كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(٨٢)*٣
في وقتٍ ســابق . .
" لييييه؟ "
قالتها بِعنف صاحبتـهُ نبرةُ الاعتراضِ وعدم الرضُوخ، نظـرت لها تلك باستنكار، تعقدُ حاجبيها، لا تعقـل تلك المرحلـة التي وصَلت إليها من التمرّد؟
لفظَت بغضبٍ مكبوت : غيداء! وبعدين معك؟ من متى صايرة ترفعين صوتك عليْ بهالشكل!
غيداء تقطِّبُ جبينها وصدرها ينخفضُ قليلًا في زفيرٍ هادئٍ بعد أن غيّبت انفعالاتِها قليلًا، رمقتْها بنظراتٍ غريبةٍ سُرعان ما أشاحتها عنها وهي تعضُّ شفتها السُفلى.
بينما أردفت أم عناد بغضبٍ وهي تجعّد ملامحها : وبعدين ليه ما تبين تروحين لها إلا اليوم؟ لأن عناد مسافر؟
أمالت غيداء شفتها السُفلـى بضجر ، أعادتْ نظراتها نحوها لتعقدَ حاجبيها وتلفظَ أخيرًا بخفوتٍ وكبتْ : كنت بروح عندها اليوم حتى لو عناد موجود .. يعني ما يفرق ولا بسكت خوف لأني مو قاعدة أسوّي شيء غلط..
امها بحزم : كذّابة! كنتِ منتظرة فرصـة مثل هذي عشان تطلعين لأنك عارفة إن عناد ما راح يرضى بصحبتِك لها.
تكتّفت غيداء بتمرّدٍ وهي تقفُ أمامها مباشـرة بينما أمها جالسـة على الأريكـة الطوبيّةِ في غرفـة الجلوس ، وبحنق : شفيها صحبتها؟ ولا شيء ! .. عناد مكبّر الموضوع البنت حليلة وما تستاهل كرهكم لها.
ام عناد بغضب تكبتهُ وملامحها تتجعّد أكثـر ، لا تتخيّل مدى التمرّد الذي وصَلت إليه حدّ أن تصِل لاعتراضِ حديثها وحديثِ عناد بل تحدّيهما فيه! .. لفظَت وهي تقفُ بشكلٍ حازم : آخر كلام .. منتِ رايحة لها.
غيداء تضربُ بقدمها في الأرض وهي تقوّس فمها : لييييييييه؟!
ام عناد بحزم : لأني ما أبيك تروحين لها وبس! من عرفتيها صايرة متمردة وأنا ساكتة وأغطّي عليك .. لو درى عناد بيزعل.
غيداء : يزعـل ، ما يهمني !
ام عناد بصدمة : نعم !!!
غيداء بقهر : أيه ما عاد يهمني .. أصلًا هو ما يهتم فيني عن حُب .. هو بس يبي يتحكّم فيني ويمشيني على كيفه بدليل كان يمنعني أحكِي مع سارة بس لأنه يشوفها شينة! وأنا من عرفتها زين وأنا أشوفها ومظلومة وعارفـة إنّه بس يبي يتحكّم فيني ويتكلم عنها وبس!
ام عناد بنبرةٍ مصدومةٍ وغاضبة : غيداء !!!
غيداء تنفجِر بدموعٍ مفاجئة : ما تحبوني ! هي بس اللي تحبني وتحاتيني ، أنتوا أصلًا من يوم الحريق اللي صار ببيت سلطان صرتوا تكرهوني .. من يومتها وأنا ما شفت خير !
اتّسعت عينـا أمها بصدمـة ، في بادِئ الأمـر تجمّدت دون استيعابٍ لمـا قالته ، لم تتمكّن من الاستفاقـةِ من لحظـةِ الصدمةِ إلا في اللحظـةِ التي كانت فيها غيداء تبتعدُ عنها وتبكِي بقهر ، هل فعـلًا قالت ما سمعَت أم أنها تخيّلت ذلك!
تراجـع ظهرها للخلفِ بعدَ أن جلست لتلتحمَ بظهرِ الأريكـةِ وهي توسّعُ عينيها دون تصديق، بصدمـة ، وكأنّ كوبَ ماءٍ مُثلّجٍ انقلبَ على فوّهتِه ليسقطَ فوق رأسها مباشـرة ، كـانت دائمًا ما تُخفِي على عناد تمرّدها ظنًّا أنها مرحـلةٌ عمريّةٌ سرعـان ما ستذهبُ في مهبِّ السنينِ القادمـة ، كلّما قلقَ بشأنها أخبرته أنها تحتويها بنفسِها ، وأنّ حديثهُ معها عن ذلك الموضوعِ المُغبِر والذي بقيَ واضحًا في عقلها رغـم الأشهـر لن يقومَ سوى بإحرجها وجعلها تنطوي أكثـر ! تتعذّر بعُمـرها الذي ازدادَ عامًا وبلوغها، وأنّها تحتويها كمـا يجب، بما يكفِي ليجعـل ما حدَث لها سابقًا واضحًا وفي ذاتِ اللحظـةِ لا يضرّها!!
لا يُعقـل! إن كـانت ترى أنّهم يكرهونها للحادثةِ القديمـة ، فما الذي بقيَ لم تعلمـه عن أفكـارها؟
أفرجَت شفتيها باضطراب، كفّها ارتفعَت لتستقرّ على فكّها الأيمـن بربكـة ، لا تدرِي ما الذي يجبُ عليها فعله ، لكنّها وقفَت بتلقائيّةٍ لتتحرّك أقدامها مباشـرةً نحو الأعلـى ، تستهدِف غرفتها، تسيرُ إليها بربكـةِ عقلها الذي تشوّش ، ورغمًا عنها تمنّت لو أن عنـاد هنا! لكـان سيتصرّف بطريقةٍ صحيحةٍ بالتأكيد.
وقفَت أمام غرفتها، وقبل أن تطرق الباب أو حتى تفتحـه كان صوتُ غيداءْ يصِلها بنحيبٍ باكٍ ونبرةٍ مقهورةٍ تشتكِي بها أحدًا : رفضت ! .. تخيلي رفضت ، كنت حاسّة أصلًا . . . . * بصوتٍ ارتبكَ بعض الشيء * مدري وش السبب . . . لا لا مو عن كذا بس هي رافضة أطلـع . .
هل تكلّم تلك الفتـاة؟ قطّبت جبينها قليلًا بشكّ، لا تظنّ أنها ستكُون فتـاةً غيرها .. سارة!! . . انعقدَت حواجِبلها دون رضا ، ودون أن تطرق الباب امتدّت يدُها لتفتحـه وتدخــل في اللحظـةِ التي انتفضَت فيها غيداء واقفـةً من على سريرها وهي تنظُر نحوها باستنكار : ماما !!
أشارت لها أمها أن تُغلق الهاتِف ، حينها اضطربَت غيداء وهي ترفـع كفّها الأخـرى والمتحرّرةِ منه، مسحَت دموعها من خديْها وهي تلفظُ بضيق : بتّصل عليك بعدين سارة.
أغلقَت بعد سماعِها لوداعِها لتخفـض هاتِفها وهي تنظُر لها دون رضـا ، وبنبرةٍ مبحوحة : وش تبين؟
ام عناد : هذا أسلوب تكلميني فيه؟
غيداء بكبت : افف !
ام عناد بحدة : غيداء وبعدين معك !!! سكت كثير عشان نفسيتك وما حبيت عناد يدري عن تمرّدك هذا . . .
اقتربَت منها وملامحها ترقُّ تدريجيًا وينسكبُ فيها حنـانُ رقراقٌ شاركَ صوتها أيضًا : شفيك حبيبتي؟ وش اللي مضايقك ومغيّرك كذا؟ علمينـي كل شيء أنا أمك وبكون جنبك.
ارتبكَت غيداء، تجمّدت ملامحها ونظراتها استنكـرت قليلًا ما تقوله ، استنكرَت بطريقةٍ أوجعت أمّها !
أردفت ام عناد : إذا ما كنت جنبك مين بيكون؟ تدرين إنّي أخاف عليك وأبـي مصلحتك!
غيداء وملامحها الجامـدة ترتخِي ، كـانت قد عقدَت حاجبيها باستنكـار ، ترمقها باستهجـانٍ ونفورٍ وكأنها لا تريد أن تقتنـع !! . . هتفَت بنبرةٍ متهدّجة : تبين راحتي؟
امها وقد اقتربَت منها حتى وقفَت أمامها، وبعتب : هذا يبيله سؤال؟
غيداء : بروح لسـارة أجل!
أردفَت بانفعـالٍ ما إن رأت ملامحَ أمّها تتصلّب : والله والله والله ماهي شينة ولا هي مثل ما تتصورون .. حرام تظلمونها !
ام عناد بحزمٍ واعتراضٍ واضِح : غــــيداء !
غيداء باختنـاقٍ وهي تشدّد على نبرتها وكلماتها وهي تقف : حرام عليكم أنتوا ليش كذا؟ ... مالي شغل بروح لها يعنِي بروح ... كل مرة تعزمني أرفض عشان الأخْ عنـاد والحين تقولين لي لا !!!
ام عناد بحزم : لا عاد تتكلمين عن أخوك بهالشكل! وش اللي صار لك ما كنتِ كذا !!
غيداء بعنـادٍ يشتدّ : بروح !
امها ورغـم أنها غضبَت من عنادها إلا أن كلماتِ غيداء التي سمعتها منها قبل دقائق منعتها من أن تبرزَ غضبها في صوتِها ، لذا عقدَت حاجبيها وهي تلفظُ بنبرةٍ ناعمـة : غيداء حبيبتي ، احنا ما نرفض عشاننا نبي نقيّدك بالبيت أو نضيّق عليك! .. الموضوع إنّ هالبنت ماهي زينة ،
غيداء بوجهٍ يمتقعُ ومن عينيها نظرةُ اعتـراض : لأنها أكبر منّي؟
ام عناد : لا مو هذا السبب . .
قاطعتها غيداء باستهجان : لأنكم تشوفون أخلاقها شينة !!! ليه وش مسوية علموني وش فيها وما شفته؟
تنهّدت أم عنـاد بصبر : بعدِك صغيرة على هالكلام .. ابعدِي عنها وبس.
غيداء تلوي فمها بتمرّد : مو ذابحني إلا شوفتكم لي إنّي صغيرة . . . وإذا قلت لا !!!
ام عناد : لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
غيداء : بروح عندها .. إذا ما عندك عذر مقنـع.
ام عناد وقد فقدَت صبرها منها ، لم تجِد سوى الحلّ الوحيدُ والسيء في ذاتِ الوقتِ إلا أنه أفضـل من أن تذهبَ إليها : خليها تجي .. بس منتِ رايحة لها.
صمتت غيداء في بادئ الأمـر دون استيعاب، الوقتِ الذي ظلّت تتواصـل فيها معها في نهاياتِ العامِ السابِق للدراسـة حتى الآن لم تزُر إحداهما الأخـرى وكانت علاقتهما تُصبـح متينةً يومًا بعدَ يومٍ دون أن تريا بعضهما كثيرًا ، بالتأكيد بسبب ظنونِ عائلتها لم تكُن لتستطِيع إحداهما أن تزور الأخرى ، لذا لم تستوعِب أن أمها الآن عرضَت عليها زيارتها.
صمتت في بادئ الأمـر وملامِحها قد هدأت قليلًا إلا أن عدم الرضا والاقتنـاعِ لازال جاريًا على وجهها ، تنظُر لأمها بنظراتٍ غريبةٍ حتى هتفَت أخيرًا بهدوءٍ أخـرس : اتفقنا نجتمع عندها.
ام عناد بصرامـة : وأنا هذي هي كلمتِي الأخيرة .. ما تبين بتنثبرين بغرفتك.
عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي ترى امها تبتعِد لتخرج من غرفتها ، زفـرت بحنقٍ وصوتُ البـابِ يصِل مسامعها بعد أن أطبقته . . جلسَت على السريرِ بضيقٍ وكفوفها تستقرُّ على فخذيها ، نـاظرةً للفراغ . . .
