كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمـةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(83)*2
زفراتٌ غاضبـةٌ كنـايةً عن فرطِ ما تشعُر بهِ في هذهِ اللحظـات، عن النـارِ التي تأجّجت في حنجرتها لتُذيبَ كلمـاتها، لم تُجِد التعبيرَ وهي تسمـعُ ما يقول، صفعَت كفّه الممسكَة بيدِها بقوّةٍ ومن ثمّ تراجَعت للخلفِ وهي تهتفُ بارتعـاشاتٍ هزّت بدنها، بانفعالاتٍ تكـادُ تبتلعُ الأخضر واليابس فيها : مقلب!!! هدفك مقلب !!!!! أنت .. أنت صاحي ! مستوعب وش قاعد تقول؟
سيف يمرّر لسانه على شفتيه ومن ثمّ يلفظُ بخفوتٍ جاد : خفضي صوتك.
اتّسعت عينـاها بغضبٍ حـادٍ يجرحُ السكون ويجرحُ صمتَ المكـانِ وهدوءه، شدّت على أسنانِها بغضب، خوفُ الدقائِق الطويلـةِ السابقةِ كـان " مقلب "! كـان كذبةً غبيّةً من طفـلٍ ساذجٍ كالذي أمامها !!! ذُعر الدقائق الطويلةِ السابقةِ كــان زيفًا، قلبها الذي كـاد يتوقّف استمـالهُ إليهِ بخداع ! . . تصاعدَ الغضبُ أكثر، ربّما لو لم تكُن في مكانٍ عامٍ لانفجرّت! شدّت على أسنانِها بشكلٍ أشدّ وهي تهتفُ من بينِها بقهر : أنت مستوعب كم عمرك على هالحركة؟ مستوعب إنّك بعد كم سنة بتوصل للأربعين ! شلون تطلع منّك هالحركة السخيفة والساذجة! شلون تكون بهالبزرنة !!!
سيفْ يزفُر بقلّةِ صبـر ، وبجدّية : مو كذا الموضوع .. بس عمومًا نتفاهم بالبيت . .
ديما بغضبٍ تشدُّ بهِ على قبضتيها : نعــم !!
ابتسَم بلؤم وهو يرفـع حاجِبه : اشتقت لانفعالك وعصبيتك .. حلو طلعنا بفايدة ... قلبك خاف علي!
ديما بقرفٍ تُميل فمها : مبسوط على سواد وجهك؟
اتّسعت ابتسامته، كـان يكتمُ ضحكـةً لربّما صخبَت بفضيحةٍ في الممرّ ، لذا كتمها وهو يهتف : مو سواد وجه .. عادي نطلـع شوي من نمط الهدوء التافه.
ديما بنبرةٍ وحشية : والله ما التافه إلا أنت وحركاتك.
تحرّكت بعدَ كلماتِها الغاضبـةِ تلك لتبتعد، لم تتصوّر أن يصِل إلى هذهِ المرحلـة التي استفزّ فيها كل مشاعر الخوف وكل مشاعـر التمسّك في حضورِه، لم تتخيّل أن يصير بسخافةٍ كالآن كيْ يمسَّ الخطـر والأوجـاع بمزاح! ابتسَم سيفْ وهو يسيرُ من خلفِها، وصَل إليها ليضَع كفّه على كتفها وهو يلفظ : بعدين أنتِ غبيّة .. حركك قلبك ... واضح إنّ الموضوع فيه إنّ مو محبوك كويس.
أبعدَت كفّه بغضبٍ لتُكمـل سيرها وهو يغرقُ في ضحكةٍ عميقـة لم يستطِع إخفاءها، لكنّه في المقـابلِ لم يُخفـي نبرةَ الحزمِ التي خُلقَت في صوتِه الآن مناقضةً ضحكتـه قبل ثوانٍ : وأكيد ما ننسى حساب طلعتك بدون إذنـي، نشوف العلم بالبيت.
نظرت لهُ ديما وهي توسّع عينيها دون تصديق، فتحَت فمها تريد أن تردَّ بشيءٍ مـا، غاضبْ، منفعـل، أن تصرخَ بأيّ وقاحـةٍ يهدّد؟ .. لكنّها في النهايـة صدّت عنه وهي تتابـع السيرَ بصمتٍ مُنفعـل.
،
بينما في الجهـةِ القريبةِ منهما، في الهدوءِ انقشـع مكنونهُ الفعليّ، خطواتُها التي كـان وقعها سخيًّا لم يُدركها في بادئ الأمـر، من الغريبِ ألا يُدركَ حسَّها؟ من الغريبِ أن لا يقرأها في خطواتِها، أن تمرَّ ولا يشعُر أنها هـي، من المُلام؟ قلبـه أم المسافات؟!
ما إن فتـح عينيه حتّى اتّسعت، لم يتوقّف الزمـن في النظـرة الأولـى، لم يتحرّك استيعابـه سريعًا وسُيّر دون مأوى للإرادة ليوقفها، لم يكُن إيقـافها بإرادته، كلّ ما فيه نهـض، وكل ما فيـه خضـع لقُربها، رغـم الألـم الذي انتشـر سريعًا إلا أنه أمسكَ بِه، ورغـم عدمَ الاستيعـاب لحضورِها وخطواتِها إلا أنه أدركَ هيئتها دون تفكيـر، بل غيّب عقله في الحقيقةِ وأدركها قلبـه ... أمسكَ بها من معصهما قبل أن تهرب، شهقتـها اعتلَت لتضجّ في قلبِه حكـاياتِ عِشقٍ يريد انتهاءها ولا تريد، حكاياتِ شوقٍ دفعتـه لإمساكِها، لأسرها بقبضتِه ... مرّت شهقتـها كسيفٍ مسنّنٍ على قلبِه، أدمتـهُ لينزفَ بكلمـاتٍ خافتـة، مذهولةً بوجودها، كلمـاتٍ رغمَ الألـم في صوتِها ورغم البهوتِ إلا أنها كانت تضجَّ بمشـاعر لم يعلم ما كانت وقتذاك من تداخـلها بانفعالاتِه : أسيل ! شلون جيتِ؟ و .. وليه !!!
برودةٌ تسلّلت إلى عظامها وحوَت جلدَها، ذبُلتْ كفّها التي كـان يُمسكُ بمعصمِها، حـاولت سحبَها وهي تشعُر بأنّ قدميها ترتخيـان، بأنّ تكوينَها يُصيّرُ رخويًا، لكنّ شاهِين شدّ على معصمِها أكثر وهو يعقدُ حاجبيهِ باعتراض، تهزمُ مشـاعر الشوقِ كلّ قراراتِه ويتناسـى اتّجـاهاتِ حياتِه الفارغـةِ منها، يتنـاسى العبورَ فيها ويسرقُ الآن من بشرتِها لمسـة، ويحـاولُ من الجهةِ الأخرى أن يسرقَ معها صوتًا . . أردفَ بخفوت : ليه جيتي؟
لم تردّ أيضًا، كـانت تحاولُ سحبَ يدِها وعينيها تضيقان، تظلمـان، ندمَت على حضورها، هوَ بخير! .. لا ترى فيهِ ما أرعبها ودفعها للمجيء عنوةً ضدّ الظروف القائمة، لا ترى فيه أصاباتٍ أصابَتها هي قبلًا، كـانت زيفًا ، إذن لمَ جاءَت؟ لمَ تهوّرت وجـاءَت! . . . لم يجئهُ صوتُها، لم تردّ عليهِ وهي تضيقُ بعينيها أكثـر وتحاولُ سحبَ يدها منه بكبريـاءٍ لكمتـه حينَ جاءَت إليه على حينِ غرّة، حينَ هزمها قلقها ومشاعرها !
لم تنظُر لملامِحه التي تغضّنت وغزَتها تجاعِيدُ الشوق، تُثقِلهُ ستّونَ عامًا يشيخُ بِها في خضمِ لحظة، تُثقِلهُ في غياهِبِ هذا الجنونْ الذي أوصلهم إلى هنـا، والطريقَ الذي عبـروا فيه .. شدّ على معصمِها أكثـر وهو يهتفُ بخفوتٍ مُكرّرًا : ليه جيتي؟ وشلون عرفتِ إنّي في المستشفى !
التفّت أصابعها في انقبـاضةِ كفّها التي تجمّدت بصلابـةِ الصقيع، ارتعشَت شفاهُها بربكـةِ الهواءِ من حولِها واضطرابـاتِ ذرّاتِه، شعرت بالاختنـاقِ يتمكّن منها وهي تهمسُ بصوتٍ رغمَ ثباتِه إلا أنه كان خافتًا، مختنقًا : اترك يدّي ..
تنفّست بعنفٍ ما إن ارتسمَت على شفتيه بسمـة، أغمضَت عينيها بقوّةٍ عنها، عن ملامِحه، عن تقاسيمِ الشوقِ في عينيها، أغمضَت عينيها عنـه بقهر! بينما أصابعها ظلّت تشتدُّ بقهر، كـان في ابتسـامته يشرحُ فتنـةَ صوتها الذي انتظـره والذي اشتـاقه، كـان في ابتسامتِه يحكِي لها انتـصارهُ بحدّيثها أخيرًا ، وبعبُورِ صوتِها على دربِه، لتصـل إليهِ أخيرًا ... إن كـان صوتُها بحضورِه قد فعـل بِه ذلك فكيفَ إذن إن ابتعدْ؟ إن كـان صوتُها بعثَ في صدرِه شعورًا لذيذًا كالآن، شعورًا بالنشـوة، فكيفَ سيتأقلـم على غيابِه كما لم يتأقلم حتى الآن؟!
رقّت ملامِحه قليلًا بعدَ أن أغمضَت عينيها عن ملامِحه، حرّك إبهامـه على موضِع النبضِ في معصمِها ليُرعشـَها أكثر، ومن ثمّ وبخفوتٍ متسائل، يحكِي لها ما يدورُ في صدرِه، بنبرةِ حسـرة ، يُخبرها فيها أنّ كلّ شيءٍ يسيرُ وفق ما يريد، وفي اللحظـةِ ذاتِها بعكسِ إرادتِه : شلون بعتـادْ على أيامِي من دونك؟
رفعَت أجفانَها قليلًا، ارتعشَت أهدابُها، لم توجّه أحداقها المُعتمـةِ إليه وهي تُحشر بالفراغِ المستولي على سكُون الحواسّ، لم تنظُر نحوه، ومن خلفِ النقـابِ الذي كـان يُخفِي ملامِحها التامّة عنه، مـالَ فمها بسخـرية، ارتخَت يدها التي كـان يقيّدها، وامتهنَت الشدّةُ صوتها عوضًا عن عضلاتِها التي ارتخَت ، لفظَت بسخريةٍ مريرة : مثل ما اعتدت على غيابه.
مرارةٌ كالصديد، مذاقٌ مرُّ، تضخّم في حنجرتِه وطردَ لذّةَ شعورِه بها حتى وإن خالطَها وجع! .. هتفَ وهو يُغمـض عينيه وآلامٌ تكتنزُ في صدرِه يكتــم آهتها ولا تظهرُ سوى في ملامِحه التي كـانت تتعجّن، كيفَ يعتادُ غيـابَ متعب؟ لم يكُن إطلاقًا يحتـاج للذكـاءِ كي يفهم قصدها، لم يكُن أبدًا يحتاجه! : مين قـال اعتدت؟ مو لازم الحزن يكون جهوري.
