كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(84)*1
حملها بأيدٍ قاسيـةٌ اشرأبّت بالحُمرة، بيـاضٌ يغشى وجهه بحُمرةٍ باهتةٍ في جلدِه عدا من عينيه، كـان بياضهما يميل لاصفرارٍ مُرعِب.
ابتسمَ الآخر وهو يهزُّ رأسه بالنفي مُردفًا : قسوتَ عليها ، إنّها مجرد طفلة.
تحرّك ذاك حاملًا ليـان ليضع جسدها الصغير أخيرًا على أريكـةٍ مهترئة جـار عليها الزمـن ومضى، كـانت ضمن القليل ممّا كـان في هذهِ الغرفـة الشبه فارغة! . . . وبهدوءٍ غير مبالِي : لا بأس في ذلك.
أغمضَ ذاك عينيهِ وهو يبتسِم، كـان يحمِل قداحةً في يدِه، يُشعلـها ويُعيدُ إطفاءها بداعِي تمضيـة الوقت قبل أن يصِل رفيقهم الثالثْ والذي كـان يطوفُ في الحيّ لغرضٍ مـا، زفـر وهو يوجّه كفّه إلى جيبِه ويُدسُّ القداحة فيه، وبضجَر : هل كـان يجب أن ننتظر في هذا المكانِ العفِن؟
الآخر بهدوء : إلى أن يأتِي فقط ، أخشى أن يراها أحد ذويها وتذهب منّا أو ندخل في مأزق * يقصد ليان * كما أنّ الفنادق لا تلائمنا الآن ..
مطّ ذاك شفتيهِ ومن ثمّ أسند مرفقيه على ركبتيه وهو يتنهّد ، وفي جهـةٍ أخـرى، خـارج المبنى تحديدًا .. اقتربَ شخصٌ ما من تميمْ الذي وقفَ على بُعدِ سانتيمتراتٍ طويلـةٍ من أرجوان. راقبتهما بربكـةٍ وهي تعانِق عضدَها الأيسر بكفّها اليُمنـى، همسَ لهُ بكلمـاتٍ ما ، ليردّ له تميمْ بأخرى ومن ثمّ يبتعدُ ذاك.
ارتفـع صدرَها بربكـة، الهواءُ يضطربُ من حولها والأرضُ بطريقةٍ مـا بدأت بالدوران، ضبـابٌ غشى عينيها فجأة، ترنّحت قليلًا وهي تضيّق عينيها وتعقدُ حاجبيها، حاولت تثبيت ساقيـها عنوة، لكنّها لم تستطِع .. هزمها الضبـاب ، كـانت تتوهُ في وهنٍ غريبٍ شدّها إلى الإغمـاء، يضغطُ على جسدها ويُخفضُ برودتـه ليُمرضها أخيرًا باللا وعـي . . .
،
وقريبًا جدًا ، وقفَ يوسفْ بقلقٍ يحمـل هاتِفه، يتّصل برقـم أرجوان ورنينٌ يتفاوتُ باتّساعـه دون ردّ ، يمرّر لسـانه على شفتيه ويقطّب جبينهُ إزاءَ القلق ، أين ذهبت هي وليـان؟ ولمَ قد تكون ذهبت ! ليس من عادتها أن يقرَّ بشيءٍ وتخالفَه ، ليسَت كجيهان وتمرّدها . . لذا شعرَ بالخوف ، من الدافـع وراء اختفائها إلى الآن !
زفـر بحرارةٍ وهو يُخفـض الهاتِف عن أذنـه بعدَ أن طـال الرنينِ دون أن يجيئه الرد ، بينما كـانت جيهان بجانِبه تعانِق كفيها ببعضهما، تنظُر للأرضِ بصمتٍ أجوَف، تعودُ لتتذكّر حديثَ والدها، من قبلِه صوتُ فوّاز الذي يعودُ ليعصرَ قلبها ويمزّقه، ما الذي باتت تفعله؟ ما الذي باتت تفعلهُ حتى وصلَت إلى هذهِ المرحلـة! هل يزرع الحُب فينـا كلّ تلك الحماقـةِ ويُخرسَ المنطقيّة منّا؟ هل يقترفُ فينا الانزلاقَ نحوَ منحدَر الخضوعِ إليه؟ هل نحبُّ فنفقدنا؟
كـانت تُدرِك أنّها مُخطئة، تدرك أنّها تستحقُّ أنْ يكسِرها والدها لو أراد! أن يُعيدهما إلى بعضهما قسرًا ليُمحـق تلك اللقاءاتِ القليلـةِ المُحرّمة ! ... ابتلعَت ريقها، نعم محرّمة، وتقعُ هي في ذلك الذنبِ حينَ تُجـاريهِ وتُطِيل الوقت في وقوفها دون أن تبتعِد، تسقُطُ هي وهو في حُفـرةِ حوارٍ أحمـق عن وعثـاءِ البُعدِ بطريقةٍ ملتويـة، يحاولانِ ألا يفتضحـانِ آثـارهُ إلا أن لحظـاتُ الوقوف دليلٌ أكبـر ، بطريقةٍ محرّمةٍ ومتماديـة!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وصدرُها يرتفـع باضطراباتٍ عاتبـةٍ على روحها قبلًا ، إلى أيّ منحدرٍ تصِل؟ إلى أي منحدَر؟!
سمعَت زفـرةً حادّةً صدرَت من صدرِ يوسف، فتحَت عينيها لتلتفتَ إليهِ وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب، إلى أين يمكن أن تذهبَ أرجوان؟
،
فتحَت البـابَ بعدَ تواصُلِ صوتِ الجرس، كـانت تتذمّر في داخِلها، أين فارس مثلًا منه؟ أحدَ إخوتها على سبيل المثـال ! أيعقل أنهم حتى الآن نائمون على غير العادة ! .. استقبلَت الطارقَ بملامِح ضجرّه، لكنّها سرعـان ما أرختها، وسّعت عينيها وهي تتراجـع بتحفّزٍ وابتسامـةُ هيثـم ترتسِم على وجههِ أمـامها بكلّ وقـاحة ، ما الذي قدْ يدفعـه للمجيء بكلّ جرأةٍ إليهم !
تشنّج عنقها، رغـم اضطرابِها إلا أنها نظـرت نحوَه بصلابـةٍ وهي ترفـع حاجبَها الأيسـر، في حينِ لم يستطِع هيثَم أن يكتـم ضحكتـه القصيرة والخافتـة، لفظَ بتهكّم : شفيك خايفة وأنتِ ببيتك يا حلوة !
جنان ترفـع ذقنها وهي تتأكدُ بكفيها من حجابها الذي ارتدَته على عجلٍ وفوضويّة حين كـانت تقتربُ من البـابِ كي تفتحـه : احترم نفسك ، وعن الوقاحـة.
هيثـم بإحباط : الفوضويّة زادَتك جمـال ، ليه رتبتيها؟
أمـالتْ فمها بتقزّز ، أغلقَت البـابَ في وجهه، لا تحتمـل وقاحتـه، تتجاهـل كونه كالضيفِ الآن ، بالنسبـةِ لها غيرَ مُرحّبٍ بِه! . . وقفَت لوهلـةٍ وصدرُها يرتفـع وينخفِضُ بانفعـال ، تصاعَد فيها شعور الغضب ، وقح! .. وقح !!
لم تتراجـع، كـانت تنتظِر أن يعودَ لضربِ الجـرسِ بإصرارٍ يلائمُ وقاحتـه، والغريبُ أنّ الوقتَ طـالَ دون أن يفعـل ... رفعَت حواجبها باستنكـار ، هل رحـل فعلًا؟!
لم تهتم كثيرًا، وببساطـةٍ كـانت أقدامُها تتحرّك متراجعـةً لتبتعِد عن البـاب، في اللحظـةِ التي اهتزّ فيها هاتِفها في جيبِها برنينٍ صامِت، أخرجته بتوجّس ، جزءٌ منها صوّر أن يكون هو ، ليسَ احتمـالًا بعيدًا بل هو الأقربُ في الحقيقة . . لكنّ الراحـةَ كـانت بلونٍ مشرقٍ تتكوّن في ملامِحها وهي ترى رقـم فوّاز ، المهم أنّه ليسَ هو ، لا تنكـر أنها اعتادَت فواز وإن لـم يكُن بشكلٍ عميقٍ إلا أنه يكفي لترتـاحَ حين ترى اسمه عوضًا عن هيثَم . . ردّت عليهِ وهي تبتسم بنعومـة، وبهدوء : أهلين.
فواز من الطرفِ الآخر : خليك جاهـزة بمرّك.
عقدَت حاجبيها فجأة، الراحـةُ التي غشَت ملامِحها تلاشَت، حلّ محلّها اعتراضٌ وضجرٌ عنيفٌ جعلها تنفخُ الهواءَ من فمها وتلفظَ بامتعاض : لا يا أخ !
فواز بجمود : لا تقولين أخ! بمرّك الحين خليك جاهزة.
استغربَت جمودَ صوتِه، عـادةً ما يكون مازحًا ينسكِبُ إلى أذنيها برقّة . . لفظَت رغـم استغرابها بنبرةٍ واضحـةِ المعـالم : هالمـرة لا ، مصختها ما صارت والله ! مو يعني فارس معطيك الضوء الأخضر ما تاخذ برأيي!
فواز بصبرٍ فارغ : أيش عذرك مدام جنان؟
جنان ترفـع حاجبها بتحدّي : مدام أيش يا أخ! لا زلت آنسـة لو سمحت.
صمتَ للحظـةٍ قصيرةٍ انسكبَت فيها زفـرتهُ الحـادة قبل أن تنقطـع فجأةً بقطعِه للاتصـال . . .
قطّبت جبينها باستنكـارٍ متفاجِئ، هل فعلًا أغلـق الهاتِف في وجهها ! . . " اوووف " .. أصدرتها من فمِها لتردفَ في نفسِها بتفكير : يبدو بأنّ مزاجـه سيءٌ بما فيه الكفايـة لينفجر كبركان ! ... ومن الجيّد أنه أغلق ، فهي بشكلٍ تلقائيٍّ كـانت لتجابهه بالحديث.
