كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافيـة
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$
ممتنة لكم جميعًا وممتنة لكلماتكم الطيبة اللي تسعدني دائمًا، الله يسعدكم ويكتب لكم فردوسه :*
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبـادات
القصيدة اقتبـاس من الجميلة ( ..maysan.. )
الروح ماتت تطلب اليوم غفران
لالا يغرك لو تحرك جسدها
الموت
ماهو بس في لبس الاكفان
او حفرة بالأرض مظلم لحدها
الموت
موت الروح في داخل إنسان
وموت الشعور آمر ياصاح .. وادها
لبست من ظلم البشر كل الالوان
حتى كسى دنياي ليل حصدها
واستقنى الايام مر وحرمان
حتى محى طعم المرارة شهدها
ياما رجيت الصبح والصبح مابان
لقيت جود الحظ كله بالاحزان
فقدت حولي حبايب وخلان
مثل الخيام إلي تمايل عمدها
وغديت مثل وطى الجمر حفيان
احسب سنين العمر واحصي عددها
حتى فنت روحي على مر الازمان
وماتت بجوفي محد فقدها
(72)*3
دنا من الأصوات صراخ " ذهب الأمل" ، وتضاعفَت الحرارةُ في جسدهِ وتضاعفَ المرض، انقطع الخيطُ لـ - قريتي -، انقطـع الخيطُ لمهجتي، وكأنّما سقطَ من عالِي آمالهِ إلى وحلِ الحقيقة . . لقد خُدع! وصدّق، بكلّ اللهفةِ فيهِ صدّق، بكلّ الحنين، بكلّ العائلـة التي يشتاقها، بكلّ امه، بكلّ الحضن، وغدَر العيد! غدَرت باريس، غـدرتْ . . يا قريتي .. يبدو أنّني لن أعود لجدرانك، لن تحتضنيني، لن تعانقي ألمي، لن تعانقيهِ يا قريتي، لن أقابل فيكِ عيني امي، ولا " ضناي " من لسانها، لن أسمع صوتها . . آه! منذُ متى لم أسمع صوتها، منذ متى لم أسمع النبرة الحنون في صوتها، منذ متى لم أشمّ رائحتها ، سنتين وأكثـر في عقودْ، العقودُ في قرون .. القرون دهـر ، شختُ فيه .. امّي ، أين صوتُك! سامحي عقوقَ أذني، لم تبرّ به، لم تبرّ به!! سامحيه! سامحي عيني التي لم تراك، سامحي يداي التي لم تمسح دموعكِ في عزائي، سامحيني يا امي.
أغمضّ عينيه بوهن، ملمس الفوّهة على عنقهِ كحديدٍ قضى أيّامه تحتضنه النـار، تُحرقه، ومشاعره المتأججّة بالحزنِ تُحرقهُ أكثر، تُحرقه، والحنين يحرقه أكثــر . . لن يعود، آسف! للريـاض، لمنزله، لامّه، لأسيل .. لأنّه لن يعود، لن يراهم، وآسفٌ لنفسه، لأنّه شــاخَ، ومات، ولم يروي عينيه بهم.
سيمُوت، ولن يُقـام عليه العـزاء، كيف يُقام العزاء على شخصٍ مرّتين؟ .. سيمُوت، ولن يبكيه أحـد، بكوا جثّةً كـاذبة، وحين تحل الحقيقة، لن يبكوا! سيمُوت، وحنينهُ لم يخلُق قبلةً بين أعينهم ، سيموت، وهو لم يفي بوعده لنفسـه .. بأن يعود!
أخفض رأسه وهو يشعر بفيصل الذي يكاد يخترقُ عنقه بسلاحه وهو يهتف بحدة : حط جوالك على جنب ولا تحرّك يدك الثانية أو بتطيح وقتها ميت .. حط جــــوالك!
أبعد الهاتف عن أذنه وملامحه المُبتئسة تفضحُ هوانها وخسرانها، جمدَ صوت أدهم من الجهةِ الأخرى حين سمعَ صوتَ فيصل، كلماته الحادة، أمره الذي وصل إليه حين اشتدَ صوته .. أوقف السيـارة بانفعالٍ لتصرخ الإطـارات معترضةً على انفعالِه، صرخ بصدمةٍ يُنـاديه : مــــتــــعـــــــب !
وكانت صرختهُ تلك هي الأخيـرة قبل أن يُنهي متعب المكالمـة بإبهامِه بسرعةٍ خاطفـة وهو يكـادُ يضع الهاتف على السريرِ بجانبِه، لم ينتبه فيصل لحركة ابهامه إذا كان مركزًا على يده الأخرى حذرًا من أن يُظهر شيئًا يدافع بهِ عن نفسه، حرّك عينيه بخفةِ نحو يده الأخرى، وحين رآه وضع هاتفه مدّ يده بسرعةٍ يريد أخذه، لكنّ متعب عـاد ليقبض على الهاتف ما إن علمَ نيّته، رمــاه أمامه بأقصى قوّةٍ في اللحظـة التي صرخ فيها فيصل كي يثبت في مكانه، لكنّه لم يبالي بصرختـهِ وهو يشعر بفيصل يمسك كتفه بقوّةٍ ويضغط بفوّهة المسدس على عنقهِ أكثر وبركبتِه على ظهرِه حتى ينحني قسرًا ويتأوّه من ألم ظهره الذي شعر أنَه سيتحطّم.
هتف فيصل من بين أسنانه بحدةٍ غاضبـة وهو ينظُر للهاتف الذي تحطًم أمامه : بتستفيد من أيش بهالحركة؟ آخرتها بقتلك، وبنعرف رقمه ، ومنها نوصل له ويلحقك .. بتستفيد أيييييييش من هالمقاومة؟!!
ابتسم متعب بقهر : ماراح أخليك توصل له لو تذبحني بعد!
فيصل يضغط على ظهرهِ أكثر : كنت شاك فيني؟ عشان كذا ما ذكرت اسمه ولا كنت تحاكيه طول الفترة اللي راحت؟
متعب بأسى : ما كان شك فيك كثر ماهو خوف عليه وحذر! وثقت فيك! كنت متأمّل فيك كثييييير.
فيصل بابتسمةٍ ساخـرة : مشكلتك وثقت وأنت المفترض آخر شخص يوثق بالناس بعد ما انذبح من القريب !