أسيل بابتسـامةِ حسـرة : بس لازم يكون حُزن الفقد غلّاب ... ما كنت بقلبك بهالمقام ويمكن بعد متعب! أنـاني ، أنـاني إنت يا شاهين.
فتحَ عينيه وهو يعقدُ حاجبيهِ بشدّةِ اعتراضِه على حديثها الذي يُهينه، يُهين مكـانةَ متعب في قلبه، يُهينُ حتى مشاعـره! .. بطريقةٍ ملتوية، كـانت تقارنُ حزنها على متعب بحزنِه هو .. تقارنُ بطريقةٍ جعلتْ قلبهُ ينقبض، لازال رغـم الظروفِ يشعُر بأنها ملكـه! رغـم حبّه لمتعب، رغـم قراراته، رغـم كلّ شيءٍ كـان يهزمهُ حبّه لها وامتلاكـها بطريقةٍ لا يُظهرها ولا يسمَح أن تتحكّم بأفعـاله .. عقدَ حاجبيه، باعتراض، وبشيءٍ خافتًا من الحدّةِ لم يعتلِي سطـح ملامِحه إليها، بل بقيّ يترسّب أسفـل جلدِه ويذوقه بمرارةٍ مُهلكـة : حُزنك كـان نفسِي أكثـر .. الانسـان السويّ ما ينسى، بس يعيش.
لم تعُد تهتمُّ ليدها التي كـان يُمسكها، أمـالت رأسها بسخريةٍ وهي ترفـع حاجبها وتهتفَ باستخفافٍ وقهر : آآه صح ، نوستالجيا .. كنت كذا ، مجرّد مريضة نفسيَة تأسر نفسها بالذكريـات ... إذا كـان الموضوع كذا فأنا أفتخر بمرضي، وأفتخر إنّي وفيّة بعكسـك ..
شاهين بريبـةٍ من معنى حديثها : وش تقصدين بهالكـلام؟!
أسيل بقهرٍ وكأنها تنتقم، تنتقـم من رُخصِها أمـامه والذي تدرك أنّه ليسَ رخصًا بحجمِ ما كـان متعب في مقامٍ ثابتٍ لا يُساوَم ، لكنّها كـانت مقهورة! مقهورةٌ لأنّ كلّ ما حدَث كـان على حسابِها هي، على حسابِ مشاعرها : قدرت تتجاوز موته بسرعة وهو أخوك الوحيد، قدرت تنجح بحياتك، تتزوج حتى أرملته! .. كـانت حياتك أثمن وما اهتميت لكونك تزوجتني ، تزوجتني وأنا اللي كـان يحبني وكنت أحبه وظلّيت لهالوقت.
تركَ معصمها فجأة، تراجعَت للخلفِ بانتصـارٍ وهي ترى ملامِحه التي قسَت، عينيهِ رغـم قساوةِ ملامِحه كان لهما ردٌّ آخـر، رغمَ قساوةِ ملامِحه كـان فيهما لينـًا من ألـمٍ وكأنّها ضربتهُ في صميمِ قلبهِ بسيفٍ مسموم، ضاعفَت آلامِ صدرِه وأضلاعِه المكسورة، ضاعفَت من قهرِ امتلاكِه ، لكنّها ورغـم حديثها المُستفزّ لرجولته، صدّ عنها وهو يلفظُ بصوتٍ باردٍ جـاف : أتوقع خلّصتِ كلامِك اللي جيتي عشـانه ... اطلعي.
لم تبتعِد أكثر، كـان تراجعها محض خطوتينِ للخلف، لم تكُن قد ارتاحت، لم تكُن قد انتقمَت لنفسِها، لم تكُن قدْ تأرثْ للشعورِ بالانكسـارِ فيها، كسراها كلاهما! ورغـم أنّ ذلك كـان رغمًا عن شاهين، إلا أنها كـانت تريد أن تؤلمـه كما آلمها، تريد إوجاعه، كسـره كما كُسرت! .. لذا أردفت بحقدٍ وهي ترفعُ ذقنها بكبرياءٍ مهدور : أكثر شيء قهرني باللي صار لليـوم إنّنا تزوجنا .. يمكن لو ما صارت بيننا هالعلاقة كـانت ردة فعلي لرجعته بتكون مختلفة ، مقهورة لأن ابتعاده حطّني بهالموضع! ابتعاده سمـح لزواجنا ، وصرت بمكان مثير للشفقة! يقهر .. يقهر كثييييير يا شاهين!
شاهين بصوتٍ يحتدُّ ودون أن ينظُر إليها : اطلعــي !
إلا أنها تابعَت بقهر : كنت بنبسط ، بفرح لرجعتـه ، وبتجاوزْ عن غيابـه وموته الكاذب .. بس الحين أنت بيننا ، وهذا مخلّي وضعنا مختلف.
نظـر إليها بغضب، تشتدُّ ملامحـه، ترتعشُ أطرافـه ، حديثُها كـان أكبر! كـان أكبـر من الهدوءِ ومن الصـلابـة، أشـهر، أشهـرٌ طويلـةٌ كـانت تنامُ فيها بأحضانِه وبالتأكيدُ تفكّر فيه، يدرك أنّها كـانت تفكّر فيهِ في لحظـاتٍ كثيرة، لكنّه الآن وبعدَ حديثِها بدأ يفكّر بطريقةٍ أشدّ وجعًا! أشدُّ سميّةً في نصلِها الموجّهِ إلى قلبـه ، ربّما تخيّلته فيه حين يعانقها، حينَ يقبّلها، حينَ يقتربُ منها بتملّكٍ وتراهُ هو ... كـانت حتى هذهِ اللحظـةِ تحبّه ، قالها لها مرّة، يتفهّم! يتفهّم مشـاعرها، لكنّه لا يريدها أن تفصِح، يتجـاوزُ وقد تجاوزَ آخرَ مرّةٍ ليـلة زفافهما، أمرها أن تصمت، وأن تتنـاسى! انتهَت الفرصُ بينهما ولا فـرصَ أخـرى قد يُهديها لها وها هـي الآن تُكرّر ما كـان ، بوقتٍ أقسـى ، وبطريقةٍ أشدّ إيلامًا !!
رغـم أنّ ملامِحه كـانت قاسيـة، تُشتّت الثبـاتَ بغضبِها ، إلا أنها بقيَت ثابتةً أمامه بقوّةٍ انعكَست إليها من شدّةِ القهرِ في صدرِها، لم تتحرّك أو تتراجـع ، بل بقيَت تنظُر نحوهُ بإباء. شاهين بصوتٍ خافت، غاضِب : روحي قبل لا يصير ردّي مؤذي لك! .. هالمرة بلومك ، مثل ما ألومْ نفسي .. رغـم تجاوزي قبل ورغم الظروف الحين إلا إنّي ما أبي أتجاوز! بس بتمهّل ... عشان كذا روحي من قدّامي.
أسيل تبتسمُ بحسـرة : لا تتوقّع أكثـر من هالحقيقة اللي أوجعتك ... إنت أناني ولا زلت ، مع إنّه رجع بس ظليت تبي تمتلكني .. فكرة انفصالنا ترضيك شوي بس لأنك ضامنْ متعب ما راح يفكّر يرجعني بعد ما صرت لك ... شايف الفرق بينك وبينه؟ أنت أناني ، بينما هو لا، وفـي! وفـي لك، وإن مـا وفى لي.
كـانت كلمـاتها مؤثّرةً بساديّةٍ ربّما كانت تدركُ وهي تقولها أنّه في ذلك الوقتِ ضائع، ضـائعٌ من جوانِب كثيرةٍ منذُ عـاد متعب، قالتها وتدرك مدى تأثيرها على نفسِه ، كـان جسدهُ مجروحًا منذُ البداية، وهي نثرت الملـح الآن انتقامًا بأنّ تجعله يجلِدُ ذاتـه أكثر، بأن تجعله يضيعُ أكثـر ويتحسّر على ما فعـل . . ارتفعَ صدرهُ في نفسٍ حـاد، برعَ في مضاعفةِ ألمـه الجسديّ كمـا برعَت هي في مضاعفَةِ ضياعِه وألمـه القلبيّ النفسيّ ، خطأوه بحقّ متعب استشعره أكثـر الآن، أضافَت عليها صفـة " الأنانيّة " والتي قد تكون حقيقة ... هل هو بالفعلِ أنانيّ؟ هل هو بالفعـل كذلك لمْ يحتـرم أنّها كـانت زوجة متعب؟ حتى وإن كـان دافـع زواجِه أمه ، كان من المفتـرضِ أن يرفض وإن كـان ذلك مؤلمًا لها قليلًا ... هو أنـــانيّ؟!
مرّرت لسـانها على شفتيها وهي تُشيـح عينيها عنه، ذاقَت مرارةً كالصديدِ في بقيّة الكلمـاتِ التي أرادَت بثّ سمومها إليه وكأنّ آلامه حين بزغَت على وجههِ وترسّبت على سطحِ ملامِحه بوضوحٍ جعلتها تتراجـع . . صدّت عنهُ وقلبها شعـر بألمٍ ممـاثل، لن يصـل ربّما لمـا بثّته فيه . . . تراجعَت ، بينما صمَت هو وظلّ يراقبها بعينينِ صامتتين ، يراقبـها بعينينِ ينتشـر فيها ظـلامٌ عانقـه الضبـابُ وضاعفَ فيه الضيـاع، هزّ من أوتـارِه لحنَ - فقديْن، ولحـنًا آخـر يلومُه، لحنًا مُنكسـرًا، يكسِر أضلاعه أكثر.
خرجَت ، وفي قلبـه اعتذاراتٌ كـانت لهُ هو!، لمتعب الذي شعـر رغمًا عنـه وفي هذهِ اللحظـة ... بالنفورِ منه!
في قلبِه محبّةٌ موجوعـة، وصوتٌ منكسـر يتلو " آسفْ " ويصله محوّرًا إلى : نفور. كـان هذا معنـى أن يبقى ما حدَثَ حاجزًا بيننا، مهما حاولتُ تصنّع أنّ لا شـيء، لا شيء أبدًا سيُحيـل بيننا من جديد! كـان هذا معنى أن نبتعِد.
،
خرجَت تتخبطُ في خيبتِها، تتقوقعُ في ندِمها، نعم ، شيءٌ من الندمْ، وكثيرٌ من الرضـا! كـانت تنتقمُ لكبريائها الذي امتهناه، لكنّها أيضًا حين رأت نظرات الضيـاعِ والحُزنِ في عينيهِ شعرتْ بالنـدم . . . أغمضَت عينيها وهي تستندُ إلى الجدارِ وتتنفّسُ بحدّة، كيفَ تتلذّذُ بانتقـامٍ وضيعٍ كهذا! كيفَ تُسيء لنفسها قبـل أن تسيء لـه؟ . . رفَعت كفّها وهي تفتحُ عينيها، مرّرت سبابتها أسفل عينيها وكأنها تمسحُ دمعًا ما! لم تكُن قد بكَت، لكنّها شعرت وكأنها كـانت تبكِي، كـانت تنزفُ من عينيها.