مرّت لحظـاتٌ سريعـةٌ قبل أن تنظُر لهاتِفها الذي كـان على السرير بجانِبها بعد أن أنهت اتصالها بِسـارة، مدّت يدَها إليهِ وهي تتنهّد، حملته لتتّصل بها مباشـرةً ويجيء ردّها سريعًا : وش صار!
غيداء باختنـاق : رفضت ، قالت تجين عندي أنتِ !!
سارة بنبرةِ سخرية : وش هالعايلة المعقدة !! حرام تستاهلين أفضل منهم والله.
غيداءْ بقهرٍ سقطَت دمعـةٌ أولـى من عينيها، لفظَت بحسرةٍ رغـم قهرها : ما أبـي غيرهم ، حتى لو قهروني.
سارة تمطُّ فمها بضجر : يا شيخة! شوفيني بس شبه ساحبـة على أبوي المعقد وعايشـة مع أمّي ، أسوأ شيء أحد يحدْ حرّيتك ويخليك مثل البهيمة بقفص.
أوجعتها حدّة الوصف ، شتّت عينيها في غرفتها التي تطبّعت بطـابعِ الأنوثةِ والدلال، بزهريّةٍ فقدتها . . لم تردّ عليها، بينما تنهّدت سـارة وهي تُغمـض عينيها لوهلةٍ وتعقدُ حاجبيها مفكّرةً بطريقةٍ تجعل أمها ترضـى بأن تأتِي إليها، فتَحتْ عينيها بعدَ لحظـاتٍ قليلةٍ وهي تبتسمُ بنعومةٍ ماكـرة ، وبهدوء : خليك جاهـزة ، بمرّك بعدَ شوي وأحـاول أقنـع أمّك.
عقدَت غيداء حاجبيها دون فهم : تقنعينها! شلون؟
سارة : خليها عليْ وأنتِ اجهزي بس ..
،
يجلسُ في الصـالةِ وملامحهُ تشرحُ الضيقَ في صدرِه ، تنهداتٌ تدغدغُ الهواءَ وتُبعثـر استقرارهُ بسخونتها ، تجاعيدُ تخطُّ ما بينَ حاجبيهِ وتغزوه بقشعريرةِ الكَدَر . . نظَر لهاتِفه الذي يهتزُّ بجانِبه دون صوت، أخـرسهُ منذُ وقتٍ طويل وتركهُ يهتزُّ بانتفاضاتِ النـداء . . الساعـةُ تعانِق السابعةَ والنصف ليلًا ، أمّه نامَت بعدَ حسـراتٍ أشبعت وجهها بالتجاعِيدِ في مرثيّةِ حنين . .
أشـاح وجهه عن الهاتِف وهو يتنفّسُ بضيقٍ ويرفـع وجهه للأعلـى ، يُغمـض عينيهِ وكأنه يشعر بالهاتِف بعينيه ، لذا أغمضهما! .. لا يريد الردّ عليه الآن ، غاضبٌ منه ، من صوتِه الذي تهوّر ، لم يكُن قصدًا منه لكنّه غاضِب !!
نهضَ وهو يتنـاولُ هاتِفه ، يطفئهُ أخيرًا ليرتـاح من استشعارِه في ضوئه واهتزازِه ، دسّه في جيبِه وملامِحه المتضايقةِ تتجعّد لصـداعِ زحفَ إلى رأسه ، تحرّك كي يخـرج .. باتَ يتركها كثيرًا وحدَها! منذُ انفصاله هو وأسيل صارت تجلسُ بمفردها لساعاتٍ طويلة ، ومن الخطرِ ذلك ، ماذا لو أصابها شيءٌ كما حدَث اليوم ولم يكن قريبًا! ماذا لو استذكَرت متعب بطريقةٍ تشابـه واقـع اليوم ولم يكُن موجودًا !! مضطرٌّ للخـروجِ كثيرًا ، ساعاتُ العملِ تأخذُ من يومِه الكثير ، دونًا عن غير العمل أصلًا !
خرجَ رغـم تردّده ، لن يتأخر كثيرًا ، يريد فقط أن يشتمَّ الهواءَ عن قرب ، يمشي في الجـوار .. من الواضِح أنّه سيضطر لجلبِ ممرّضةٍ لها كالسابِق حتى " يزين الوضع "!
دسَّ كفيه في جيبي بنطالِه القطنيِ ليُلامـس الهاتِف ويتنهّد بضيق ، ما الذي يفعله؟ هل ينقص متعب الآن أن يُضاعِف همومه!!! . . تجهّمت ملامحه بأسـى ، أخـرجَ هاتِفه وهواءٌ دافِئٌ صيْفي يتخلخلُ مساماتِه ، فتحَه بعدَ أن تخيّل قلقَ متعب الآن ، منذُ أغلـق الهاتِف في وجهه بعدَ أن صُدِم باسمهِ على شاشةِ هاتِفه وتركـه يتقلّب على جمرِ توقّعاتِه . .
لحظـاتٌ قليلةٌ فقطْ بعد أن فتَحه ليجيء من بعدِها اتّصـالٌ عنيفٌ وربّما غاضِب ! . . ردّ عليه بعدَ زفـرةٍ ساخِنـة ، ليجيئه صوتُ متعب مباشـرةً بغضبٍ عميقٍ كبئرٍ تأجّج فيها نــارٌ لا يسعها الانطفـاء بدلوِ مــاء !
متعب : شفييييييك ما ترد !! وش صار لأمي؟ هي بخير وإلا . . .
قاطعه شاهين بقنوط : بخير.
فقدَ متعب صوتهُ للحظـة اتّسعت فيها عينـاهُ دون استيعابٍ سريع، أثلجَت تفاصِيل ملامِحه بعد نارٍ كـانت تتأجّج في تقاسيمها كنايـةً عن القلق ، والآن ، في لحظـةٍ خاطفـة، كانت البئر قد انطفأ نارُها ، بسيلٍ من الماء! .. لكنّ ذاك الإنطفـاء لم يستمرّ لـثوانٍ حتى تراجـع ، واشتعـل أكثر من ذي قبـل بصرخـةٍ غاضبـة : وليـــه ما تــــــــــرد!!! ليه !! حرقت قلبي حسبي الله على بليسك ، كانت صعبة تتّصل وتقول إنها بخِير؟ ما تطنّش اتصالي وتقفل جوالك بعَد !!
عقدَ شاهين حواجِبه برفق، شعر بالندَم لصوتِه المكلومِ بساعاتِ الصـراع ، لكنّه هتَف أخيرًا بصدق : كنت معصّب منك.
متعب بغضب : نعــــــــــــــــم !!!
شاهين بضيق : تهوّرت ! كان لازم تتكلّم قبل لا تسمع صوتِي بالأول؟
متعب : راح من بـالي ...
شاهين يقاطعه : راح من بالك ! لو صار لها شيء لا سمـح الله تشوف هذا عُذر!!
متعب يتنهّد بضيق، اللحظـاتُ الطويلـة التي قضاها قلقًا يتقلّب على صفيحةٍ أحرقت جلدهُ لن يكُون عذرها أيضًا " معصّب "! ليس عذرًا عن قلقه الذي فتـك بأصابعهِ احمرارًا بعدَ فركـه لباطِن كفّه وهو يفكّر بأن سوءً حدَث لها . . لم يستطِع أن يحشُر أفكـاره في عقله وحَسب ، لذا لفظ بعتَب : يعنِي لو ذبحنِي التفكيـر معصّب هذي عُذر؟!
شاهين يُغمـض عينيهِ وهو يزفُر بأسـى ، اتّكأ على إحدى أعمـدةِ الإنـارةِ في طريقه، دسّ كفهُ في جيبِه والأخرى تشتدُّ على الهاتِف بجمودِها ، وبخفوت : مو مستعد أفرح برجعـة روح وأحزن لروحة الثـانية! ما أشتهي فرحة بهيئة حُزن!
متعب : عشان كذا طمّني عليها .. أنا بعَد مو مستعد أفرح فيك وأحزن فيها .. يا عسـى عمرها مديد.
شاهين يفتـح عينيهِ لينظُر للظـلامِ المُنقشـع بنورِ المكـان، رأى الظــلامَ قبل النور واستشعره! : هي بخير ، ما صـار لها شيء من البداية حاطّة في بالها إنه واحد يشبهك بالاسم .. فجاء صوتك بعد شبيه، بس ضرّها التطابـق هذا.
مرّر متعب أصابعـه بينَ خصلاتِ شعره بندم، ليتها نسيَت صوتهُ حتى يعود، لحظـةٌ خاطفـة من ذاكرتها الأموميّة كـانت كافيـةً لتأجّج فيها حسراتٍ وألـم ، ليتَ ذاكرتها نسيَت صوته ولا تتألـم!
لفظَ بحسرَة : آسـف ..
شاهين : خير إن شاء الله خير ، بس انتبه واللي يعافيك ، لا عاد تتكلّم أو تقول شيء قبل لا تسمع صوتي ، حتى اسمك بغيّره من عندي مو من عادتها ترد عنّي بس شدّها.
تحشـرج صدره، وابتسـم رغـم كلّ شيءٍ بشوق، يلتهمه الحنينُ حتى في قربه، تداعـى نصفُ البعدِ وبقيَ نصفٌ يتصبّر عنه بشاهِين ، متى تنفكُّ الحبـال عن النصفِ آخـر ويتحرّرُ منه ليمضي قريبًا إليها !
رفـع شاهِين رأسـه ما إن شعـر بأحدٍ يمشي أمامه، ابتسـم بتلقائيّةٍ للملامِح التي اصتدمَت بوجههِ ومضَت، عاد ليُخفـض نظراته وهو يُردفِ بتوضِيح : أنا بعد أعتذر لأني ما كنت أرد ، بس كنت بسفّل فيك وقتها ..
متعب : من حقي أنا بعد أسفّل فيك الحين .. بس مسموح.
ابتسم وهو يرفـع نظراته من جديدٍ لشعورِه بآخر يسير على مقربـةٍ منه : وش كنت تبي منّي وقت ما اتّصلت؟
متعب : مو شيء مهم ، أساسًا نسيته.
لم يردّ عليه شاهين وهو يعدُ حاجبيه، تجمّدت ملامِحه ونظـراتهُ تلتمـع ببصيصِ احتقـارٍ وهو يرى أمامـه سند.
،
فتحَت لها البـاب وهي تبتسمُ – بوجوم! استطاعَت سارة قراءة تعابيرها الواجمة لتبتسِم لها وهي تدخُل هاتِفة : ليه هالوجه الزعلان؟ ما يسوى والله.
قبّلت وجنـة غيداء ليُمحـى بعضُ الوجومِ من ملامِحها وتبتسمَ أكثر، بينما أردفَت تلك بتساؤل : وين أمّك؟
غيداء : الحين بتجي أكيد.
سارة بجدّية : اسمعي .. أول ما تجي بحاول أقنعها وإنتِ خليك ساكتة ، لا تقولين شيء أبد أوكي؟!
غيداء بإحباط : صدقيني ما راح توافق.
سارة وهي ترى امرأةً تقترب، أدركت أنها أمها دون ذكـاء، ابتسمت لها بوداعةٍ بعد أن همسَت لها : خلي الموضوع عليْ ، أنتِ بس كوني استقلالية شوي لا تصيرين عبدة كذا !!
اقتربَت ام عنـاد وهي تبتسمُ لها بلبـاقة، وقفَت أمامها بعد أن ابتعدَت غيداء عنها لتسلّم عليها سـارة باحترام ، وبابتسامة : شلونك خالتي؟
ام عناد : الحمدلله طيبة شلونك أنتِ؟
سـارة : الحمدلله .. معليش خالتي السواق منتظر برى ما يصير نظل واقفين كذا كثير.
عقدت كلٌّ من ام عناد وغيداء حاجبيهما دون فهم ، بينما أردفت سارة وهي تبتسمُ وتنظُر نحو غيداء : ويلا أنتِ ليه مو لابسة عبايتك للحين؟!
أشـارت لها غيداء بعينيها دون فهم، بينما نظرت لها ام عناد باستغرابٍ وهي تلفظُ بتساؤل : ليه منتظر؟ مو فاهمة قصدك وين بتروح غيداء!