زمّ شفتيه بقهرٍ وهو يُدرك من يقصد، يدرك الاسم الذي تلاشى قوله بين كلماتِه، ضحكَ فيصل بتسليةٍ وهو يلفظ : كـان موصينا نذبحك ، عصّب لما درى إنك للحين عايش وتتنفس الهواء وياه . . . يا مسكيين وش كثر أنت منبوذ عند أخوك الصغير اللي كنت حتى ما تذكر اسمه قدامي خوف عليه! للحين تحبه وتشوفه أخوك؟
أغمض عينيه بقوّة، الأنينُ يرتدّ في صدرِه بعد أن يعلو، البُكـاء الصامت يبزُغ بين أضلعه، الخذلانُ يتعمّق، والأسى! يقتل الحيّ وهو ميّت .. يقتلُه ، يوجعه أكثـر من وطء فيصل على ظهره الذي يكاد يتحطّم، يوجعه، أكثـر من هذا الحرمـان من رائحتهم، من المؤلم أن هذا الحرمان هو بسببِ القريب إليه .. من المؤلم أنّه خُذل من أخيـه ! لكـم تشاركنا أوقاتنا، لكم تشاركنا كطفلينِ غرفتنا ، لكم قُيّدت بكَ كثيرًا يا أخـي .. لأنكّ أردت أن نبقـى معًا، لكـم ضحكنا وبكينا معًا ، لكم أُوجعنا وتألّمنا معًا ، كيف تُبكيني وحدي؟ كيف توجعني وحدي؟ كيف تزجّ بي في هذه الغربـة وأنـا غربتي السابقة كان حدّها - خصامٌ - بيننا ! .. " يا كبرها على قلبي " .. – يا كبرها - على قلبينا! قلبكَ السابق .. وليس هذا القلب الحاقد! .. مـاذا فعلتُ لك؟ مـاذا فعلت؟ كنّا معًا، كنتُ أسندك على كتفي، كنتُ أضمّد حرارتك ليلًا مع أمي وأنت طفل! بيننا عامين أو أقـل ، صرتُ مراهقًا قبلك، وأنت كنتَ لا تزال طفــلًا ، ورعيتُك، ضممتك حين ماتَ والدي، بكيتُ معك ، كنَا سويًا دائمًا .. لم أفعل لك سوى أنّي كنت مأوى ثاني لك بعد أمّي .. ما الذي فعلته لك لتقتلني؟ لتقتل أخاك يا شاهين؟
زمّ شفتيه وصدرُه يريد الصـراخ ألمًا، كتم الصـرخة بـآهةٍ مستوجعـةٍ من ظهرِه الموبوءِ بعنفِ ركبتِه، اتّسعت ابتسامة فيصل وهو يزيد من الضغط على عواطفـه المشروخة وينثر الملح فوق جراحه : أخوك كان منتـظر موتك، ويمكن يسمعنا بعد ويتلذّذ !
انقبضَ قلبه وتجمّد جسده بينما آهتهُ قتلت بصدمةٍ مما قـال، استشعر فيصل صدمته تلك ليضحك وهو يردف بلؤم : شقّتك فيها أجهزة مراقبة ، كنا نبي نوصل للي ساعدك طول هالفترة، للي زيّف موتك لنـا ، انتظرت بس فرصة مثل الحين ، أقل شيء تحاكيه ما انتظرنا أكثر من كذا.
تنفّس بانفعالٍ وهو لا يكـاد يستوعب، شاهين يسمعه! يسمعُ الآهات من حنجرتِه ولا يبـالي، يسمعُ النبـرة الموؤدة في صوتِه ولا يبالي، لا يُعقل ! .. انتشر الألـم في ظهره ليطول كاملَ جسدهِ ويطعن قلبهُ وأضلعـه، وهنَ جسده أكثـر، أُرهقَت عواطفـه وهو يقرأ في هذهِ اللحظـة أيـامه السابقة، يقرأ ما قبل أكثر من ثلاثِ سنين! ، يقرأ الطعُون التي تكابلـت على جسدِه ، يقرأ الآثـام التي اقترفتها الأيـام في حقّه، يقرأ الأعـوامَ والأشهـر وكأنّه يرى الصورة الأخيـرة لحياته، يسترجعُ شريطَ أيـامه الماضيـة ...
كانت ليلةً لم يتبعها ضُحـى ، كانت ليلـةً سوداءَ ، مؤلمـةً كوجعِ جسدي من الحرارةِ التي زحفت إليه مرضًا والآن قهرًا، من الأفعـى التي التفّت حولَ عُنقي وخنقتني ، خنقتني ! لا يدري كيفَ زُجّ بهِ هنـاك كامتحانٍ لازال يخوضه حتى هذهِ اللحظـة ولم ينجح، إن كـان امتحان عودةٍ بحيـاةٍ فهو سيخسر، إن كان امتحان عودةٍ بمـوت/جثّة فسينجح! إن كان امتحـان صبرٍ فهوَ نجحْ! رغم أنه كان يجزع كثيرًا، لكنّ وقوفه حتى الآن دون أن يموت/ينتحر يعدُّ نجاحًا لا يُفرح .. لا يُفرح ، هوَ يضاعفُ ألمـي ، يُضاعف ألمـي ، يُضاعفُ ذنُوبي بالجزعِ والتملل !
أغمضَ عينيه بحسرةٍ وهو يتخيّل في هذهِ اللحظـة أنّ شاهيـن يسمعه، يسمعُ أوجـاعه الآن ، يتخيّل أنّه يسمعه وهو الذي سمعَ صوتهُ آخر مرّةٍ في مُكـالمة ! مكالمةٍ تُدينُ خيانتـه بعد الرسائل التي قرأها من هاتِف الذي كُلّف بقتـله مُحترقًا ! ومات عوضًا عنه .. الرسـالة التي كـانت تحملُ معلوماتٍ عن سكنِه في ميونخ ، الفنـدق الذي يعيشُ فيه ، رقم الغرفـة ، وكان مُرسلها شاهين ... لم يصدّقها حين قرأها .. لم يُصدّقها وهو يعودُ ويقرأ الرقمَ من جديدٍ غيـر مستوعبًا .. حتى جاءهُ اتصـال في أواخـر تلك الليلة ، اتّصـالٌ للهاتف الذي كان بحوزتِه ... ولم يكُن المتّصل سوى شاهين !!
صرخَ متأوّهًا وهو يشعُر بفيصل الذي كـان كمن يُريد فصلَ كتفِه الأيسر عن جسدهِ متلذذًا بألمـه ، كان يضغطُ على ظهرهِ بركبتهِ بقوّة بينما يدهُ تشدُّ كتفه الأيسر للخلف، المسدّس لازال يحفُر فوّهته في عنقه حتى كـاد يخترقُ جلده، هتفَ فيصل بتسليةٍ وهو يشدُّ على أسنـانه، ينحنِي برأسه حتى جاورَت شفاهُه أذنهُ اليُمنى هامسًا : وتبي البشـارة الثانية غير عن إنّه يسمع صوت أخوه الكبير؟ ... زوجتـك .. أرملة الحـي ... صـارت لــه . .
،
كرّر اسمـه مرارًا وتكرارًا بجنون، لكن مامِن ردٍّ على الطرفِ الآخر، ماتت الأصـوات بانقطاع الاتصـال، ووجدَ نفسه يصرخُ بجنونٍ شاتمًا الذي كـان على الطرف الآخر مع متعب، شاتمًا شاهين بقهـر ، لا يستـوعب ما يحدث اليوم ! في نهـارِ عيدٍ يا الله ! في نهـارِ عيد !! لا يُمكن أن يُكتب قتله اليوم .. لا يُمكن أن يمُوت وهو لم يأتي الأرض التي اشتاقَ إليها ، لم يسجدْ سجود شكرٍ عليها ، لا يمكن أن يمُوت وهو لم يرعـى دموعَ الانكسـار بكفِّ امه، لا يُمكن أن ينتهي هُنا !! لا يُمكــــن !!
رفعَ رأسه بصدمةٍ وهو يشتت عينيه ويتنفّس بانفعالٍ وغضب، نظـر للشوارع بعينين مشتعلتين وصورٌ تقاذفت أمامه عن ما يحدث الآن هُنـاك ، اشتعل أكثر وشعر أنّ النـار تأكل جسده، ولم يشعر بنفسهِ في تلك اللحظـة إلا وهو يمسك المقود بشدّةٍ ويحرك السيارة ليُديرها عائدًا من حيثُ كـان، قـاد بسرعةٍ مجنونـة ... نحوَ منزل متعب.