ارتفعَ صدرُها بانفعـالٍ وهبطَ بشدّة، عضّت طرفَ شفتها السُفلـى والتي كـانت ترتعشُ اضطرابًا، تحرّكت كفوفها إلى حقيبتها، تشعرُ بالضيـاعِ هزّها، عينيها تتحرّكان بتلقائيّةٍ تبحثُ عن ديما وحين لم تجدْها بدأت تفتحُ حقيبتها بأصابع ترتعـش، أخرجَت هاتِفها وهي تشعُر بخواءٍ في صدرها ، صوتٌ يعبُر يا الله، صوتٌ جـائر من مزاميرِ الشيطـانِ يعزفُ فيّ ويتلو خيباتِي، بأنّي امرأةٌ ثكلت الحيـاةَ بموجَبِ الابتسـامة، ثكلتْ ارتباطينِ حين سقطـت معهما في بحرٍ من الخذلان ، لا أدري ما مضمونُ ما أعبـُر فيه وما يعبـران، نحنُ نسيرُ في دربٍ تشعّبت أطرافه واختارَ كلٌّ منّا العبور في إحدى تلك الشُعب، كلٌّ منا يفقدُ القُرب من الآخر ، هذه قصّتنا، نسيرُ معًا، ونبتعدُ في نهاياتِ الطريق، فارغين! يعبُرنا الهواءُ ويصخبَ بصريرٍ من صدَئنا.
بحثَت عن رقمِ ديمـا لتتّصلَ بها مبـاشرة، في اللحظـةِ التي كـانت فيها ديمـا تجلسُ في إحدى كراسي الانتظـارِ وسيف يتّكئ على الجدار بجانِبها، لم يحاول أن يُحـادثها وهي كذلك تجاهَلت قُربه منها ، تشتعلُ بصمتِها ممّا فعـل، لازالت لا تستوعِب كونَه يتعامـل بهذهِ الصبيانيّةِ معها.
رنّ هاتِفها الذي كـانت قدْ دسّته في حقيبتها بعدَ جلوسِها، مدّت يدها إليه وهي تتوقّع أن تكون أسيل، أخرجته لتمرّر لسانها على شفتيها ما إن رأت أنها هي فعلًا، ردّت عليها لتهتف : هلا .. نمشي؟
نظـر نحوها سيف من زاويةِ عينيه هو يبتسِم ويكتّف ذراعيه إلى صدرِه، بينما عقدَت ديما حاجبيها من صوتِ أسيل المختنق لتتساءل بشك : وش فيك؟ صاير معك شيء؟!
أسيل من الجهةِ الأخـرى : لا ... بس كنت خايفة عليه، هو بخير.
وجّهت ديمـا نظراتٍ حادّةٍ إلى سيفْ الذي ابتسمَ لها ببراءة، لتهتف من بين أسنـانها : زين .. تعالي أنا بأول كرسي بالممر اللي على أول لفة يمينك.
أسيل : اوكي.
أغلقَت لتُخفض الهاتِف إلى حُجرها ونظراتها تنظُر لسيفْ بحدّةٍ أكبـر بينما هو رفـع حاجبيه ليهتفُ بغرور : نعم!
ديما بغضب : كذَبت بعدْ بخصوص شاهين صح؟ كـان بخير!
سيف بابتسامةٍ تملأ وجهه، تستفزّها أكثـر بلؤمها : وبنجي المستشفى ويكون اسمه موجود بين المرضى عباطـة؟ ليه الموضوع بهالسهولة !
ديما بحنق : بسهولة كذبتك التافهة ... أنت صاحي تسوّي هالمقالِب على هالعمر؟
أمـال فمه بضجر : مو مقلب ، كنت أساسًا أبي زوجته تدري، يمكن ينصلح حالهم ويردون لبعض وبطريقي أجنب على قلبك البارد.
ديما : وظّفت نفسك مصلح اجتماعـي ساذَج؟ الله ياخذك.
سيف : منّك لله اشتقت لدعواتك علي والله، بس لو تكرّرينها قطعت لسانك، تأدّبي.
كشّرت بوجهها لتصدّ عنه، بينما ابتسَم هو بتلقائيّة ، وفي تلك اللحظـةِ كـانت أسيل تقتربُ منهما، وحين انتبهت لسيفْ تباطأت خطواتُها قبـل وصولها إليهما، ارتبكَت لتُخفِض نظراتها للأسفلِ وهي تقفُ قريبةً من الجهةِ الأخرى للكرسيّ، في حينِ وقفَت ديما التي كـانت بينهما وصوتُ أسيل ينبعثُ خافتًا غادرهُ اختنـاقه : شلونك سيف؟
سيف بابتسامةٍ هادئة : الحمدلله عساك طيّبة.
أسيل رغـم استغرابِها لفظَت : سلامتك؟
سيف يكتـم ضحكته وهو يوجّه نظراتهُ نحو ديما الغاضِبة، وبحرج : أنا بخير ما صار لي شيء، شكل الممرّضة كبّرت الموضوع ، كل اللي صار إن أضـلاع شاهين صار لها كسر وجبته للمستشفى بس أنا بخير ما صار لي شيء.
رغـم أنها تساءلت في نفسها " كيفَ وصل هاتفهُ للمرضة " إلا أنها صمتتْ وهي تومئ بأدبٍ منهيةً حديثها معه.
تحرّك سيفْ مبتعدًا عنهما قليلًا ليلفظ : بترجعون معي إن شاء الله فاصرفوا السواق ، بدون نقاش! ، شوي ويطلـع شاهين.
لفظَ أمره ذاك ليبتعدَ عنهما نحو غرفـةِ شاهين. أيْ أنّه يريدها أن تكون مع شاهين في نفس السيّارة؟ قريبـةً منه من جديد؟ تشعُر بأنفاسِه وحضورِه ، بعدَ كلّ ما قالتـــه !!
اتّسعتْ عينـاها بذعرٍ لينتشلها صوتُ ديمـا فجأة : وش صار؟
نظـرت لها بضيـاع ، ما الذي حدّث؟ غير أنّي انتقمتُ لنفسي بأبشعِ طريقة، ما الذي حدّث؟ غيرَ أنّي رضيتُ عن انتقـامي، وأُوجعتُ أيضًا معه، كيفَ يكون مرضيًا؟ كيف؟!!!
ارتعشَت شفاهها وهي تتحرّك بهوانٍ لتجلـس أخيرًا على الكرسيّ وتسندَ مرفقيها على ركبتيها، بينما عقدَت ديما حاجبيها بتوجّس، جلسَت بجانِبها وأسيل تسندُ رأسها على كفيها وتتأوّه بوجَع ... وبتساؤلٍ قلِق : وش صار أسيل؟ قلتِ إنّه بخير !!
ابتلعَت أسيل ريقها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تتنفّس بانفعـال، وبخفوت : ما صـار شيء ، بس أهنتني، وأهنتـه .. جرحتني ، وجرحته ، هذا كل اللي صار لي قبل لا يصير له!
،
ينظُر للأرضِ بصمتْ، هاتفُه في يدِه اليُمنـى يتدلّى يمينًا وشمالًا وعينيهِ تشتعلانِ بغضبٍ يُصاحِبهُ قلقٌ عميق، وخوفٌ أعمـق، منذُ انتهـى الاتّصال وهو يتقلّب على جمرٍ من القلق، وصلتـه الكلمـاتُ التي لُفظَت من ذاك الذي كان يحادث شاهين * سند *، وإن كـانت موجاتُ صوتِه غيرَ واضحةٍ كمـا يجِب إلا أنه أدركها .. اتّصلَ بِه مرارًا بقلقٍ ولم يردّ، وحتى هذهِ اللحظـةَ لم يرد!
شدّ على شفتِه السُفلـى بغضبٍ وهو يضغطُ على هاتِفه حتى كـادَ يُحطِّمه، ومن بينِ أسنانه لفَظ : لو تكون بخير بعدْ كل هذا بذبحك بنفسي أنا !!!
رفـع هاتِفه من جديدٍ ليعُودَ بالاتصـالِ بـه، رنّتين ومن ثمّ انطفأ! هذهِ المرّة لم يستمرّ الاتصـال حتى وقوفه ، بل كـان هو شاهين من أوقفه ! هو؟ أمْ .. أم من ! هل هو بموضِع خطِر وهاتِفه ليسَ معه!!
أغمَض عينيهِ وهو يشدُّ على شفتِه بقوّةٍ حتى كـادَ يُدمِيها، شعـر أكثـر بالضيـاعِ والتّشتت الذي يجعـل الخوفَ يتفاقَم من أن يفقدهُ من جديد، قلبـه يتسارعُ بنبضاتِه ويشعر أنه على مشارِف الوقوفِ والوفاة! ، هذهِ المرّة شعـر بالندم لأنّه ظهـر له! لأنّه كـان غبيًا ليصدّقَ فيه ذلك الوهم وذلك الخداع ، ومن ثمّ يظهـر لهُ بحجّةِ الانتقـام، وظنًا بأنه يدركَ حياتـه ، شعـر بالندمِ لغبائه الذي قدْ يورّطُ شاهين في دربٍ الموتِ هذا.
،
يمِيلٌ المقعدَ للخلف، عيناهُ تنظُرانِ للطريقِ المُظلـم بظلامٍ أكبـر، يعمُّ الهدوءُ أجواءَ السيّارة، لم يكُن يقاطـعه شيءٌ سوى أنفاسِهم الهادئـةِ وفي هدوئِها صخبٌ يعلُو أمواجَ الخذلان، تجلِسُ من خلفِه، مقعدهُ يميلُ إليها حتى ضـاقَ بها المكـان، لكنّها كـانت صامتة، تنظُر عبـر النافذةِ ببؤس، تشعُر أنّ أكسجينها كـان زفيرهُ المتمرّغِ في وحلِ كلمـاتها التي أطلقتها عليه اليوم، كلمـاتها القارسـة، القاسيـة، المنتقمَةِ انتقـامًا بشعًا لم تتصوّر أن تمارسهُ يومًا وأن يصِل بها الحقدُ إلى هنـا ، تشعُر أن كلمـاتِ اللومُ تخرجُ من شفتيه لتتنفّسها وتضيقَ أكثـر.
كـان الطريقُ مزدحمًا كعادةِ شوارِع الريـاض، تتوقّف السيارةُ مرارًا وتبهتَ عيناها بأضواءٍ من حولِها تحـاولُ زعزعـةَ ظلامِ أحداقِها ولا تُجيد. لم يكُن ينقصُها أن تعودَ معه في نفسِ السيّارة ، لم يكُن ينقصها أبدًا !
نظـر سيفْ نظرةً خاطفـةً نحو شاهين الذي كـان متباعدًا في مشاعره عنهم، وجده بهذا الفراغِ منذُ دخـل للغرفـةِ إليه ولم يحتَج للذكـاءِ حتى يدركَ بأنّ حديثًا دارَ بينه وبين زوجتهِ أحـالهُ لهذهِ العتمـة، الأسـى، وغضبٌ ما أيضًا!
هتفَ بخفوت : شاهين ارفع المقعد شوي ضيّقت على مرتك ، ما أظـن يحتاج تخليه بهالشكل عشان تخفّف على صدرك.
لم يردّ عليهِ شاهين ولم يُبـالي بما قـال أو بكونِه فعلًا يضيقُ على أسيل، حينها رفـع سيفْ حاجبه ليهزّ رأسه بالنفيِ ويصمتْ.
في حينِ كـانت أسيل في الواقـع لا تُبـالي، ولم تهتمّ بحديثِه، بالضيقِ الذي لم تشعُر بهِ حقيقةً سوى أنّ ضيقها كـان في شعورِها بِه، وتنفّسها أســاه، وحدّةِ أنفاسِه.