سارة تتصنّع الاستغراب : اتّصلت علي وقالت أجي مو عشان آخذها بنفسي؟
ارتبكت أم عناد قليلًا ، وقبلَ أن تقولَ شيئًا كـانت غيداء تبتسِم وقد فهمَتها، اندفعَت لتتحرّك للداخِل وهي تلفظُ بحبور : الحين ألبس عبايتي وأجيك.
ام عناد نظرت لغيداء بغضبٍ لتتجاهلها تلك وهي تُكمـل طريقها للأعلـى حتى تأخذ عباءتها ، بينما أدارت ام عناد رأسها إلى سارة وملامحها تتصلّب بحزم ، رغـم أنها وُضِعَت في موقفٍ مُحرجْ إلا أنها لم تكُن لتسمـح لها بالذهابِ معها، لذا نظرت لسارة بحزمٍ كي تقول لها بصريحِ العبــارة وبلطفٍ نسبي أنها لن تذهب معها، لكنّ سارة كانت قد التقطَت ما ستقول فابتسمَت وهي تلفظُ بمكر أخفتْه خلفَ ستارِ النعومةِ والبراءة : أمّي متحمسـة تشوفها وخالاتي بعد ، تمنّيت لو تجين معها عشان تتعرفون على بعض بس قالت لي غيداءْ ما يمديك.
متى قالت لها غيداء ذلك !! . . مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعقدُ حاجبيها بعصبيّة ، وضعتها في موقفٍ مُحرج، هل كـانت تريدها فعلًا أن تكون معها ولم تُخبرها غيداء!! هل تستطِيع أن تطمئنّ عليها الآن بعدَ كلمـاتِ سارة؟ لا تبدو كمـا يُشـاع ! . . تلخبطَت أفكـارها قليلًا ، تشوّشت ولم تردّ عليها حتى جاءَت غيداءْ بهرولةٍ سعيدة وهي ترتدي عباءتها وكفوفها منشغلةٌ بإدخـال هاتِفها في حقيبتها، وباندفـاع : يلا سارة لا نتأخّر على سواقكم.
نظـرت لها أمها بتردّد ، حسنًا ، لا بأس أن تتركها تخرج معها لسـاعةٍ فقط تطمئنُّ فيها عليها كل دقيقتين باتّصــال!
غطّت غيداء وجهها ومن ثمّ تحرّكت نحو البـاب، ودّعت سارة أمها برقّة ، وما إن اقتربتا من الخروج حتى لفظَت ام عناد باستسلام : لا تطوّلين ... ساعة وتكونين راجعة طيب؟
تجهّمت ملامِح غيداء التي ضمّت فمها بكَدر، لكنّها في النهايـةِ أومأت تجاريها ، ومن ثمّ خرجَت.
،
" وش قالت لك؟! "
زفَرت بحنقٍ وهي تُغمـض عينيها، ضجَرت من هذا السؤال المتكرّر عليها بعنادٍ وإصرارٍ من أرجوان لتعرف الإجابـة وتصلها التفاصيل التي لم تتلاشى في ذهنها ولم يتلاشى بعدُ شعورها بِها في قلبها، تسندُ مرفقيها على الطـاولةِ وبينَ كفيها كوبُ قهوةٍ تركيّةٍ شاركتْ أحداقها الظُلمـة بسوادِها الفاحِم، تتسلّلُ حرارتها من كفيها إلى باقِي خلايا جلدِها، وعوضًا على جعلِها تتمدّد كانت تنكمش! وكأنها تتجرّع البرودةَ أضعافًا من سؤالِ أرجوان وتلك التفاصِيل.
بينما نظرت لها أرجوان وهي تقطّب جبينها بضيق : كـانت قايلة لك شيء عنك وعن فواز بشكـل خاص ، وش كـان؟
جيهان ببرودٍ ولا مبـالاة : ما يخصّك.
أرجوان : قهرتك بشيء وإلا؟ شكلها استفزّتك بحكاية رومانسيّة عنها وعن فواز.
نظَرت لها جيهان بحدّةٍ من زاويـةِ عينيها لتبتسمَ أرجوان رغمًا عنها وهي تسمعُ إجابتها التي وصلتْ إليها بوحشيّةٍ رغـم برودها : كنت بشيل أقرب حجرة وأدخّلها بفمها المعفن . .
أرجوان : ههههههههههههههههه تعبتِ نفسك.
جيهان : صدّقيني كنت بسوّيها ، نطلـع بفائدة إنّه ما عاد يسمع صوتها النشاز ، وما يضر أأكل عيونها تراب عشان ما عاد تشوفه.
أرجوان بسخرية : واو يا متوحّشة !
جيهان تُشير بعينيها للكوبِ الذي في يدها، وبتحذِير : ترى بعده حار ، تبين وجهك يذوق حرارته؟
أرجوان : لا النفسيّة خايسة بكل ما للكلمـة من معنى ، واضح قايلة شيء مو هيّن.
جيهان دون مبالاة : شيء ماله معنى على فكـرة .. ما يهمنِي اللي قالته.
قالها صوتُها وكذّبتها أجفانها التي ارتعشَت باضطرابِ شعورِها بِها، يتكرّر في صدرها شعورُ الصدمةِ الأولى بمـا قالت ، تقول الآن " ماله معنى " لكنّه يلخّص معانـي التشتّت فيه ، يهزمها بمكنونِه الصاخِب . . وجّهت نظراتِها لوجهِ القهوةِ القاتِم وكأنها كانت تنظُر لفـراغ لا قهوة! مرّرت طرفَ لسانِها على شفتيها بينما أمالتْ أرجوانْ فمـها وقرّرت ألا تعودَ لسؤالِها اليــوم، تحرّكت خطواتِها نحو الصالة لتجدَ يوسِف يستعدُّ للخروج، ابتسمَت بنعومةٍ لتلفظَ بغنجِ وهي تقتربُ منه : الحلـو للحين زعلان؟
نظـر لها بصمتٍ وجمود لتتّسع ابتسامتها المتغنّجة وهي تقفُ بجانِبه وتحيطُ ذراعهُ بكفها : شدعوى يا الوسيم الغالِي .. يهون عليك تزعل عليْ؟!
يوسف دون أن يبتسم لفظَ بحزم : آخـر مرّة تتوسطين لأختك عشان راسها اليابس وعنادها.
أرجوان برقّة أومأت برأسها : توبة أصلًا ندمت.
يوسف بشك : ليه؟ وش اللي كان بينها وبين مرَة فواز؟
هزّت أرجوان كتفيها : ما رضَت تقولّي بس حاسّة إنه مو شيء عادِي ..
تنهّد يوسِف وهو يرفعُ كفّه إلى يدِ أرجوان ليخفضها عن ذراعـه ، وبهدوءٍ ظاهـري : بنزل نص ساعة وأرجع .. أنا قريب بالمقهى اللي قدامنا.
أرجوان : أعرفك أكيد متضايق ورايح تختلِي بنفسك شوي ... ما يصير أكون معك وأروّقك أنا؟
هذهِ المرّة ابتسـم رغمًا عنـه ، بالرغمِ من كونِه لم يُرِد أن يترك أيًّا منهم بمفردها إلا أنه سيكون قريبًا ، يريد الخروح قليلًا لوحدِه .. لكنّه في النهاية لم يُعارِض وهو يهتفُ بخفوت : أنتظرِك عند البـاب.
،
مرّرت عينيها على تفاصِيلِ غُرفتِها الباذخـة بالتمردّ والضجيج، ألوانٌ تتفاقمُ متمرّدةً على هدوءِ الحيـاة ، تعكسُ شخصيّة سارة بالفعل كمـا أنّ ورديّة غرفتها تعكسها – قبلًا – حين كانت لا ترى من الحيـاةِ سوى وردِيّتها، ورغـم فوضى الألوان ، كـانت متناغمـة ، كتمرّدِ نفسٍ ماكـرة ، تخطّط كما يجب، ولا تخضعُ لفوضاها في الخُطط.
تحرّكت سـارة للداخِل وهي تخلعُ ما تبقّى من عباءتها، تنظُر لغيداء مبتسمةً بنعومة : عجبتك غرفتي؟
غيداء بصدق : تجنن والله ، مع إنها بنفس الوقت غريبة.
غمزَت سارة بمداعبـة : معتّقة ، وبنفس الوقت حديثة ، وفيها شويّة جنون وستايل بوهيمي .. أحب هالعبث.
غيداء : يناسبك بصراحة.
سارة : فصّخي عبايتك محد حولك ..
غيداء تومِئ وهي تضعُ حقيبتها على أقربِ كرسيّ ، بدأت تفكّ أزرارَ عباءتها وهي تلفظُ متسائلة : وين أمّك؟
سارة ببساطـةٍ وهي ترفعُ وسادةً كانت ساقطـةً من سريرها لتنظّمها مع باقي الوساداتِ المتلوّنة : ماهي موجودة الحين .. أكيد عند وحدة من صديقاتها.
غيداء : همممم .. تبينا نجلس بغرفتك؟
سارة تنظُر نحوها وهي تبتسم : أيه ما يضر .. مو عاجبتك الجلسـة هنا؟
غيداء : لا والله ما يفرق معي بغرفتك أو غيره بالعكس حليوة وتفتح النفس.
اقتربَت منها سارة لتمدّ لها يدها وتهتف : هاتِي عبايتك أعلقها.
مدّت غيداء عباءتها التي عجّنتها وهي تشكُرها بابتسامةٍ ناعمـة ، وفي خلالِ ثانيتينِ كـان صوتُ رنينِ هاتِف غيداءْ يتصـاعدُ بضجيجٍ شقّ هدوء المكـانِ وبعثره .. عقدَت حاجبيها وهي تنظُر نحو حقيبتها التي كانت على الكرسيّ بجانِبها، مدّت يدَها إليها لتحملها وتبدأ بفتحها حتى تخرجَ هاتِفها بينما تحرّكت سارة مبتعدَةً وهي تلفظ : بروح أجيب الضيافة.
أومأت غيداء دون النظرِ إليها، ردّت على المتّصل الذي لم يكُن سوى أمها ، وبقنوط : نعم ماما.
ام عناد بتوجّس : شلونك؟
غيداء باستنكـار : شلوني؟!!
ام عناد بنبرةٍ غاضبـةٍ بعض الشيء : كذا يعنِي تحرجيني قدامها؟ وش صاير لك ما عدتِ غيداء الأولية اللي تسمع كلمتي !!! عجبك الحين تحرجيني قدامها عشان بس تطلعين لبيتها!!
غيداء بوجوم : ماما واللي يعافيك مافيه داعـي للتعقيدات وللرجعية هذي.
ام عناد : رجعيّة؟ رجعيــة !!! تشوفين خوفنا عليك رجعيّة؟
غيداء بضجر : هذا مو خوف .. بالغتوا.
ام عناد بحزم : متى بترجعين؟
غيداء : واللي يعافيك ماما تو وصلت .. مو من جدّك؟
ام عناد بحدّة : نص ساعـة وترجعين .. أنا مو متطمّنة لهالزيارة .. نص ساعة يا غيداء !!
غيداء : افففف !! طيب طيب . .
ام عناد بعصبيّة : ولا تقُل لهما أف !!!
صمتت غيداء وهي تُخفِض عينيها قليلًا بضيق، بينما تنهّدت تلك لتُردف بيأسٍ أخيرًا : انتبهي لنفسك ، برجع أتّصل انتبهي لجوّالك وردي.
غيداء : طيب.
ام عناد : لا تتأخرين ، لو ما رجعتِ خلال نص ساعة برسلك السوّاق بنفسي وأنا معه بع\د.
غيداء وقد بدأت تتجاوزُ حدود الملل : طيب.
ام عناد : فمان الله.
أغلقَت لتعودَ غيداء للتأفف، التمرّدُ يحتلّها بفوجِ حرب، لا يتدرّج فيها بخُططٍ ملتوية، بل يغزوها بسرعـة ، لذا كانت في تلك اللحظـةِ تُحيل هاتِفها لوضعِ الصامِت، ومن ثمّ تدسّه في جيبِها وقد قرّرت تجاهل اتّصالاتها تمامًا.