،
تراجعَ بصدمةٍ ينظُر إليه دون استيعـاب وكأنّهُ صاعقـةٌ سقطَت على رأسـه وأثـارت زوبعةً من عدمِ الإدراكْ، ابتسامةٌ منه، ونظراتٌ هادئـة ، نظراتٌ جعلت الأكسجين في صدرهِ ينزلقُ عن رئتيهِ وعن دمائِه ، شعر بالاختنـاق ، وأنّ عينيْه تبيضّـان بشدّةٍ ويُغشيهما ضبـابٌ أودى بملامحِ " سلمـان " لعدمِ الوضوح ، شتت عينيه عنه وهو يشدُّ على أسنانِه ويُسدل أجفانـه، هـاهو العيدُ أحضـره إليه، أحضـره بعد أن اعترضَ على فقدهِ فيه ، أحضـره، بحلّته الصادقـة، ليسَ بزيفه كلّ الأعـوام . .
فتحَ عينيه لينظُر نحوه بوضوحٍ هذه المرّة، ليرى ابتسامتـه التي لازالت تُنقشُ على ملامحِه وتستفزّه وكأنّ شيئًا لم يكُن! يستفزّه حين يبتسم لهُ ببساطـة، يستفزّه حين ينظُر لهُ بعينينِ يتلاشـى منها مكرهُ وشرّه بتميثلٍ مُزعج ! كالثعـالب ، يخفي مكره ..
ابتسمَ ابتسـامةً حاقـدةً رغمَ أسـاها، وبسخرية : وأنتَ بألف ألف شــرْ !
رفعَ سلمان إحدى حاجبيه دون أن يفقد ابتسامته : للمرة الثانية بقولها لك .. راح تندم على قلّة أدبك معي.
سلطان بحدة : لا تهدد .. * ابتسم بسخرية * ولو سمحت ما أتشرف توقف معي لا يشوفنا أحد ويظن فيني سوء لأنّي أوقف مع قاتـل أبوي وكأنّه ما سوّى شيء ! وبيوم عيد بعد!!
ضحكَ سلمان بضخبٍ وتسليـة ومن ثمّ اقترب منه وهو يهتف بعبث : على فكرة شصار وياك؟ خبري بتأكّد هالخبر بأي طريقة!
ارتفعت زاوية فمهِ بازدراء : ما يحتاج العالم صدّقت ، جاني أكثر من شخص وسألني عن هالموضوع وكان ردي السكوت .. ماهو عشانك كثر ماهو عشاني .. لو قلت لا بظلم نفسي وأبوي، ولو قلت أيه ممكن بعض العقول تفسرها حقد مني لك بأي موضوع وتظنّني كذاب بما أنّك مطلع الوجه السموح .. السكوت وحده يثبت.
سلمان بابتسامةٍ ساخـرة : بطل! فهد مبسوط فيك.
سلطان من بين أسنانه وعيونه تشتعلُ حقدًا : لا تقول اسمه على لسانك!
أمال رأسه قليلًا وعينيه اتّجهتا لما خلف كتفِه، كانت غزل تقترب منهما في تلك اللحظـة .. أشاح نظراته عنها ومن ثمّ نظر لعينيه وهو يهتف بنبرةٍ لم يفهمها سلطان سوى سخريةٍ منه : جيت اليوم عشانك .. أكيد هالعيد أسوأ عيد مر عليك.
ابتسم بأسى وقهر : أسوأ عيد مر علي كان أول عيد بعد موت أبوي .. لا تنسى!
سلمان بابتسامةٍ خافتـة : بكيت الصُبح تبي أبوك وكنت جنبك .. راضيتك وظليت بعدها اليوم كله مبسوط لا تنكر هالشيء ! اليوم بتظل حزين عشان أبوك الثاني مات وماراح تلاقي شخص يوقف معاك ويواسي حزنك!
سلطان بحنقٍ يضحك : وحسيت فيني وبعثت نفسك من جديد؟!! لا تصدّق هالفكرة أبوي اللي تقصده مات وماراح يرجع حتى لو كفّرت عن ذنوبك وتبت . . ماني الله عشان أسامح!
سلمان : الحين أنا قلت بكفّر؟ بندم؟ طلبت منك سمــاح!!
أشاح وجهه عنه بقهر : حقيـــــــــــر !
تغيّرت ملامح وجهه ولانت قليلًا حين رأى غزل تقترب منه وتقفُ قربه، تنهّد ليهتف بجمود : اركبي السيـارة.
تحرّكت بتوترٍ بعد أن أدركت ملامح من يقفُ معه، كانت تمشي نحوهما وهي عاقدةٌ حاجبيها، وحين رأت ملامح الواقفَ بوضوح شعرت بتوترٍ حارقٍ وهي تستنتجُ أنّه العـم الحاقد عليهِ سلطان وقاتل والدهِ كما فهمت! ابتعدَت بعد أن قرأت الشبـه الكبير بينهما، لكن من الواضـح أنّهما لا يتشابهان داخليًا بالرغم من أنّ المُربي هو سلمان! ربّما كان من ذاتِ الفئة التي ينتمي لها والدها بما أنّهما صديقين!
توقّفت فجأةً حين بزغ صوتُ سلمان الهادئ والذي اختلط بنبرةٍ حنونة : كيفك يا بنتي؟
يُحادثها! يحــادثها هي؟!! . . تجمّدت في مكانها وهي توجّه نظراتها بتشتتٍ إليه، وبربكةٍ لفظت بصوتٍ خافتٍ باهتٍ دون استيعابٍ كادَ ألا يظهر : الحمدلله
سلمان : علميني مبسوطة مع سلطان؟
غزل تشتتُ عينيها بربكة : أي الحمدلله.
سلمان بنبرتهِ الحنونةِ ذاتها : إذا ضايقك بشيء علميني تراني بمقام أبوك .. لا تترددين وبحك وجهه بالأرض.
فغرت فمها بصدمةٍ بينما وجّه سلطان نظراتٍ حارقـةٍ إليه يقاوم كلماتٍ حادةٍ أراد إلقاءها نحوه، واجهه سلمان بحاجبٍ مرفوعٍ وكأنّه يتحداه بحركته هذه، حينها أشاح نظراته عنه بحنق لينظر لغزل ويلفظ بصوتٍ حادٍ غاضـب : قلت اركبي السيارة وراك واقفة للحين؟
انتفضّت بذعرٍ من صوتِه الذي احتدّ لأوّل مرةٍ منذ ثلاثـة أشهرٍ تقريبًا، تحرّكت نظراتها لتصتدمَ بعينيه المشتعلتين بانفعـالٍ أعمى، حينها أومأت بربكـةٍ وتحرّكت مبتعدةً لتستدير حول السيارةِ إلى جهتها وتفتحَ الباب وتركَب.
بقيَت تنظُر لهما من النـافذة وهي تشعُر بهالـةٍ سوداءَ تنتشرُ حول سلطان، هالـة الحقد التي اختلطَت برماديّة الحُزن فظهرت فاحمةً لأهدابه حتى تسقطَ كسقوطِ بتلاتٍ جافاها المـاءُ وجفّت .. مـات ! ماتَ بحزنٍ مـا ، بحزنِ الفقدِ مرّتيْن.
بقيَت تراقبهما وهي ترى ابتسامة سلطان تتّسع حتى ظهرت أسنانه في ضحكةٍ مقهورةٍ ونـارٌ تُحرق أحداقهُ وتُبقي فيها رمادَ الأسـى ، رمادًا يُثبت حضورها في يومٍ ما.