،
ديما : بعضٌ مما لديك دي ساد.
رغـم أنه كـان غاضبًا بالفعل، إلا أنه كـادَ يضحكُ على لفظِها ذاك الاسم في خضمِ غضبها في المقابل، ارتفعَت حواجِبه ، ابتسمَ هذهِ المرّة بلؤمٍ وهو يمدُّ يدهُ إلى عنقها ليشدّها إليه من مؤخرّته في اللحظـةِ التي اتّسعت فيها عينيها بتأهبٍ وترقّب.
سيف باستمتاعٍ يُمسكُ معصمها بيدِه الأخرى ويرفعُ يدها إلى وجههِ المُبلّل ، مسحَ خدّه الأيمن بكمّ قميصِها البُنيّ وهو يهتفُ متصنعًا الحيرة : والحين وش بيسوي فيك دي ساد؟
استقبلتْ سؤالـه ببرود، رفعَت حاجبـها كمن يُجيب بسؤالٍ آخـر " ماذا سيفعل؟ " بنبرةِ استخفافٍ هتفَت بها عينيها، مرّر سيفْ لسانـه على شفتيهِ دون أن يتركـها، يشدُّ على معصمها ويُميل ببسمتِه أكثر وهو يهتف : عندك فكرة؟
ديمـا ببرود : ياكل تراب.
انحنـى بوجههِ إليها بسرعةٍ خاطفـة ليطبـع قبلـةً رقيقةً على أرنبـةِ أنفها، شعرَ بها تقشعرُّ إلا أنها لم تُبـاليْ بشكلٍ فعلي، إن عبـرت المُبالات على جلدها فهي لم تتجاوز الأمـر إلى سطحِه.
هتف سيفْ وهو يبتسم ولتوّه ينتبه : خشمك أحمـر .. مزكمة؟
ديما بنظرةٍ لا مبـالية : أنا مخليتك تبوسني براحتك عشان أنقل لك الزكـام.
سيف : ههههههههههههههههه أحلـى عدوى والله.
ديما بجدّية : ما فيه امكانيـة للحمـل بهالوقت ولا بعدين، لا عاد تسأل الدكتورة ولا تعلمني جوابها لأني مو موافقة! وبعَد ما راح أترك شغلي .. إذا بترجع سيف الأولاني فصدقني إنت كذا ما تكسب كثر ما تخسرني.
سيف يبيتسمُ وهو يمرّرُ كفه على شعرها : هدفي مو أكسبك لأني ضامـن عدم خسارتك ، وين بتروحين من قُربي وأنتِ منّي؟ الهدف أعيشك من جديد ، أعيـش انفعالاتِك.
ديما بغيظ : أها زين وضّحت أهداف خططك أكثـر ، تخسي دي ساد.
سيف : ههههههههههههههههههه يا حلو تخسي منّك ويا حلو دي ساد من صوتك ... قوليها مرة ثانية.
يستفزّها أكثر ! يجيدُ ذلك في اللحظـةِ التي أوضحَت أنه لن يصِل إلى أهدافِه ! مدّت شفتيها بغيظٍ لتلتقطَ عينـاهُ تلك الحركـة البسيطـة ويضحك أكثر بانتصـارٍ وتسليـة، كـانت فاشلـة، وقتها رغـم أنه طـال على قلبـه إلا أنه فعلًيًا لم يكُن كذلك واستطـاع أن يعيشها سريعًا وإن لم يكُن بشكلٍ تـام.
،
يقفُ عند النـافذة، عادَت يدهُ تتلاعبُ بالقداحة، يُشعلُ نارها ويطفئها بتنـاغم، يعشّش في صدرِه ويلات الانتظـارِ التي تفتّت الصبـر وتُلاشيهِ في ريحِ الغضب. رنّ هاتِفه لتتوقّف يدهُ عن التلاعبُ بالقداحة، مدّ الأخرى بسرعةٍ إلى جيبِه كي يُخرج الهاتِف على أمـل أن يكون شريكهم الثالث قدْ جـاءَ أخيرًا وسينتهي هذا الانتظـار، وكـان لهُ ما تمنّى ، ردّ بانفعـالٍ ليلفظَ بحدّةٍ منفعلةٍ مبـاشرة : أين أنت أيها الاحمـق؟
الآخر بصوتٍ منفعلٍ حادّ : اخرجـا بسرعةٍ من هذا المكـان حالًا !!
اتّسعتْ عينـاهُ بصدمةٍ وتجمّدت ملامِحه، كفّه الحاملـةِ للقداحة ارتخَت، دسّها في جيبِه ببطءٍ ليلفظَ بخفوتٍ مترقّب : ماذا حدث؟
الآخر : هنـاك رجلٌ دخـل إليه ومعه رجلان ..
بتساؤل : شرطة؟
هزّ الآخر رأسه بالنفي : لا أعلـم ، لا يرتدون ما يثبت ذلك لكنّني لمحتُ مسدّسًا مع أحدهم. لذا اخرجا سريعًا.
لفظَ بصوتٍ ارتبكَ قليلًا وهو ينظُر لرفيقه : قد يكونون منّا ..
الآخر : لا أظن ذلك ، كنّا لنعلمَ بقدومهم.
زفـر ليومئ وهو يتحرّك ، وبهدوءٍ مستعر! : حسنًا ، سنخرجُ قبل أن يصلوا لهذا الطـابِق المرتفع ، كُن قريبًا بسيّارتك .. إياك أن تبتعد.
أغلـق ومن ثمّ اقتربَ من ليـانْ بخطواتٍ متّسعة وهو يلفـظ لرفيقه : احملها بسرعة .. هناك مسلّحون دخلوا إلى هنـا ...
وقفَ ذاك بسرعةٍ موسّعًا عينـاه : ماذا !! وكيف سنخرج إن كانوا قد دخلوا !!
الآخر يحمـل ليـانْ على كتفِه رغم أنه أمره هو أن يحملها إلا أنه لم يكُن ليتنظر، أجابه بصوتٍ مُحتدّ يكـادُ يرتفـع ويفضحَ الغرفـة التي يجلسان فيها : عبر بابِ الطوارئ .. كُنت قد تفقّدته لحظـة دخولنا وكـان مفتوحًا ... تحرّك هيـا !!
خرجـا من الغرفـة بهرولةٍ سريعة، بـابُ الطوارئ الصدِئ كـان قريبًا منهما، لم يحتَج الأمـر أكثر من عشرِ ثوانٍ إلا وضوءُ النهارِ يغشى وجوههما دون ظـلامِ الممرّ ، كـانت تستقبلهما الشمـس وضيوفٌ أيضًا ، رجـلانِ آخران وقفـا بعدَ عتبتينِ من درجِ الطوارئ.
تراجَع الذي كـان يحمـل ليـان وهو يعضُّ شفته السُفلـى ليشتـم شتيمـةً بذيئة بصوتٍ صـارخ ، وفي تلك اللحظـةِ وصـل تميم من خلفِه باسمًا ليلفظَ بهدوء : لا داعـي للغضب ، لا ننوي أن تضرّكم يا عزيزي.
التفتَ مباشرة وقد كـان ليلتفتَ بردّةِ فعلٍ تلقائيّة كيْ يهربُ من الجهةِ الأخرى بعدَ أن واجـه هؤلاءِ في طريقه، لكنّ الهدفَ تغيّرَ في سرعـةٍ خارقـة، والتفاتهُ الآن لم يكُن للهربِ بل للصوتٍ الذي جـاءه لينظُر إليه متأهبًا ، والآخـر كـان قدْ مدّ يدهُ إلى جيبِه ليُخرجَ سلاحـه ، لكنّ أحدَ رجـالِ تميم من خلفِه قبـض على معصمِه ولواها إلى الخلف بقوّةٍ كـادَت تحطّمه.
صرخَ ذاك بألمٍ ليهتفَ تميمْ بحدّةٍ إلى رجُلِه : عامـله بمهل ، في النهايـة نحنُ نعيشُ للأهدافِ نفسها ولا نريد أن نقفَ في وجهِ الآخر.
أرخى من شدّهِ على ذراعِه بينما عقدَ الذي كـان يحمِل ليانْ حاجبيه بشك، كـانت يدُه اليُسرى تقتربُ من سلاحِه بينما الأخرى تثبّت ليـانْ على كتِفه ، لم يتسرّع في إخراجه، كـان يعلم أنه أصلًا لن يستطِيع للذي يقفُ خلفَه منتظِرًا أمرَ تميم . . بتساؤلٍ حـاد : من تكون؟
تميمْ بنبرةٍ تحمـل من الاستخفافِ الكثير : شخصٌ يشبهك ، ولا يريد إيذاءك.
كـان ببساطةٍ يكفُر بما قـال، قالها بسخريـةٍ واحتقـارٍ واضـح استفزّ الآخـر ليهتفَ بصوتٍ اعتلى بغضب : ماذا تريد إذن.
تميم ببرود : الطفلـة.
بقهر : مــاذا !!
تميم يبتسمُ بسخرية : لستُ أتـاجرُ بنفسِ اتّجاهِك .. أنتمي للخارجينَ عن القانون مثلكما لكنْ بأسلوبٍ آخر ، لذا لا تقلق ، لا أريد سرقتها منك بل استردادها ... ابحثْ عن سواها حولَك .. هذهِ الطفلـة تخصّني.
اتسّعت عينـاه بغيظ، رغـم أنه استوعبَ مكنونـاتِ حديثِه إلا أنه شعر بأنّ من العـار أن يردَّ غنيمتهُ إلى أحدْ ، تصلّب جسدهُ باعتـراضٍ واضـح التقطَهُ تميمْ ليبتسِم أكثر ويلفظَ بنبرةِ وعيدٍ امتلأت بالخطـر : لا أنصحكَ بشيءٍ خـاطئ ، فُرَصُك بسيطة ، أنتَ هنـا ونحنُ من حولك .. لا نريد إيذاءك .. لذا سلّمها فقط .. وابحثْ عن غيرها .... الخيار لك ، أن تموت ونأخذها قسرًا أو تسلّمها لنا وتحيـا لتعوّض نفسك بآلافِ الأجسـاد.