ضمّت فمها بضيقٍ وهي تمرّر أحداقها على الغرفـةِ لتتفقّد التفاصيلَ التي لم تنتبِه لها فورَ دخولها، مكتبةٌ قريبـةٌ من إحدى الزوايا، مُصغّرة، وتكـادُ تكونُ شبـه فارغـةٍ من الكتب، طـاولةٌ مكتبيّةٌ بجانِبها، من فوقِها قبعَت دفاتـر في أغلفـةٍ من الواضِح أن سارة لم تستعملها حتى الآن ولازالت جديدة، ربّما كانت تجهيزاتها للعامِ الدراسيّ الجديد، رغم أنها لا تظنُّ ذلك .. ابتسمَت وهي تتحرّك بخطواتِها نحو الطـاولةِ المكتبيّةِ ذات اللونِ الخشبيّ المُحترِق، أخذَت إحدى الدفـاتر لتقلّبه في كفّها وتكتشفَ أنه مفتوح، عقدَت حاجبيها بفضول، كـان الغلافُ قد أعِيد ليضمّه لكنّه مفتوحٌ من قبـل! .. لم تستطِع منع فضولها، لذا أخرجَت الدفتـر من غلافه، وضعتهُ جانبًا وبقيَت ممسكةً بالدفتـر ، وما إن كـادَت تفتحُ أوراقه حتى انسلّت مجموعةٌ لا بأس بِها من الصورِ التي كانت تندسُّ بين الأوراق.
عقدَت غيداء حاجبيها باستغرابٍ وهي تهمسُ بخفوت " يوووه! "، ومن ثمّ انحنَت إليها كي تجمعها بعدَ أن أسقطَتها، لملمتها إلى نقطَةٍ واحدةٍ كي ترفعها جميعها، لكنّ يديها تجمّدتا وهي تنظُر بعينينِ مصعوقتينِ لإحدى الصورِ التي كـانت ظاهرةً لها ولم تُطبـق على بطنِها، اضطربَت وتصاعدت نبضاتُ قلبها بذهولٍ وهي تُشيح عينيها بحَرجٍ وصدمة، كـانت صورةً إباحية !! . . لم تدرِي أنّ وجهها في تلك اللحظـةِ كان يشتعلُ بحمرةِ ذهولٍ وحرج، أن أصابعها توتّرت برعشـةٍ وهي تقلبُ إحدى الصورٍ المرميّة كي تتأكّد أن تلك الصورة وحدها ما كـانت خليعةً وغيرَ أخلاقية، ربّما جـاءت بين أغراضِ سارة خطأ!!
لكنّها ما إن قلبَت الصورةَ حتى ابتلعَت ريقها وهي تراها لا تقلُّ عن الأولـى بل أشدُّ منها !! . . تنفّست بعمقٍ مُضطرِب ، شتّت أحداقها بصدمةٍ وهي تشعُر بالهواءِ ينسحبُ من رئتيها وأنّ وجهها فقدَ ملامِحه . . جاءَت خطأ! بالتأكيد ، لم تكُن سارة قد . . قد . . . ابتلعَت ريقها وأفكـارها تُبترُ لرؤيتها لسارة التي دخلَت وهي تلفظُ بإشراق : حيّ الله من زارنا ..تو ما نوّر البيت بحضـــ ...
صمتت ببهوتٍ وصدمـة وعينيها تسقطـانِ عليها ، تجلسُ القرفصـاء، في يدها صورةٌ مقلوبة، دفتـرٌ سقط، وصورٌ عديدةٌ متنـاثرة لم يكُن من الصعب على سارة ألا تدركَ ماهيّتها . .
وضعَت الصينيّة الحاملـة لكوبيّ العصيرِ جانبًا على الطاولـة وهي تعضُّ شفتها السُفلـى ، تقتربُ منها بينما كانت غيداء قد وقفَت بربكـةٍ وهي تمرّر طرفَ لسانها على شفتيها، تُشيح بأحداقِها عنها، تعانِق بكفّها اليُمنى عضدها الأيسر وهي تلفظُ بتساؤلٍ خافتٍ ومتردّد : شكلها وصلت لأغراضِك بالغلط ... يعنــي . .
صمتت باضطرابٍ ما إن ظلّلتها بوقوفها مباشرةً أمامها على نحوٍ قريب، ارتبكَت وهي تتراجـع للخلفِ ونظرةُ عينيها جعلتها ترتعب! إلا أن سارة كانت قد مدّت يدها إليها لتُمسكها من معصمها وهي تبتسمُ بلطفٍ ماكـر : شفيك متوترة؟! .. لا مو بالغلط هذا لي.
غيداء بصدمة : هـــاه !!
سارة ببساطة : أيه لي .. ليه وش فيها؟ كل شخص حر بتوجّهاته واهتماماته.
غيداء تبتلعُ ريقها بصدمة، لم تتخيّل أن تقولها ببساطةٍ وتعترفَ أنّها لها ولم تصِل إليها خطأ !! لفظَت بخفوتٍ باهِت : بس .. بس .... ما يجوز!!
سارة بسخرية : ما شاء الله أمداك تتثقفين زين بهالمواضيع خلال هالشهور وبعد ما كنتِ جاهلة .. أي حرام بس وش نسوّي عاد !!
فغرَت غيداء فمها دون أن تصدّق ، لم تستوعِب مدى الوقاحـةِ في حديثها البسيط وكأنها تقومُ بأمرٍ من موجباتِ الحيـاةِ وليسَ شيئًا فادحًا لا يمتُّ للأخـلاق بصلة !! . . لم تجِد ما تقوله، لكنّها أشاحتْ وجهها عنها بصمتٍ بينما انحنَت سارة لتجمع الصور وتعيدها لمكانها السابِق بين الورقِ وهي تلفظ بهدوءٍ كمن لم يُفتـضح أمرهُ في حرام! : دامك شفتيها وأتوقع من باب الفضول ما أستبعد بعد أمّي ما تنتبه لها من باب الفضول بعد . . شكلِي بغيّر مكانها * وقفَت لتتابِع وهي تتّجه لطاولةِ المكتب * أمي تثق فيني مرّة ، عشان كذا معطيتني الحرّية الكاملـة ، ما أبي أطيح من عينها طبعًا.
تشنّجت حُنجرةُ غيداءْ وكل الأحرفِ حُشِرت فيها لا طائلَ منها أمام بساطَةِ صوتها فيما تقول. استدارَت سارة نحوها وهي تبتسمُ بصفـاءٍ وتردف : مثل ما طحت من عينك !!!
غيداء ببهوت : هاه !!
اقتربَت سارة منها وهي تُميلُ رأسها ومعهُ فمها في ابتسامةٍ وقحـة : ما علينا .. كنت بحكي لك عن هالموضوع أصلًا.
غيداء : تحكين لــي !!
سارة تُمسِك بيدِها كي تسحبها معها حتى تجلسُ على السرير وهي بجانِبها، استرخَت في جلوسِها، تناولَت كمًّا كافيًا من الأكسجينِ باسترخاءٍ وهي تُغمـض عينيها للحظـاتٍ سريعة، ومن ثمّ أدارت رأسها نحو غيداء التي كـانت تراقبها بذهولٍ ودون استيعاب!
سارة تعودُ لملامِحها الرقيقةِ وصوتها : بخصوص سالفتك اللي صارت لك من شهور . .
اتّسعت عينـا غيداء، رعشـةٌ مرّت في مفاصِل أصابعها، عينيها اتّجهتا إليها بشكلٍ عنيف، وبعتبٍ بين زواياهما المُظلمـة، كـانتا قد اتّفقتا على عدمِ ذكر هذا الموضوع، على عدمِ إيلاجِه في أحاديثهما مهما حدَث ، على عدمِ جعله يزعزعُ لحظـة استرخـاءِ عقلها ونفسِها !
فهمت سـارة حديث نظراتِها، لذا ابتسمَت بوداعـةٍ وهي تلفظ : لا تحاتين حبيبتي .. ما ذكرته إلا عشان راحتك . .
غيداء بغصّة : شلون؟!
سارة : سبق وقلت لك دام اللي صار صار فبتصيرين منبوذة ، محد بيقبل فيك كأخت أو حتى زوجة.
كلمـاتها تُصيبها في صميمِ حسرتها لتعودَ دائمًا فتكرّر " ما ذنبي أنا؟ " ، كلمـاتُها القارسـة مفتـاحُ الجليدِ ليغزوها باندفاعِه إلى أوردتها، يهزِمها، يقتل أعضاءها ببرودتهِ دون تباطؤ . .
غصّت بعبراتِها، أشاحَت وجهها عنها لتنظُر لحجرها بخيبة، تاهَت قليلًا عن الواقِع ، تتألـم رغمًا عن تمرّدها الوليدِ حين تتجرأ برفع صوتِها على والدَتها، حين تتأفّف دون أن تشعُر، وحين تتباعَد عن عنـاد ! لا يحبّونها كمـا يجب، ما ذنبها إن نقصَت؟ ما ذنبها إن مسّتها الأقدارُ بسوء ، وكانت في كلّ الأحـوال ككلّ البشـر ، مسيّرةً لا مُخيّرة.
كـانت قد تاهَت عن الواقِع لبعض الوقت، للحظـاتٍ سريعةٍ قبل أن تُوقظها كفّ سـارة التي استقرّت على خدّها وهي تبتسمُ برقّةٍ وتمسح عليه بطريقةٍ غريبة! : ما عليك حبيبتي .. ليه زعلانة؟ يخسون كلهم لا تزعلين.
تراجعَت غيداء بنفورٍ غريبٍ في الجهةِ الأخـرى، لم تكُن قد ابتعَدت احتذاءً لعقلها أو للمنطـق، بل ابتعدَت بشكلٍ تحفّزي، تلقائيّ، وكأنها كـانت لسعـةَ احتراقٍ استشعرتها أعاصبها وجعلتها تبتعدُ في خضمِ عدمِ استيعابها !!
ابتسمَت سـارة ابتسامتها الوقحـةِ تلك وهي تُخفـض كفّها ، وبهدوء : شفيك؟ أوووه صح ، خليني أكمّل الموضوع وأوضحه لك أكثر ، ومتأكدة صرتِ فاهمة كفاية عشان ما أشرح بشكل تفصيلي.
غيداء بربكة : وشو؟
بضعُ كلمـات موجـزة ، تعبيريّة ، كافيـةً لتشرحَ مقاصِدها تلك ، بضعُ كلمـاتٍ كانتْ تكفي لتجعل غيداء تقفُ منتفضةً بصدمةٍ وهي توسّع عينيها دون تصديق ، هذهِ المرّة كـان الاستيعابُ سريعًا، كـان سريعًا ركـض إلى عقلها دون تباطؤ ، شهقةٌ اختنقَت خلف شفاهِها، لم تُظهرها وهي تتراجـع بصدمةٍ وتخبّط .. وبنبرةٍ ترتجف : أنا ... أنا ... يعني قد مرّت .. مرت نص ساعة ... لازم أرجـع للبيت.
وقفَت سارة بسرعةٍ تمنعها، أمسكَت ساعدها بينما انتفضَت غيداء بنفورٍ وحاولت أن تبتعدَ إلا أن قبضة سارة كانت أقوى وهي تلفظُ بنبرةٍ مبتسمةٍ بمكـرٍ وقذارة : لا لا وين ! تو ما بدت الجلسة تحلو .. باقي ما خلصت كلامي .. بعلّمك أشيـاء كثييييييرة .. صدّقيني بتحبين السالفة بس جربي.
زاغَت عيونها والأكسجِين يهربُ منها، ارتفعَ صدرها باختناقٍ ليهبطَ بشدّةٍ وهي تشعُر أن الهواءَ يغدُر بها كمـا غدرَ عقلها الذي لم يستشعرْ زيفها وقذراتها، ساقيها انتفَضت منهما الصلابةُ وشعرت بِتكوينهما يتبدّل لهلاميّةٍ جعلتها تترنّح وهي ترتجفُ بخوفٍ وضيـاع ، لا تدري ما الذي ستفعله ، ما الذي . . .
