كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
قبل وقت، وقفتا من خلفِ يوسف، تُمسك أرجوان بيدِ ليـان وهي تنظُر إليها وتلفظَ بحزم : نجنب بعد ما نطلع انتظري بس يحاسب أبوي.
التفتت أرجوان وهي تزفُر بعجزٍ منها، نظـرت لجيهان ذات الملامِح الجامدة، وبتذمّر : هالفترة صاير حلقها يعورها كثير ويلتهب بسبب هالايسكريم اللي مدمنته.
جيهان ببرودٍ دون أن تنظُر إليها، وجهها يستقيمُ إلى الأمامِ وعينيها تلتصقانِ بظهرِ والدِها : قايلة لكم لا تدلعونها وما سمعتوني.
أرجوان تبتسمُ وهي ترفعُ يدها المُنطلقة بينما الأخرى تُمسك بها ليان، مرّرت اصبعها بين حاجبيها المعقودين وكأنّها بحركتها الرقيقة تلك تحاول تبسيطَ تجعيدتِها : روّقي ... الأنثى تروق لما تتشنبق ... شفيك أنتِ معكوسة عن القاعدة؟
جيهان وحاجبيها الرفيعين يقتربانِ من بعضهما أكثر، استدارَت إلى أرجوان لتلفظَ بتهكّم : تتشنبق أجل؟ وين أبو جهل عنّك يوأدك على خربطتك هذي باللغة.
أرجوان : ههههههههههههههههه لا يا أم اللغة أنتِ.
جيهان بضجر : لا جد لا عاد تقولينها ، تجيب لي المرارة وشو نتشنبق هذي؟ من أي قامُوس جايبتها؟
أرجوان بضحكة : من قامُوس الكيوت ووردز.
جيهان : حسبي الله على العدو.
أرجوان : هههههههههههههههههههههههه لا تنقدين علي زايد لا ترمين الناس بالحجارة وبيتك من زجاج.
جيهان تستديرُ إليها وهي ترفعُ حاجبًا : مو كأنّ مصطلحاتك اليوم مضروبة؟ وبعدين وش تقصدين يا الخايسة؟!
أرجوان بغنج : كاوايي.
جيهان دون فهم : هاه !
أرجوان توكزها بمرفقها في خصرها : طايحة على أيش هالفترة اعترفي اعترفي .. ترى منتبهة لك.
جيهان وقد فهمت ما تقصد، كشّرت في وجهها وهي تصدُّ عنها بإغاظة : يا حليلهم اليابانيين شفيهم؟
أرجوان : هههههههههههه شدخل اليابانيين بالسالفة؟
جيهان : ماهو الانمي منهم؟ قسم بالله إنّ كلمة كاوايي هذي تسوى الكيوت حقك وألف لغة من اللي في جعبتك.
أرجوان تنخرطُ في ضحكةٍ أخرى، وضعَت كفها على فمها حين وجدَت ضحكتها تعلُو أكثر، ومن ثمّ لفظَت بصوتٍ يختنق من كفّها ونبرة الضحكة فيها : وش طيّحك على الانمي لا من جد؟
جيهان وملامحها تعود للبلادة : مدري بس بديت أحب أجواءه وأنسجم فيه، أطلق من الأمريكان اللي تعرفيهم ..
أرجوان : حدّك إلا أفلامي.
جيهان تنظُر إليها بضجر : مو كأنّك اليوم بزرة؟
أرجوان ترفعُ حاجبًا : أنا البزرة وإلا اللي تتابع الأنمي !
جيهان : ما أشره على كلبة ما عندها عقل وجاهلة .. عشان كذا نابحي لبكرا.
لوَت أرجوان فمها بحنقٍ ومن ثمّ صدّت عنها وهي تُكتّف ذراعيها وتُتمتم : دامها وصلت للسب بسكت .. هذي جزاة اللي تبي تفكّ عنك هالتكشيرة.