وقفَ سيفْ بعدَ وقتٍ من العراكِ ضدّ الزحـام أمام منزل ام فواز، مدّت أسيلْ يدها للبـابِ ومن ثمّ فتحتـه بصمت، وجّه سيفْ نظراته إلى شاهين وهو يقطّب جبينه بغيظٍ منـه ومن عدمِ مبالاتِه، لا يدرِي أنّه الآن ، وفي هذهِ اللحظـةِ يفكّر بشيءٍ واحدِ وحسب .. لو كـانت هنـاك نسبـةُ 1% أن يعيدها إليه .. فالآن تلاشَت! تلاشَت مع غبـارِ حديثها!
ابتسمَت أسيل باهتزازْ وهي تنظُر لديما ، وبخفوت : أشوفك على خير.
ديما تنظُر نحوها ببسمةٍ وهي تلوّح بكفّها : انتبهي على نفسك وعلى أمّي ..
أومأت ومن ثمّ أغلقَت البـاب لتبتعِد، وكأنّها لم تكُن متواجدةً قُربـه، كلّ الاضطراباتِ التي جالَت في صدرِه حينَ رآها قريبةً منه غادرته الآن، كلّ الانفعـالاتِ اللذيذة، أصبحَت الآن نفورًا، وسرابًا .. لا يشعُر بلذّتها سوى أنه يريدها أن تبتعد، لا يريد أن يشعر بتواجدها خلفِه.
انتظـر سيفْ حتى دخلَت، ومن ثمّ حرّك السيـارة ليستديرَ بنظراتٍ غاضبـةٍ إليه ويصرخَ في وجهه فجأة : حيــــواااان أنت؟ صاحي والا تستهبل !!
نظـر لهُ شاهين وهو يعقدُ حاجبيه دون فهم : وش فيك؟
سيف ينظُر للطريقِ ومن ثمّ يُعيد نظراته إليه سريعًا : دامك مو قدّ الزواج ليه تزوّجت وإنت بترمي بنت الناس قبل لا تكمّل معها سنة حتى !
ارتبكَت ديما من خلفِهم لغضبِ سيف، بينما تنفّس شاهين بعمقٍ وهو يلفظ : لا ترمِي بيت الناس بالحجارة وإنت بيتك من زجاج ... ناسي إنّك مطلّق؟
سيف يعقدُ حاجبيه بغضب : مافيه وجه للمقارنـة ... استحى على وجهك!
شاهين يُشيحُ بوجههِ عنه وهو يلفُظ ببرود : وأنت لا تحاول تدخل بمواضِيع ما تفهم جوانِبها زين ... اترك عنّك حركات الحريم.
هزّ سيفْ رأسه بالنفي وهو ينظُر للأمـامِ ويتجـاهل أيّ حديثٍ قدْ يُدارُ بينهما من جديد. رنّ هاتِف شاهين فجأةً بعدَ مرورِ دقائق، رفعـه لينظُر للرقمِ الذي لم يكُن سوى رقـم متعب، اعتلا اسمه في الشاشـة، لم يغيّر اسمه حتى الآن ، لازال كمـا هو " متعب " .. ليسَ الشبيه بالاسم والصوتِ كمـا قال لأمّه ، بل هو نفسه ، متعب بعدَ أن عـادَ فجأة! ليلخبطَ مشاعره، وأيـامـه ، بلذّةِ البعثِ وأسـى الفقدِ من الجهةِ الأخرى.
لم يكُن يريد أنْ يردّ ، إن كـان سابقًا يتجاهلهُ حتى يصمتَ بنفسِه ... فالآن أغلقه في وجهه.
بينما دخَلت أسيل لغرفتِها ، كـانت تدعو الله أن لا تجِد أمها في طريقها، وحدَث ذلك، تريد أن تهربَ مباشـرةً في خلوةٍ مع نفسِها، ومن ثمّ تبكـي بقهر، بندَم ، وبانتصـارٍ حزين ... على انتصارها !
،
في بدايـات الفجر، تقلّبت على السرير، صوتٌ عنيفٌ يجيءُ من عُقر الصمت والهدوء، يضيقُ بصدرِها، يقطّب ملامِحها التي كـانت هادئةً قبل ثانيتنِ فقطْ في نومٍ هادئ، دون أحـلامْ، دون كوابيس، دون شعورٍ بالبرد والخواء! دون الشعورِ بخوفِها المعهودِ حينَ تكون وحيدة ، تلك الليلـةُ التي نامَتها في منزلِ أمّها كـانت موجعَة ، بـاردة، أرعبَت هدوءها .. كـانت خائفةً فيها أضعافَ خوفِها حينَ انفصَلت في غرفـةٍ أخـرى بعيدًا عن غرفتها معـه .. مأواها هُنـا، حيثُ كـانت منذُ شهور، حيثُ سكنَت بأمـان ... وبعيدًا هناك، في ملجأ الأحزانِ القديم، حين عـادَت صبّت الذكـريات نفسها فيها، وظلّت خائفـة! أمّا هنـا، فشعورها بمفرشِ السرير، وبرائحتـه ، كان كافيًا لأن تنامَ نومًا متواصِلًا ومشبعًا بالسكينة.
شيءٌ ما أيقظها، لم تدري ما هو، فقط وفجأةً تقلّبت وهي تعقدُ حاجبيها، قبل أن تفتحَ عينيها بهدوءٍ يعمّها ويعم المكـان، ورغـم أنها كـانت لتشعرَ فيه بأيّ صوتٍ ضئيلٍ إلا أن مسامِعها لم تنتبه للكفوفِ التي أغلقَت الخزانةَ بهدوء، ورغمَ هدوئه إلا أنه أصدر صوتًا خافتًا كان يجب أن يصلها في معمعةِ الهدوءِ هذه .. نظـر سلطـان من زاويـةِ عينيه إليها بعد شعورهِ بتحركّها فوقَ المفرش بتعابيـر جامـدة، وسرعـان ما أشـاح عينيهِ عنها دون مبالاةٍ وهو يتحرّك نحو الحمـام، بينما جلسَت غزل بحواسٍ تأهّبت حين شعرت به، اتّسعت عيناها تنظُر إليه وكأنها استوعبت مكانها، استوعَبت أنها عادَت إليه، إلى السرير الذي جمعهما قبلًا، عادَت إلى غرفته من جديد! .. لحظـة، متى نامت ومتى صارَت على سريره!
ابتلعَت ريقها، شتّت عينيها تنظُر حولها بضيـاع، لا تدري كيفَ نامت بل متى! .. كلّ ما تذكره أنّها وبعدَ حديثها الطويل مع سلطـان وبعدَ الصدامِ الذي أثقلَ عِشقها أكثـر خرجَت من الغرفـة، اتّجهت للصـالة العلويّة وبقيَت فيها تفكّر طويلًا، تفكّر بحديثهما، بحديثه، والذي انتهى بـ " وصلتِ "! ظلّت تغرقُ في معناها، ظلّت تنغمـس في توتّرٍ أخـرس، غادَرها التعبيرُ صمتًا في ومضـةِ ضيـاعٍ اتّسعت بنورِها حتى التهمتها، ظلّت لا تدري كيف كـانت تفكّر، لم تدرِي وقتها ما الحديثُ الذي صخبَ في داخِلها .. الآن فقطْ تعودُ للتفكيـر في لحظـةِ صدمتها بوجودِها هنـا، تفكيرٌ سريعٌ في عمـق ثوانٍ، وصلت إلى مـاذا! إلى السبيل الذي عبرتْ إليه ، إلى عينيه! .. وصلَت إلى ماذا؟ إلى قلبـه؟ أم ... أم ماذا تحديدًا! ... تلك التعابيـر الباردةُ انتظـرتها زمانًا كي تجيئها بحرارةِ شعورِه وجاءتها البارحـةُ وقد وُئدَت، جاءتها يا الله! ... جاءتها؟! ... اتّسعت عيناها أكثر وصدرها يرتفعُ في شهيقٍ عميقٍ نسيَ الزفير، حُشر الأكسجينُ في دمها ونسيَت إطلاقَ هوائها الملوّث، اختنـاق ، اختنـاق ... وكأن الاستيعابَ حينَ جاءها بعدَ ليلةٍ اتّكأ على رئتيها، حشـر عنقها بين كفيه، وخنقها . . يا الله! .. يا الله !!! .. كيفَ يُلهبُ صدريَ الآن وأنسى ما ، كـان بعدها؟ كيفَ يغزونِي كجيشٍ نثرت خيولهُ رمل ساحةِ المعركةِ على وجهِي ، لترسُم من لدنْه أحجيـةَ حُبٍّ لم أستطِع فكاكها، لم أستطِع والله أن أتجاوزَ صعوبتها وأعبـر لمرحلةٍ أخـرى في حياتي، كسبتهُ في حقبةٍ ما؟ كسبتُ قلبـه، عينيهِ التينِ كـانتا سبيلَ الرشـادِ ومهدَ الحضـاراتِ والتاريخ، مهدَ الحيـاةِ في عينيّ ومهدَ الوئـامِ بيني وبينَ الحبور .. هل .. هل قال فعلًا : وصلتِ؟
لا تدري كم دقيقةً مكثَت تختنق، في الحقيقةِ كـان كلّ ذلك في ثوانٍ لم تمكّنه من الوصولٍ إلى بابِ الحمـامِ وشعرتْ هيَ أنّها دقائقٌ طالت، غصّت بأنفاسِها، وفي لحظـةِ خيبةٍ وخذلانٍ شهقَت بقوّةٍ ومن ثمّ بدأت بالسُعـال، تقدّم جذعها للأمـامِ لترتفِع كفوفها إلى صدرها وتتعمّقَ في سعـالٍ مُحشرج شعرت بأنّ روحها تُلفَظ معه دون خيباتِها وآلامِها، تغادرها روحها ويبقى قلبها الذي يقتاتهُ حيـاة .. وقفَ سلطـان ليُدير رأسه إليها دون تعبير، لم يبدو شيئًا على ملامِحه وهو يراقبُ اختناقها بسعالها حتى توقّف لتتنحنحَ وهي لا تزالَ تنخفضُ بجذعها للأمامِ وتتكوّر على نفسها، تنفّست بتسارعٍ وهي ترمشُ بعينيها، تمسحُ على فمها، تمرّر لسانها على شفتيها أخيرًا ومن ثمّ ترفـع عينينِ خائبتينِ إليه، تصتدمُ بأحداقِه المُعتمـة، ترفعها نحوه ، وتعتذر! لأنّها خيّبت ظنونه، تعتذر، لنفسِها أيضًا ، تعتذر، للوصُول الذي مـات، تعتذر، لأنّ فرصتها ارتحلَت بعيدًا قبل أن تدركها ... تعتذر، لعيونه، والتي لم تصدّق حتى الآن أنها وصلت إليها.
وكأنّ سلطـان أدرك اختلاجاتِ عينيها، اعتذاراتها، خيبتها، حُزنها وانكسـارها، أمـالَ فمهُ دون إجابـةٍ لتلكَ الاعتذارات، ومن ثمّ استدارَ متجـاهلًا لها .. بكلّ برود.