تحرّكت شفاهُه في كلماتٍ غاضبـة، لم تسمع شيئًا ، لكنّ تشنج فكهِ كـان واضحًا، أنهى كلماته ومن ثمّ صدّ عنه ليفتح باب السيارة ويدخل وهو يلفظُ بغضب : مثل سواد وجهك هالعيد لا عـاد تتفلسف على راسي ...
لم يغلق الباب بعد أن جلس بل بقيَ يمسك بهِ وهو يوجّه نظراته إليه ليُردف بقهر : إذا شايل هم حزني هاليوم فتطمن .. أنا ما أعتبره عيد .. هو مثل أي يوم ، بنفس مشاعري ، وبنفس حقدي وكرهي لك اللي يزيد كل يوم الضعف.
سمعَت ردّ سلمان الذي ابتسم هاتفًا بهدوء : كذّاب .. أقدر أقرا في عيونك قهر وكآبة أكبر من آخر مرة شفتك.
سلطان بقهر : بركات عيونك.
سلمان يضحك : وش هالتناقض؟
أغلقَ البـاب بغضبٍ متجاهلًا باقي كلامه ليغرق سلمان في ضحكةٍ صاخبـة ومن ثمّ يتراجع للخلفِ في اللحظة التي أرجـع سلطان سيارته للخلفِ بمزاجٍ سـاء فوقَ سوئِه، ظلّت غزل تنظُر لملامحهِ الغاضبـة ومن ثمّ توجه أنظـارها نحو سلمان الذي بقيَ واقفًا يتبعُ السيارة بابتسامةٍ مُتسلّيـة، اختفَى عن أنظارهم لتُوجّه أنظارها إلى سلطـان ، الغضبُ والضيقُ في وجههِ يصرخُ بوضوح، لذا وجَدت صوتها يخرج إليه مرتبكًا مترددًا : سُلطــان . .
قاطعها سلطان بصوتٍ مشدود : لا تحاكيني الحين يا غـزل ..
صمتت وقد أدركت أنّه يقصد بكلامه تحذيرًا من نفسه، أنّه غاضبٌ كفايـةً وربّما آذآها بكلماته.
،
تأمّلت شكلها أمـام المرآة الطويلـة في فستانها الأسود الكلاسيكيّ وهي تبتسم، طردَت كل ما قد يعكر مزاجها في هذا الصبـاح وهذا اليوم كلّه، تتناسـاه، تتناسـى حياتها التي ستتغير بعد غد، ستنجرفُ نحو الهاويـة! ليست متفائلة، ليست متفائلةً أبدًا ولا تريد أن تتفاءل بحيـاةٍ معـه . . أخرجَت نفسًا مرتعشًا من بين شفتيها الملوّنتين بالعنابيّ وهي ترفُع كفيها لتمررها على شعرها الذي عـاد لقصره، وهذهِ المرّة غيّرت صبغتهُ الشقراء والثلجية إلى " شوكلاته "، كـان ينتهي طوله إلى منتصفِ عنقها، .. عضّت طرف شفتها وهي تقنع نفسها بأن لا تُفكر فيه أبدًا، لن تفكر فيه .. لن تفكّر، وستنتسى أنّها ستصبح أسيـرته بعد غــد . .
صدّت عن المرآةِ تُزيح أفكـارها التي تضاعفُ بؤسها، لا تريد أن تبتئس، بالرغم من أن كل العوامل حولها تجعلها كذلك، أولًا أدهـم وارتباطها به، وثانيًا والأهم " والدها " الذي لم تعُد تجد منه ذات الحنـان ، والدها الذي جُرحَ منها فجـَرَجْ!
تنفّست بعمقٍ وهي تتحرّك نحو البـاب وعلى ملامحها إصـرارٌ بأن تلقى اليوم في عينيه العاطفـة ذاتها دون انطفـاء ولو بضعِ شُعـلتها! لم تنطفئ كثيرًا، لازال حنونًا معها .. لكن في عينيه عتبًا وبعض الصـدْ! . . فتحت البـاب وهي ترسُم على شفتيها بسمة العيد، بأيّ حقٍ تحرم نفسها من تقبيلِ جبينه لأول مرةٍ في العيـد؟ من تقبيل جبينه بعد أن أصبح لها الحق بذلك؟ بأن تقبله وتقول " كل عام وأنت بخير " بطريقةٍ جديدةٍ لا خجـل ولا حدودَ فيها . . مشت عبر الممر وصوتُ كعب حذائها يطرقُ الأرض بانسيابيةِ خطواتها، وعلى هذا الصوت اصتدمت عيناها بياسر الذي ابتسم ما إن رآها لتردّ له البسمـة بخجلٍ عفويٍ وتقف ما إن وقف أمامها هاتفًا برقة : كل عام والحلوين بخير.
إلين بخجلٍ تُعيد خصلات شعرها للخلف : وأنت بألف خير.
ياسر يغمزُ لها وابتسامته تتّسع أكثر : هدية العيد بتوصلك بعد شوي أنتِ وهدول.
احمرّت وجنتاها بخجلِ التي لم تعتد بأن رجلّا كان دائمًا غير محرمٍ لها بات كذلك، بأن رجلٍ كاد يتزوّج بها أصبح الآن أخًا . . همست بصوتٍ مُحرج : كلفت على عمرك.
ياسر يضحك بخفوتٍ ومن ثمّ يرفع كفهُ ليداعب شعرها بعبثٍ وكأنها طفلة : ماهي أول مرة خليني أهديك ولو لمرة وحدة من غير ما أسمع جملتك الشهيرة لي " منت محرم لي عشان تهديني "!
إلين تغرق في إحراجها : تدري إني ما راح أقول هالشيء!
ياسر : طبعًا عشان هالمرة حجتك طاحت.
إلين تعقدُ حاجبيها برفض : والله كلفت على عمرك!
مشى متجاوزًا لها ورائحة العُود والبخور تنبعثُ منه، وبضحكة : يمكن تكون هدية من أبو ريالين لا تستعجلين على رزقك!
إلين بابتسامة : ثقالة دم.
صخب بضحكتهِ وهو يتّجه لغرفتـه لتُشيح نظراتها عنه وهي لا تزال متسمةً مع تقطيبةٍ لجبينها، بعدَ غدٍ زواجها من أدهـم، من الرجل الذي ظنّته أخاها، بينما كانت في لحظةٍ ما ستتزوج بيـاسرْ، بالرجل الذي عشقته يومًا مـا !! .. زمّت شفتيها وهي تزفُر وتشتت عينيها ، غـاب الحُب تلقائيًا ما إن علمَت بأنّه أخاها، فالنفس البشرية لا تهوَى أن تبقى منجرفةً نحو اللا فطـرة حتى ولو كانت لا تعلمْ، كـان حبها لهُ حقيقيًا، حبها الذ بُنيَ في قلبها منذ المراهقـة وبعد أن أدرك عقلها بأنّ ياسـر " ليس أخًا لها "، لكنّ هذا الحب انطفأ حين جـاء الحائل، حين جـاء المنطق الذي أزاحه من قلبها مبـاشرة . . لا وجه مقـارنة! بين رجلٍ خـدع ومارسَ أسوأ الأفعـال وبين آخر يبتسم لها ويعاملها برقّةٍ وحنانٍ منذ كانت طفلةً وكأنها كانت أختـه ومن رحمِ أمّه.