جيهان ببرود : شكرًا على المحاولة.
اقتربَ منهما في تلك اللحظـة يوسِف وهو يلفظ : مشينا.
أرجوان تبتسمُ وهي توجّه نظراتها ناحية ليـان : يلا . . .
بهتَ صوتها وهي تعقدُ حاجبيها فجأة، تحرّكت أحداقُها تبحثُ عن ليان من حولها بنظرةٍ سريعة، لكنّها لم تجدها، حينها شهقَت وهي تهتفُ بعد أن تأكّدت أنها ليست هنا : لحظة وين ليان؟!!
نظر لها يوسف وهو يوسّع عينيه بهلع : ماهي كانت معك ؟!
أرجوان بصوتٍ مختنقٍ وهي تدورُ حول نفسها ، لا تدري متى تركت يدها بالضبط وانسلّت منها! : كانت بجنبي ... يمه وين راحت !!!
يوسِف يضعُ الأكياسَ من يديهِ على الأرضِ ومن ثمّ يتحرّك بخطواتٍ واسعةٍ وهو يلفظُ بصوتٍ حازم : لا تتحركون من مكانكم .. أكيد بتكون حولنا ما أمداها تبعد.
عانقَت أرجوان كفيها إلى صدرها وهي تومِئ بينما عينيها ترتعشـان بقلق، بينما كانت جيهان تحرّك عينيها من حولها، تبحثُ بين النـاس.
أرجوان بصوتٍ قلقٍ وهي تفرك كفيها بيعضهما : يا رب أنا شلون تركت يدها .. الحين وين بتكون راحت . . . * شهقْت وهي توجّه نظرتها نحو جيهان لتردفَ بتدارك * لحظة لحظة .. مافيه غير مكان واحد أكيد راحت له . .
جيهان : لحظة وين رايحة !!
أرجوان تنظُر إليها قبل أن تتابع سيرها : محل الايسكريم ... بتأكد وأرجع.
هرولَت في سيرها حتى خرجَت من المحلّ الذي كانوا فيه، كـانت عربة الآيسكريم التي رأتها قبل دخولهم قريبة، اتّجهت نحوها مباشـرةً وهي تبحثُ بعينيها لربّما تكونُ من حولِها، مرّرت لسانها على شفتيها بربكـة، تلومُ نفسها على إهمالِها لها، لكنها لم تسمَح لأفكارها تلك أن تسيطِر عليها فتركيزها الآن يجبُ أن يكون ببحثها . .
سقطَت أنظارها فجأةً على ملامِح شدّتها من بين الزحـام ، لم يكُن رؤيتها لها أكثر أهميّةً من ليان لكنّها استوقفتها رغمًا عنها وهي ترى الآخر الواقفَ معه . . اتّسعت عيناها قليلًا بصدمـة، تراهما من بعيد ، تتحرّك شفاههما في حديثٍ مـا لم يكُن ليصِلها . . لحظة ، ما معنـى وقوفهما معًا؟!
للحظـةٍ تناسَت ليان من صدمتِها، أحدهما سيء، هذا ما فهمتهُ من آخر موقفٍ رأته فيه ومن حديثِ والدها ، والآخر ، الآخر في هذهِ الأيـام يقابِل والدها بهيئةِ الرجُل النقيّ . . هل يخدعه؟ لا ، هل يخدعانِه !!!
بهتت للحظـات ، لكنّها سرعان ما شهقَت شهقةً خافتةً وهي تتحرّك ، ليـان ، هذا ما يجِب أن تفكّر بِه الآن ، وبالنسبة لهما . . . حرّكت رأسهما نحوهما من جديدٍ بشكلٍ خاطِف ، ومن ثمّ أشاحَت وجهها وبعضُ الغضبِ راودها، يخدعانِه ، كلاهما سيئـان ويخدعان والدها !!!