،
" مامتي "
باستنكـار : مامتـي؟
ضحكَت من ملامِحها المستنكـرةِ للفظـها المفاجِئ ذاك بدلالٍ ناعِم، مالَت برأسها قليلًا إليها حتى وضعتهُ على حُجرها وهي تبتسـم برقّة، وبصوتٍ ناعِم متطلّب : العبـي بشعري مامتي.
ضحكت أم فواز مستغربـةً الدلال الغريب الذي تمارسه، إلا أنها خلخلَت بأناملها بين شعرها وهي تلفظ : تدلعي يا عمري جعل ما يتدلعْ غيرك.
أسيل بضحكـة : ترى مامتي مزحـة ، بس حبيت أغيّر جو.
ام فواز : شكلك اشتقتي لهالحركة صايرة تحطين راسك بحضني كثير هاليومين.
أسيل تبتسمُ بحبّ : أي والله ، آخر مرة سويتها قبل زواجي بشاهين عشان كذا مشتاقة لها.
ام فواز بحنان : خذي راحتك ، بتلاقيني دايـم منتظرتك تحطّين راسك عشان ألعب بشعرك.
أسيل بصوتٍ شـردَ فجأة في تفاصيلِ الطاولـة البنيّة أمامها : أي ، بلاقيك .. دايم بلاقيك.
كـان لكلمـاتِها أبعـادٌ أخـرى ، شعرتْ أمها بالشكّ نحو معناها إلا أنها صمتتْ، بينما ظلّت أسيل تنظُر للأمـامِ باختنـاق، لم يعُد هنـاك في حياتِها الآن ودائمًا شخص تعودُ إلى أحضانِه سواها، لا أحـد عدا فواز الذي قدْ ينشغـل إلا أن أمها تبقـى دومًا أمـام عينيها ، لا أحـد إطلاقًا ، هاهـي تنبذُ شاهينْ ومتعب من حياتِها ، لمْ يعدْ لهما وجود حتى إن بقيَت لهما ذكـرى.
عقدَ حاجبيها فجأة ، كيفَ يجتمـع الاثنـان؟ كيفَ قدْ تحبُّ مرّتين ! إن كـان معنـى مشاعرها أنّها أحبّت مرّتين فهي بهذا تخونُ إيمـانها الذي اقتضى أنّ من يحبُّ لا يحبُّ مرتين ، فكيفَ قدْ يحدُث هذا؟ كف !!
عضّت شفتها السُفلـى، تعودُ لتتذكّر الكلمـاتِ التي ألقتها على مسامِع شاهين انتقـامًا ، أوجعته ، تدرك ذلك وتدركُ شدّة وجعها لـه ، رغـم أنها شعرَت ببعضِ النـدمِ إلا أنها الآن تمنّت لو أنّ الوجـع أضعافًا أصابَ متعب .. هو الذي أذنبَ بحقّها أكثـر ، هو الذي أذنب بحقّها أكثر !!
،
بعدَ أن أغلقَ فوازْ اتّجهت نحو المطبـخ وهي تفكّ حجابها وتُريحه على كتفيها، شغلت الغلّايـة الكهربائيّة لتصنـع لها قهوةً تعدّل مزاجَها الذي سـاءَ منذُ الصبـاح ، أخرجَت الكوبَ لتفرّغ كيسَ القهوةِ السريعَة ومن ثمّ وضعَت السكّر ، كـانت غاضبـة، كيفَ تستطِيع الصبـر أمـام كلّ هذا؟
عادةً ما تحبُّ السُكّر معتدلًا إلا أنها هذهِ المرّة ضاعفَتهُ وهي تبتسمُ بتحدّي ساذَج أمام حبيباتِه التي كانت تتجانَس مع بودَرة القهوة، علّ زيادَة السُكّر تمحو مرارةَ غضبِها.
سكبَت المـاءَ عليه ومن ثمّ خرجَت من المطبـخ دون أن تخلطَ مكوّناته، صعدَت عتباتَ الدرجِ وهي تحرّك الملعقـةَ وتتمتمُ بغيظ : صباحي سكّر وعفَن بعد ... اثنين يا ربي! اثنين شلون دخلوا بحياتي ما أدري !!
دخلَت غرفتَها لتضع الكوبَ على الكومدينَة ومن ثمّ جلست على طرفِ السرير وهي تدندنُ أبياتًا للعنودِ كيْ تعدّل مزاجَها السيء وكفها تسحب حجابها وترميه على السرير : هنا عتمة .. وأنا في داخلي قنديل ... أنا عتمة ومن حولي كثير أضواء
هنا كذّب علي ( ابريل ) .. وراح ابريل .. وخلاّني لبيبة خانها الإيماء
ربع ساعة وتجيني النادلة بتشيل .. بقايا قهوتي .. : عفوًا أبي لي ماء
قاطَعها صوتُ هاتِفها الذي رنّ في جيبِ بنطـالها الخلفيّ ، وقفَت لتُخرجه وهي تعقدُ حاجبيها وجانبٌ منها دعا بخشوعٍ داخليٍّ ألا يكون هو ، لقد أغلقَ وهو غاضب ، لمَ قدْ يتّصل بِها من جديد؟
عضّت شفتها بإحباطٍ ما إن رأت أنه كان هو بالفعـل، زفـرت لتردّ عليه مبـاشرةً بغضب وهي تلفظُ بحدّة : نعم !
فواز : أنا تحت افتحي لي.
اتّسعت عينـاها بصدمـة، تجمّدت كفيها للحظـةٍ إلا أنها سرعـان ما عبـرت فيها حرارةٌ صاخبـةٌ لتهتفَ من بينِ أسنانها بغضب : وليه إن شاء الله !
فواز ببرود : بتطلعين معي.
جنانْ ترفـع حاجبها باستهجان : ما قلت هالشيء ..
فواز : أنـا اللي قلته.
مرّرت لسـانها على شفتيها، يستفزّها وجدًا ! إلا أنها رغـم ذلك ابتسمَت بتحدّي لتلفظْ : ومين تكون أنت؟ ... وعلى فكرة عشان مرارةْ صوتك اللي سمعتني فيه قبل حطّيت السكر بالقهوة دبـل.
فواز بغضبٍ احتدّ صوته : شكلك تبيني أكسر راسك دبـل !! * بأمـرٍ غاضِب * افتحي البــاب !
تأفّفت بغضبٍ لتتحرّك باتّجاه البـابِ وهي تهتفُ بقهر : نشوف وش وراك !
في الأسفـل ، يدسُّ كفهُ اليُسـرى في جيبِه والأخـرى تثبّت هاتِفهُ في أذنـه ، غاضِب ! يكـادُ ينفجـر ، غاضبٌ من مصدريْن، أحدهما موقفهُ أمام عمّه يوسفْ من قبلهِ لحظـاتِ وقوفهِ مع جيهان ، والآخَر ضاعفَته فيه جنـان الآن ! كان مشتّتًا بعدَ حديثهِ مع يوسف، هذا التشتّت استفزّه بما فيه الكفاية ليصدأ الهدوء فيه.
يكـاد بالفعـل يحطّمُ شيئًا ما ! . . . أغلقَ الهاتِف وأخفضَه ليدّسّه في جيبِه ما إن رأى البـابَ يُفتـح ، لم تكن قد فتحتـه كمـا يجب بعد، مدّ يدهُ دونَ صبرٍ ليدفعـه ويدخـل مبـاشرةً دون انتظـار .. بينما تراجَعت جنان وهي تنظُر نحوه بشرارةِ الغضبِ في عينيها بعدَ استفزازِه الكافي اليوم ! كـان شكلها فوضويًّا برتابـةٍ فاتنـة، ترتدِي بنطالًا من الجينزِ و " تيشيرت " أسود بينما شعرها ينسكبُ على ظهرها وتتنـاثر العديدُ من خصلاتِه حولَ وجهها.
نظـر لها فواز بحاجبٍ مرتفـع وهو يدسُّ كفّه الأخرى في جيبِه لافظًا بحدّة : صايرة تقلّين أدبك معي بزيادة !
رفعَت ذقنها بتحدي : ما قللت أدبي .. أنت اللي تماديت وهذي مجرّد ردة فعل.
فواز يُشير لها أن تذهَب : روحي اجهزي وتعالي عشان نطلـع.
جنان بسخريـة : ما قررت للحين أطلـع معك. تفضّل للمجلـس أخ فواز.
فواز بتحذير : جنان .. امشي دام النفس عليك طيبة.
جنان : ما أبغى .. * أشـارت للبـاب * تقدر تتفضل لو ما تبي تدخل للمجلس.
رفـع حاجبه باستنكـار : تطرديني يا آنسه؟
جنان وقد فهمت تلمِيحه بـ " آنسة " جيدًا، وضعتْ يديها على خصرها وهي ترفعُ ذقنها وتهتف : أي آنسة عندك شيء؟ وبعدين وضعك غريب وراك صاير مختل؟ ما تبي تتفضل للمجلس والحين تقول تطرديني ! تبينا نوقف هنا مثلًا عشان الفضايح؟ ترى هالمرة أبوي وفارس موجودين.
فواز ببرود : أدري.
جنان بتهكم : ما شاء الله وتدري بأحوال اللي بهالبيت بعد !
فواز : اتّصلت عليه وكان صوته نعسان .. قال بيرجع ينـام.
أغاظها أكثـر، اقتربَت منه تكادُ تنفجِر صارخـةً في وجهه لتجلبَ فضيحةً إلى نفسها لا محـالة ! هتفتْ بصوتٍ غاضب وهي تقبضُ كفيها بقوة : وهذا طبعًا بيخليك ما تحشم أحد بهالبيت وتاخذ راحتك !!!
ابتسـم ابتسامةً كـانت شفّافـةً لا وجودَ لها، زائفة : تبالغين .. اتّصلت عليه عشان أقوله بطلع معك وأنتِ ما عندك مانع.