تحركت عاقدةً حاجبيها بضيقٍ من عودتها للنقطةِ التي قررت تجاهلها اليوم حتى تفرح وتنسى كل ما يضيقُ بعنقِ زجاجةِ - حياتِها !. . هرولَت متجاوزةً عتبات الدرج حين سمعت صوت عبدالله يتحدثُ بصفاءٍ وسعادةٍ مع هديل التي كان صوتها المتدلل يصِل إليها بغنجٍ طفوليٍّ على أبيها، ابتسمت ما إن وقفَت أمامهما لتجدها متعلقةً بعنقها وتقبّل عينيه وأنفه وجبينه بينما يضحك هو على حركاتها الطفوليـة كابنةِ سبعِ سنينَ في يومِ العيد، هاتفةً بدلال : أصلًا عيدك يزين لما تعايدني قبل الكل ، وعيدك يزين لما أبوسك ، وعيدك يزين لما أضمك .. يا بختك ببنتك بس.
عبدالله : ههههههههههههههههههه عايدت أمك قبلك.
هديل : قصدي من بناتك لا تخرب الوضع.
ضحكَ ولم يعلق، لم ينتبها في تلك اللحظة لإلين التي اتسعت ابتسامتها من الجملةِ الأخيرة التي هتفت بها هديل، اقتربت وهي تضع كفيها على خصرها وتهتف باعتراض : ما يصييييييير كل مرة يعايدك قبلي!!!
استدارت إليها هديل وهي تُفلت عنقه وتلوي فمها بمشاكسة بينما استقام عبدالله لتجمدَ ملامحه قليلًا وتتلاشى ابتسامته، هتفت هديل وهي تحرك حاجبيها : قلبه أقرب لي يا الساحـرة.
كانت تقصد سوداويـة ما ترتديه مع عتمةِ أحمر شفاهها وزينة عينيها " السموكي "، لكن إلين تجاهلتها وهي تقتربُ من عبدالله لتقف أمامه مباشرةً بجانبِ هديل، ارتفعت على أصابع قدميها لتقبل جبينه لأول مرةٍ في العيد، ابتسمت لتهمس : كل عام وأنت بخير ..
عبدالله يبتسم رغمًا عنه، أحاط كتفيها ليضمها بحنانٍ ويقبّل رأسها متنهدًا قبل أن يردف : وأنتِ بألف خير.
إلين بخفوتٍ وكأنها تهمس له حتى لا يصل صوتها لهديل : للحين زعلان مني؟
عبدالله بزفرة : وبظـَل . .
ابتعدت عنه وهي تعقد حاجبيها بضيق، أفرجت شفتيها لتهتف بكلمـةِ رجـاءٍ معترضةً على عتبهِ القاسي ، لكنه سبقها بأن هتف حتى يُنهي هذا الحديث : يلا يا حلوات وحدة منكم تتلحلح وتجيب لي مويا.
كان ينظُر لإلين وكأنه يريد منها أن تذهب هي حتى يبتر هذا الحديث، لكنها وقفَت بإصرارٍ تنظر له بنظراتٍ قويـة، حينها تحرّكت هديل بتلقائيةٍ وهي تهتف : من عيوني يا عيوني . .
ابتعدت بينما تنهّد عبدالله بيأسٍ ليهتف بحزمٍ وهو يثبّت أحداقه بعينيها بحدةٍ مانعًا إياها من البدء في الحديث : لا تقولين ولا شيء .. بظل زعلان منك ، وبظل مو راضي على قرارك وعلى اللي تبينه حتى ولو كنت مثل ما تقولين * يشدد على كلماته * مو أبوك!
ابتلعت ريقها بغصّةٍ وقاومَت الأختناق الذي زحف لصوتها بعدما غصّ بها الأكسجين في منتصف حنجرتها لتخرج كلماتها مختنقةً بالألـم : يهون عندك يمرْ أول عيد بست فيه راسك ولا أنت راضي عني؟
عبدالله بجمود : أنت اللي جبتيها لنفسك.
إلين بغصة : قراراتي بتحمّلها ..
عبدالله بعتب : تكسرين كلمتي قدامه وتطلعيني ولا شيء ! تدرين إنه ماهو مجرد عناد مني كثر ماهو خوف عليك وحرص على مستقبلك .. أنتِ أغلى حتى من مصطلح بنتي، وما برضى لك غير الرجـال الصالح.
إلين بنبرةٍ تُخادعه بها وتخادع نفسها : أدهم بيكون صالح إن شاء الله.
عبدالله بحدة : تدرين بعَد إن هالشيء وهم منك! لا تعتمدين على مجرد تخيلات اقتنعتي فيها من راسك! ... * تنهد ليردف بقسوةٍ لم يُجبل به قلبه من قبل * إذا جيتيني بعد أسبوع تشتكين منه لا تنتظرين مني وقفة معك!
،
يطوفُ خيـال الموتْ، ويشعر في هذهِ اللحظـة أنّ - باريس - تطَأ على ظهره، ينحني أكثر رغمًا عنه في صورة انكسـار ، تجمّدت حواسـه عدا التذوّق في - قلبه - الذي ذاَق مرارةً لم يذقها قبلًا إلا في اللحظـة التي صُدم فيها بحقيقةِ شاهين .. يطوفُ خيـال الموت ، ويضحك! .. لم ترمِش عينـاه .. كان ينظُر للأرض بصدمـة، لم يدري أنّ كفيه بدأتا بالإرتعاش، لم يدري أنّ أنفاسـه اعتلَت، أن نبضات قلبهِ تسارعت، أنّ جسده ازدادَ حرارةً ومرضَ أكثـر ، لم يدري في تلك اللحظـة أنّ ظهرهُ كان ينحني أكثر، لم يعُد فيصل من يجعلهُ ينحني قسرًا بوطء ركبتِه، بل هوَ انحنى! بل هو انكسر! انكسـر كغصنٍ مـال حينَ طغَت ريـاح الشتـاء واقتلعَت ثباته . . . بردْ! هنـاك بردٌ ينخر عظامـه، أطرافه ترتعشُ بردًا، أحداقهُ تنتفض، فقدَ احساسـه بما حولهُ وهو يسترجع الكلمـات التي ألقيت عليه ..
أرملـة الحي ، صارت لـه
أرمــلــة الحــي ، صـــارت لــه
أرمـــلــــة الحــــي ، صـــــارت لـــه !!!
ما المعنى؟ يا الله .. ما المعنى؟ من هي الأرمـلة؟ لمـن " لهُ " هذا؟ لمن صيغة الملكية هذِه؟ أرملةُ الحـي! من هيَ ؟ من التي ترمّلَت ؟ من؟!!! . . انسحبَت الدمـاء من ملامحِه ، وعقلهُ في تلك اللحظـة كان يترجـم المعنى مما قِيل ، تلك الارملـة ، التي بقيَ زوجها حيًّا لكنها ترمّلت واعتدّت بوفـاته ، من تكونُ سـواها؟ يا الله ، يا الله !!! لم أعُد أحتمـل ، لم أعد أحتمـل .. أرجوك لا تختبرني بهذا ، أرجُوك فأنـا عبدٌ واهِن .. لم أعُد أقوى المزيد ، لم أعد واللهِ أقوى مزيدًا من اختبـاراتِ الدنيـا ، لم يعُد ظهري يحتملُ المزيد من ثقلِ الدنيـا .. لا تكسرنِي ! يا الله رحمـاك ، رحمــاك !!! .. ليسَت هي ، رجائـي ألّا تكون هـي ، امتـلأ جسدي بالكدمـات ، لم أعُد أملك منفذًا لجديدٍ سيقتلعُ الحيـاة مني ، تدرك أنّي أصبحت أعيش لامرأتين ، لا تأخذ مني واحـدة !