لم تكُن لتستغرق في التفكير بهما في هذهِ اللحظة رغـم أن عقلها تشوّش بعد رؤيتها لهما، تابعت سيرها وبحثها بأحداقٍ تشتعـل قهرًا ، لكنّها تجمّدت فجأة ، شهقَت بذعرٍ وانتفاضـةٌ سرت في جسدها وهي تُدير رأسها بسرعةٍ بعد أن فاجأتها كفٌّ أمسكَت يدها ، اتّسعَت عيناها بصدمـة ، وأوّل ما ظهـر لعينيها بسمَةٌ باردة، مُتلاعبة، بسمـةٌ جعلت جسدها يقشعرُّ وهي تتعرقلُ في سيرها وتحاولُ سحبَ يدها بصدمةٍ من جنونِ ما يحدث ... خيـال ، أو ربّما تحلمُ في منام ... لا ، حتى المنام كان بديهيًا أن لا ترضى فيه بوضعٍ كهذا!!
حاولَت سحبَ يدها منه بعنفٍ ووجهها يشحبُ بدرجةٍ كبيرة، لم تجِد الوقت الكافِي للتفكير بشيء، لم تجِد الوقت الكافِي بعد صفعـة شعورها بيدِه تُمسك بِها، بعد رؤيتها لابتسامتِه تلك ووقاحتـه !
تميم ببرودٍ كـان يردُّ على حديثِ كفّها بقوٌةٍ أكبـر ، يجذبها معه هذهِ المرّة إلى مكانٍ مـا ، انفرجَت شفاهُها بذعرٍ وعيونها غامَت عن الرؤية ، تقاومُ بشكلٍ تلقائيٍّ السير معه طوعًا ، ترتعشُ بخوفٍ وهي تهتفُ بذهولٍ أرعنَ وبنبرةٍ حادةً سلّها الخوف من غمْدِها ، جنونُ ما يحدث! : اتركني .. اتركني وإلا بلمّ عليك هالنـاس اللي حولنا !
كانت تنظُر لملامِحه وهي تقولها بنبرتِها تلك والتي تُثبت خوفها، ورغـم أنّ الرؤية تشوّشت في عينيها إلا أنّها استطاعت بوضوحٍ أن ترى ابتسامته التي تغيّرت إلى سخريةٍ مقيتة، يُكمل سحبه لها معه ، وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـةٍ تحمـل تهديدًا حادًا، تهديدًا أشعرها بقشعريرةٍ هزّت جلدها : لا تسوّين شيء غلط ، امشي بهدوء ، وإلا العواقب ما راح تكون طيبة !!
تسلِلت إلى مسامِعه شهقةٌ أخـرى أشدَّ ذهولًا رغم خفوتِها، شعر بأنّ جسدها الذي يسحبهُ صار خفيفًا للحظـة ، قبل أن يثقلَ من جديدٍ وهي تُتمتمُ بعنفٍ وتثبّت أقدامها في الأرضِ بدفاعٍ مستميت ، تحاول سحبَ يدها منهُ بغضبٍ واشتعـالٍ وهي تهتفُ بحدّة : تتكلّم عربـي بعد؟ لاعب على أبوي!! .. اتركني يا وقح .. اتركني بأي حق تمسكنِي بهالطريقة!!!
استدارَ نحوها بحدةٍ وهو يوسّع عينيهِ بوعيد، لم يتركْ يدها وهو ينظُر لعينيها مباشرةً ليُربكها بقسـوة نظراتِه وجمودِها، كـان يُريد أرباكها بنظرتِه تلك، لكنّها لم ترتبكْ بل تعجّنت ملامحها بتقزّزٍ ويدها لا تزال تحاول سحب ذاتِها من بين أصابِعه القويّة مردفةً بقهر : اترك يدي .. اتركني والا بفضحك !!
تميم بنبرةٍ قويّةٍ آمرة : ولا كلمـة ثانية! .. امشي معي وأنتِ بالعة صوتك والا . . .