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ لاختناقِها، نظـرت لملامِح سارة التي كانت تراقبها بصلابةٍ وثقة ، وبخفوتٍ مرتعشٍ لا تدري كيف امتلكَت الصوت الذي سمَح لها أن تتحدّث : بـ .. بروح الحمـام . .
في بادِئ الأمـر لم تتركها وظلّت تنظُر لها بشك، إلا أنها تركتْ ساعدها أخيرًا وهي تنظُر نحو حقيبتها الموضوعةِ على الطاولة، كما أنّ عباءتها هنا ، بالتأكيد لن تستطِيع الخروج! . . ابتسمَت بتفهّمٍ وهي تلفظُ بنعومة : لا تخافين .. أدري عشانك مو مستوعبة وشيء جديد فبتخافين ... بس صدقيني ما فيه شيء ينخاف منّه.
أومأت غيداء ودموعها تكادُ تفرُّ من عينيها المحتقنتين .. وباختناق : وين الحمـام؟
تحركت سارة تسبقُها : تعالِي .
مشَت خلفَها بتردّد، خرجتـا من الغرفـةِ لتوصِلها لأقربَ حمامٍ منها، دخَلت غيداء للحمـامِ بينما تراجَعت سارة لتجلُس على مقعدٍ في الممر يجعلها ترى البـاب بوضوح ، في حين وقفَت غيداءْ أمام المغسلة، تسندُ كفيها عليها، وتسمحُ لدموعها أن تفر! ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث يا الله!! ما هذا الجنـــون؟! هل تتوهّم ، هل تعيشُ وهمًا أم كابوسًا؟ أم أنها في حقيقةٍ محضةٍ وحسب!!! .. هل كـان هذا هو ما يجعلُ أمّها تخشاها ، عنــاد! يحذّرونها منها وهي لا تستمِع!! أنّها .. أنّها غيرُ سويّة !!!
لا ، ربّما تمزحُ معها وحسب، مجرّد مقلب .. نعم ، مجرّدُ مقلب!! لا يمكـن أن تكتشف الآن بأن سارة بهذهِ القذارة! .. مجرّد ... مجرّد مقلبٍ وحسب! تمزح . . . " آه يا رب ! "
زمّت شفتيها كي تكتمُ نحيبها الخائف، ماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟ أغمَضت عينيها بقوّةٍ تحاولُ التفكيرَ بحلّ، كيفَ ستخرج ببساطةٍ ودون صعوبـات! كيف !!! ليسَت مزحـة، لن توهم نفسها أنّها مزحـةٌ لتقعَ أخيرًا في وهمها ضحيّة!
فتحَت عينيها لتنظُر لوجهها الطفوليّ في المرآة، الدمـعُ بلّل أهدابها ونشرَ السوادَ حول عينيها من كحلها الذي انسكَب مع ظـلالِ هذهِ الليلـةِ المرعبة! لو تتّصل بأمها ، لو كان عناد هنا فتتّصل بِه !! . . . لحظة !! هاتِفها !!!
اتّسعت عيناها بإدراكٍ مُتأخر، أخفضَت كفيها لتتأكد من جيبي بنطالِها الجينز، نعم ، نعـــم ، إنّه معها !! . . أخرجته بلهفةٍ لتُضيئهُ مباشرةً وتُصـدمَ بالاتصالاتِ التي تجاوزَت العشـر من أمّها !! بالتأكيد اتّصلت بها مرّةً لم تشعُر فيها بها بعد أن أخرسَت الهاتِف ، سكبَت القلقَ في صدرها . . . يا الله ما أقبحها !!
رغـم أنّ ملامِحها كانت متشنّجة، إلا أنها ارتخَت قليلًا وهي تبتسمُ بحسرة، قرّرت أن تتّصل بها وتطمئنها ومن ثمّ تقول لها أن تأتِيها وتأخذها من هذا المكـان الموبوء! . . كـادت تتّصل بها، لكنّها تراجعَت في اللحظـةِ الأخيرةِ وهي تعبس، هل من الحكمةِ أن تتّصل بأمها أم ... أم . . . لحظة ، كيفَ نسيت سلطان ! اتّسعت عينيها قليلًا ، ورغمَ أنه كـان قد يكفيها أن تتّصل بأمها إلا أنها شعرت بالخوفِ من تلك الفكـرة ، تشتّت ذهنها، ربّما من الأفضـل أن يكون سلطـان ، نعم ، يجبُ أن تتّصل بغزل وتخبرها أن تأتِي مع سلطـان إليها ... غزل ، نعم! هي قد تقابلت مع سارة من قبل !!
تنفّست بعمقٍ وهي تحرّك ابهامها على الشاشةِ وتبحثَ عن رقمِ غزل، جـاءها اتّصالٌ قاطــعها كان أمها ، ودون شعورٍ منها وبتشتّت عقلها " رفضته " وأكملت خطّتها لتتّصل بغزل أخيرًا، وضعَت الهاتِف على أذنها وأنفاسها تتسارعُ بطريقةٍ لم تشعر فيها بارتفاعِ صدرها وهبوطِه الشديد . . لم تتأخّر في الردّ عليها ، بل جاءها صوتها سريعًا لتلفظَ مباشرةً باندفاعٍ باكِي : الحقيييييني .. الحقيـــــــني . . .
ذعرت غزل من الجهةِ الأخـرى لتنتفضَ واقفةً من على سريرها وهي توسّع عينيها بصدمة : شفيك وش صاير !!!
غيداء ببكاءٍ تحاول أن تخفض صوتها كي لا تسمـع سارة انفعاله : هالبنت مجنونة ، تعالِي بسرعة أنتِ وسلطان .. اسمعي * بتشتّت * أول ما تجون اتّصلي علي وبعطيك تكلمينها عشان تقولين لها تفتح لك الباب وتدخّلك .. بعدها مباشرة جيبي أي عذر عشان تسحبيني معك .. قولي لها سلطـان مستعجل ويبيني معه لأي مصيبة أو بس جاء لي بعد ما قالت له ماما .. ما يهم أي عذر بس طلعيني من هنا !
غزل بحدّة : لحظـة ... فهميني أنتِ وين؟!!!
خرجَت بعد دقائقَ من الحمـام، وجهها مُحمرٌّ من بكائها، لم تستطِع أن توارِي احمرارهُ وآثـار البكاء واستسلمَت لتخرجَ أخيرًا وقد قرّرت أن تضيع الوقت قبل أن يأتِيا، بضعُ سوادٍ أُحِيل لرماديّةٍ حولَ عينيها، حاولتْ مسحه كلّه ولم تستطِع . . . سقطَت عينيها على سارة التي كـانت تجلسُ منتظرةً لها، زفـرت بضجرٍ ما إن رأتها ومن ثمّ ابتسمَت لتهتفَ بمداعبـة : تأخرتِ، خفت لا تكوني انتحرتِ على سبيل الهرب !
ما الذي أوصلها هنا !! .. سذاجتها ! نعـم هي ساذجـة، غبيّة ، لكنْ إلى هذهِ الدرجةِ المُدمِّرة!! . . أردفت سارة : الحين وش مبكّيك؟ ليش خايفة !! . . تعالي تعالي خلينا نسولف ومثل ما قلتِ لا تخافين ... ترى منت خاسرة شيء ليه ما تجربين؟
ابتسمَت باهتزاز، رفعَت كفّها لتعانِق عضدها، وبخفوتٍ مهتزٍّ دون أن تنظُر نحوها : قولي اللي عندك.
،
" حطّ ببالك ما راح أسمـح لهالمهزلة تستمر. "
كـانت آخر ما سمِع قبـل أن ينسحبَ دون ردّ، دون أن يبـالي، وفي اللحظـةِ ذاتِها يُبـالي! فقط لم يعُد يهتمُّ بطريقةٍ فيها اهتمـامٌ باهِت/لا حضور له، انزلقَت المفاهيمُ كلّها في لسانٍ أعجميٍّ في تقوى السكينة ، هو ليسَ تقيًّا فيها ، أما يكفيه – بِضع -؟ أما يكفيه منها ولو محض فتات وبقايا؟!
مــال فمه قليلًا، خرجْ ، ليجيء إليه صوتُ رنينِ هاتِفه يقاطـع الضجيجَ فيه نفسِه، والهدوءِ من حولِه.
نظـر للاسم الذي ارتسـم على شاشةِ هاتِفه مليًّا ، ملامحـه الجامـدة تمُوجُ بفوجِ السخريـة التي عُتِّقَت في تقاسيمه عن قرنٍ ونيف . . لم يكُن ليتجـاهل اتّصالها تحديدًا بعدَ سيلٍ من الأحاديثِ المُتراشِقة بينه وبين سلمان والذي ذُكر فيه اسمها ، مرّر لسانه على شفتيه وأقدامهُ تخطو نحو سيّارتِه ، أصابعـه لم تتردّد إطلاقًا في أن تُجيب عليها ، رفـع هاتفهُ إلى أذنه ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ جافّة : نعم !
لم يكُن صوتهُ كالمعتـادِ على قلبها ، كـانت مندفعـةَ حدّ أن صوتهُ لم يملك الوقت الكافي كي يدغدغ مسامعها بمكنونيّته ، لفظَت مباشرةً بصوتٍ ذاهب الأنفاس : سلطــان آسفة لأني اتصلت فيك ، بس يعنِي غيداء ما تدرِي إنّنا منفصلين و . . .
كان قد عقدَ حاجبيه في بادئ الأمـر من صوتِها ، كفّه تمسك زاويـة الباب المفتوح دون أن يكون قد دخـل. حين حلّ اسم " غيداء " في الحديثِ اتّسعت محاجـره ليقلقَ مباشـرةً مع صوتِها وأسلوبِ حديثها المُنفعـل ، ومن ثمّ قاطعها دون أن ينتظـر اكتمـال تبريرها : شفيها غيداء؟
تنفّست غزل بعمقٍ بعد أن شعرت بالأكسجينِ تناقـص في رئتيها ، لم تستغرق كثيرًا في الصمت والتقاطِ الأنفـاس لتلفظَ أخيرًا بتِيه : ما أدري وش بالضبط ، بس اتّصلت فيني تو وهي خايفة ومرعوبة ، وكل اللي قالته لي إنها تبينا نروح لها . .
سلطان وعيونه تتوسّع أكثر " نروح لها "؟ وخائفةٌ ومرعوبة!، أين قد تكون الآن سوى المنزل ؟ لا يُمكن أن يكون أصابها ضُرٌّ مـا !!! ... لم يضيّع الوقت أكثر في التحليل ، إذ صعدَ للسيـارةِ مباشـرةً ليطبق الباب بقوّةٍ ومن ثمّ يحركها وهو يلفظُ بصوتٍ يغادرهُ الهدوءُ ويمضِي على ردبِ الانفعـال : وينها هي بالضبط؟
غزل بتوتّر : في ، في بيت صديقتها.
سلطان ينفجِر بصوتٍ غاضِب : اسمها!! مو وقت غبائك عطيني اسم أبوها أو زوجها عشان أعرف البيت !
ابتلعَت غزل ريقها ودون أن تلتقطَ شهيقها لفظَت بخفوتٍ مرتبـك : سارة عبداللطيف العلـي . .
عقدَ حاجبيه قليلًا حينَ ذكرَت الاسم وكأنه يحاول استيعاب هويّته ، ضاقَت أضـلاعُ صدرِه بتوتّرٍ وهو يمرّر لسانـه على شفتيه ، لم يعقب بكلمـةٍ أخرى وهو يحرّك أصابعه استعدادًا لإغلاقِ هاتِفه دون أن يضيف كلمـة ، لكنّ غزل كانت قد سبقته حين لفظَت بصوتٍ مُستعجـل : أنا جاهزة بلبس عبايتي الحين وأنتظـرك.
عقدَ جبينه بانفعـال : نعم !! ليه منتظرة إن شاء الله !!!!
توتّر صوتها أكثر لتشتّت عينيها في زوايا الغرفـة وتجلسَ على السرير بعد أن كانت واقفةً بجانِبه ، وبصوتٍ مُضطرب : غيداء قالت أول ما نوصَل أتّصل عليها بنفسي.