صوتُ فيصل تداخـل في أذنه واختلطَ بصـراخ ، بصراخٍ من قلبـه، صـاح نازفًا بدمعٍ أحمـر ، هذا الدمع الذي إن انبثقَ كان يعني " موتًا "، هذا الدمع إن نزفَ من محجرِ القلبِ كان معنـاه الانتهاء/الانكسـار ، معنـاه أنّ القلبَ واللهِ انشطَر! انشطـر بألمِ الفقـد ، كيف يفقدُ اثنينِ ويصمُد؟ كيف يفقد اثنين ويبقى نابضًا بالحياة؟ كيف يفقدُ اثنين ولازال يضخُّ الدمَ بمهارةٍ دون أن تنفلتَ منه قطرةً تعنِي وهنـه ، تعني جرحه من الصدمـات المتقاذفة عليـه .. يفقد اثنين .. أولًا شاهين ، والثانـي هيَ!
ماجَت أحداقهُ في زوايا عينيه، تحرّكت بضعفٍ وموتٍ نحو النافـذة التي عبـر منها أشعّة شمسٍ كـاذبـة، لا تُدفئ، لا تدفئ أبدًا .. كان يرتعشُ بردًا، يرتعشُ ويشعر أنّ الجليدَ يخترقُ مساماتهِ حتى يصل لعظـامه ، زائفـةٌ تلك الشمـس ، زائفـة . .
تلك النـافذة، رأى فيها قبل دقائـق طويلة صورة امّه، وبجانبها زوجتـه ، رآهما معًا ، ينتظرانه ، لكن أين صورتها الآن؟ أين؟ تلاشت !! .. لا ، لا !! أرجـــوكِ ! لا تذهبي ، لا تتلاشي ، أرجـــوكِ .. انتظريني ، انتظريني كما انتظرتُ الخلاص حتى أعُود ، لا تذهبي ! أيـنَ أنتِ؟ لا تذهبِي ... عودي يا أسيل ، عودي وقفي بجانبِ امّي ، عودي ! . . . تلاشْت صورتها ، تلاشت! ما معنـى التلاشي؟ أمعنـاه انقسـام؟ أمعنـاهُ انشطـارُ روحْ! أمعنـاه البهوتُ أمام موجـةِ فقد! .. تلاشت! وبقيَت امّه وحيـدة ، بقيَت وحدها تنتظـر ، بقيَت وحدها ، دونَ أسيل ، رحَلت ، ولم تستجِب لرجـائِه ، لم تستجِب لكلمـاتِه ، رحَلت ، أخذها منـه ، أخذها واحتضنـها قبلـه ، أخذها منه ! سلبها ... شتت عينيه وأنفاسه تتصاعدُ وتتسارعُ بجنونٍ حتى باتت مسموعةً لفيصل ... إلهي ! كلّ ذلك كابـوس ، مجرّد كابُوسٍ بطشَ بي، سأنهضْ ، سأنهض، وسأجدها لازالت تنتظر، لازالت لـي ، لازالت بجانبِ امّي ، لازالت صورتها هُنـاك .. في النافذة التي أنظر عبرها في كلّ يوم، في السمـاء، في القمـر ، لازالت في " أزهـارِ اللوتس "، لازالت في كفوفِ الشعـر بيننا ، لازالت في حُمرة وجنتيها حين تقرأ الجريء من القصائِد ، لازالت في متعبْ ، لازالت ، لازالت يا الله وكلّ ذلك كابُوس ... يا الله ما أرحمـك ، ما أرحمك، لم تجعل ذلك حقيقي .. سأستيقظُ حين أرفعُ أحداقـي .. وسأجدها هنـاك ، لازالت في النافـذة .. لازلتِ هنـا يا أسيل .. يا حبيبةَ قلبـي ! ... ابتسمْ ، وارتفعَت أحداقهُ من جديدٍ باحثًا عنهـا وهو يجزمُ بأنّه سيلقـاها ، حبيته لازالت تنتظر ، الله! ما أجمـل انتظـارها! حبيبتهُ لازالت له ، حبيبتهُ لـه ، لمتعب، حبيبتهُ زهرةُ مـاء ، حبيبتهُ تنتظرهُ في بحيرةٍ راكـدة ، لا تتحرّك وتبتعدُ مع الأمواج ، حبيبتهُ وفيّة ، حبيبتهُ جميـلة ! الجميلاتُ لا يخذلن!
ظلّ يبتسم ، تلك الابتسامـة التي تلوّنت ، من الأمـل ، لليـأس ، بهتت وهو يجدُ امّه وحيدة ، طيفها على النافـذةِ وحيد ، تبتسم لهُ هيَ فقط ، رحـلت ! ذهبَت معـه، ليسَت هُنا ! طيفها رحـل ، لا تنتظـره ، هذا الطيفُ الذي يتخيّله كثيرًا لم يعُد موجودًا ، رحلَت مع غيمةٍ سوداء أمطرت عليهِ بالبؤس ، رحَلت معـه .. حبيبتهُ أغلقَت بتلاتها وصدّت ، حبيبتهُ انتقَلت من البحيرة لنهرٍ جـاري ، ابتعدَت ورحلَت مع موجاتِه الصغيـرة ، حبيبتهُ الجميلـة ، خذلته !
الآن التحـمَ بهِ خيـال الموت ، مـات .. شحبَ جلدهُ الذي ابيضّ وغرقَ في هيئة الأموات .. ينظُر للنافذة، يمتدُّ بأنظـاره إلى السمـاء الزرقـاء ولا يجدها هنـاك أيضًا ، يريد أن يبزغ القمـر فجأةً في النهار حتى يتأكّد من هذا الغيـاب، يريد أن يقرأ القصائـد باحثًا عنها، يريد أن يجمع " لوتس " العالـم ويستنشقها بحثًا عنهـا ، يريد الكثير ، لكنّه مـات ! مات في تلك اللحظـة بجمودِ جسده ، بتحشرج أنفاسـه ، مـات بنزيفِ قلبهِ وأذنـاه لم تسمعا في تلك اللحظـة لصوتِ قفل المسدس الذي جهّزه فيصل حتى يُطلق ويُنهي حيـاته ، لم يكـن ليبالي في تلك اللحظـة إن مـاتت روحـه أيضًا ، يكفي أنّ قلبه مات ، أنّ حواسـه ماتت، أن جسدهُ شحبَ وابيضّ مماتًا ... ابتسمَ فيصلْ وهو يهتفُ بصوتٍ متلاعِب : الله يتقبّلك في الفردوس الأعـلى .. يا مُتعَبْ.
،
ابتعدَت عنه وهي تبتسمُ ابتسامةً باردةً بعد قبلتـه لها ومعايدته التي اختلفَت عن الأعيـاد الستِّ التي مرّت عليهما وهما معًا منذُ تزوّجـا، هذهِ المرة كـانت نبرته تشعُّ منها الحب. ردت بصوتٍ هادئ : وأنت بألف خيـر.
