحبها وما ترتاح معها
عُلا بابتسامةٍ صافية تحمل معالم الحنان تقطع عنه ثرثرته : العشاء
تأفأف ليوضح لها مدى غضبه، بمعنى * لا تتحدثي معي فأنا الآن غاضب *
وضعها على أريكةٍ ليلكية لينحني مُقبلًا وجنتيها النديتين، ومن ثم جلس بعيدًا عنها مُنتظرًا حديثها الذي سيتضمن اعتذرًا بالتأكيد، فهي لا تقوى على عتبه ... هو وحيدها بعد وفاة أخيه، ولا تجد في هذا المنزل مؤنسًا لها غيره، حتى ممرضتها الحنونة لا تكفيها عن ابنها رغم أنها تستمتع معها أيضًا
عُلا بملامح أجادت تمثيل الحزن : وأهون عليك تظل زعلان علي؟
وقف شاهين يصد عنها مُتجهًا للمطبخ وابتسامة عبثٍ ارتسمت على شفتيه لتزول بسرعةٍ قبل أن تلحظها والدته ونور عينيه، لكن سرعان ما عادت ابتسامته العابثة ما إن دخل المطبخ واختفى عن أنظارها
ارتسمت ابتسامةُ رضى على شفتيها وهي تستمع للمعمعة في المطبخ، مدركةً بأنه يجهز الأطباق للعشاء الذي طلبه والذي وصل بدون علمه لتصعد مناديةً له. إن ذُكر بر الوالدين فشاهين سيكون أكبر مثالٍ لذلك، حتى الخدم لم يسمح بتواجدهم في المنزل، لا يأتمنهم خوفًا عليها منهم، فقصص الخدم ومصائبهم قد انتشرت، وهو يخشى عليها من نسمة الريح، لذا كان هو من يُنظف المنزل، يطبخ، يهتم بها ويراعيها بكل رحابة صدر، غير أنه أحضر فقط ممرضةً للعناية بها، ولم يرضى بغير ذلك. تتمنى لو أنّ لديها ابنةٌ تدير عنه كل ذلك وتقوم هي بالأعمال المنزلية، فهو يبقى رجل ولا ترضى أن يقوم هو بها. لكنه كان يعاند ويرفض الخدم فقط لخوفه عليها، ودائمًا ما كان يقول لها
" اعتبريني خادمة، سواق، ممرضة، اعتبريني بنتك ما يهمني، أهم شيء تشوفيني برضا تام عن كل اللي أسويه، ومو شغلي لو كانت هالأشغال للبنات، مع إني ماني مقتنع بهالشيء، بس أصير بنتك لجل عيونك ... مو ولدك وبس "
البعض كان ليُحرج من كونه يعمل عملًا للفتيات، لكنه كان يفتخر ولا يرى أن ذلك ينقص من رجولته شيئًا، حتى أنه في بعض زيارات أصدقائه له كانوا يتعجبون من كونه هو من يعمل الشاي والقهوة والحلوى فقادهم فضولهم لسؤاله * ألا يوجد خادمةٌ في البيت *
لكنه كان بكل فخرٍ يقول لهم بأنه هو من يقوم بكل شيءٍ هنا، ويحب ذلك. ولدٌ كهذا يجعلها سعيدةً تخجل أن تطلب من الله شيئًا آخر في هذه الحياة، فهو قد لخص جميع نعمه في شاهين وحده
بعد دقائق عاد شاهين بوجهٍ جامدٍ وجاد وهو يحمل صينيةً كبيرة وضع فيها عددٌ من المأكولات الخالية من الدهون وكأسين من عصير التفاح الطازج، وضعها أمامها على الطاولة بصمت وعيناها الضاحكة تتابعه برضًا تام، بينما هو سحب له كرسيًا صغير ليحلس مقابلًا لها بنفس الهدوء والصمت
: ماني جوعانة
أطلقت عُلا جملتها المكونة من كلمتين بوجهٍ حاولت إخفاء المرح به وهي تتوقع أن يرفع رأسه بسرعةٍ ويحشو الأكل في فمها ليرغمها على الأكل، لكنه بكل هدوءٍ رفع رأسه وكأنه مُدركٌ للعبتها ليهتف بجمود وقد رفع أحد حاجبيه : ماتبين؟
أومأت أمه رأسها وابتسامةٌ أبت إلا أن تفر رغمًا عنها التمعت على شفتيها
شاهين بتنهيدة ضجرٍ سريعة : أوكي يا ستّ الكل .. ما عندي مانع إنّي أجوع نفسي معك
اختفت ابتسامةُ علا ليحل محلها وجهٌ صارم هاتفةً بأمر : ياولد ... تاكل الحين قدامي وانت ساكت، تبي تجوع نفسك هاه!