شهقَت بصدمـةٍ لتتّسع عينيها دون تصديق، تشنّج جسدها ، هذهِ المرّة كـادَت تصرخ في وجههِ دون أن تبـالي، اقتربَت منه أكثر بغضبٍ بينما كـاد هو أن يضحكَ رغـم أنه لا مزاجَ له لذلك ، قـاومَ ضحكتـه وابتسَم وحسب وهو يرفـع يدهُ ليمدّها إليها ، وفي لحظـةٍ سريعةٍ كـانت تستقرُّ على رأسها قبل أن تستوعِب امتدادها إليها، اتّسعت عينـاها، تصلّبَ جسدها بينما هتفَ صوتهُ بابتسامةٍ متسائلة : شربتِ قهوتك أم السكر الدّبـل؟
ابتلعَت ريقها بقهرٍ منـه، كفّه التي كانت على رأسها أربكتها، شتّت عينيها عنه وهي تُرجِع قدمها اليُسرى للخلف بهدفِ الابتعاد، وبصوتٍ خافتْ : لا.
سبقها فوازْ ممانعًا ابتعادَها، كـانت عينـاهُ تعبُر ملامِحها بطريقةٍ مُربكـة ومن ثمّ إلى شعرها بشرودٍ مفاجئ، تخلخلَ خصلاتها فجأةً بطريقةٍ منعتها من الابتعاد ، بطريقةٍ جعلت عينـاها تتّسعان أكثـر بنفورٍ وهي تحاول أن تبتعدَ إلا أنّ كفّهُ ثبّتت رأسها . . ابتسمَ أكثـر ليلفظَ بشرود : شعرك عامِل فتنَة !
شهقَت بصدمةٍ دونَ صوتْ، صدرها ما كـان قد ارتفـع بقوّةٍ دون أن يهبـط، ورغـم النفورِ ورغـم ضيقها من قربهِ هذا إلا أنّ حمرةً خجولـةً تسلّلت إلى وجهها، حمرةً عفوية كـان مفتاحُها خجلٌ من كلمـاتٍ لم تعتدَها من رجُلٌ سوى فارس ووالدِها،
أغمضَت عينيها بربكـةٍ وهي تشعُر بأصابعه تستشعرُ خصلاتها، تشعُر أنه ليسَ من نوعِ الرجـال الذين ينجذبون ويعشقون بمقوّمات الجمـال، ليسَ ممّن تهزمـه فتنتهُ بملامِح جميلةٍ أو جسد، أو فتنـة شعر، لذا فتحَت عينيها لتنظُر لوجهه الشاردِ بوهن، صوتها الذي كـان قويًّا محتدًا خفَت الآن بربكتها، تساءلت بشكّ : يشبه شعرها؟
عبـرتْ الصدمـةُ على وجهه لوحـةً من تفاصِيلَ واضحـة، انسّلت كفه من شعرها ليسحبها مباشـرة إليه، خُصلـةُ التفّت حولَ سبّابتـهِ لتغادِر رأسها حينَ جذبَ يده، غادَرت معه لتضيّق عينيها من الألـمِ الخفيفِ لنزعِ خصلةٍ من رأسِها.
بينما تراجـع فوازْ للخلفِ بصمتٍ جامـد، هذا الصمتُ تدرك منه الغضب، لذا ابتسمَت بانتصـارٍ بعدَ أن أدركته ، وبتحدّي : يعني ما غلطت.
تعلّقت أحداقـه بِها بجمودٍ غاضب، ملامِحه احتدّت، عبـر بين تجاعيدِ- ما بينَ حاجبيه - سفينةٌ من الغضبِ سكبَت شراعها على صوتِه : غلطتِ !
جنانْ بابتسامةٍ وهي ترفـع ذقنها للأعلـى : ما غلطت.
فواز بحدّة : وبعدين معك ؟!!
جنان : شعرها يشبه شعري .. وتبيني أظـل زوجتك وأنت الحين ما قربت مني إلا عشان هالشبه !
فواز بصوتٍ انفجـر بالحدّةِ وهو يقتربُ منها : يعني مشكلتك مع القُرب ؟!!
صدمَت من تفسيرهِ لما قالت، تراجَعت بذعرٍ للخلفِ وهي توسّع أحداقها وقد استوعبَت تعبيرها الخاطئ للأمـر .. هتفتْ بحدّةٍ وخوف : لا تقرب ... مو هذا قصدي.
لم يسمَح لها بالابتعاد، كـان ذراعه التي التفّت حولَ خصرها بقوّةٍ أسـرع، شدّها بقوّةٍ إلى صدرِه لتشهقَ بشدّةٍ شعرَت معها أن رئتيها انفجرتا، وضعَت كفيها على صدرِه بخوفٍ تحاوِلُ دفعـه بينما صوتُه هدَر بغضبٍ جنونيٍّ في مسامعها : إذا مو هذا قصدك وش هو أجـل؟ .. وش بتكون مشكلتك بالضبط !!
حرّكت رأسها بانفعـالٍ لتتنـاثرَ خصلاتُ شعرها على وجهها وتعبَث بوضوحِه، دفعتـه من صدرِه إلا أنها لم تستطِع أن تزحزحَه وهي تلفظُ بذعـر : أنت مجنون ... ابعد عني .. ابعد !
فواز : بالأول علميني ، أيش المشكلة اللي تعانِين منها! ليه مو راضيـة تقبلين بهالزواج !
شدّت على أسنـانِها، ضربَته في كتفِه بغضبٍ لتهدُر بصوتٍ غاضبٍ صاخِب بالقهر : لأنـي ما أبييييك ... هذا هو السبب وبس ، ما أبي شخص مريض بحب من قبـل ، يا أكون الأولـى أو ما أكون ..
فواز بسخريـة : لهالدرجة ما عندك الثقة بنفسك؟
جنان بنظرةِ احتقـارٍ وتحدّي : لأني واثقـة من نفسي ما أبيك ، ماني يائسة عشان أقبل بزواج بهالطريقة ... من بعدَك أنا واثقة بجذب عشرات الفرص للزواج ... أنت اللي منت واثق من نفسك ... مُثير للشفقة لأنك ما تقدر تحارب عشان حيـاة تبيها بقرارة نفسك !
ظلَّ ينظُر لها بعينينِ مشتعلتين، بوجـه فرغَ من تعاليـم الهدوء، كـانت أقدامُها قد ارتفعَت قليلًا عن الأرض، تقفُ على أصابِعها بفعلِ ذراعِه القويّة والتي شدّتها بقوّةٍ كادَت تعصر خصرها. ابتلعَت ريقها وهي تشدُّ قبضتيها وتهمـس : احترم اللي بيننا لليوم .. واتركني.
،
جلسَت في إحدى الكراسي العموميّة، تضعُ كفيها على وجهها ولازال الدوارُ يتلاعبُ برأسها، بجانِبها امرأةٌ كـانت قد أمسكَت بها قبل أن تسقطُ فاقـدةً الوعي وساعدتها لتصِل إلى هذا المقعدِ القريبِ وترتـاح عليه، لم تفقدْ وعيها بالكـامل، كـانت تعِي الأصواتَ وبعض الكلمـات .. ارتشفَت قليلًا من الماء من قنينةٍ أحضرتها لها.
رفعَت وجهها قليلًا والكثيرُ من الدوارِ غلبَها، لا تدري لمَ وهنَ جسدها فجأة، ربما من الضغطِ الذي كـان يتحكّم بتفكيرها وجسدها، لذا تمايلَ ثباتها وسقطَت.
يا الله يا ليـان ! . . رفعَت وجهها الشاحِب بضيـاع، وصوتُ رنينِ الهاتِف لمْ يتوقّف ، بالتأكيد والدها، كيفَ تحدّثه وهي خائفة؟ كيفَ تقول بأنهما عائدان وهي لا تدري إن كـانت ستعود؟ كيفَ تلفّق عذرًا لغيابهما وهي لا تضمنُ صدقَ العودة؟
لا لا .. لا يا الله ! هي بخير .. ستكون بخير .. رغـم أنها لا تثقُ بذلك الرجـل ، بالتأكيد لن تثق، لكنْ هنـاك أمل ، بطريقةٍ ما هناك أمـل !
مرّرت لسانها على وجهها الجـاف، نظـرت من حولِها بتيهٍ وهي تومئ لسؤال المرأة بجانِبها : Are you ok?
إلا أنها وقفَت فجأةً موسّعةً عينـاها وهي تشهقُ بقوّة، غادَرها الأكسجِين وكـان كلّ ما شهقتْ بِه بُكـاء، بكـاءٌ هزمـها أمامه كما هزمها جمودُ جسدها الذي توقّف عن الحركـة وحين أرادَت أن تذهبَ لها ... لم تقدِر بطريقةٍ قهرتها ! حـاولت محاربـةَ تصلّب جسدِها ، لكنّها لم تستطِع، دموعها سقطَت بتتابُعٍ تحكِي الذعـر الذي كـادَ يفتُك بها ولم تعبّر عنه سوى بالوهن.
اقتربَ تميم دون أن ينظُر لها بعدَ أن لمحَها جالسـةً هنا، وضعَ جسدَ ليان الصغير على المساحـة الواسعةِ في الكرسيّ ومن ثمّ ابتسَم ببرودٍ وهو ينظُر ناحيـةَ أرجوان هاتفًا : في المرة الجايـة راكضي ورى شنطتـك وانسيها .... تدرين المشكلـة وين؟ إني دايم ألاحظها معك أنتِ بشكل خاص.
ارتعشَت شفاهها، لم تنظُر إليه، كـانت جامـدةً للأمـام ودموعها تعبّر عنها وحسب، أمـال تميمْ فمهُ وهو يتتبّعُ دموعها، اعتدَل في وقوفهِ وهو يردفُ بصوتِه اللا مبـالي ذاتـه : أنصحك اللي صار يكون مجرّد سر بيننا، مو من مصلحتك أبوك يدري * ابتسمَ باستخفافٍ ليُردف * لأنه بيثق فيني أكثـر، وأتوقع ما تبينه يثق بمجرم حتى لو ساعدتك فهذا لأسباب خاصـة . . . انتبهي لها يا حلوة، وجهها مورّم وعلى الأرجح انضربت.