ابتسمَ سيف بأسـى وهو يلمحُ في عينيها البرود، وبهدوءٍ مُصطنعٍ أحـاط خصرها ليتحرّك وهي معه، همسَ بابتسامـةِ حُب : الأعيـاد كلها فقيرة لو ما أغنتها عيونك ، بسم الله عليهم !
لم تردّ بشيءٍ ولم تتغيّر ملامحها، قرّبها منهُ يستنشقُ رائحتها وهو يهمسُ بعذاب : قولي شيء ! هالبرود ما يناسبِك .. ما يناسب النار اللي كنت دايم أشوفها حولك .. تصير شرر ، بس ما تختفي !
ديما بنبرةٍ هادئـة : لا توجَع نفسـك ، النّار لو طفّاها مطـر ما ترجع يا سيف.
سيف يُبعدها عنهُ ويهتفُ بحدة : عمري ما كنت لِك مطـر يا ديما !!
ديما بابتسامةٍ تضيقُ بها عينيها : كنت مطـر ، كريم معِي بأذآك حتـى خسرته.
ضمّها إليـه بقوّةٍ وهو يهتف بقوّة : بيجي غيـره ، الله كريمْ معنـا وبيجي غيره ..
ديما بنبرةٍ شديدة : ماراح يجي ! خلاص ما عاد أبـي شيء غير إنّي أكون زوجتـك ، أنت ما كتت تبيني ام عيالك، بغيتني بس زوجـة .. وواجبي أطيعك.
شدّ عليها أكثر وهو يشدُّ على أسنانه بغضب، وبحدة : أجل الحين أنـا أبي عيـال ، أبيهم منك يا ديما !!
ديما ببهوت : بتعطيك هيّ أنا خسرت بهالشيء ..
أمسك كتفيها ليُبعدها عنهُ ويصرخ في وجهها : طلّعتها من مخـي ، ما عاد أبي أرجّعها لـي لأنّ خاطري ما يبي غيرك ، ما أبي غيرك فاهمة !!
ديما باعتراضٍ تعقدُ حاجبيها : وولدك ؟ منت شايل همه؟!!
سيف بحدة : ما عليك من زيـاد ، من متى تشيلين همّه؟
ديما بصدقٍ أثـار غضبه أكثر : زيـاد ولدك يا سيف وهو أهم منـي ، الزوجة تلاقي غيرها ألف بس الولد لا .. اسألني أنـا لأني جربت إنّ حلمـي يموت في رحمـه قبل لا يوصل للمهد حتى !
عضَّ شفتهُ بقوّة وهو يَستديرُ عنها وعدم مبالاتِها أغضبتـه أكثر ، تنفّس بحنقٍ يرفعُ كفّه ويمسح على وجههِ مستغفرًا ، يحاول تهدئة غضبه من أن يستدير نحوها ويسحقها بذراعيـه ، يحـاول ألّا يسحقها بعد أن باتت زهرةً شبـه ذابلـة ، زهـرةً تعصفُ بها الريحُ ولا تُقـاوم . .
تحرّكت خطواته مبتعدةً بغضبٍ ليتّجه نحى الباب وهو يلفظُ بصوتٍ آمرٍ حـاد : تجهزي عشان نمر امّك ...
،
اتّكأت على البـاب وهي تسمحُ لدموعها بأن تسقطَ دونَ تصديقٍ بمـا يحدث وبهذا العيدِ الذي سُرقَ فيه ابتسامته وصوته الحنون كمـا غـادرت عنه والدتها .. همسَت بغصّةٍ وهي تراه يبتعدُ عنها حتى يخرج من الشقـة : مو معقولة بتطلع وأنت ما عايدتني ومتجاهلني بهالشكل !
أدار رأسهُ إليها لينظر بجمودٍ لملامحها دونَ رد، في اللحظةِ التي شدّت فيها جيهان على أسنانها هاتفةً بقهرٍ وألـم : فوق ما إنّك حرمتني من امّي ومن صوتها بهاليوم اليوم قاعد تحرمني منك ! ليه تقسى علي بهالطريقة وكأنّك ما تبيني أفرح !!!!
ابتسمَ بأسـى، ابتسامةً كـانت مُعتمـةً ونازفـةً للحديثِ الذي لم يبتعِد عن هذا النطـاق، يبدو أنّها لن تنسى تذكيره بأنـه في نظرها - قتل امّها -، لن تنسى ان تذكره في حينٍ وآخـر . . بينما كانت أرجوان تراقبهما بصمتٍ بـائسٍ وهي تعقدُ حاجبيها دونَ رضـا بما قالتـه اختها لكنّها صمتت لا تستطيع قول شيء.
صدّ يوسف عن ملامح جيهان التي غلّفتها بضع قطراتٍ من الدمـع ، وبحزنٍ هتف : كل عام وأنتِ بخير.
جيهان بقهرٍ وأسـى : بس؟
يُوسف : الله يطول بعمرك في طاعتـه.
استفزّها، وتضـاعف قهرها لتهتفَ بنبرةٍ باكيـةٍ ودموعها تجاوزت البضعَ وسقطَت أكثر : ارضيني بمعايدتك لي كل عيد ، هالمعايدة ما ترضيني ! ما ترضيني أبد يا يبـه ... ارضيني او جيب لي امّي .. لا تصير بخيل عليْ من جهتين!
شهقَت أرجوان شهقةً خافتـةً لم تصلهم في خضمِ الضجيجِ في صدورهم، بينما رفعَ يوسف رأسه للأعلى وهو يُغمض عينيه بقوّةٍ ويزفـر ، يزفـر بعمقِ عجزه، بعمقِ عتبـه، بعمقِ غضبـه الذي لم ينطفأ منذ ثلاثةِ أشهرٍ تقريبًا.
كـانت كلماتها المجنونة كافيةً لتؤلمـه، كـانت كلماتها المتمرّدة على هيبـة الموتِ موجِعـة . . طردتهُ من سكُونه، وتحرّك نحو البابِ بصمتٍ حتى يخرج وهو يجزم في نفسه أنّهمـا سيعُودانِ لنقطة البدايـة .. ستقهرهُ منى .. حتى في موتِها !
خرجَ لتسند جيهان رأسها على إطار البابِ وتنتحبُ بخفوت، وفي تلك اللحظـة اقتربَت أرجـوان بصوتٍ مواسِي أخفَت منه عتبها : جـوج . .
قاطعتها جيهان وهي تدفُن وجهها في ظاهر كفّها الذي أسندتهُ على إطـار البـاب، وبنبرةٍ حادة : اتركينـي بحالي .. لا تقربين ما أبي أشوف أحد.
وضعَت كفيها على كتفيها دون مبـالاةٍ بما قالتـه، وبحزم : لا تقولين اتركيني لأني ماراح أسمع لك.
جيهان بقهرٍ تقاوم كفيها اللتين حاولتا جذبها وإدارتها إليها : اقلبي وجهك .. أنا منحرقة منك كفاية لا تزيدينها بقلبي عليك !
أرجوان تبتسم بأسـى : جوج لا تحوّرين الموضوع بيننا .. أنا مالـي دخل بشيء !
جيهان بصوتٍ مختنقٍ بالبكـاء : يحاكيك وأنـا لا ، يضمك وأنا لا ، يضحك معك وأنا لا ، واليوم يعايدك ويتجاهلني !! ياقوّ قلبه !! ليه كل هالقسوة؟ أنا صح غلطت بس ما يعاقبني بهالطريقة !!