أخفضَت عينيها من جديدٍ وهي تسمعُ صوتَ بابِ الحمـامِ يُغلـق، ماذا إن أثمر الحُب في صدري خيبةً؟ وماذا لو أدمـى قيدكَ معصمي؟ أدمنتُ هذا القيدَ منك يا سلطـان حتى ارتأى نسيانِي عن رغبـاتي، لا أحبّذُ تجـاوزك ولستُ فقط لا أجيده، لا أحبّذُ الصحوةَ التي تلي ليلـة أقسمتُ فيها النسيـان ولن تجيء، لا أحبّذُ حزنِي الآن رغـم كلّ هذا! يا الله يا سلطـان لو أنّ لشجرةِ اليأسِ ثمرةَ أملٍ فأقطفها؟ لو أنّ في عينيكَ دربٌ تجهلهُ يصلنِي إليكَ من جديد، لو أنّني يا سلطـان أغزوك كمـا غزوتني!
شدّت على اللحـاف، عقدَت حاجبيها، نظراتها تلتحمُ بالأسفـل بحسرةٍ وحتى الآن لازالت تكرّر كلمـاتِه ولا تصدّقها، وكأنها وصَلت للشمـس بنورِها، واستطـاعتْ لمسها دون احتـراق، لمستها، وصلت إليها، ولم تحترق إلا الآن !!!
قطّبت جبينها فجأةً وعُقدتها تتضاعف، انتبهَت لملابِسها التي كـان آخرُ عهدِها بها قبل أن تجهل كيفَ وصلت هنا تتلاشـى خلفَ عباءتها! .. متى خلعت العباءة؟ بل .. بل بالفعل متى جاءت ونامَت على السرير؟
ارتعشَت شفاهُها باضطراب، دون شعورٍ أمسكَت كفوفها بطرفِ قميصِها لترفعهُ مباشرةً وتكشِف بطنها وكأنها تتأكدُ من موضِع الحرق الذي أراد سلطان منها البارحـةَ أن تكشفه، تنفّست بانفعالٍ وهي تُلامـس بطنها وكأنها تبحثُ عن آثارٍ تدلُّ أنه عالجَ حمرتها التي اختفَت، رائحـةٌ استطاعت إدراكها الآن تدرك ماهيّتها، جعلتها تشدُّ بقوّةٍ على عينيها وتتأوّه برجفـةٍ سرَت في أوصالِها، نامَت هنـاك، في الصـالة، وأحضرها هو إلى هنـا، على سريره! ومن ثمّ خلـع عنها عباءتها، وداواها! تلك رائحـةُ مرهمٍ تُدركه !! ... لا حلّ آخـر لوصولها إلى هنا دون أن تذكر ذلك، لا حلّ آخـر لكونِها بدون عباءتها ! . . . عضّت شفتها المرتعشـةِ وهي تخفض كفيها ببطءٍ عن قميصها، تتنفّس بانفعـال، ترتبكُ حواسّها وهي تتخيّل أصابعه تمسُّ بشرتها السمراء، لتداويها ! . . اقشعرّت وهي تشدُّ على أجفانِها بقوّة، لمَ؟ لمَ؟ .. ما معنـى هذه اللا منطقية والتي يتعامـل بها معها؟ ما معنـى أن يهتم! نعـم ، أن يهتمّ بها بهذهِ الطريقـةِ حتى في نومها؟!!!
شعرت بالغصّاتِ تتوالـى على حنجرتها، تضطربُ مشاعرها أكثر، يتضاعفُ الحُزن في صدرِها أكثـر، تتمنّى البكـاءَ أكثر وتقاومـه .. لم يهتمُّ بي؟ ما معنـى هذا الاهتمـام وما معنى أن يسرقَ في منامِي مقتضـاه؟ أن يحملنـي إلى هنـا ، أن .. أن يعاملَني بنقيضِ احتقارِه وتقزّزه!
مرّت لحظـاتٌ من الضيـاعِ كانت تنظُر فيها للفراغِ بكآبـة قبل أن تنكسـر بصوتِ البـابِ الذي فتحه، انتفضَت بذعرٍ وهي ترفـع وجهها لتصتدمَ نظراتها بوجهه الذي لم ينظُر نحوها حتى وهو يمشِي باتّجاه التسريحةِ ويجفّف كفيه المبلّلتين بالمنـاديل، ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تتابعـه بنظراتٍ مرتعشـة، لم تستطِع أن تُخرسَ تساؤلاتِها، أن تصمتَ عنْ حيرتها وأن تمرّر ما هي فيه من ضيـاعٍ دون إجابات : ليه شلتني لهنا؟
وضَع العطر على التسريحةِ بعدَ أن نثـر منه وجودَه المعتـاد وشتّتها أكثر، استدارَ ببطءٍ نحوها وهو يرفعُ حاجبًا، أسندَ كفيه على طرف التسريحةِ من خلفِه وهو يجيبها باستهزاء : لا يروح ظنّك لبعيد .. شكلك كان غلط وأنتِ نايمة بالصالة.
غزل تبتلعُ ريقها وهي تشدُّ على طرفِ المفرشِ بارتباك، تشتّت عينيها عن ملامِحه وتهمسَ باختنـاق : كنت تقدر تاخذني لغرفـة ثانية مو . . .
سلطـان يقاطعها ببرود : نفس الإجابـة ، شكلك نسيتِ إن غيداء قربنا.
نظرتْ لهُ بعنف : ماهو مقنع هالسبب!
احتدّت نظراته في مزاجٍ مُلتهبٍ ظهـر لها الآن ، لم يكُن برودًا معتادًا وحسب، بل مزاجـه كـان سيئًا ولم يظهر لها هذا الشيء إلا حينَ احتدّت نظراته ليلفظَ بصوتٍ مشدودٍ رغمَ خفوته : وش قصدك ست غزل؟
شعرتْ بالرجفةِ تغزو صوتها بتردّد، لكنّها هزمَت تردّدها بثباتٍ هشّ، أن تبقَى للأبدِ هكذا، مهزوزة القوام، مكسورةُ الجنـاح، لا تضمِّد ضعفها بقوّة، لا تهزمُ هشاشتها بصلابـة، تريد أن تتغيّر! تريد أن تصير أقوى ، بطريقةٍ مـا . . . لذا تجاوزَت عن تردّدها ورجفـة صوتها الذي خرجَ إليه لافظًا بتساؤلٍ مختنق : ليه تهتم فيني؟
ابتسم، ربّما في الحقيقةِ كـادَ يضحك، لكنّه ابتسمَ فقطْ ابتسامةً مستخفة زعزعتْها بعض الشيء، أمـالَ فمهُ للأسفلِ وهو يلفظُ بنبرةٍ مسترخية : أي أنواع الاهتمام اللي قاعدة تشوفينه؟
حكّت شفتيها ببعضهما بتوتّر، يُربكها، يزعزعُ الثباتَ الذي ترتدِيه حلّةً للمكوثِ أمامه دون بكـاء : النوع اللي تمارسـه ، وش ما كان.
أخفضَ كفيه عن التسريحةِ وهو يرمقها بنظراتِه الصامتـةِ تلك، يُقيّدُ عينيها بِه، تحـاول تشتيتهما عنه ولا تقدرُ سوى على النظرِ باتّجاهِه قِبلةً لها، .. لفظَ بصوتٍ تشتـاقُ فيه صوتًا آخر، صوتًا لم تنساه وخادعها بِه البارحـةَ قبل قُبلته : لا تتأملين كثير بغبـاء .. مجرّد عادة.
ارتعشَ هدبُها لترتخِي ملامِحها دون فهم، بتوجّس! .. لم تفهم ما مضمونُ العادةِ هذه، ما معنـى أن يكون اهتمـامه عادة! ما مـدى تأثيرُ هذهِ العادة! .. خافَت من الإجابة، لذا أخفضَت نظراتها عنه، ولم تسأله! عـلى أملٍ باهت، أنّ تلك العادةَ لها عُمقٌ حمـل عاطفةً خاصّةً لهـا هي! عاطفـةً تُنعِشُ حزنها.
وكأنه يهوى قتـل أمالها الواهنة، قتـل ذرّات السعادةِ فيها ، تابَع بتحذِير : لا تتأملين .. لأن هالعادة ما لها علاقة ولو واحد بالمئة في مكانتك عندي ... مالك مكانة، حتى اللي مالهم مكانة عندي لو تعوّدت أفرّحهم بظل أفرّحهم، وأنتِ قرابة السنة تعوّدت أهتم فيك! العاداتْ حاكمـة.
شعرت بالغصّاتِ تتوالـى أكثر على حنجرتها، أغمضَت عينيها بشدّةٍ وهي تضمُّ المفـرشَ إلى صدرِها، بانكسـارٍ يتصيّد من طموحاتِها – الأكبر منها -، ويَئدها . . . همسَت بوجَعٍ دون أن تنظُر إليه : وقُربي؟
وقُربها؟ كـان في خضمِ أشهـر وسبَق اهتمـامه أيضًا ، كـانت قريبـةً منه قبل أن يبدأ بالاهتمامِ بها، وقُربها؟ .. أمـال فمهُ في ميلانٍ بارد، غير مبالِي وهو يردُّ بصوتِه ذاتِه، البعيدِ جدًا عن صوتِه! : شيء بديهي إنّي تعوّدت عليه بعد.
انقبضَ قلبها، هذهِ المرّة لم تسمـح بأمـل، لم تسمحْ أن تقعَ في مصيدةِ النشـوةِ التي حلّت على قلبها، ماذا تعنِي العادة؟ ماذا تعنِي؟ ليسَ ضروريًا فيها أن ترافقَ عاطفـةً تخصّها، العاداتُ كمـا قال، تحكِمنا، ليسَ بالمشـاعر، ولكن بكونِها صارتْ ضمنَ روتيننا المعتـاد، هل أصبحتُ إحدى معالـم " العاداتِ " وروتينًا لديه أن يهتمَّ بي، وأكون قريبةً منه! .. هل وصلتُ في النهاية إلى اعتيـاده ... المفترضُ أنها لم تسمَح للذّةِ أن تحتلّها، لكنّها فشِلت، فشِلت وهي تَعقدُ حاجبيها، وتوجّه عينيها باختلاجاتِهما الموجوعةِ إليه، العاشقـة، والتي تحتاجُ قربـه فوقَ الاعتيـاد.
بينمـا كان هو يراقبُ عينيها، نعمْ ، عـادة، صارتْ عادةً قهريّةً كأن يتّجهَ لمسحِ وجههِ صباحًا، كأن يشربُ قهوتهُ في ساعةٍ مـا من المسـاء، ككلّ العاداتِ التي يصعبُ عليهِ تركها، وجودُ امرأةٍ لأشهرٍ قربـه لا يمحِي اعتيادهُ عليها أنّه باتَ يكرهها، اعتـادَ أن يراها كلّ يوم، اعتيـادًا يجعـلأ غيابها يعني – نقصًا - ... والعاداتُ دومًا .. ليس من الضرورةِ أن ترتبطَ بمشاعر الحب والكره، لذا واليوم، حين كـانت نائمةً على سريره كـان ما حولهُ مختلفًا، وكأنه عـادَ إلى الجوّ المعتـاد، إلى المنـاخ الذي اعتادَ جسدهُ عليه وتكيّفَ فيه، رغـم أنّه كـان ينفُر حدّ أنه لم ينـمْ على السريرِ بجانِبها، لكنّ الشعورَ كـان مختلفًا ، أكثر اعتيادًا! بعكسِ تواجدِه وحيدًا حينَ كانت على بُعدِ مسافاتٍ منـه !