تحرّك بعدَ كلمـاتِه تلك مبتعدًا، بينما التفتت أرجوانْ أخيرًا نحوها ببطءٍ ودموعها تتساقطُ أكثـر، جلَست أخيرًا بانهيـار، كـانت المرأة القريبـة منها لا تفهم شيئًا مما يحدث وتراقبُ بفضول، رفعَت جسدها النائمَ إليها، وضعتها في حجرها في شبـه جلوسٍ وهي تنظُر لوجهها وتبكي أكثـر من التورّم الطفيفِ على خدّها.
ضمّتها بقوّةٍ إلى صدرِها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تدفَن وجهها فيه، وتهمسُ باختنـاقٍ لا تدري كيفَ تقولُ تلك الكلمـاتَ بثباتٍ رغمَ أنّها خائفة، لا تدري كيفَ كـانت لا تهتزُّ كارتعاشاتِ قلبها : راح تكونين بخير .. راح نكون كلنا بخير.
،
قـاربَ على الجنونِ وهو يتّصـل دون ردٍّ يُريحـه، هذهِ المرّة بدأ يسير ومعه جيهان، يبحثُ عنهما بخوفٍ وانفعـالٍ يُرعـش كفّه وهو يتصوّر أن يكون أصابهما ضرر ، لمَ لا ترد! لمَ لا ترد! ما الذي يمكن أن يكون أصابهما؟
بينما كـانت جيهان تسير معه وهي أيضًا وصلَت لمرحلـةٍ كبيرةٍ من الخوف، تنظُر لهاتِفها بعدَ أن أرسلَت رسالةً قصيرةً إلى أرجوان " وينك؟ أبوي بينجن! " تمنّي نفسها أنّ ردًا جاءها.
رفعَت رأسها بسرعـةٍ ما إن سمعَت صوتَ والدها يهتفُ بقوّةٍ وانفعـال : وينك أنتِ وأختك؟ أتصـل ما تردين بتجنوني أنتم اليوم والا . . .
صمتَ وهو يتنفّس بانفعـالٍ غاضب، يستمـع لكلمـاتِ أرجوان التي يشعُر بها اهتزّت في أذنها ولم يسمعها كمـا يجِب ، ابتلعَت جيهان ريقها بخوفٍ عليه ، كـانت كفّه ترتجِفُ بانفعـالٍ واضـح من فرطِ ما مرّ بِه في هذهِ الدقائق الطويلـة، رفعَت كفّها بتردّدٍ لتضعها على عضدِه وكأنها ترجوه أن يهدأ، بينما هتفَت أرجوان باختنـاقٍ من الجهةِ الأخـرى : ليـان طاحَت ، هذا اللي خلاني ما أرد على الجوال .. مدري شلون بس أحس تشوشْت . .
يوسف : طاحت؟!!!
أرجوان تغمـض عينيها وهي تحاولُ حَبكَ القصّةِ كمـا يجِب : أيه .. وطيحتها كانت قوية حتى وجهها ورّم * لم ترِد أن تخبره أنها فاقدَةٌ للوعيِ على الهاتِف لذا أردف * تعال يبه أحس رجولي ماهي قادرَة تشيلني . .
يوسف بخوفٍ رغـم أنّه خفّف من وطأتهِ إلا أنه لازال يعبثُ بقلبـهِ ودمِه، تحرّك بسرعةٍ بعد أن أشـار لجيهان بأن تمشي ، وبصوتٍ حاد : وينك بالضبط؟
،
أنا يا سيّدي رؤيا تداعت
لأنّي حينَ زُرتُ نومك استيقظتَ قسرًا
من بابِ الجفـاء دون آسفْ
أنا يا سيّدي قهرًا بكيتُ
وقهرًا عزّيتُ روحي في المرايا
لينعكس في وجهي الحُب - واجِف !
زفـرتْ بقوّةٍ وهي تتراجَعُ للخلفِ وتمرّر لسانَها على شفتيها، هذهِ المرّة جربتْ أن تكتبُ بالحِبر على ورقـة، اكتفَت من الكتابةِ على " الكيبورد " لتسكبَ من قلبها إلى عينيها، تريد أن يكونَ الانسكـابُ من قلبها ممتدًّا إلى أنامِلها ومن ثمّ الورق !
نهضَت فجأةً بعدَ أن سمعَت خطواتًا جاءتْ قريبـةً من الغرفـة، أغلقَت الدفتـر لتضعَ من فوقِه مجموعـة كتبٍ أخـرى ليدخـل أدهم مباشـرة، لا تستبعدُ أن يفسِّر كلمـاتِها كمـا يريد، كمـا أنها لا تضمـن أبدًا أن تفكيرهُ " برَد " ناحيـة حبها القديمِ ليـاسِر. تمـارسُ الكتـابةَ كطقوسٍ للحيـاة، ليسَ مهمًا أن تحكِي قصّةً عنها هي ! فهي بالتأكيد لم يحدُث لها مكنونُ ما في الكلمـات، هي طريقةٌ لتعزيـة كلِّ شيءٍ في الحيـاةِ فقط، لا تعني أنّها تعيشُه كما هو بالضبط، لكنّها فقطْ تتقمّصُ أدوارًا وترثيها.
تحرّكت بعدَ دخُول أدهـم ناحيـةَ السريرْ بشكلٍ تلقائيٍّ وهي تهتفْ : تأخّرت .. كل هذا تشوف حبيبتك؟
أدهم يبتسمُ وهو يرفـع حاجبَه : مشتـاق لها مرّة!
إلين : عاد الله يكون بعونها ، ما لقت غيرك؟ موعودة بالجنّة إن شاء الله.
هزَّ رأسـه بالإيجاب : بإذن الله ، عشان تكون زوجتي بالجنـة بعد.
حملَت منشفـةً كانت على السريرِ لتطويها بفوضويّةٍ وهي تشتّتُ عينيها بربكـةٍ وحيـاءٌ يصبُّ في وجنتيها دون بوادر جعلَه يضحكُ بتسليَةٍ ومن ثمَّ تحرّكت خطواتُه ليتّجه ناحيـة الحمـام.
زفـرتْ ما إن سمعَت صوتَ البـابِ يُغلق ومن ثمّ بقهرٍ رمَت المنشفةَ على السريرِ وتحرّكت باتّجاه البابِ كي تخرجَ وهي تتمتم : وش هالسذاجة ! للحين أستحي منه ومن كلامه المعفن مثله !!!
لوَت فمها بغيظ، توقّفت بعدَ أن تجاوَزت الباب، تذكّرت أنها وضعَت دفترها على الطاولـةِ دون أن تُخبِّئها كمـا يجِب، لذا زفـرت وهي تتراجـع لتتّجه إليه، سترتّبه بين أغراضها الخاصّة بالجامعـةِ كيْ لا تشدّه، لديها الكثير من الدفاتِر المشابهة، رغـم أنها كـانت تكتُبُ عادةً في هاتِفها أو في حاسُوبها إلا أن مراتٍ كثيرةٍ كانت تستعمِل الدفاتِر كسلاحٍ لتكتب، وكلّها بالطبـع تحتفظُ بِها، نصفها في غرفتها القديمـة ونصفُها هنـا ، ولأنها لا تلعلـم حتى الآن مستوى فضول أدهـم أرادَت أن تخبِّئها في موضعٍ لا ينتبِه له.
بعدَ لحظـاتٍ قليلـة . .
ابتسَمت ما إن دخلَت للمطبَخِ ووجَدت سُهى تستعدُّ لطبخِ الغداء، لفظَت باستنكـار : من متى صحيتِ؟ نزلت أكثر من مرّة وما حصلتك فقلت أكيد نايمة!
سُهى تنظُر نحوها وهي تبتسِم : قولي صباح الخير أوّل.
إلين تضحكُ ضحكـةً قصيرة : صبـاح الخير قبل لا يدخـل المساء بعدْ ربع ساعة، وش تطبخين !
سهى : أدهم مشتهي سمك اليوم، توّه جايبه
كادَت ملامِحها تحتدُّ بغيظٍ منه إلا أنها احتفظَت برقّتها قسرًا ، أيضعها في مواقِف سخيفةٍ كالآن عمدًا أم ماذا ! لمَ لم يخبرها بذلك منذُ الصبـاح! هتفتْ وهي تقفُ بجانِبها مُبتسمة : بساعدك.
،
تكـادُ تحطّمُ أظـافرَها بأسنـانها، متوتّرة! يتموّجُ الهواءُ من حولِها ويتسرّبُ الأكسجِين منه عبر زفراتِها التي ثقبَت أوزُونَ المُحِيطِ حولها، أخفضَت يدَها عن فمِها لتعضَّ شفتها هذهِ المرّة وصدرها يرتفـعُ وينخفضُ بشدّةِ تنفّسها ، يا الله ماذا أيضًا؟ لم تستوعبْ كمـا يجِبُ حتى الآن ما حدَث؟ حريق! لا تدري كيفَ افتُعِل! أصِيبَت فيهِ أمها ! ذهبَت للمشفـى وتبعَها سلطـان ، قالت له أنها لا تريد الذهاب إليها ! . . .
شدّت على شفتِها السُفلـى أكثر، تكـادُ تجرحها وتكـادُ تدميها وجعًا لمـا آلَت إليها مشاعـرها ، تبلّدت لزمنٍ مـا ، أو تصنّعت التبلّد بطريقةٍ بارعـة ، لم تعُد تهتم، لا تريد عنايـةً أموميّة ، لا تريدُ بوادِر الأب ممّن سُمِّيَ والِدها، لا تريد أن تقرأ الثراء الفاحِش في معنـى " أسـرة " كـانت دائمًا لا تهتم ..
قبل عامينِ وقعَ حادثُ سيْر كـادَ والدها أن يموتَ فيه، تلك الليلـة التي اتّصلَ فيها المشفى على والدَتها وتداعَت يومها بضعفٍ لا تراهُ فيها عـادةً ، تلك الليلة عبَرت باردَة ، استطاعَت ألا تهتم! وفعلًا لم تشعُر بأنّ شيئًا كبيرًا قدْ يختلفُ إلى ماهوَ أسوأ ... عبرَ خبرُ احتمـالِ موتِه كموسيقّى أرادَ عازِفها أن يجعلها مؤثّرةً على مُستمِعيها ولم يُجِد ذلك.