سلطـان يكبتُ ارتفاعَ صوتهِ بنبرةٍ ساخـرةٍ وهو يرفعُ حاجبه : ما عندي جوّال أتصل عليها أنا؟
غزل بإصرار : بس هي قالت أنا !!! روح لها ورجّعني مباشـرة لا تظن إنّي مستغلة الفرصـة عشان أكون قربك .. تطمّن ولا فكّرت فيك الحين.
ارتفعَت حواجبـه بذهول .. لكنّه سرعان ما أخفضهما وهو يضحكُ ضحكةً ساخرةً ، وباستخفاف : خليك جاهـزة ، بيتكم على طريقي من الأسـاس .. خمس ثوانِي بس أوقف فيها وأمشي يعني كوني عند الباب ما أبي أضيع وقت.
أغلـق مباشرةً ليرمِي هاتِفه في المقعدِ بجانِبه ، شدّ على أسنـانِه بانفعـالٍ وهو يزيدُ سرعـة السيـارة ، تأتيهِ الأفكـار وترحـل لتستقرّ على نقطـةٍ واحـدة ، غيداء قريبـةٌ من امرأةٍ يدرك جيدًا ما الصيتُ المنتشـر عنها! أيّ أنها في خطــر !!
كـان يقودُ بسرعةٍ ، تجـاوزَ الإشارات ، لم يهتمّ للمخالفـاتِ التي دوّنها في تلك الدقائق ، وصـل سريعًا لمنزل أم غزل ، ووجدها بالفعـل تقفُ عند البابِ وما إن رأته حتى اندفعَت إلى السيـارةِ لتركبَ في المقعدِ الأمـاميّ وتغلـق البابَ من خلفِها .. لم يندلـع بينهما حديث بعد ركوبها، بل كان سلطـان قد تحرّك مباشـرة بالسرعةِ ذاتها التي احتكّت مع الطريقِ الخشِن بقوّة وأصـدرت صوتَ اعتراضِها . .
بينما تراجعَت غزل للخلفِ لتسندَ ظهرها على ظهرِ الأريكةِ وهي تزفُر، للمرّة الأولـى لا تتأجّج في صدرها حرائقُ لرائحته المستوحاةِ من بذخِه، سيّارته تعجُ بعطرِه رغم ذلك لم يتحرّك فيها شيءٌ من قلقها على غيداء.
أدارت رأسها نحو سلطان الذي كان قد نظر لها بشكلٍ خاطِفٍ وهو يلفظُ بتساؤل : وش اللي قالته لك بالضبط؟
غزل بقلق : ما قالت شيء غير إنها تبينا نمرها وأول ما أوصل أنزل لها بنفسي وأتعذّر بأي شيء عشان تطلع.
سلطان باستنكار : عشان تطلع؟ ليه هي مو قادرة تطلع وإلا وشو!!!
غزل تهزُّ رأسها بالنفي : ما أدري ... بس واضح إنّها خايفة ويمكن ما عاد درت وش كانت تقول وقتها.
شدَّ بقبضتِه على المقودِ وأقدامُه تمارسُ الضغـط على سرعـةٍ لم يعتَد أن يقودَ بِها ، لفظَ من بين أسنانهِ بغضب : ووينه عناد؟! فلح بس في مقابل سلمان !! وغيداء آخرتها على علاقة بذيك !!!
عقدَت غزل حاجبيها دون فهم، نظرت لهُ بتساؤلٍ لم يقرأه، كـان مركّزًا حواسّه على الطريقِ كي لا يتسبّب بحادثٍ لا يسعفه للوصولِ إلى غيداء .. استنكَرت حديثه، قالت غيداء عنها أيضًا " مجنونة " ولم تفهم أيّ جنونٍ تقصد! والآن حديثُ سلطـان ينمُّ عن الكثير الذي أربكها ودفعها لأن تهتفَ بتساؤلٍ متوجّس : ليه شفيها سارة هذي؟!
سلطـان دون مبالاةٍ بها كـان يلفظُ وحواسه كلّها تركّزُ على غيداء وحسب : الله العالـم إذا كان اللي فيها صدق أو لا ... ما يهمنِي القِيل والقـال بس اللي يهمنِي هو إنّ اثبات الصحّة من عدمها ما يكون بغيداء !
غزل بتشويش : أي صحة وعدمها اللي تقصدها!!!
سلطان بغضبٍ يشدُّ على أحرفِ تلك الكلمـةِ بغضب : هالبنت ماهي صاحية ، شاذّة.
،
تناثرت من حولها صورٌ ومن جُرفها بسمات، كانت قد بقيَت تحمِلُ صورتينِ فقط، أحداهما لها في يوم عقدِ قرآنها بمتعِب، والأخـرى لها مع شاهين في ليلةِ زفافِهما، تنهّدت بضيقٍ وهي ترمِيها بجانِبها، تشعُر باختنـاقٍ بيقتكُ بمجرى التنفّس لديها، ترفـع كفّها إلى عنقها لتضغطَ على حنجرتها وتتنفّس بعمـق، شيءٌ متينٌ يجعلـها تقلق ، لم ينتهِي كلّ شيءٍ كمـا أنه لم يبدأ كمـا يجِب ، جانبٌ منها يريد أن يفهـم الأحاديثَ كلّها، وجانبٌ آخـر يكابِر، من العارِ عليها أن تطلُبَ التبريرات ، رغـم أنها في عمـق تفكيرها ... كانت تريد أن تعلـم !!
زفـرت وهي تنهضُ وتتّجه للبـابِ حتى تخرج، كـانت قد دخَلت غرفتها كي تبدّل ملابِسها إلا أن عينيها سقطَت على مجموعةٍ من الصورِ كانت أسفـل ملابِسها، كـانت صورها مع متعب! لم تستطِع أن تمنـع نفسها من أن تأخذها وتتأملهـا ، ولم تستطِع أن تمنـع نفسها أيضًا من الصورِ الأخرى الموجودةِ هنا لليلةِ زفافها . . كانت تعقدُ المقارنـات، بسمتها هنـا وبسمتها هنـاك ، يا صـدقَ الأولى ويا زيفَ الثانية! .. والآن يا زيفها فيهما معًا . .
نزلَت للطابِق الأسفـل لتصلها أصواتٌ جـاءَت من غرفـةِ الجلوس، عقدَت حاجبيها باستغراب، وبشكلٍ تلقائيٍّ كـانت تتوجّه نحو الغرفـةِ لتدخـل في اللحظـةِ التي كـادَت فيها أمّها تخرج، ابتسمَت لها أم فواز وهي تلفظ : جيتِ وريّحتيني من الطلعـة.
انتبهت أسيل للتي وقفَت وهي تلفظ بابتسامة : مع إنّي توقعتك نايمة والله.
ابتسمَت أسيل لتقتربَ من ديما، سلّمت عليها ومن ثمّ جلَست وهي تهتف : متى جيتِ؟
ديما : من شويْ .. كنت بطلع لك بنفسِي بس حلفَت علي أمي أجلس ... حسّستني إنّي حامـل لا سمـح الله.
قالتها بمداعبـة، إلا أن أسيل عقدَت حاجبيها وكذلك امها التي استدارَت وهي تلفظُ باستهجان : لا سمح الله؟! ما تبين العيـال !!
ديما بابتسامةٍ ناعمـة : أمزح يمه شدعوى.
ام فواز بحسرة : الغريب إنكم كلكم ذقتوا مرارة فقد الضنا ومع كذا ماخذين الموضوع مصخرة !
أسيل بصدمة : وش قلت أنا؟ شفتِ شلون أوجعنِي إجهاضي يمه !
ام فواز : حتى ديما ظلّت فتـرة نفسيتها سيئة والحين شوفي كلامها ، حتى لو مزح! .. المفروض تعرفون قيمة ضناكم ... وتحمدون ربكم على النعمة.
صمتتْ ديما دون تعليق، هل تظنُّ حقًا أن مقارنتها بأسيل عادلـة؟ هي امرّأةٌ ذاقَت شعور الحمْلٍ بعدَ ثلاثِ سنينَ وأكثر، كـانت محرومةً وتتمنّاه بملءِ الحيـاة ، وما إن جاءها حتى فقدته! ... فهل من العدلِ أن تقارنِها بأسيل؟
أشاحَت وجهها عنهما لتنظُر لهاتِفها الذي كان في يدِها، عقدَت حاجبيها ما إن انتبهت لرسـالةٍ كـانت قد وصلتْها قبل دقائقَ قليلة من سيف ! . .
فتحتها بهدوء، قرأت الكلمـات الغزليـةَ / الموضّحةَ ببطء : " عينـاكِ سرابٌ يخدعُ الظمآن يا ديما . . . ترى * مي * معناها عندي له قصّة، سرْ .. لو عرفتيه بتعرفين مكانتك عندي ، من بديت أناديك فيه ، وهذي مكانتك . . تقدرين تجيبينها يا دِيمِي ؟ "
دِيمي؟ بمعنـى المطـر ، خفيفٌ وناعِم، متواصِلٌ يغيثُ الظمآنَ في ظمأهِ وفي ارتوائه ، اغاثتـه هادئة، ناعمـة ، تفتحُ الأفواه شغفًا ولا تغلقها بكلمـاتِ الامتنـان ... كيفَ أكون سرابًا وديمًا لك معًا؟
ابتسمَت دون تعبير، رغـم أنّها كـانت في داخِلها تريدُ أن تفهـم معناها، إلا أنها لم تحاول التفكير! بل وضعَت هاتفها جانبًا وهي تتنهّد . . تعمّق الحديثُ بينهم ، كـانت تريدُ أن تختلِي بأسيل لتسألها عمّا استجدّ في موضوعِ شاهين ومتعب ، لكنّها أجّلت ذلك حتى قبل نصفِ ساعةٍ من ذهابِها.
مرّت السـاعاتُ لتقتربَ من العاشرة، ذهبَت ام فواز للمطبَخِ كي تشرب، رغـم أنها كانت قد خرجَت عديدًا في خضمِ الحديث وفي وقتِ العشاءِ تذهبُ وتجيء أيضًا إلا أنها لم تحاول فتحَ الموضوعِ وقتها، نظـرت لأسيل يطريقةٍ غريبة جعلتها تستنكِر وتعقدُ حاجبيها : بسم الله وش الطاري لهالنظرة الاستخباراتية؟
ديما : قلتيها استخباراتية * بجدّية * وش صار مع موضوع متعب؟
بهتت ملامِح أسيل فجأةً بعدَ أن كانتْ مُبتسمة، وببرود : ولا شيء .. على حاله.
ديما بنبرةٍ مكبوتة : الله يفشلهم ، الله يفشلهم !!! كنت مع شاهين بس معليش وش هالأسلوب البايخ !!
أسيل بهدوءٍ وقنوط : ما ألومه يا ديما .. صدّقيني ما ألومه ، لو كنت مكانه كنت بسوّي كذا ... ما أنكر إنّ الموضوع مزعّلني ، بس ما ينلام ... العتب على متعب، حاقـدة عليه !
صمتتْ ديما وهي تنظُر لها بوجوم، تريد أيضًا أن تسألها سؤالًا قد يبدو تافهًا! لكنّ جانبًا منها أرادَ السؤال! . . أفرجَت شفتيها كي تتحدّث، إلا أنها صمتت فجأةً حينَ اعتلى صوتُ هاتِفها برنينهِ الصاخِب، عقدَت حاجبيها باستغرابٍ وهي ترفعُ معصمه-+ا لتنظُر للسـاعة، أيعقل أن يكون سيف وهي التي أخبرته أن يأتيها في العاشرةِ والنصف؟
تراجعَت قليلًا لتسندَ ظهرها على ظهرِ الأريكةِ وتنظُر للمتّصل الذي كـان سيف فعلًا، زفـرت وهي تردُّ وترفـع الهاتِف إلى أذنها، وبهدوء : نعم.
صوتٌ أنثوي : وعليكم السلام ... زوجة الأستاذ سيف؟
اتّسعت عينـا ديما فجأةً بصدمة وهي تقفُ بتحفّزٍ واستنفار ، وبنبرةٍ منفعلة : نعم! أنا هي مين أنتِ؟!