بقيَ يراقبُ عينيها ويرى مشاعرها التي صخبَت بسذاجةِ الحُبّ وتمكُّن الحب، لم يحاول أن يوضّح لها الوضعَ أكثر وكأنه يتلذّذُ بشعورِ أن يكسر آمالها بعدَ أن تتكوّن .. لذا انتظر حتى رأى تلك النظـراتِ الخاضعـةِ في عينيها، ومن ثمّ ابتسمَ وهو يتحرّك بخطواتِه نحوها، اضطربَت وتحفّزت عضلاتُها بربكـةِ حضوره، جلـس على طرفِ السريرِ دون أن يفقدَ ابتسامته، وضـع ساقًا على أخـرى، كـانت قريبة ، قريبةً منه، وقُربها ذاك ضاعفَ ضعفها، أردفَ بنبرةٍ مسترخيَةٍ وصوتٍ بارد : صارت عادة ... بس غير حاكمة ، أن اللي حكمتها، بس بحدود ما خلّتني أذبحها إلى الآن ، بس مو مثل ما اعتدت اهتمامي .. قُربك بذبحه وإن ما ذبحت اعتياده، بينما اهتمامِي لا صرتِ عندي بهتم غصب عني ، عشان كذا بذبح القُرب بكبره.
أغمضَت عينيها التي التهبَت بوجَعِ قلبها المذبح وتصاعَدت دماؤه المهدرةُ إلى مجرى دمعِها، أحـرق أحداقها، ورغـم كلّ مشاعـر الانكسـار فيها، رغـم حُزنها، رغـم الخيبة، همسَت دون أن تفتحَ عينيها : طلّقني ، ريّحني قبل لا تريّح عمرك.
سلطـان بسخرية : أريّحك؟ متأكدة من هالنقطة؟
فتحَت عينيها ببطءٍ لتصتدمَ بعينيه، قوّست فمها قليلًا ، ويثقةٍ زائفـة : حُبّك مو حاكِم لي، مثل ما اعتيادي ما يحكمك.
غرقَ في ضحكةٍ عميقةٍ ساخـرةٍ جعلتْ كفيها تبردان، ضحكـةٍ تمزّق قلبها أكثـر، تحطّم أضلعها، تُطيحُ بالثقـةِ الزائفةِ والثباتِ الزائف ... لفظَ بسخريةٍ وتسليـةٍ كالبارحـة، يتسلّى بتلاعبـه بها، وبمشاعرها : أثبَت لك كذبك أمـس ، أمداك ترجعين للمحاولة؟
غزل وصوتها لازال يحافظُ على ثقتِه : علميًا تصنّع الثقة يجعلها حقيقة ، عشان كذا بظلْ أحاول ، لين ما يصير التصنّع واقِع.
سلطـان بقرفٍ يقف : هالمرة مو مستعد أثبت، بس عيونك تفضحك.
رغم أنها ارتبكَت من حديثِه و " الاثبات " الذي يقصده إلا أنها رفعَت نظراتها إليه مع وقوفهِ لتلفظَ بأسـى : غريبـة ما ودّك تكذّب مشاعري مثل ما سوّيت قبل وقلت تمثيليّة بعد!
سلطـان يُميل فمه بتلذّذ : لأني أبي أصدقـها .. وأوجعك أكثر.
غزل باختنـاق : طلّقني أجـل ... عشان توجعيني أكثر.
سلطـان : لا طبعًا .. هنا فيه إمكانية تحاولين ترجعين للحيـاة ، واحتمـالية إنّك تحبّين من جديد ويروح وجعك .. وكلّه على حسابِي.
ابتسمَت ابتسامةً تتقوّس للأسفـل، ابتسامـة فقد، وانكسـار : اللي يحدنِي عن ماقاومتك هو ذنبي! بس ذنبـي .. أحبّك وهذا يضعفني ، بس الضعف أكبر لأني مُذنبة بحقّك ، وباليوم اللي أعرف فيها إنّك أخذته بقدر أصير قويّة.
سلطـان بحدّة : وقحـة يوم تتكلّمين عن الحقوق!
أسدلَت أجفانها بأسـى، في اللحظـةِ التي طُرقَ فيها البـاب والتفتَ سلطـان إليه دون أن تلتفتَ هي، إلا أنها نظـرت من زاويـةِ عينيها إليه دون أن تلفظَ شيئًا، بينما نهضَ سلطـان دون تعبيـر ليتّجه إليه، فتحهُ وهو يتوقّع أن تكون غيداءْ لكنّ من ظهرت أمامه كـانت سـالي التي أخفضت نظراتها بتوتّرٍ وهي تحمـل " قوزال " والتي ما إن فُتِح البـابُ حتى انسلّت من يدِ سـالي وركضَت للداخِل ، إلى غـزل.
ارتبكَت سالي التي مدّت يدها في بادئ الامـر لكنّها في النهايـة جذبتها وتراجعَت للخلفِ وهي تلفظ : سورِي .. ساعة فيه يزعج أنا وماما صغيرة.
عقدَ سلطـان حاجبيه بعدَ أن أدرك بأنّها تقصِد غيداء، وبهدوءٍ متساءل : غيداء صاحية؟
هزّت رأسها بالإيجـاب، بينما كـانت غزل من خلفِه تحتضِن قطّتها بعدَ أن شهقّت بسعادةٍ حين تراءت لعينيها وقفَزت إلى حُجرها ، كـانت تُزعجهما ، لأنها شعَرت بتواجُدِها! بـ حضورها قربها! اشتاقتها كما اشتاقت لها غزل ! . . ابتسمَت بسعادةٍ لم تلامـس قلبها أيـامًا، بدأت تداعِبُ شعرها وهي تضحكُ بخفوتٍ وتهتفَ بصوتٍ نسيَت فيه نفسها أمامه : يا حبيبتي ! اشتقت لك والله، وأنتِ؟ اشتقت للفضفضة والشكوى لك.
نظَر لها سلطـان في ذلك الوقتِ بصمت، بينما بدَت هي قدْ نسيتهُ تمامًا، نسيَت أنّه واقفٌ عند البـابِ ولم يخرجْ حتى الآن، نسيَت ، ولربّمـا كادَت تبدأ بالشكـوى التي تقصد، لكنّ سلطـان لم يبـالي بالانتظـار حتى تصلَه، نظـر لسالِي بجدّيةٍ ومن ثمّ لفَظ : جهّزي الفطـور.
أومأت سـالي ومن ثمّ ابتعَدت، في حينِ تحرّك سلطـان ليخـرج، أغلَق البـابَ من خلفِه ولم يفكّر حتى بأن يستمع لها، واتّجه للغرفـة التي نامَت فيها غيداء.
،
" ابعدِي عن أبوك شوي "
اتّسعتْ عينـاها بصدمـةٍ ما إن تخلخلَ ذاك الصوتُ مسامِعها، ارتعشَت أطرافها لتقفَ مباشرةً وكأنّ عقربًا لدغها، نظـر لها يوسفْ باستنكـارٍ وهو يهتف : شفيك؟
ابتلعَت ريقها وهي توجّه نظراتَها إليه، وقبل أن تلفظَ شيئًا كـان تميمْ يهتفُ بصوتٍ هادئ، بـارد، وعابِث! : لا توضحين له شيء.
أرجوان ببهوت : هاه! آآآ * ابتلعَت ريقها مرّةً أخرى لتردفَ وهي تنظُر ليوسف باضطراب * صديقتي ... صديقتي يعني.
استنكـر يوسف ربكتـها، بينما كـادتْ تشهقُ هي بعدَ أن استوعَبت أنّها أدّت ما أمرها بِه، وبطريقةٍ مثيرةٍ للشفقـة! بخوف !! ... لا ، لم تكُن خائفة! لكنّ صدمتها وربكتها جعلاها تتخبّط بهذهِ الطريقةِ التي هزمتها أمامه!
شدّت على أسنـانها بقهر، ورغـم أنها كـانت لاتزال مرتبكـةً إلا أنها ابتعدَت قليلًا عن يوسف، اتّجهت للجدارِ المقـابِل لهم في نفس الممرّ، بينما نظراتُ يوسفْ تتابعها باستنكـارِ وتوجّس ... هتفتْ بصوتٍ كـان خافتًا لا يصِل يوسف إلا أنها كـان يصلُ حادًا إلى تميم : نعم ! وش تبغى متّصل علي ومن وين جبت رقمي؟
تميم بصوتٍ مسترخي، يبتسمُ بتلاعُبٍ ويلفظ : أسأل عن أحوالك، أتطمّن عليك، وأنبّهك بس تكونين بعيدة شوي عن أبوك ، أما من وين جبت رقمك هذا بالله سؤال؟
اتّسعت عينـاها بصدمة، لم تستوعِب الوقاحـة التي يتحدّثُ بها . . بينما أردفَ تميم بصوتٍ ماكـر : بتضرّين نفسِك يوم تحـاولين ، مجرّد تحـاولين تساعدين أبوك ... لا تخليني أحطّك براسي عشان ما تتعبين!
أرجوان بغضب : أنت صاحِي ! تبيني مثلًا أتفرج على هبـالك لين ما تضرّ أبوي؟
تميم : تبين تصيرين بالقائمة؟
أرجوان : أعلى ما بخيلك أركبه.
أغلقَت مباشـرةً بغضب، تشتعـل عينيها بحرارةِ القهر، لم تلتفِت إلى والدها وهي تقضِم من نفسِها سكونها، كيفَ وصلَ إلى رقمها؟ كيفَ يراها وأدرك وضعها؟ كيفَ يتجرّأ بكل وقاحـةٍ أن يقول لها " ابعدي عن أبوك "؟ أمـالتْ فمها بقرف، رغبـةٌ تحثّها على الاتجـاهِ لوالدها كيْ تخبره بكلّ شيء، وتنقذُه من مكرِه ، رغبـةٌ تخشى أن لا تكون إنقاذًا بل عمليّةَ اغتيـالٍ غير مباشرة! . . كيفَ إذن قد تتصرّف؟
تحرّكت وهي تبتلعُ ريقها بقهر، عـادتْ حيثُ كـانت تجلسُ بجانِب يوسف الذي لفظَ بهدوءٍ بعدَ جلوسِها، بهدوءٍ قرأت فيه الشك : منتِ على بعضك.
ابتسمَت وهي تُريحُ كفّيها على ركبتيها، ودون أن تنظُر إليه هتفت : ما فيني شيء بس اللي متّصلة مروى واشتقت لها.
أومأ دون اقتنـاعٍ وهو يُدير رأسه عنها إلى جيهـان التي خرجَت من بـابِ مكتبِ الطبيبـة لتبتسِم ابتسامـةً واهيـة وهي تلفظْ : خلصنا.
،
أثنـاءَ عودتِهم جاءها اتّصـالٌ منه من جديد، اتّصالٌ جعلها متفاجئةً أكثـر من وقاحته، ماذا كـانت تظنُّ من رجُلِ عصاباتٍ كهذا؟ .. يا الله ماهذا الجنونُ الذي تعيشه! ما هذا الجنونُ الذي صُوّرَ لها في قصّةٍ كهذِه، أن يسقطوا في دهاليـزِ خطرٍ كهذا !!