أعاد ظهره للخلف بجديةٍ لا تليق به أمام أمه ليتكتف وحاجبه الأيسر لازال مرفوعًا : آكل ... بس من بعدك طبعًا
وهاهي أمه تستسلم أمامه وبكل سرعة، فهي ليست ذا قدرةٍ كافية لترى ابنها الحبيب يجوع نفسه وتبقى ساكنة. مدت يدها للصحن ومعالم الوجوم تظهر على ملامحها الطفولية حتى بعد هذا العمر، لكنّ شاهين مد يديه بسرعةٍ ليُمسك بيدها الممتدة ويحتضنها بين يديه هامسًا بحنان : ودنا ننال شرف أكلك من يدينا!
رفعت عينيها إليه لتشهد ابتسامته الحانية فلم تستطع إلا أن تبتسم له، بينما مد هو يده ليأخذ فطيرةً بالجبن ويمدها لفمها لتتناولها منه
وهما يولدان أجمل صورةٍ لأمٍ وابنها البار بها.
*_-*_-*_-*_-*
كان يتأمل المُتمددة على سريرها بصمتٍ والقليل من الراحة، لم يسعفه الوقت ليغتصبها كما توقع هو، لكنه أيضًا يشعر بالقهر والغلّ، يتمنى لو يستطيع الذهاب إلى قسم الشرطة ويضرب الرجل ويضربه ثمّ يقتله، لكنه تنهد وهو يمسك زمام نفسه، ليس من صفاته التهور فلمَ يفكر بهذا الآن! بينما معالم اعتدائه على أخته واضحةً على جسدها الموشوم ببعض القبلات، والقليل من تيارات أظافره. أغمض عينيه وهو يقترب قليلًا منها، كانت حينها مُغمضةً لعينيها لايعلم إن كانت واعيةً أم لا، لكنه ما إن وضع يده على رأسها انتفضت بقوة لتفتح عينيها، فتراجع وهو يرسم الألم والقهر على عينيه, هو طبيبٌ نفسي ويعلم ما سيحتم عليه ذاك الإعتداء من رهبةٍ وخوف, هي طفلة وما حدث كبيرٌ جدًا على وعيها الطفولي. ابتلعت ريقها وهي تنظر إليه بضياع : عناد!
ابتسم لها ببهوتٍ وهو يقترب منها قليلًا ليجلس : عيونه ... شلونك الحين؟
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تفرك ذراعها بشعورِ شخصٍ مُتغزز من نفسه, رغم أنها لم تفهم تحديدًا كل ما حصل معها : أبي ماما
اقترب حاجبيه من بعضهما, امها في الخارج تبكي وتُعزي نفسها بابنتها التي لم تدرك العالم وخطره جيدًا, مسح بكفه على وجنتها ليهمس : بناديها لك ... لا تخافين
ثمّ وقف ليخرج ويقابل امه الجالسة بجانب الباب على إحدى الكراسي وأناملها تمسح دمعاتها : يمه
استدارت إليه بسرعةٍ ولهفة لتهتف : شلونها؟
عناد يومئ رأسه بأسى : صحيت وتبيك
لم تستمع لكلمةٍ أخرى وهي تندفع لتدخل إليها, وفور رؤية غيداء لأمها بكت بذعرٍ وهي تتشبث بها ما إن جلست بجانبها, لتهذي دون وعي : ماما وش كان يبي مني؟ ظنيته بيتركني عشان ما أصرخ وأنادي سلطان وبعدها بيروح ... يس هو ..
صمتت وهي تبتلع ريقها بشيءٍ من الخوف والإحراج, خافت أن تضربها أمها لما قام به هو وأُحرجت هي من فعلته تلك.
لكن أمها احتضنتها وهي تبكي لتهمس لها وتستغرب هي : ما عليك منه ... ما يخاف ربه ولا يستحي ... انسي اللي صار يا بنتي ... انسيه
اقترب عناد وهو يضع كفيه على كتفي أمه ليهمس : خلاص يمه لا تقعدين تكررين عليها اللي صار
أومأت بهدوء وهي تتراجع لتضع ابنتها على السرير وتغطيها : خلاص نامي حبيبتي وأنا جنبك
أومأت ثم أغمضت عينيها, لكنها لم تنم بالفعل ومن إين يأتيها النوم وهي تتذكر ذاك الرجل والذي قام به, تريد أن تفهم فقط لمَ قام بذلك الفعل القبيح. احتضنت نفسها وهي مٌغمضة لعينيها فلاحظها عناد ليهز رأسه بأسى ويغمض عينيه غاضبًا
.
.
.
انتهى
دمتم بخير / كَيــدْ !
|