: أعتذر من حضرتك .. زوجك وشخص ثاني أتوقع إنّه زوج أختك عندنا بالمستشفى . . .
،
دخـل للمبنـى بعدَ أن ظلّ يسيرُ لساعاتٍ وبعد أن أعادَ جنان للمنزِل في وضعٍ مشحونٍ بالغضب، صعدْ ، في الحقيقةِ لم يتّجـه للطابِق الرابِع الذي يقطِن فيه، بل اتّجه للثانـي ، والذي يحتضِن جسدَها ! .. في بدايـةِ الممرِّ وقفْ ، أسندَ ظهرهُ على الجدارِ ليكتّف ذراعيه ، لم يكُن قد جـاءَ إلى هنـا مختاراً بل سُيّر دون أن يشعُر ... جنون ، كلّ ما حدَث ، وكلُّ ما قيل ، كـل شيءٍّ كـان جنونًا ، ما الذي فعلته جِنان! كيفَ تغمسها فيهِ من جديدٍ وتغمِسهُ فيها؟ لم يُستخلصا حتى الآن من بعضهما ، هـل كان فضلًا منها أن تعيد الامتزاجَ بينهما وتجدّده؟ .. زفـر وهو يضعُ كفّه على فمِه بغضب، جزءٌ منه يريد أن يغضبَ على جيهان وحسب! ليس على جنان وما فعلته من جنونٍ وحمـاقةٍ نظرًا لامرأةٍ من الفطـرةِ أن تحاولَ امتلاكَ الرجـل الذي يرتبطُ بها .. يريد أن يغضَب لأنها تهزّهُ بطريقةٍ متمكّنـةٍ حتى في بُعدها، فكيفَ وهما تفصلُ بينهما مجرّدُ خطواتٍ باهِتة؟
مرّر لسـانهُ على شفتيه، وجّه عينيهِ نحو بابِ الشقّةِ التي تحتضِنها بشكلٍّ أعمـق، تنفّسَ بعمقٍ جلَبَ بهِ ذرّاتِ الهواءِ بغضبٍ صامِت .. ومن ثمّ فرّغَ ما في صدرِه من زفيـر ... ومضى.
،
تجلسُ على الكرسيّ الذي كـان يقابِل والدها لتفصِل بينهما الطـاولة، تسندُ مرفقها عليها وأصابعها تتلاعبُ بالملعقـة التي كانت تقلّب بها السكّر في كوبِ قهوتها، تضحكُ لهُ بنعومةٍ وتشدّهُ بأحاديثِها لتُخرِجه من مزاجـه السيء منذُ أيـامٍ طوال، أصبحَ يغضبُ سريعًا على عكـس ما كـان، مزاجـه لا يلين بينما كان في السابقِ لا يتصلّبُ على سوئه.
هتفَت بحُب : اضحك للدنيـا تضحك لك يا وسيمي.
يوسف يرفـع أحد حاجبيه وهو يكتـم ضحكته : الحين أنا اللي أبوك واللي أنتِ اللي أمي؟
أرجوان : ههههههههههههههههه تدري وشو؟ تذكر يوم ليان تقول تبي تتزوّجك؟ لو ما كنت أبوي كنت تمنّيتك زوجي ... عاد كلّ فتاة بأبيها معجبة ، إن شاء الله يجيني واحد يشبهك.
يوسف يتصنّع الغضب : ما تستحِين على وجهك تقولين هالكلام قدامي؟
أرجوان : يوووه يبه سنّة الحيـاة تبيني أكذب وأقولك ما أبي أتزوج؟
يوسف : الله يرحم الحيا أول.
أرجوان بحرج : شدعـــوى ! أمزح لا أطيح من عينك بس.
ضحكَ بهدوءٍ وهو ينهضُ واقفًا، وباستعجال : كملي قهوتك عشان نمشي .. ما ودّي أتأخر على خواتِك.
وقفَت أرجوانْ وهي تبتسِم : خلصت أصلًا .. أحلـى قعدة رومانسية والله.
يوسف : ههههههههههههه لا تلعبين على عقلي بهالغزل .. امشي قدّامِي أشوف.
استدارَت وهي تضحكُ لتسبقهُ خطواتٍ قليلةٍ بينما كان هو يدفـع الحسابَ على عجَلٍ ومن ثمّ يلحَقُ بها، توقّفت فجأةً وهي توسّع أحداقها متفاجِئة، اضطربَ قلبها بخوف، رغمًا عنـها خافَت حينَ رأت وجهه أمامها على بعدٍ قصير، وتشتّت أحداقها قسرًا ما إن سقطَت عيونه الجريئة عليها ليبتسـم ابتسامةً باردةً ومن ثمّ يرفـع أحداقه نحو يوسف ، بحضورٍ عنيف ، ومُظلــم !!
،
اقتربـا من الوصول، كانت السيّارة قد دخَلت للحيّ المقصودِ وقد مرّت أقـل من ربـع ساعـةٍ من سرعـةِ سلطـان كما أن المنزل لم يكُن بعيدًا ، أدار سلطان رأسه سريعًا إلى غزل ليلفظَ بعجـل : اتّصلي فيها الحين.
كـانت غزلْ متجمّدة الحـواس، تستقرُّ ببهوتٍ بعد تلك الحقيقةِ وفي صدرها احتراقاتُ ذنب، وندمْ! كـانت هي من دفعتها لمعـرفتها ومن حثّها على التمرّد فوق أخيها، من قالت أنّه يريد فقط أن " يسيطر "! بكلّ سذاجـةٍ ووقاحةٍ تدخّلت في حياةٍ رسمَتها بريشةِ التمرّد ، والخطـر !!! .. إن كـان تمرّدها السـابِق وحرّيتها مع رجـلٍ فالآن هي دفّعت مراهقـةً بريئةً لأقـذر طريق! مع امرأةٍ ليسَت سويّة !!
يا الله كانت السبب! ما الذي فعلته! ما الذي فعلته لها!! . . هل كـانت بكلِّ الطـرق المباشرة وغير المبـاشرةِ مؤذيـةً لمن حولها! سلطـان بقصد، وغيداء بدون قصد!! . . ابتلعَت ريقها باختنـاق، لم تسمعْ سلطـان الذي عقدَ حاجبيه بحدّة، لا وقت لشرودها وغبائها !! . . صرخ بغضب : اتّصلي فيها مو وقت تناحتك !!
انتفضَت من صوتِه الغاضِب، نظرت لهُ ببهوتٍ قبل أن تشهقَ وتنظُر نحو هاتِفها الذي كـان في حُجرها، رفعتهُ بسرعةٍ وهي تعضُّ شفتَها السُفلـى وتهمسُ داخلها باختنـاق ، بغصّة ، بطلبٍ للسمـاح " آسفــة لأني سوء ، آسفـة لأني ســـــوء دايم ! "
اتّصلت بِها، في اللحظـةِ التي كانت فيها غيداءْ تجلسُ على الكرسيَ وتستمعُ على مضضٍ لما تقوله سارة ، للكلمـاتِ التي تقاومُ فيها تجعّد ملامِحها بغثيـانٍ وصدمـة! لا تفهم كيفَ كانت ترى فيها كلّ ما هوَ حسنٌ حتى تمرّدها ورغبتـها في الحريّةِ كـانت تراه أمرًا مثاليًا .. لكن ليست هذهِ الحرّية! ليستْ هذِه !! الحريّة أمرٌ فطريٌّ لكنّ التمادِي فيها يُحيلـها إلى قذارة !!
كـانت تختنق ، رغـم تشوّشِ عقلها إلا أنها كـانت تسترجِع أحاديثَها عن عنـاد، وعن أمّها ، عن عقدةٍ لم تكُن في الحقيقةِ عقدة! .. لا تدري من كـان المُخطِئ في كلّ هذا ... لكنّها تعلم أنّها كـانت ساذجة، غبيّةً حين سارَت خلفها وتجاهلت من ترعرعت معهم، تجاهلت أن تلجأ إلى عنــاد، أمّها وأحاديثِها اليوم! .. وفي ذاتِ اللحظـةِ تشعُر بالخيبـة، أنّ امرأةً مثلها كـانت تعتقِد أنها تفهمها اكتشفَت فيها هذا الظـلامَ والقتامة!
أخفضَت نظراتِها عن ملامِح سارةْ وهي تبتلعُ عبراتِها، لا تريد أن تبكِي الآن أمامها، متى سيصِل سلطـان؟ هذهِ الدقائِق كـسنين، طويلـة .. كدهر ، ألن ينتهي !!! . .
انتفضَت فجأةً ما إن سمعَت صوتَ هاتِفها يصدحُ في جيبها، تركتهُ فيه وتغافلَت عن إخراجِه حتى لا تدرك سارة أنّها قد اتّصلت بنفسِها حينَ دخَلت للحمـام ! . . دسّت كفها في جيبِها وهي تقفُ بربكـة، أخرجتهُ أسفـل أنظـارِ سارة التي وسّعت عينيها وهي تلفظُ بغضب : اتّصلتِ عليهم !!!
غيداءْ بارتباكٍ تراجعَت وهي تردُّ دون أن تبـالِي بالإجابـةِ عليها : هاه غزل.
غزل : احنا برى .. اطلعي.
غيداءْ باهتزازٍ وهي تشتّتِ عينيها عن سارة : طيب ... * باختناق * خليك على الخط.
غزل : طيب .. بنزل لك بنفسي أصلًا ... البيت فاضِي؟
غيداء ورغـم شعورِها بنظراتِ سارة الغاضبـة والمكبوتةِ إلا أنها كانت تتجاهلها بخوفٍ وتلفظ : أيه فاضي ..
فتحَت غزل بابَ السيّارةِ وهي تلفظُ بحدّة : خلي هالوصخة اللي معك تفتح لي الباب.
بسبب هدوءِ المكـانِ واستقرارِه كـان صوتُ غزل يصِل خافتًا إلى مسامِع سارة التي ابتسمَت بحنقٍ وهي تتحرّك نحو الباب وتهتف : طيب يا غدّو .. طيب ، ما حاولتِ حتى تسمعيني زين ! .. ما عليه بتقتنعين بعدين بعذرك هالشيء غريب عليك وخايفة منه عشان كذا.
لم تُجِبها غيداءْ وهي تتابعها بعينٍ قلقة، صوّر لها خيالها وخوفها أن تغلقَ البابَ وتهجمَ عليها مثلًا!!! خرجَت سارة من الغرفـةِ وهي تلفظُ بصوتٍ غاضِب : قلعتك مردّك ترجعين لي ... بفتح للثانية نشوف وش وراها بعد.
ابتعدَت عنها لتستنشِق غيداءْ نفسًا منفعلًا بعد اختنـاق، ارتعشَت شفاهها وصوتُ غزل غابَ عن مسامِعها، ترتعشُ أهدابُها أيضًا بدمعٍ أثقلها واهتزّ من فوقِها ساقطًا على وجناتِها كوادٍ جافٍّ استقبـل السيل بكلّ حرارةٍ وندم!
تحرّكت حيثُ علّقت سارة عباءتها والحديثُ الذي وصـل إليها مُدارًا بينَ سارة وغزل لم تسمعهُ كمـا يجِب، لكنّها أدركتْ فيهِ حدّة النبراتِ وغضبِها ! .. أخذت عباءتها، لم تكُن تريد أن تترك الهاتِف وكأن وضعهُ على أذنها يشعرها بالأمان! لكنّها اضطرّت لذلك أخيرًا، وضعتهُ جانبًا دون أن تنهِي الاتصـال، ارتدَت عباءتها بسرعةٍ ومن ثمّ اتّجهت لتحمـل حقيبتها وهاتِفها ... وتهرولَ أخيرًا للخروج.
في الأسفَل، لفّت غزل إحدى ذراعيها حولَ خصرها والأخـرى ترتفعُ بكفّها إلى أذنها لتستقرّ بالهاتِف عليه وهي تلفظُ بنبرةٍ مشدودة : غيداء.
اعتلَى صوتُ خطواتِها السريعةِ على الدرجِ هي تلفُظ بصوتٍ مستعجلٍ ذاهبِ الأنفـاس : جيت جيت.