واليـوم ، جـاءَ النهـارُ محمّلًا بخبـر الحريقِ الذي مسّ أمها، إن كـانت قبل عاميْنِ لم تُبـالي وعبرَت تلك الليلـة باردة، لا معنـى لها، فاليومُ نهارُها مشتّت .. لا تدري ما معنـى أن تموت والدتها ، هل لهُ معنـى في نفسِها؟ هل تهتمُّ أمْ أنّ نبضـاتِ قلبها المضطربـة الآن تقول بأنّها متلهّفةٌ للشفـاء ، لم يمضِي كثيرًا ! لم تُجِد حتى الآن العودَة إلى صدرِ أمّ ، لمْ تُجِد .. وجرّبت ، بطريقةٍ .. بطريقةٍ أحبّتها !
ابتلعَت ريقها وهي تُرخِي من شدِّ أسنـانِها على شفتِها .. حُبّ، قدْ وصـل هنـا أيضًا لمرحـلةِ الاحتيـاج ، كما حدَث مع سلطـان لتقعَ في هذا العذاب ... لكنّ ذلك مُختلف! مختلفٌ عن احتياجِها وحبّها لسلطـان وحضنِه! مختلفٌ جدًّا لأن هذا الحُضن منذُ جرّبته نوى أن لا يُجافيها مهما حدَث ، ألا يفرّق بينهما شيءٌ كالغضب، كالحقد، كالاحتقـار .. هذهِ الحاجـة الفطريّةُ الملحّة لا تبور ، لا تنتهي إلا في واحِد .. في أن تموت !
نظـرت للفـراغ، اضطربَت أحداقها واهتزّت، موجٌ من العُتمـةِ مرّ على عسليّةِ عينيها، لونٌ قـاتمٌ امتلأ في بيـاضِ عينيها كـان شفافًا لا يريى ، لكنّ مشاعـرها كـانت تدركُ قتامته رغـم كونهِ شفّافًا ! .. هذا التنـاقضُ يعني المزيدَ من الضيـاعِ ويعني أنّني رغـم الضيـاعِ أهتمُّ وأريدُ النجـاةَ لروحها، هذا التناقـض يعنيني ، ولطـالما كُنتُ التنـاقضَ في حُبّي دون كرهـي.
كيفَ يكون الحبٌّ مهتزًا ضائعًا بينما الكُره ندركهُ بثباتٍ دون أن نتوهَ في توقّعه؟
انتزع منها شوكـة الشرودِ والضيـاعْ صوتُ غيداء التي هتفَت باستنكـار : غزل !
وجّهت غزلْ أحدَاقها القاتمـةَ إليها بملامِح شاحبـة، لتردِفَ غيداءْ بقلق : لهالدرجة حال أمك سيء؟
لم تملِك إجابـةً في خضمِ الضيـاع، هي حتى لم تتّصل على سلطـان لتسأل رغـم مرورِ الساعات! هزّت كتفيها وحسب، حينها زفـرتْ غيداءْ بضيق، أشـاحَت وجهها لتنظُر للأمـام ، بينما مرّرت غزل لسانها على شفتيها لتغمِض عينيها لثوانٍ قليلـة تحاولُ بها استردادَ ذاتِها ... وبنبرةٍ واجفَة تحاولُ بكلماتِها أن تُزعزعَ هذا الموضوعَ الشائكَ من دماغِها ومشاعرها : اتّصلتْ عليك مرة ثانية؟
بهتتْ ملامِح غيداءْ فجـأةً بصدمـةً من سؤالها المُباغِت، شتّت عينيها بربكـةٍ عنها وهي تبتلعُ ريقها وتهزُّ رأسها بالنفي، حينها قطّبتْ غزل جبينها بشكّ ، وهدفُها وصَلت إليه، استطـاعَت زعزعَة ما أضاعَها وركّزت بحواسِّها في موضوعِ غيداء ، وبجديّةٍ استعادَت فيها ثباتَ صوتها : رجعتْ تتّصل عليك صح؟ مع إنّي كنت السبب ومتأكدة سلطـان بيعصّب لو تدخّلت من جديد بس ما راح أتركك ...
نظـرت غيداء إليها بربكـة، وبضيقٍ لفظَت : أنـا . . .
لكنّها صمتتْ فجأةً بخوفٍ ما إن دخـل سلطـان بخطواتِه الواضحِ معالمِها إلى الغرفـة، أخفضَت رأسها بينمـا وجّهت غزل عينيها إليه وهي تُفـرجُ شفتيها بجفافٍ غزا فمها وحنجرتها، لفظَ سلطـان وهو يخلعُ شماغهُ ويتنهّدُ بتعب : ما جهزتوا ! شوي وطالعِين لأمـي ..
غيداء بخفوتٍ مرتبكْ : أنـا جاهزَة.
ابتسمَ سلطـان : أجـل خلّي عبايتك قربِك شوي ونازل ... * تحرّك مبتعدًا ليُردفَ بأمرٍ هادئ * تعالـي غزل.
قطّبت جبينها وهي تزفـر زفـرةً صامتـة/ساخنـة، شعرت بالحرّ يُصيبُ جسدها، لكنّها وقفَت بهدوءٍ وتبعَته بعدَ أن ألقَت بسمـةً عابـرة إلى غيداء.
في الأعلـى، دخَلتْ من خلفِه هي تفركُ كفيها بفخذيها بتوتّرٍ واضـح، تتكرّرُ صورٌ في هيئةِ لحظـاتٍ تستمرُّ بالولادةِ دون أن يموت أثرها، البـارحةُ دخلَت من خلفِه بشكلٍ مماثل ، تبعتهُ حتى دخلَت ليلفظَ بصوتهِ الجاف " قفلي الباب وراك " .. لذا والآن أغلقَته قبل أن يأمرها بذلك الصوت.
لم تكُن تعلـم ما يريد ، قدْ يكون يريد أن يخبرها ما بِأمّها، لمَ لا تبادِر هي بالسؤال من بابِ الثبـات؟ لازالت تريد المحاولـة في الثباتِ أمامه، لذا مسحَت على فمِها بظاهِر كفّها اليُمنـى ومن ثمّ هتفت : شلونها أمي؟
رفـع سلطـان حاجبًا بعدَ أن استدارَ إليها، وبهدوء : حروقها خطيرة.
غزل وعينيه ما إن وقعَت على عينيها حتّى شتّتها، لكنّها رغـم ذلك ثبّتتها في أحداقه لتسأله بهدوءٍ مماثِل عدا أنه كـان زائفًا : إلى أي درجة؟
سلطـان : للدرجة اللي ممكن تذبحها !
اتّسعت عينـاها بصدمـة، توقّف قلبها للحظـةٍ وهي تتراجـع للخلف، رعشـةٌ سرَت في جلدِها، اضطربَت أصابعِها وأحداقُها تشتّت عن ملامِحه، لم تجِد ما تقوله ولم تعلَم ما كانت تشعر بهِ بالضبطِ سوى أنها رفعَت يدها إلى شعرها لتُعيد خصلاتٍ تمرّدت منه إلى خلفِ أذنيها، وبخفوتٍ كانت لا تعلـم ما الذي انسكبَ في فمها وعجَّ بالرغبـةِ في الحديثِ والنهوض! : ما قد حبيتها ... حرام تموت الحين !
سلطان بجمودٍ يضيّق عينيه : لا تقولين كذا ..
ابتلعَت ريقها وصمتت، أخفضَت رأسها أكثر لتنسدِلَ تلك الخُصلـةُ من جديد إلى وجهها، نظـرت بعينٍ فارغـة إلى قدميْه، تتوهُ في اتّجاهاتٍ لا تدرِي النهاياتِ منها، تتشّت أكثر، يغشـى وجهها الضيـاع، إن كـان في أحادِيث الصمتِ حكاياتٌ فعنوانُها عجزٌ عن الوجودِ بصوت، إن كـان هنـاك شوكةٌ تخِزُ الصمتَ وتقتله ! كيفَ تفهم نفسها وكيفَ تُجيد التعبيرَ دون أن تتعثّر بخطأ الأسـى؟
هتفَت بصوتٍ مختنـق : ما يصير تموت يا سلطـان !
سلطـان : ما راح تموت إن شاء الله.
رفعَت وجهها إليه بأسـى : ما أبغى أجلس هنا .. رجعني.
رفـع حاجبـه، لكنّه حافظَ على هدوئه وهو يهتف : أرجعك لوين؟ البيت معدوم وبروحك !
غزل تقطّب جبينها بضيق، جزءٌ منها خافَ فكرةَ موتِ أمها ، ليسَ لفكرةِ الفقدِ في خضم الاعتيادِ وحسب، بل ماذا سيحدُث! هي وحدَها من وقفَت معها ضدَّ سلطـان ، وقفَت معها كيْ تكمِل حياتها من جديد ! . ماذا سيحدُث لو أصابها مكروه؟
لفظَت متجاهلـةً المنطـق : ما يهمني! مستحيل أظـل هنا ولا أنت تبي يعد .. والا غيّرت رأيك مثلًا !
هل تحاول استفزازهُ بغباءٍ أما ماذا! لم يتغيّر شيءٌ في ملامِحه إلا أنها ازدادَت صلابـة ، لفظَ بتهكّم : نظـرتك للأمور غبيّة !
حكّت شفتها السُفلـى وملامِحها تحتدُّ باستهجـان، وقبلَ أن تردّ كان هو يسبقها مردفًا ببرود : لو أمّك بخير وكنتِ معها تدرين شلون بيكون الوضع؟ كوننا منفصلين ما يعنِي إنّي بتجاهل مسؤوليتي تجاهكم .. ما عندكم رجّال بعد طلاق أحمد لأمّك ، أنا المسؤول عنكم في النهايـة!
اتّسعت عيناها قليلًا بربكـةٍ لتهتفَ بتساؤل : يعني أيش؟ ما كأننا منفصلين !
سلطـان بسخرية : وش مفهومك عن مسؤوليتي تجاهكم ! أصبّح بوجهك وأمسّي عليه؟
أشاحَت وجهها عنهُ باضطراب، شدّت قبضتيها وحلقها يتشنّج ، وبصوتٍ متضايق : ما أبي أبقى معك! قلت كلمتك قبل بتبعدنِي عنك ... الرجّال ما يبدّل كلمتـه!