أغلقَت هاتِفها بقهرٍ وهي تخشـى أنْ يتّصلَ بها من جديد، انتبهَت لنظرات يوسفْ الذي كـان ينظُر لها باستنكـار، خافَت أن يدركَ شيئًا، لا تدري كيفَ قد يدرك ذلك لكنّها خافَت .. أشاحَت نظراتها عنه لتنظُر للأمـامِ بربكـة، لم تنظُر سوى لفراغٍ رأتـه فيه وجعلها تتوقّفُ منتفضَةً بذعرٍ مفاجئ !
توقّف يوسف بقلقٍ وهو ينظُر نحوها : أرجوان شفيك؟!
ابتلعَت ريقها وهي تُغمـض عينيها بقوّة، لا يعقـل أن اضطرابِ عقلها بدأ يصوّره لها؟! . . تنفّست بانفعـالٍ يرتفـع فيهِ صدرها وينخفِض بشدّة، وبصوتٍ مكبوت : مافيني شيء.
يوسف : لا فيك شيء .. منتِ على طبيعتك .. تعبانة؟
وجَدت نفسها تنغمـس أكثر في تلك الكذبـة رغمًا عنها : شويْ.
اقتربَ منها يوسُف ليُحيطَ كتفيها بحنانٍ ويقرّبها من صدرِه وهو يهمـس : ما تشوفين شرْ حبيبتي ... شوي ونوصل وبترتاحين وقتها.
شعرتْ بالاختنـاق لتبتلـع ريقها، تخيّلت فجأةً أن يُصيبهُ شيء! بـاتَ ذلك هاجِسها في الساعاتِ الطويلةِ السابقـة، في الأيـام التي تلَت صدامها الأول بتميم، أن تفقدَه! يعنِي أن تفقَد الدافـع لتبتسمَ للحيـاة.
اقتربوا من الحيْ الذي بدا مزدحمًا أكثـر من المعتـاد، عقدَ يوسف حاجبيه باستنكـارٍ وهو يلحظُ تجمّعًا كثيفًا أمـام المبنـى، اقتربَ باستنكـارٍ ليتبيّن لعينيهِ أشخـاصٌ يرتدون لبـاس الشرطـة، سياراتٌ ميّزها جيدًا ، يُحيطُون المبنـى بشريطٍ يمنـع أيّ أحدٍ من الدخول.
لفظَت جيهان باستغرابٍ وهي تعقدُ حاجبيها : بسم الله وش صاير!
يوسفْ يبتعدُ قليلًا عن أرجوان ليتحرّك بخطواتٍ أسرعَ وهو يهتِفُ بتحذير : خلوكم قريبين .. بتأكد من اللي يصير وبرجع.
أومأت جيهان بينما نظـرت أرجوانْ إلى ليـانْ بتوجسٍ وخوف، أمسكَت بيدها لتلفظَ بقلق : خليك ماسكة بيدّي.
ليان بفضول : طيب وش صار؟
أرجوان : ما أدري اتركي الأسئلة لبعدين.
جيهان بفضول : شكلها جريمـة قتل أو سرقـة أو شيء من هالكلام.
أرجوان تنظُر نحو التجمّع بقلقٍ وقلبها تشعُر أنّه ينقبِض وكأنها تخشـى أن يكون معلّقًا بِهم ، كيف؟ لا تعلـم .. فقط تشعُر بالخوف، بأنّه قد يكون لذلك الرجُل يدًا ! لفظَت وهي تعانِق خصرها بذراعِ يدِها المتحرّرة من يدِ ليـان : أكيد إنّها جريمـة ، ما يبيلها.
جيهان تحكُّ بكفّها على عضدِها، تشعُر ببردٍ تخلخلَ عظامَها ، بضجرٍ وبرودٍ هتفَت : عسى تتورّط فيها بأي شكل.
نظـرت لها أرجوان باستنكـارٍ وهي تعقدُ حاجبيها : مين تقصدين.
جيهان ببرودٍ دون أن تنظُر باتّجاهها : محد.
اشتعلَت نظراتُ أرجوان فجأةً بغضبٍ بعدَ أن فهمَت قصدها، نبرتها وهي تقولها رغـم برودِها إلا أنها كـانت حاقدَة بطريقةٍ باهتـة، ورغـم بهوتِها واضحة ! : صاحيـة أنتِ! تدعين على البنت تتورّط بجرائم وما أدري وشو؟! .. حتى لو حاقدة عليها ترى ما يسوى !
جيهان بضجر : خلاص يا كلمـة ردّي مكانك الله ياخذها وياخذه هو معها.
أرجوان بسخريـة : تكذبِين على نفسك وإلا لو إنّ الجريمة الحاليـة قتل وهو المقتول بتموتين وراه.
جيهان : يخسي الخاين.
أرجوان : هيّن.
تحرّكت بقهرٍ مُفاجئٍ حاولَت أن تظهر في ملامِحها البرودَ بعكسِه ليعتلي صوتُ أرجوان من خلفِها باعتـراض : جوووووج ! أبوي وش قايل !!
تجاهلتها لتقتربَ من الجموع، وكلمـاتُها اليوم مع الطبيبةِ تصبُّ في أذنها معدنًا مذابًا يحرِقها ، يحرِقها بأقصـى ما يُمكن! .. كلمـاتها أثارتْ في قلبـها كلّ معالـم الحقدِ عليه ، أنـا يفعلُ بي كلّ ذلك! أخسرُ بسببِه تحدّي الغضب، أبدو ضعيفةً أمامها، عاشقـة! ولمـن ! لخائِنٍ مثلـه !!
اقتربَت من جموعِ الناسِ دون أن تبـالي بحدِيثِ أرجوان ودون أن تبـالي بالغضبِ إن صبّ من والدِها كلمـاتٍ حادّةٍ إليها، تدرك أنّها باتت تتمرّد كثيرًا في هذهِ الأيـامِ عليه لكنّها تريد أن تفرّغ، تريدُ بطريقةٍ ما أن تفرّغ بعدَ أن عادَت لتتقوقَع أمـام الطبيبـة، بعدَ أن عادَت اليومَ للكتمِ وكأنها تدخُل إليها كأوّل يومٍ جاءتها.
دخلَت بينَ النـاسِ ولم تبـالي إن كـانت قد اصتدمَت بامرأةٍ أو رجـل، وقفَت في الأمـامِ بعدَ جُهدٍ لتقفَ مباشـرةً أمـام الحاجِز الذي يمنعها من المتـابعة، الكثيرُ من رجـالِ الشرطـة، الكثير من الأضواءِ المزعجـة، والكثيرُ من الأصواتِ التي كـانت تتداخَلُ في أذنيها وتُصيبها بالصـداع .. يرتفـعُ صدرها بقهرٍ وينخفضُ بألـمْ ، تريد أن تبكِي، ولا تريد، تريد أن تصرخ، ولا تريد ، أن أظهـر بضعفٍ أكثـر يعنِي المزيدَ من الفشـل أمامه ومن انتصاراتِ حبّه ، يعنِي أنّه أقـوى، رغمَ كونِي أدرك أنّ حبّه لـي أكبر إلا أن قوّته كذلك أكبـر ، أم أنه فقطْ تجاوزنِي! تجـاوزني وحسب ! ...
تقوّس فمها في بؤسٍ وجسدها يقشعرُّ ما إن شعرتْ بكفٍّ تُمسكها من خصرها لتعيدها للخلفِ وصوتُ جاءها محذّرًا بلغـةٍ فرنسيّةٍ ولكنةٍ مزعجـة : ابتعدِي يا فتـاة .. مكانُك خاطئ.
نظرت لهُ بانزعاجٍ وهي تلتوِي بجسدها ليُبعدَ كفّه التي أصابتها بالقشعريرة، تحرّكت خطواتٍ تبتعدُ بها عنه جانبًا وهي تلفّظ للرجُل بضيق : تستطِيع أن تقولها لي دون أن تلمسنـي ... وقح!
عادَ هذهِ المرّة يُمسكُ كفّها وهو يبتسِم بوقاحـة، حينها انفعلَت ملامِحها لتصفعَ يدهُ ومن ثمّ تتحرّك مبتعدّةً كيْ تغادِر الجموعَ هذهِ المرّة . . . ورغمًا عنها، سقطَت دموعها في ذلك الوقت، كـانت تقاومها، لكنّها الآن وكأنّ لمستـه تلك دغدغَت مقلتيها أكثر ، فبكَت !
اصتدامُها بالأجسـادِ كـان يُبكيها أكثر، لا تدرِي لمَ، لكنّها كـانت فقط تبكِي وتمسحُ دمعها حتى خرجَت من التجمهـر الكثيف، كـان خروجها من جهةٍ أخـرى غير التي دخلَت منها، لذا لم تصتدِم بها أعيُن أرجوان التي كـانت تهزُّ ساقيها بغضبٍ منها تنتظِر عودتها.
تحرّكتْ بساقينِ مرتعشتينِ مبتعدّةً عن ضجيجِ النـاس لتتوقّف أخيرًا على بُعدٍ ليسَ بكثيفٍ عنهم، تنفّست بعنفٍ ومن ثمّ بدأت تمسَحُ على وجهها كامـلًا محاولـةً أن تدسَّ حـالةَ الحُزن التي واجهَتها الآن وحالـة الضعفِ خلفَ قنـاعٍ زائفٍ من الثبـات.
وفي تلك اللحظـةِ اقتربَت منها خطواتُه ليتوقّف خلفَها مباشـرةً ويلفظَ بصوتٍ حادٍ جعلها ترتعـش بصدمـة : وين عمي يوسف؟
رمشَت بعينيها مرارًا وتكرارًا وهي تتنفّس بانفعـال، هاجَمها صوتُه الآن مستفزًّا حالـةَ الضعفِ التي كـانت تعانِي منها وقتذاك، لذا لم تستدِر إليه وبقيَت تتنفّس بانفعـالٍ تخافُ أن يرى أحزانِها إن التفتت.
رفـع فوازْ حاجِبه بغضب، عينـاهُ كـانتا قد رأتها منذُ اللحظـةِ التي أمسكَ فيها ذلك الرجُل يدها وحتى خروجها بين الناس لتصتدمَ بالأجسادِ دون أن تبالي بذلك، تشتعلانِ بنارِ غضب، تمنَى لو كـان يستطِيع سحقَ عنقه بعدَ أن يحطّم أصابعه التي تجرأت على لمسـها، لا يدرِي كيفَ استطـاع في ذلك الوقتِ أن يسيطرَ على أعصابِه ولا يفعلـها، وفقط تبعها بنيرانِه المتأجّجة.
لفظَ بصوتٍ مشدودٍ كالأوتـار : أدري إنّك تبكين .. لا تحاولين تسترين ضعفك عنّي وأنا أكثر شخص يفهمك ... التفتي.
أغمضَت عينيها بقوّة، تنفست بحدّةٍ وهي تعضُّ شفتها السُفلـى قبل أن ترخيها وترخي معها كآبـةَ ملامِحها، ومن ثمّ تستديرَ ببطءٍ إليـه ، تواجِهه ، تنـاظِر الغضَب في أحداقِه، الرغبـة الكامنـةَ في قتلِها، تُنـاظِر بوجهها حلّةَ الحدّة ، وتغيبُ عن عينـاها عاطفـةُ الشوق التي لم يشعُر هو بها حتّى من شدّةِ غضبه!