أنهَت غزل الاتصـال ما إن تراءَت غيداءْ أمامها وقد غطّت وجهها، تندفِع إليها وكأنّ أحدًا ما يركـضُ خلفها، تجاوزَت سارة التي كـانت تقفُ أمام غزل وجهًا لوجهً لتقفَ خلفَها وهي تلفظُ بنبرةٍ تضطرب بخفوتِها : يلا.
أومأت غزل برأسها لترمِي نظـرةً أخيرةً على ملامح سارة البـاردة، لم تنظُر غيداء نحوها إطـلاقًا .. بل خرجَت، دون أن تلتفِت بعينيها إليها حتى.
،
بينما في الجهةِ الأخـرى كان سلطـان يطرُق بأصابعهِ على المقودِ بصبرٍ نفدْ، يطمئنُّ برؤيـةِ غزل عند البـاب إذ لم تدخُل كما ينبغي بل بقيّ جزءً منها ظاهرًا لعينيه، جانِبٌ منه يرغَبُ بالاتصـالِ بعناد وصبّ غضبه منه عليه، لمَ لم تتّصلْ بِه غيداء وأين هو منها؟ ما الذي حدَث ليتجاهلَ الانتبـاه إليها وهو يدرك أنّها في عمرٍ حسّاسٍ وقد تسقُط في أيّ خطأ كهذا .. وإلى أين وصَلت في هذا الخطأ؟ حديثها مع غزل يُثبت أنها لم تصِل للنقطـةِ المحرّمة ، كلمـة " مجنونة " تُثبت ذلك لكنّه من الجهـةِ الأخرى يخشى أن تكون قصدت شيئًا آخر وقد تعمّقت في ذلك الذنب وانتهى الأمـر !!
زفـر بغضبٍ وهو يتمتمُ باسم عناد بخفوتٍ غاضِب، يدقّق النظـر للبـابِ وحواسّه كلها تتّجه إليه وحسبْ حتى رآها ! .. نعم كـانت غيداءْ تخرجُ بصحبـة غزل.
اتّسعت عينـاهُ وبشكلٍ تلقائيٍّ كـان يفتـح البـاب ويتّجه إليهما مباشـرة ، بينما التمعَت عيونُ غيداء بالدمعِ ما إن رأته، لم تستطِع أن تندفِع إليهِ بل اعتلى بكاؤها ما إن أمسك كتفيها وهو يلفظُ بتساؤلٍ قلق : وش صار؟! أنتِ بخير صح؟!!
كـان سؤالهُ ذا معنـى أعمـق، لا يقصدُ حالَها بحجمِ ما يقصدُ حالَ الذنبِ وعدمه، هل أنتِ بخير؟ دون أن تُخطِئي ذاك الخطأ؟! . . انتحبَت أكثـر وهي تومئ بصمتٍ وترفـع كفّها لتضعها على فمها من فوقِ نقابِها، بينما زفـر سلطـان بغضبٍ ليُمسكُ يدها ويسحبها معه، فتحَ بابَ السيـارةِ الخلفيّ لتصعَد، في حين صعدَت غزل من الجهةِ الأخرى لتجلس بجانِبها كي تكون قريبةً منها أكثـر ، قُربٌ معنويٌّ ربّما، فجلوسُها في الأمـام ليس بعدَ مسافاتٍ بعيدة، إلا أن جلوسها بجانِبها في الخلفِ لهُ عمـقٌ آخـر قد يخفّف عنها ولو قليلًا . .
حرّك سلطـان السيـارةَ بعدَ أن صعَد، نظـر لها عبـر المرآةِ بتشوّشٍ بعـض الشيء ، لا يفهـم كيفَ وصلَت إلى هنا دون أن ينتبه عناد أو أحدًا منهم، منذُ متى تعرفها وكيفَ سمحت لها امه بخروجِها؟!! .. كـانت تبكِي بخفوتٍ ورعشـةُ كفِّها واضحـةٌ لعينيه، تحاول أن تُخرسَ بكاءها وهي تهتفُ لعقلها " لا يستحقُّ الموضوعُ أن تبكِي ، هي بخير ، لمَ تبكي؟ " إلا أنها رغم حديثها لنفسِها تُكمـل بكاءها الخافِت رغمًا عنها، وجلدُها يستشعِر لمسـة غزل على كتِفها بندم ، تنظُر لها بعينٍ تهتزُّ بأحادِيثها، أنا السبب في كلّ شيء! كـان هذا هو معنـى ما تقوله ولم تقرأه غيداء التي كانت تنظُر بعيدًا، أنـا السبب في كلّ شيء! أمسُّ البيـاضَ وأحوّله لرماديّة، أمُس البراءةَ وأجعلها تهترِئ! أنا السبب ، من أوصلها إلى هنــا !!
لم تنتبِه غيداءْ لأحاديثِ غزل الصامتـة، كـانت تنظُر لكفيها المُستقرّتينِ على حُجرِها بصمتٍ يقطعهُ شهقـاتٌ متقطّعة، تنظُر لهما بضيـاعٍ وتشتّت ، لا يلتقِي بهما ممحاةٌ تُحيلهما إلى وهم !
لفظَ سلطـان بهدوءٍ ظاهريٍّ بعد لحظـاتٍ من الصمت : شلون عرفتيها يا غيداء !
رفعَت غيداءْ رأسها باضطراب، تقوّس فمها بحسـرة، لم تردّ عليه في اللحظـةِ التي زفـر فيها سلطـان بقنوطٍ وهو يهتف : نكمّل كلامنا لما نوصل .. لا تبكين.
غيداء باختناق : ما أبغى أرجع بيتنا .. اتّصل على ماما وقولها إنّي بنام عندكم .. الله يخليك سلطان هي زعلانة مني ... ما أبيها تشوفني كذا وتزعل أكثر.
عقدَ سلطـان حاجبيه، ملامِحه رقّت بحنـان، رغـم غضبِه كـانت عينـاه ترمقها عبر المرآةِ بحنانٍ جعل عينيها تحتقنانِ بالدموع أكثر ، أومأ بهدوء، ومن ثمّ تناوَل هاتِفه ليتّصل بأمـه ويُعلمـها أنّه ذهبَ إلى غيداء التي اتّصلت بهِ كي تعود معه ، وأنّه يريدها أن تنـام عنده اليـوم ... في بادِئ الأمـر ذعرت أمّه التي كـانت قلقةً لوقتٍ طويـل ، لم تكُن غيداءُ تجيبُ على اتّصـالاتِها، لذا كـان صوتُها يشـرح مرحلـة القلق الأموميّ الذي جعل سلطـان يتنهّد، ويغمـض عينيهِ لا يريد أن ينظُر لغيداء بعتبٍ في وضعها الآن فيضاعفَ حُزنها.
أغلـق سلطـان ليرمِي هاتِفه على المقعدِ بجوارِه، هذهِ المرّة لم ينظُر نحو غيداءْ وهو يلفظ بتساؤل : وينه عنـاد؟ بينكم شيء عشان ما تتّصلين عليه وإلا خايفة منه !!
غيداء تمسـح دموعها من فتحةِ نقابها الذي تبلّل به، وباختنـاق : مسافر .. راح اليوم الدمـام وبيرجع بعد يومين عشان شغل.
عقدَ سلطـان حاجبيه وهو يومِئ .. عدمِ معرفتـه لذلك أوضـح لهُ في هذهِ اللحظـاتِ كـم أنّه تباعـد عنه بشكلٍ كبيـر ، تباعَد بشكلٍ تلقائيّ ، عدوانيّ !!
مسحَت غزل على رأسِ غيداء وهي تعقدُ حاجبيها، تريد أن تلفظَ اعتذارها بصوتٍ يصلها، رغـم أنها تخشـى ، أن ينزلقَ صوتُها نحوَ سلطـان ويدرك يدها في الموضوعِ وأنها السبب، تخشى أن تزيدَ من فرصِ كرهه لها أكثر !!
هزّت رأسـها بالنفي ، ألهذِه الدرجـةِ يهمّني رضـاه ويهمّني أن لا أكونَ بأسوأ صورةٍ في عينيه؟ أنا التي تحمّلت كل السوءاتِ وانتهى الأمـر ، لكن ، لكن السوءاتِ كلّها تعلّقت بنفسي وبه، ليست غيداء! وبالتأكيد معرفتـه لذلك سيجعل صورتي أشدُّ قبحًا . . . وإن يكُــــن !!! لا يعقل أن تظلّ طيلـة حياتِها تهتمُّ لنظرةٍ انكسَرت ولن تعود، هي تُخطئ، تُخطئ كثيرًا ، لكنّها الآن لم تفعلها بقصد! لم تكُن تقصد أن تؤذيها كمـا قصدَت أن تكذِب على سلطـان، لم تكُن تقصِد ما حدَث، ومن حقّ غيداء أن تعتذِر لها حتى لو علـم ، لن تهتمّ بغضبِه وبكرههِ لها أكثـر ، فهما انتهيـا! انتهيــا وانقضـى واقعهما معًا.
رغـم كلّ المحـاولات لإقنـاعِ ذاتِها كـان صوتُها مهتزًّا، قلقًا، خائفًا ... وهي تقولها باختنـاق : آسفة غيداء.
نظـرت لها غيداء من زاويـة عينيها دون فهم، في اللحظـةِ ذاتِها التي ارتفعَت فيها عيونُ سلطـان لتراقِبها بترقّب، لم يفهمْ اعتذارها، لذا كـان في نظرهِ نحوها وكأنه يترقّب أن توضّح لمَ تعتذِر! . . لم تنتبِه غزل لعينيه، لم تهتمّ من الأسـاس أن تنظُر نحوهُ وتتأكدَ من ردّةِ فعله تجـاه اعتذارها رغـم أن صدرها كـان يموجُ بانفعالاتِه وهي تقولها. أردفَت بغصّة : أنا السبب .. آسفـة ، لو ما شجّعتك تتعرفين عليها من باب الحريّة الغبيـة ما صار اللي صـار.
ابتسمَت غيداء دون تعبيرٍ بعدَ أن فهمَت قصدها، بينما اتّسعت عينـا سلطـان بصدمـة، دون تصديق !! ليسَ لأنه لا يتوقّع منها ذلك، بل لأنه لم يتوقّع فعليًا أن يكون لها يدٌ في علاقـةِ غيداء بسـارة !!!!
غيداء بخفوت : ما عليك ... مو منّك ، أنا اللي كان المفروض أسمع لعناد وأمي من البداية وما أمشـي ورى أحد.
شدّ سلطـان قبضتـه على المقودِ وملامِحه تقسو بغضبٍ أسـود، لم يهتمّ للتفـاصيل، للتعمّق في ما حدَث، لم يهتمّ لمعرفـةِ كيفَ ومتى وأين !! لكنّ غزلْ كـان لها جانبٌ فيما حدَث ، فعلتها !! .. كـانت غزل من ستودِي بأختـه في غياهِب هذا الجنون !!!
لم ينبـس بشيء، كـان صمته ذو صيغةٍ تُدركها غزل جيدًا ، صمتـه الذي طـال، حتى التفَتت إليه بتردّد ... لتسقطَ عينيها مباشـرةً على أحداقه التي كـانت تنظُر لها عبر المرآة . . . بوعيد !
.
.
.
" ابتسمَ تلك الابتسامـة العابثـةَ وهو يضعُ كفّهُ على شعرها ليُشعثهُ لها ويلفظَ بخفوتٍ شغوف : أبي أول من يجينا بنت ، ويكون اسمها هيفاء.
رغـم أن ملامِحها كانت قد اضطربَت بحرجٍ إلا أنها عقدَت حاجبيها وهي ترمقهُ باعتراض : لا ما أبي البكر بنت ... ولد وأسميه ليث ،
عقدَ أدهم حاجبيه وهذا الاسم ارتبطَ تلقائيًا بـ شاهين . . . "
،
" غزل باختناق : لو لا سمـح الله طاحَت غيداء بهالحرام بدون قصد ، أو حتى بقصد بس بجهل .. كنت بتشوفها قذرة مثل ما تشوفني؟
: تقارنين نفسك بغيداء !!!! "
انــتـــهــى
موعدنا الخميس القادم إن شاء الله
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|