قاطعته أرجوان من بين أسنانها وهي تحاول أن تتراجـع عنه ، يُغيظها بالمسافة التي بينهما : وش هالوقاحة! مين أنت عشان تتصرّف معي بهالشكـل . . آخر مرّة يا ابن الناس اترك يدي والا بـ . . .
قاطعها تميم بملامِحه التي اشتعلَت وهو يقتربُ منها بطريقةٍ أرعبتها ، يهتفُ بخفوتٍ محذّرٍ ونبرةٍ قرأت فيها الشر : لو تبين أبوك يظلّ بخير امشي وأنتِ ساكتة ... لا تطلعين ولا صوت!!
ارتعشَت بصدمـة، بهتت ملامحها دون استيعابٍ في بادئ الأمـر ، قـال ، قـال لو أرادت أن يبقى والدها بخير!!! . . ارتفعَ صدرها بنفسٍ متعرقلٍ وهي تبتلعُ ريقها بصعوبة، بينما ارتسمَت على شفاهِ تميم ابتسامةٌ باردة وهو يُردف بتحذير : امشي ... بترك يدك ، بس امشي قدامي وأنا اللي بوجّهك وين تروحين بالضبط . . لو تحاولين تهربين لا تنتظرين إلا كل سوء ممكن يصيب اللي تحبينهم.
ما الذي يحدث! يا الله ما الجنون الذي يحدُث الآن؟! هل تحلـم أم مـاذا؟ هل ما يحدث الآن حقيقةٌ يا الله أم أنها تحيا كابوسًا! . . نعم ، نعم ، هي تحيا كابوسًا ستنهضُ منه ، نعم ستنهض!!
شعرت بِه يتركُ كفّها بهدوء، ومن ثمّ أشـار برأسه بجمودٍ أن تتحرّك أمامه ، لم تشعُر بأقدامِها وهي تتحرّك بطاعة ، يتحوّل تكوينها لهُلاميّةٍ واهنـة، يرتعشُ قلبها في الداخِل غير مصدّقةٍ ما يحدُث، تُحادثُ عقلها " أنا بحلم .. اصحى ، خلاص اصحى! " ، نعم كابوسٌ مجنونٌ فحسب !!
وصـل إليها صوتُه الصلب الذي لفظَ بأمرٍ حاد : لفي لليمين.
اتّجهت لليمين ، على أمـل أنّ كـل ما يحدث ، مجرّد كابوسٍ مجنون ، لا يُمكن أن تكون سقطَت في يدِ رجلِ عصابةٍ قد يغتالها الآن مثلًا !!!
،
خطواتُها تتعاقبُ على عتباتِ الدرج، تُهذِّبُ بكفيها شعرها، تُمشّطه بأناملها ومن ثمّ ترفعهُ لتربطه بربطة الشعر التي كانت تُطوِّقُ معصمها.
أخفضَت يديها إلى جيبِ بنظالها الذي دسّت فيه هاتِفها وسماعتهُ تتوصّل إلى أذنيها لتخترقَ مسامعها قصيدة
صخبَت بالصوتِ الرجوليُّ الذي يُلقيها، " أكانَ عَلَيَّ أنْ أسعَى إِلى شجرٍ مِن النسيانْ ؟ " ، السعيُ الأصعب، شجرةٌ من النسيـانِ تكبرُ وتُعمَّر، كيف أزرعها؟ إن كـانت البذرةُ زائفة؟ .. إلامَ أسعى؟ شجرةٌ من الوهمِ .. تسمّى - نسيان - !! " وتهمسُ وردةٌ للشوكِ : ما أقسَاك ! .. ما أقساك !! .... أقابلُ زائري بالعِطْرِ ، تجرحُ أنتَ مَنْ يلقاكْ ... لماذا يصبحُ الوخز الأليمُ هوايةَ الأشواكْ ؟ " ابتسمَت ، بعضُ القصائد سماعها يطرب القلب بألـم، لا نستقبلها بأسماعنا، بل بأفئـدةٍ توجّعت حدّ اللا حُسبان! بعض القصائِد قراءتها - دغدغةٌ - للمُقَل لتنكمـش وتسمح للدمعِ بالعبُور.