نظـر لها من زاويـةِ عينيه بطريقةٍ أرعبتها ، رفـع حاجبـه وهو يبتسـم ببرودٍ ساخِر، ابتسامةً كـانت تحمل من خلفِها وعيدًا جارفًا : صح ، الرجاجيل بعيونك اللي يروحون للحـرام ، أمثال اللي أرخصتِ عمرك له.
ما الذي قالتـه يا الله ! .. تجمّدت حواسّها هذهِ المرّة ، قالتها لهُ سابقًا ، لكنّ نظرتهُ الآن ردًّا عليها كـانت مرعبـةً أكثر من ذي قبـل . . . عضّت باطِن خدّها بتوتّر ، في حينِ احتفظَ سلطـان بابتسامتهِ تلك وهو يقتربُ منها خطوةً ويهتفُ بخفوتٍ مرعب : علّميني .. وش مفهوم الرجّال عندك؟
لم تنظُر نحوه وهي تلفُظ بصوتٍ باهِت : يمسك بإحسان .. أو يسرّح بإحسـان !
سلطـان بصوتٍ مُتفاجِئٍ وهو يرفـع حواجبِه دون تصديق : أيه ... وأيش بعد؟
نظـرت هذهِ المرّةَ إليه وقلبها ينبِضُ بشدّة، كـان قدْ اقتربَ منها حتى وقفَ أمامها مباشرةً وظلّلها بجسدِه ، يُربكـها قربـه بهذهِ الطريقة لذا تراجَعت خطوةً للخلفِ وهي تردفُ بقهر : علمتنِي أعرفْ ربّي وأنت عاجـز تتعامـل بوصاياه! .. حاول يكون خلقك القرآن لا تتعامـل معي بقهرك !
أمـال فمهُ بغضب، كتّف ذراعيهِ وهو يبتسِم ابتسامـةً متشنّجةً يستعدُّ لتحويلها في أيّ لحظـةٍ إلى كلمـاتٍ يغرسها في قلبها كنصلٍ مسموم : فشلتِ ! لا تردّين باللي أنتِ ضعيفة فيه .. تطلبين منّي المغفـرة من قبل وتتأملين منّي اللي فوق قدرة البشـر ، والحين تجيبين وصف اختصّ فيه النبـي !
شعرتْ بهِ يكسرُ المسـافةَ التي خلقتها، لذا تحرّكت لتبتعدَ من أمامه ، أدارته ظهرها بعدَ ابتعادها خطواتٍ جانبًا ليلتفتَ معها سلطـان، وبضيق : ماهي فوق قدرة البشـر ! أنت اللي رافـض تحاول وتشوفني بمرتبـة ال***** ، مو الغلطـانة في جانِب واحد ، وبسبب غلطها الأول طاحت بواحدْ ثاني غير مقصود !
وصَلت إلى مستوى يكرهه، يضاعفُ من غضبِه أمامها ويضاعفُ من قهره، مرّر لسانـه على شفتيه والأدرينـالين يندفـع في جسدِه بقوّةِ الانفعـال الذي طرأ عليه، اتّسعت عينـاه قليلًا وهو يرفـع ذقنه باحتقـارٍ لافظًا : كنّا نحكِي عن جانِب واحدْ هو اللي بدينا فيه كلامنـا ... بس لاحظي من ذكرت المغفرة تجاهلتِ كلْ اللي كنا نقوله ... وركّزتِ بالكلام عليه .... تخدعين نفسك أو تخدعيني بإصرارك على الطلاق؟
فغرَت فمـها بصدمـة، مرّت قشعريرةٌ سريعـةٌ في جسدها، التفتت إليه ببطءٍ مرتبكٍ وهي تبتلـع ريقها بعدَ وقوعها في هذهِ الحفـرة بسذاجـةٍ حمقاء ! . . . نظـرت لوجههِ بربكـةٍ وهو تهتفُ بنبرةٍ برزَ فيها التشنّجُ أضعافًا : ولا زلت مصرّة.
سلطـان باستخفافٍ يبتسم : أضعف تمثيليّاتك الرخيصـة
غزل تغيّر دفة الحديثِ بألم : موضوعنا أبي أبتعد ... ما أبي أبقى معك تصرّف.
تحرّك سلطـان باتّجاهِ البـابِ وهو يلفظُ بنبرةٍ غاضبـةٍ كمنْ يكرهُ بقاءها أكثر من رغبتها هي في نفيه : إلى أجـل غير معلوم ... انثبري !
فتـح الباب وقبل أن يخرجَ التفتَ برأسه إليها ليُردفَ بوعيدٍ : وبخصوص كلامك اللي قبل شوي مع غيداء ... لو أدري إنّك تدخلتِ مرة ثانية هالمـرة بيكون لي تصرف ثاني معك.
،
في الليل ، اقترفهُ الغضبُ على عجل، طول الساعات التي مرّت كـان يقتربُ من أن يقتل أحدًا ما، أن يحطّم زجـاج مرآة التسريحة، أن يكسِر المزهرية التي تنزوي بجانب النافـذة المفتوحة. هواءٌ دافئ ، يتسلّلُ عبرها ويهبُّ على وجههِ دون برودةٍ ليليّةٍ تُذكـر ، مُحمّلًا بنأيِ الصبـاح المستوِي في برودتهِ ونأي الحريّةِ المطلقـة، مُحمّلًا بأهازيجِ الاستفزاز التي تزيدُ فيهِ بشدّةٍ مُستفزّةٍ بذاتها !
خرج من الغرفـة ليطبقَ البـاب من خلفهِ بقوّة، لكنّه توقّف فجأةً ما إن التقى بعبدالله، عقدَ حاجبيه وابتسم ابتسامةً خافتةً زائفة، مدّد بها شفتيه على مضَض : نادر أشوفك هالوقت.
عبدالله بابتسامة : جيت أشوفك ، طالع؟
رنّ هاتِفه في تلك اللحظـة ليرفعـه وتتلاشى ابتسامته، أعاد رفعَ رأسه إليه، وبهدوء : لا ما عليه .. تفضل.
تحرّك نحو الباب ليفتحهُ وهو يرفـض مكالمة شاهين بغضبٍ صامِت.
في الأسفـل ، كان قد قرّر أن يمرّ عليه ويقلّه بنفسِه، عقدَ حاجبيه باستغرابٍ حين قُطِع اتّصاله، لحظـاتٌ قليلة فقط قبل أن يتنهّد ويعيد ظهره للخلفِ وقد أدرك جيدًا أنه غاضبٌ منه ويعامله بالتجاهُل ذاتـه . . . ابتسمَ ابتسامةً فارغـة وهو ينظُر للأعلى، الظلامُ يُخبّئ التفاصيل ويجعل عينه لا ترى سقف السيارةِ كمـا يجب، منذُ متى كنّا كالأطفـال بهذهِ الطريقة؟ لطالمـا كان يُصدَر منهما بعض ردّات الفعـل الطفوليّة التي لا يراها أحدٌ سواهما وأمه ، ينقشعانِ من رتـابةِ الكِبَر إلا أنهما لم يصلَا يومًا لإيذاءِ بعضهما كما يحدثُ الآن !
أغمضَ عينيه للحظـات، يتنفّس بضيقٍ يضغطُ على صدرِه ويوجع كسرَه أكثـر، عاد ليفتحَ عينيه ، ومن ثمّ نظـر لهاتفِه ليكتب إليه رسالةً سريعة : ( انتظرك بالسيارة تحت ).
،
تنظُر لها بشرود، حتى الآن لازالت تنظُر لها بخوفٍ من فقدانِها، كفّها تعبُر بينَ خصلاتِ شعرها الناعمـة بعنايـةٍ بالغـة، تبتسِم لها ، تنحنِي إلى وجنتها المتورّمة وتقبّلها، بينما كانت ليـانْ منذُ نهضَت ساكنـةً بعضَ الشيء، في بادِئ الأمـر اشتكتْ إليها بخفوتٍ أنها كـانت مع رجـالٍ أخافوها، إلا أن أرجوان حين أخبرتها بأنهم أرادوا أن يلعبوا معها وحسب، ودون أن يريدُوا ذلك أخافوها جعلَها ذلك تتقبّل تلك الفكـرة ، ولا تكرّر ما حدَث على مسامِع أحدٍ سواها كما طلَبت منها.
دخَلتْ جيهان إلى الغـرفـةِ لتبتسِم ابتسامةً هادئةً قليلًا وهي تلفظ : خايفة عليها بزيادة ما صارت طيحة ! يكفي إن أبوي فوق فجعته باختفاءكم كان بيذبحه اغماءها أول ما شافها.
ابتسمتْ أرجوان بربكـة، لا تريد لليـانْ أن تنتبهِ لمعنـى ما تقول جيهان وتصحّح لها بعفويّة، لفظَت بسكون : إذا ما خفت عليها أخافْ على مين؟
اقتربَت جيهان منها وابتسامتها قدْ تلاشَت، زفـرتْ بضيقٍ وهي تجلسُ بجانِبها، عقدَت حاجبيها قليلًا ناظـرةً للأمـام وهي تهمسُ بشرود : طلـع سبب تجمهر النـاس حول المبنى انتحـار الحارس؟ العـم مارك !
نظـرت أرجوان من زاويـةِ عينيها إليها، كـانت قدْ سألتْ والدها عن التفاصيل بعدَ أن طلبَت منها جيهان أن تسأله، عـادَ يوسفْ يتجاهلها من جديد! في كلّ مرةٍ تكرّر خطأها يعاقبها بما تكـره، بما يوجِعها ويُشعرها بالعجـز.
هتفتْ أرجوان بهدوء : ويمكن تكون جريمة قتل في النهاية هو رمى نفسه من السطح فمشكوك بسالفة الانتحـار هذي.
ضيّقتْ جيهان عينيها ببؤس، كـان لهذا العجوزِ ذكـرى في طفولتِهم، حينَ كـانت أمهم معهم! .. يعرفونه منذ الطفولةِ لذا موتهُ أشعرها ببعض الحزنِ والألـم. ومن زاويـةٍ أخـرى ، يستفزُّ مصطلحُ " انتحـار " فيها آلامًا أكبـر !