مرّرت لسـانها على شفتيها وهي ترفـع وجهها المُحمرّ بحُزنها الذي يدركهُ وبحالـةِ البكـاءِ الذي يعلـم مقدّمـاتهِ وآثـارِه من بعد رحيله، ذقنها ارتفعَ بكبرياءٍ اتّسَم في صوتِها صلبًا ساخرًا : أستر ضعفي؟ اللي تظنّه فيك؟!
فواز دون أن ترقّ ملامِحه أو أن تظهر بوادِر السخرية فيه والتي تمكّنت من صوتِه الغاضب : ما أظـن .. أدري بهالشيء لأنه ما يحـتاج ظن وشكّ.
كـادتْ في تلك اللحظـةِ أن تصـرخ، أن تضربـه، أن تصفعهُ بغضبِها وخيبتِها، كـادت أن تظهـر ضعفها دون أن تحـاول ستره بشفافيّةٍ يراها من خلفِ ستارِها، كـانت لتظهرهُ له مباشرةً دون أن تحـاولَ تكذيبـه .. كـان فقط ينقصها الآن أن ترى عينيه! أن تستشعِر حضورَه قُربها، كـان فقطْ ينقصها أن تمسَّ من عينيهِ شوقها إليه، أن تنعكـس صورتها في أحداقِه .. وتشتاقهُ أكثـر!
لفظَت بسخريةٍ مريرةٍ من نفسها قبل أن يكون منـه : ضعفي عشان نفسي .. مو لك ... لا تطمحْ بالمستحيلات.
فواز وقد ابتسـم هذهِ المرّة ابتسامـةً باردة، جـامدة، متصلّبةً دون تعبيـر : المستحيلات عيونك وقربك ... بس مشاعرك، وضعفك لـي، وشوقك لي .. ماهي من ضمنها.
تشنّجَ فكّها وتصلّبت حنجرتها بكلمـاتِ التكذِيب، ظلّت تنظُر لهُ بعينيها اللتين كـان فيها حُمرةٌ تُخبـره عن ملوحةِ الدمـع الذي انسكَب قبـل لحظـات، ملامِحها المحمرّةُ تفضـح بُكـاءها، ملامِحها المحمرّة ، والتي اشتـاق لحظـاتِ توسّدها على صدرِه بتشكِّي، أنفاسُها حينَ تتخلخلُ قميصَه لتصلَ إلى جلدِه بحرارتها فتذيبُ قلبه بعدَ أن تخترقَ مساماتِه ... هو غاضِبٌ منها الآن! غاضِب!! ولا يريدُ إطلاقًا أن يستشعِر شوقه، غاضِبٌ منها على وقاحتها في تخلخلِ الأجسـاد، على لمـس تلك الكفّ لجسدها، غاضِب ويشتـاق! .. ترسّبَ شوقهُ أخيرًا على ملامِحه، ككلّ مرة، ككلّ مرةٍ يراها ولا يستطِيع أن يتغلّب على مشـاعره ، ككلّ مـرة ، يراها ويشعر بأنّ حبها يتضاعف، بعكسِ ما يريد!
تنفّس بغضبٍ وهو يعقدُ حاجبيه، كـان ردّها هو أن تصمتَ وتتقوقعَ على خيباتِها، كـان ردّها أن تنظُر لهُ بصلابةٍ كـاذبةٍ افتضَحت حُمرةُ ملامِحها كذِبَه . . . لفظَ بنبرةٍ متسائلةٍ بغضب، برغبـةٍ في قتلها! : فيه بنت محترمـة تدخـل بين تجمهر ؟ تعرّض نفسها للموقف الدنيء اللي من شوي!!
رفعَت حاجبيها في بادئ الأمـر دون استيعاب، وبتمهّلٍ استوعبَت لتتّسِعَ عيناها، شعرتْ بالحـرجِ لأنه رأى، لكنّها رغمَ ذلك صدّت عنه وهي تكشّر بملامِحها وتلفظَ بسخرية : ومين حضرتك عشان تحاسبني! مالك دخـل فيني.
فواز يقتربُ بخطوةٍ غاضبـةٍ منها : أنا ولد عمّك .. وبكسر راسك لو أشوف منّك هالحركات الغبيّة مرة ثانية.
جيهان تنظُر لهُ باحتقارٍ من أسفله إلى أعلاه ، وباعتلاء : تكسر راسي! إنت مصدّق سخافـة ولد العم هذي! .. هالكلمـة تمارسها على أرجوان وليان مو عليْ .. كونك كنت زوجي وتطلقنا فأنت فقدت معنى هالكلمـة بعد .. لا تضحك على نفسك.
فواز بوعيد : جيهان . . .
قاطعته بعنف : ولا تقول اسمـي على لسانك الخائن.
ابتسمَ بسخريةٍ وهو يرفـع حاجبهُ الأيسـر باستخفاف، وبصوتٍ ماكر : وش قالت لك؟
اضطربَت قليلًا وكأنها فهمَت قصده، شتّت عينيها عنه لتهتفَ بصوتٍ حاولَت جعله يثبتُ عن رعشـةِ الاضطرابِ ولم تستطِع : شقصدك؟
فواز باستهزاء : فاهمـة قصدي .. وش قالت لك جنان؟
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، كـان ظهورُ اسمها بينهما ومن شفاهِه وبصوتِه ذا وقعٍ موجِع ، أن ينطُق اسمها بطريقةٍ مباشـرةٍ اعتـادها، أن يقولها وتقرأ فيها حُبًا يغرسـه الشيطـانُ في نبرتِه ويستفزّها أكثـر، تصنَعُ تلك النبـرةَ من العدم، تصنعها من قهرها وغيظِها ومن شيطـانِ الحُب والتملّك الذي يوسوسُ لها حبّه لسواها. هتفَت بنبرةٍ لم تستطِع أن تُخفِي منها انفعالها : وش قالت؟
فواز يبتسِم رغمًا عنه بانتصـار، ورغمَ كونِه كـان غاضبًا من جنان وممّا فعلته إلا أنّ نتائجها الآن ظهرت لهُ في اعترافٍ صامتٍ منها على مدَى تأثيرهِ فيها : كنتِ تقولين لـي مهما ظلّ حبك لي فيك للحين بتقدرين تبدأين من جديد .. وتتجاوزيني ، ليه أحس صوتك الحين يكذِّبك!
شعرتْ بجفافٍ في حلقها صبّ في عينيها تمزّقًا وجرحًا أكبـر ، هتفَت بصوتٍ مغمورٍ في بهوتِها : واهِم !
فواز : مهما كـان اللي قالته لك لا تاخذينه بعين الاعتبـار ... ما طلّقتك وأنا أفكر برجعتك لي.
ابتسمَت ابتسامةً مهتزّة، كـانت تسخَرُ فيها منـها، كـانت ابتسـامةَ ساخرةً بفشَل! .. كـانت خائبة! خائبـة! .. إن كـانت رأت في كلامِها كذبًا لتُبعدَها عن فواز وحسبْ فحديثُه الآن كـان كاللكمـةِ إلى صدرِها، أوجعتها بقوّة ، أصابَت قلبها في مقتَل! ... كـانت ابتسامـةً منكسِرةَ الكبـرياء، متعاليـة، تتصنّع فيها أنها لا تهتم، وأنها هي بذاتِها .. لا تفكّر بِه ، لا تفكّر بمسألةِ العودة، لا تفكّر بأن تشتــاقه وتطمـح من بعدِ حدِيث جنان أن تعود !
لفظَت بصوتٍ سمعته قويًّا، ساخرًا، متمكّنًا من لحظـةِ الاهتزازِ فيها، صوتًا ثابتًا لا يهتزّ ، خدعها ، وكـان في الحقيقةِ مختنقًا، موجوعًا ، سمعَه هو بوضوحٍ ليعقدَ حاجبيه حينَ استقبله : إنت تفكّر إني طمعانة برجعتي لك وبنبسط بكلامها؟ واهــم .. للمرّة المليون واهم وغبي!
صمتَ للحظـتينِ دون تعبيرٍ وكأنه يترجِم صوتها، يُعيدُ تدويرهُ في مسامِعه، يسمعهُ من جديد ، ليبتسـم أخيرًا ... ويهتف بتملّكٍ أعمـى : سألتك قبل وما جاوبتي .... اشتقتِ لي؟
،
وفي جهةٍ أخـرى، عقدَ يوسف حاجبيه بعدَ سماعِه لما قِيل له، استفسـر عمّا يحدُث واكتشفَ أنّ حارِس المبنـى قد انتحر! .. رمـى بجسدِه من السطحِ وانتحر !! . . مرّر لسـانه على شفتيه باستنكـار، شعرَ بقليلٍ من الضيقِ وهو يبتعِد، كيفَ لذلك العجوزِ الذي كـان يرى فيه الوقارَ وحبَّ الحيـاةِ أن ينتحِر؟ لا يُعقــل !!
وصـل إلى حيثُ كـان واقفًا معهن، عقدَ حاجبيه فجأةً حين وجَد المكـان فارغًا، التفتَ بعينيهِ يتأكّد، ربّما كـان مُخطِئًا بالمكـان ، أو . . . .
مرّ على ملامِحه قلقٌ عنيفٌ وهو يبحثُ بعينيه، تحرّك بخطواتٍ سريعـة، لا يرى إحداهنّ! لم يخطئ بالمكـان، نعم يدرك أنّهن كـنّ واقفـاتٌ هنـا ... لمْ . . .
توقّف فجأةً بصدمةٍ وهو يلمـح من قريبْ جيهان ، تقفُ مع فواز من جديد ، ولربّما لمراتٍ كثيرةٍ لا يُدركها . . .
.
.
.
ضمّت ليـان بقوّةٍ إلى صدرِها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تدفَن وجهها فيها ، وتهمسُ باختنـاقٍ لا تدري كيفَ تقولُ تلك الكلمـاتَ بثباتٍ رغمَ أنّها خائفة، لا تدري كيفَ كـانت لا تهتزُّ كارتعاشاتِ قلبها : رح تكونين بخير .. راح نكون كلنا بخير.
،
: الرجّال ما يبدّل كلمتـه.
نظـر لها من زاويـةِ عينيه بطريقةٍ أرعبتها ، رفـع حاجبـه وهو يبتسـم ببرودٍ ساخِر، ابتسامةً كـانت تحمل من خلفِها وعيدًا جارفًا : صح ، الرجاجيل بعيونك اللي يروحون للحـرام ، أمثال اللي أرخصتِ عمرك له.
،
عقدَ حاجبيه فجأة، اعتلَت على ملامِحه نظـرةُ الاستنكـار، ما بـاله لا ينظُر إليه؟ يُشيح نظراته عنه منذُ البدايـةِ وكأنه لا يريد النظر إلى وجهه!
متعب : شاهين! .. شفيك؟ ليه قاعد تبعِد عيونك عني!
انــتــهــى
حِرصت إنّه ما يكون فيه قفلات قويّة ،عسى بس أفلحت
اللي دايِم يوصّوني بظهور سلمان ، أدهم ، إليـن ... الخ . . . صعبة أظهرهم بغير وقتهم!
+ نلتقي إن شاء الله بعد أسبوعين ، بحدّد لكم اليوم بالضبط بعدهم ، " نزلت هالبارت وحاولت أجتهد فيه بنيّة اسعادكم، وبنيّة إن هالسعادة تكون عمل صالح أدعي فيه لي بالتوفيق بالميد " يا رب عاد يفرّحكم ، ودعواتكم لي ()
ودمتم بخير : كَيــدْ !
|