لماذا أصبـح الوخزُ هوايـة الحُب؟ كلّ الزهُور لها " فتنة " والشوكُ منها معصيـةٌ لم تختر أن تقترفها، عدا الحُب .. زهرة، لها عبيرٌ خازّ! تقترفهُ بملءِ إدركها.
تنهّدت بعجز، ومن ثمّ دست يدها في جيبِها لتُخرج هاتفها وتُغلـق القصيدة التي كانت تنسكِب في مسامعها، وبشكلٍ تلقائيٍّ كانت تتّجـه إلى الرسائل، تقـعُ عينيها على رسالةٍ تحمّلت كلمـةً واحدةً جاءتها في يومٍ مـا ، أرّقتها رغمًا عنها، لم تكُن لتتخيّل أنها جاءت من متعب! لكنّها رغمًا عنها ... تخيّلت أنها تعنِي خيانتها لهُ بالزواج !!
عضّت طرف شفتها وعينيها تُظلمان بكدر، تحرّكت أصابعها، تريد مسحَها وتجاهـل الفكرة التي دفعته بكلّ جرأةٍ أن يكتب لها ذلك، بأيّ جرأة؟ يُسميني خائنةً وهو الذي اقترف الخيانـة قبلًا بالتخلّي عني؟ لا أريد التفكير بأسبابه، لا أريد أن أعلم لمَ ابتعد فهذهِ الأشهـر التي طالَت لا يكفيها عُذرٌ باهِت . . . رغمًا عنها ، تفكّر بذلك ، لكنّها فجأةً تتّجه للتفكير أيضًا بالسبب، بشكلٍ قلِق، ما الذي حدثَ لهُ ليبتعد؟
هزّت رأسها بالنفي، احتدّت ملامِحها بقهر ، ومن ثمّ شدّت على أسنانها لتجدَ نفسها تفرّغ غضبها وقهرها منهما بتلك الرسالة التي مسحتها، يغيظها أن لا تجدَ شيئًا للتفريغ سوى رسالةٍ غبيّةٍ تقول بكلّ بجاحـةٍ " خاينة "!! ماذا كان يتوّقع؟ هي الغبيةُ التي ظلّت تبكُيه .. لا يستحق، لا يستحق ، كان على الأقلّ أخبرها بأيّ طريقة، كانت لتحفظَ سرّه ، وتفرح! هل استكثـر عليها فرحةً بِه أم أنّه حمـل من الغرور - الذي لم تعرفه فيه - الكثير حتى يستلذَّ بوجعها لأجله؟
أدركت أنها وصلت إلى مُنحنى خطِر من أفكارها، ستشتعل لا محالة، لذا عادت لتدسَّ هاتفها في جيبِها وهي تُميل فمها وتطردهُ من عقلها . . في النهاية كان شاهين الأنبـل! لا تستطِيع النكران أنّه لو فضّلها على أخيه لربّما كُسرَت زاوية من صورتِه مهما اعتزّت باختيـاره، لو أنّها لم تكُن طرفًا في ذلك لرأتْ الجوانِب المنطقيّة كلها وليس النصف فقط . . يؤلمها أنّها طرفٌ في ذلك ، أنّهما يقوّمان علاقتهما من الانكسـار على حسابِها هي! لتجدَ نفسها خارج منطِق الاختيار وما تراهُ الصحيح .. تحقدُ عليهما.
،
يطرقُ الهدوءُ بأصابعـه عليهما، تنظُر عبر النافذة بصمتٍ كئيب، ملامحُها المستترةُ خلف النقاب لو ظهرت لهُ لرآها بظلامٍ يُقسـم بربٌ الظـلام أنّ الحُزن الآن عميق ، عميقٌ لا يواسِيه أنهُ لن يطلّقها .. منذُ البداية كانت مشكلتها الفُراق، لم تكُن لفظًا اضمحلّ الآن ، كـان حُزنها لأنّها ستبتعِد، مهما طلبَت ذلك إلا أن قلبها لا يُريده!