نهضَت أرجوان بعدَ أن ابتعدَت ليـانْ عنها تريد أن تذهبَ إلى والدِها، ابتسمَت إلى جيهان برقّةٍ لتهتف : صـار لك شيء اليوم ، ملاحظـة إنّ أبوي مجافيك من بعدْ ما رجعنا وأقدر أخمن وش سوّيتي .. بس بيرضى كالعادة ، وترجعين تحبطينه.
نظـرت لها جيهان بحدّة : نعم ! شقصدك؟
أرجوان : هههههههههههههه آسفة هذا الواقع.
جيهان بحنق : انقلعـي !
ابتعدَت أرجوان وهي تضحكْ، لكنّ ضحكتها تلاشَت ما إن خرجَت، جـاءتْ صورةُ تميمْ أمامها فجأة ، عـادت إليها تساؤلاتٌ تسألها لنفسِها منذُ عادوا ، لمَ فعل ذلك الرجـل هذا؟ إن كـان مجرمًا يسعى لإيذاء والدها فلمَ قـامَ بإنقـاذِ ابنته التي لو كـان مكروهًا قد أصابها لكُسِر؟
حيـرة ، حيـرةٌ تلتهمها وتُشعـرها بالضيـاع، تساؤلاتٍ أصابتْ رأسها بالصـداع إلا أنها لم تكُن كافيـةً أبدًا لتطمئنَّ نحوه، بل على العكـس، أصبحَت تقلقُ وتخافُ قربـه من عائلتها أكثـر.
،
خرجَ عبدالله من عندِه ، ابتسَم بعدَ أن تجاوزَ البـابَ وهو يهتفْ : هذا اللي كـان عندي ... آسف صدّعت راسك ، بس لازم تقلّل من طلوعك.
أومأ متعب بهدوءٍ وهو يلفظ : من بعدَ اليوم إن شاء الله .. مضطرْ أقابـل أخوي الحين.
عبدالله يتنهّد : انتبـه ... حرّيتك إلى الآن غلط تاخذها بهالشكـل !
متعب : لا تحاتِي . .
دخـل بعدَ أن ذهَب ، أخذَ هاتِفه من على الكومدينةِ وهو يبتسمُ بغضب، نصفُ ساعـةٍ مرّت منذُ قرأ رسـالةَ شاهينْ وتجاهلَها دون أن يُعطِي تلميحًا لعبدالله أنه يريد الخروج ليُعجّل في حدِيثه، بل تركهُ يسرد التفاصيل كما يريد.
خرجَ بعدَ أنْ دسَّ الهاتِف في جيبِه، ثوانٍ طويلة قبل أن تصتدمَ عينـاهُ بسيّارةِ شاهين التي كـانت تنتظِرُه حتى الآن ، رفـع حاجِبَه وهو يتقدّم منها حتى فتحَ البابَ وصعد، كـان شاهين وقتذاكْ يُعيدُ رأسه للخلف، يغمـض عينيه وذراعـه تغطّيهما، ما إن سمـع البابَ يفتحْ حتى أخفضَ ذراعـه ونظـر باتّجاهه نظرةً خاطفـةً سرعـان ما أشاحها وصدّ عنه ليبتسمَ ابتسامةً واهيـة : تنتقم مني؟
أطبـق متعب البـابَ دون أن يردّ، بينما حرّك شاهين السيّارةَ مبـاشرةً دون أن يفقدَ ابتسامتـه تلك ودون أن ينظُر باتّجاهه : مرة ثانية آسف.
متعب ببرودٍ ينظُر نحو النافـذة : ما يهم.
كـان قدْ تفقّدهُ باهتمـامٍ وقلقٍ بعدَ دخوله، يتأكدُ أنه بخيرٍ ولم يُصبْه شيء، وما إن رآه كمـا كان آخرَ مرّةٍ حتى صدّ عنه ونظرَ للنافِذةِ دون أن يحاول النظـر إليهِ من جديد.
شاهين بأسـى وابتسـامتهُ تُزرَع فيها المرارةُ وتهزمـه : كنت بخير بس . .
قاطعـه متعب بهدوءٍ وهو ينظُر لهُ من زاويـة عينِه : ما كنت بخير ... صار لك شيء ومتأكد.
ضحكَ شاهينْ ضحكةً قصيرةً مرتبكـة : قاعدْ تخلق لي الأعذار !
متعب بسخرية : من مصلحتَك يكون لك عذر .. من مصلحتَك يا شاهين ! تقدر تقولّي وش عندك مطنّشني طول الوقت اللي مرّ؟ أدري إنّك عارف شلون بيكون تفكيري لو ما ردّيت ، منتَ بخير! ومع كذا تركتني خايف عليك وكأنك تتلذّذ بهالشيء أو ما يهمّك !!
تنهّد شاهِين بتعَب، كيفَ يمكنه في هذهِ اللحظـةِ أن يعيشَ صراعاتِه ويبقى هادئًا؟ كيفَ لا ينفجـر الآن أو يمـرضَ بما يعانِيه ... أن يبتسِم، أن يعتذِر، أن يحاولَ إظهـار " لا شيء هناك في صدري " بينما صدرهُ يكـادُ يتمزّق بمشاعـر عديدة لا يريدُها أن تغلبَه وإلا آذى بها متعب !
لفظَ بيأس : لا تفسّر على كيفك.
متعب بحدّة : عشان كذا أقولك .. من مصلحتك يكون لك عذر. أيش صار؟ أمّي بخير؟ صار لها شيء بعد اللي أمـس؟
هزّ شاهين رأسهُ بالنفيِ دون أن ينظُر باتّجاهِه، حينها احتدَّ صوتُ متعب أكثر وهو يلفُظ بأمر : ناظرني وقولها ، صار لها شيء؟!
شدّ شاهِين كفّه على المقودِ أكثـر وهو يعضُّ باطِن خدِّه، حاولَ أن ينظُر إليـه ، حـاول ! لكنّ هنـاك شيئًا ما يمنعـه، شيءٌ ما يرفـض أن يجعله يوجّه حواسّه إليه، شيءٌ مـا يمنعهُ من التحديقِ بعينيهِ ليتذكّر الواقـع الذي بينـه وبين أسيـل ، وهو منعهم.
لم يستطِع أن ينظُر نحوه ، لذا لفظَ بثقة : والله ما فيها شيء ، في إثبات أكثر من الحلف؟
زفـر متعبْ بحدّةٍ ليُغمـض عينيهِ للحظـة، بينما كـان شاهينْ يعدُّ في نفسِه، مقرّرًا أن يصِل للرقـم عشرة ومن ثمّ سيكسِر حاجِز " عدم النظـر تجاهه " ، إلا أنه ما إن أنهى العدّ للعشـرةِ ظلّ ثابتًا بنظرِه للأمـامِ بطريقةٍ أشعرته بالغضب.
لفظَ متعب بتساؤلٍ ساخـر : أجل! وش كان عذرك .. إذا كنت بخير وشو؟ * أردفَ بجدّية * مين اللي سمعت صوته وقال اسمـي؟ قولها وخلصنا أيش اللي صار أمـسْ؟
كـان شبـه متأكدٍ أنّه سمِع، والآن هاهـي الـ " شبه " تُحذف ويبقى التأكيدُ وحسْب، عقدَ حاجبيه بضيق، بارتبـاك، وصمتَ دون إجابـة ، في حدِيثه سيظهرُ كذِبه وفي الصمت أيضًا اعتراف ! هاهـما وصلا إلى طريقٍ مسدودة.
اتّسعت عينـاه ما إنْ سمـع صوتَ ضربـةٍ كـانت من متعب الذي ضربَ بقبضتِه على البـابِ بغضب، تنفّس شاهِين بحدّةٍ وهو يدركُ أنه وصـل أخيرًا للإجـابةِ الصحيحة، بينما صرخَ متعب غاضبًا شاتمًا بحدّةٍ وقهر : الله يلعـــ * بتَر كلمتَه بالاستغفـار ليردِف مباشرةً بصراخٍ غاضبْ وهو ينظُر باتّجاهِ شاهين * هذا اللي كنت حاسْ فيه .. هذا اللي كنت حاسْ فيه . . .
بصرخةٍ أكبر : ناظـرني أنت بعدْ . . .
إلا أنه صمتَ فجأة، وكأنه لتوّه ينتبـه، عقدَ حاجبيه، اعتلَت على ملامِحه نظـرةُ الاستنكـار، ما بـاله لا ينظُر إليه؟ يُشيح نظراته عنه منذُ البدايـةِ وكأنه لا يريد النظر إلى وجهه! لم ينتبِه لذلك إلا الآن، هل فعلًا يُشيـح نظراته عنه أم أنّ عدم النظر نحوّه كـان مجرّد أمرٍ عفويّ!
متعب : شاهين! .. شفيك؟ ليه قاعد تبعِد عيونك عني!
هذهِ المرّة ارتبكَ بطريقةٍ أخـرى، سرَى في أوردتِه تيّارٌ كهربائيٌّ انتفَض بِه ونظـر من بعدِه باتّجاهِه وكأنّ اكتشافـه كـان وحدَهُ محفّزًا ليُلغـي رحلـةَ الصدِّ البغيضة على قلبِه، والتي لا يدري أبدًا ... كيفَ يُمارِسها !
هتف بابتسامةٍ مرتبكةٍ يمنع أعينهُ من التشتّت عنه : صاحي أنت! وش هالفكـرة اللي جايبها بعد ليه ببعدْ عيوني عنك مثلًا !
متعب بشكّ : أيه صاحِي ، وفيك شيء غلـط اليوم !
شاهينْ بضيقٍ يصدُّ عنـه : واهِم.
متعب لا يريد أن يضايـق نفسه أكثـر بموضوعٍ كهذا لا يدري كيفَ جـاء ، بل كيفَ سيمارسـه شاهين ! ، لفظَ بقلق : مين هو؟
.
.
.
انتــهــى
ودمتم بخيـر / كَيــدْ !
|