عضّت شفتها بألمٍ وهي تُغمـض عينيها بعذاب، تشعُر بأحشائِها تحترق .. تلك النهاية المُتوقّعة، ماذا ظنَنتْ؟ أن أبتُر العصيـان الذي اقترفته في حقّ الصدق بيننا؟ أن أطمـع بجنّتهِ رغم الذنوبِ التي تميلُ بكفّتها عن بضعِ حسناتٍ وحسب! يا الله يا سلطان لمَ كُنت خلاصِي من الوجعِ ووجعي الآن؟ لم أدمنتُك ومشيتَ ببطءٍ مُغدقٍ في دمِي حتى صيّرتهُ كلّه منك وأنت عنصره الأقوى! . . سمعَت صوتَ هاتِفه يرنّ دون أن يطول، قطع رنينهُ دون أن ينظُر للمتصل وهو يضعهُ على أذنه ليلفظَ بصوتٍ جامد : نعم.
من الجهةِ الأخرى : وينك؟ تراك مصّختها يا سلطان!
سلطان بهدوء : مشغول بكم موضوع ..
عناد : وش قصتك مع الحادث اللي سمعت عنّه من شوي وكنت فيه؟!
سلطان : أبد كنت حاضِر بس ..
عناد : شلون كان الوضع؟
سلطان : ما وصل الاسعاف بالوقت ، مات واحد من اللي بالحادِث . . كان بيديني.
عناد بأسى : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. الله يرحمه ويغفر له ويثبته عند السؤال.
صمتَ سلطان للحظـة، تُدير قبضتَه المقودَ ليدخُل الحيّ الذي كانت تعيشُ فيه غزل، وستعيشُ فيه منذُ الآن مُكبّلةً باسمٍ من فولاذٍ لن تخترقـه ، صمتٌ تداعـى، وذكرى، وحنينٌ والكثيـرُ من خيباتٍ تأزّمت في صدرِه . . ابتسمَ وهو ينظُر للأمام بابتسامةٍ ذي معنـى واحد، ليست كابتسامته الحديثةِ لغزل حين يتلذّذُ بإيلامها، ابتسامةٌ لها معنى ، يقطنهُ الكثير من المعانِي . . هذهِ الابتسامةُ يمتلكها شخصٌ واحِد من سنينَ ضوئيّةٍ كوّنها بينه وبين كُرهه، من سنينَ ضوئيّةٍ كونها بينهُ وبين النسيـان حدّ أن يتلاشـى وجعه بِه كلّما خطـر على قلبه!
همسَ بخفوتٍ باهِت : تذكّرت أبوي ، ورجعت لأكثر من 15 سنة ... قرّب ديسمبر ، صار قريب حيل يا عناد!
صمتَ عنادْ من الجهةِ الأخـرى، وتجاهـل سلطان تواجُد غزل، لم يتجاهلها طوعًا بل رغمًا عنه، شدّ على أسنانِه بقهر ، ومن ثمّ تمتمَ بنبرةٍ فاتـرةٍ جافّة : عسى بس يجِي ديسمبّر وهالمرة يكون الكره وافِي . . عسى!
ديسمبّر كـان شهرَ الاغتيـال، وشهر الذكرى التي تجدّدت وهو معه يبتسمُ له، وشهرُ الحقيقة ، شهر الألـم ، والخيبـةِ الثقيلة ، وعامٌ حزينٌ في واحدٍ وثلاثينَ يومًا . . شهرُ الدماءِ النازفة، والأفئدةِ التي ترمّدت، وتيتّمت ، من أبويْن!
تنهّد عناد دون أن يعلّق بشيء، بينما أوقفَ سلطان السيارةَ أمام منزلِ غزل وهو يُشير لها بكفّه أن تنزلَ دون مبالاةٍ حتى بالنظرِ إليها، ابتلعَت غصّةً حارقـة، كان الألـم في قلبها قد تضاعفَ بحديثهِ في الهاتِف وخيبته، تضاعَف عليه، والآن تجاوزَ الحدودَ المعقولة بحركته الأخيرةِ لها . . لمْ تشعُر بنفسِها وقد تجمّدت أقدامها وجسدها كلّه، لم تنتبِه أنها لم تتحرّك وتخرج، حتى أن سلطان كان قد أدارَ وجهه إليها بحدةٍ ليلفظَ بصوتٍ هادئ : برجع أتّصل عليك.
أغلقَ دون أن ينتظر ردّه، ومن ثمّ أردفَ باستخفافٍ وهو ينظُر إليها بحاحبٍ يرتفعُ من فوقِ عينيه الغاضبتين : وش باقي عندك ست غزل؟ متحمل جلستك جنبي كفاية ... ممكن تتفضلين يا حلوة؟
ارتعشَت شفاهها، لم تستِطع أن تُزيح عينيها من ملامِحه وهي ترمقهُ للمرّة الأخيـرة ربّما .. ما معنى الوداع وكيفَ قالوا أنه مسافةٌ وابتعاد؟ ما معنـى الوداع وهو الآن حشرجةُ روحٍ واختناق؟ أم أنّ المصطلحـات أمامك تأخذُ مجرى المبالغـة ومجرى الألـم؟!
نظـرةُ وداع، ومكنونٍ يعنِي أن تلتحمَ بعينيّ قبل قلبـي ، لا أكتفي بالذاكرة، كفاءتها لا تكفي لأستذكرك في كلّ لحظـةٍ ولا أنـسى تفصيلًا صغيرًا منك، لا أكتفي بالذاكرة، فالقلبُ يحفظُ الصورَ واللحظـات بشكلٍّ أشدّ عمقًا، وإيلامًا!
يا الله لمَ أتألّم الآن وأنا التي كانت تدرك منذ البداية مسارنا؟ كيفَ لا تعبثُ بأحزانِي يا سلطان حين تبتعد! كيفَ يكون ابتعادكَ عاديًا في قلبِي الذي يحملكَ دمًا ويحملكَ في انقباضةٍ تقول لك " أحبّك " وترسلها إلى أجزاءِ جسدِي كلّه مترجمةً حيويّتِي وبقائِي بك.
ارتعشَت أصابعها وهي تحرّك عينيها على تفاصيل وجهه القاسية، عينيه الناظرتينِ إليها بعُتمةٍ وغضب، حاجبيه الكثيفين والمرتسمينِ بتمايلِ عقدةٍ حادّة، أنفه، فمـه الذي جرحَها مرارًا حين انفرجَ بكلماتٍ قاسية .. شفتيه التي لم تذقها كثيرًا ، لم تذقها في قبلاتٍ كافيةٍ عن مسافاتِ البعدِ الآن . .
أخفضَت نظراتها ما إن تسلّل صوتُه المنشودُ إلى مسامِعها بغضبٍ حاد : انزلي!! وش عندك ما تسمعين؟!!
غزل بغصّةٍ تُشتّت أحداقها عنه وتتحامـل على أوجاعها لتهمـس : شكرًا على كل شيء.
أدار وجهه عنها بلا مبالاةٍ لينظُر للأمام وهو ينطُق : بلا كثرة حكي.
غزل تبتسمُ بخسارةٍ وهي تمدُّ يدها نحو مقبضِ الباب، فتحته، وعينيها إليه ، تنظُر لهُ لآخر مرّةٍ قبلَ نزولها، هامسـةً باختناق : شكرًا عشانك كنت هدايتي .. شكرًا لأنّك كنت وبتظل أهدى ضـلال
يُتبــع . .
|