اتّسعت ابتسامةُ أرجوان لاعتراف جيهان بخطئها، شدّتها بقوةٍ لتُديرها وتضمّها إلى صدرها ليكُون مسندَ الدمـع لهـا .. تقوّست شفاهُ جيهان بألـمٍ وهي تُحيطها بذراعيها ودمُوعها تسقطُ مع كلماتها التي تطايـرت حولها بنبرةِ ضعفْ، تشتكِي لها حُزنها : حتى لو غلطت ، حتى لو كان معصب منـي .. ليه يقسى عليْ بيوم عيد؟ ماهو كفاية إنها ماهي معِي؟ ماهو كفاية عليْ إنه طلقني وإني بطلع من عدتي بعد ثلاثة أيـام وهو ولا شـال همي !! ما يفكـر فيني .. نسانِي وراح لها ... * أغمضت عينيها بوهنٍ لتُردف ببحّة * شفته اليوم مع أبوي .. يضحك معـه في الشـارع ... ونسَى إنّ له حبيبة فوق .. كـان يحبني ، وكـان هالحب كذّاب.
،
خـرج ليستقبلـه نسيمُ الصبـاحِ محمّلًا برائحـة الخُبز والقهوة ، استنشق الهـواء بقوّة وهو يُغمض عينيه بأسـى ، بصدرٍ أبويٍ يئِن ، رفعَ أجفانـه لتظهر عينيه الملتمعتينِ بالعجـزِ والضيق ، يُعاقبها بصدّه هو هذه المـرة ، لكنّ دمعها يوجعُ صدره في النهايـة ... رفعَ أحداقهُ لينظُر لنافذةِ غرفتـها ويزفُر الهواء المتحشرج من بين أسنانِه ، كثيرًا ما يقلقُ عليها فـواز حتى بعد أن طلّقهـا .. لم تفسُد العلاقـة بينهما ، لكنّه بـات يعاتبهُ كثيرًا ويحتدُّ عليه حين يسألـه عنها بنبرةٍ تحاول أن تُخفي اهتمـامه ، إلا أنّ أسئلتـه تفضحه بكلّ غبـاء .. يُدرك أنّه لم يُرد أن يصلا إلى هنا وكـان يتمسّك بها بكلّ ضـراوة، حتَى هوَ تمنّى لو أنهما لا ينفصـلان ، لكنّ إرادة اللهِ أقـوى ، ولا يستطيع أن يلومَ فواز أبدًا ، لأنه قبل أن تكون جيهان من أرادت ذلك ... هيَ أخطأت ، خطأً حـال بين عشرتهما ، خطأً لا يُنسـى.
أخفضَ أنظـاره ليعقدَ حاجبيه ما إن اصتدمَ بابتسامـةٍ يعرفها جيدًا ، ابتسمَ بتلقائيةٍ وبدر يقتربُ منه ليسلّم عليه ويهتف بنقـاء : كل عـام وأنت بخير.
يوسف بنبرةٍ هادئةٍ لازال يحافظ على ابتسامته : وأنت بألف خيـر .. كيف بداية العيد معك؟!
تنهّد وابتسامتـه تهتزُّ بـضيقٍ لم يُظهره ، عيدهُ سيء ، كسـوء أوّل عيدٍ بعد أن فقد والديه وزوجتـه ، يتكرر " سيناريو الفقد " ويضيقُ فيه العيد حتى يبتئس في عينيه ، هتفَ بنبرةٍ كـانت واضحـة الكذبِ لـ يوسف : كويّس.
،
في جهةٍ أخـرى ، عدّلت شمـاغ حسام وهي تبتسمُ لهُ وتهتف : وسيم يا رب يحفظ هالجمال . .
وضع كفيه على " عقاله " وهو يبتسمُ بحرجٍ في اللحظـة التي دخلَ فيها عمهم باسمًا : يا زينه من عيد نوّر بعيـال أخوي.
رفعَت غـادة عينيها وهي تبتسمُ بخجلٍ وتضمُّ أنامل كفيها ، وبرقـة : يسلم راسك يا عمي ..
عمها خالد يقتربُ منهما ليضعَ كفّه على رأس حسـام : هاه يا شطور كيف الصلاة اليوم؟
نظر حسام إليه وهو يبتسمُ بحماس : حلو ...
خـالد : والمكآفئة لك عيدية تتشرط فيها كم تبي.
نظـر حسام لغادة التي بقيَت تبتسم له ، أعـاد نظراته نحو عمه ليردّ بفـرح : بتعطيني أي شي؟
خـالد : عيديتك فلوس الحين .. بعدين بعطيك هدية خاصة.
حسام : إذا ما كانت فيفا ما أبي ..
ضحكَت غادة وضحكَ معها عمّها، بينما أردف حسام بحنق : عزوز صاير يحرّني دايم بحقه .. يقولي عطني فلوس وأخليك تلعب.
خالد : هههههههههههههههه ما عليك منه أنا أجيب لك فيفا وكل اللي تبيه.
ابتسمَ بسعادةٍ والتمعَت عينـاه مكرًا بعد أن وجَد ما يُغيظُ بهِ ابن عمّه الذي يشاطـره العمر .. ارتفعَت نظرات خالد إلى غادة ليهتف وهو لا يزال يبتسم : توني مكلم بدر.
غـادة تبتسم وطيفِ حزنٍ يرتسـم : كلمته بعد الفجـر وتطمنت عليه.
خالد : ما علمك متى بيرجع؟ سألته ولا عطاني جواب.
غادة بأسـى : أنا بعد ما أدري .. هو نفسه ما يدري .. متى ما خلص شغله بيرجع.
،
توقّفت السيـارة بعنفِ احتكـاكِ إطاراتها فوق الطريق، نظـرَ للمنـزل بعينينِ يتطـايرُ منها الشـرر .. كان يُعيد الاتصـال بهِ مرارًا وتكرارًا ليجدهُ مُغلَق ، يُعيد الاتصـال ليردّ عليهِ صـدى عدمِ الرنيـن ، يُعيد الاتصـال ليردَّ عليهِ هسيس الموتِ الذي لربّمـا أخذَه ... أخـذه ! أخذه من هذهِ الدنيـا وبجدّيةٍ هذهِ المـرة !! أخـذه ، ليحترق قلبـه ، بينما ذاكَ لم يُبـالي ... كيفَ لا يبالي وهو أخـوه؟ كيف لا يُبـالي !! لا يفهم حتى الآن كيف لم يحترق لأجلـه ، بينما الغريبُ يحترق ، من عرفه لسنواتٍ يحترق ! وذاك كـان معهُ لأكثـر من ثلاثِ عقُود .. كيف لا يحترقُ لأجلـه؟ كيف يودِي بهِ لكلّ هـذا !!
اشتعلَت عينـاه أكثـر وهو يراه يخرجُ ومن خلفهِ أنثـى تلحّفت بعباءتها ، لم يُبـالي بشيء .. وترجّل من السيـارة بجنون ، ترجّل وهو يتخيل صورة متعب الآن غارقًا في دمائِه ، يتخيّل تلك الصورة ويزدادُ غضبه الذي جعل عقلهُ يغيبُ خلف المنطقِ ليتهوّر ولا يُبـالي بنتائِج تهوّره ..
صعَدت أسيل السيـارة ، فتحَ شاهين بابهُ وهو يضحكُ ويحرّك شفاهُه بكلمـاتٍ لم يسمعها أدهم الذي كـان يقتـرب ، قطعَ الخطواتِ بينهما ، وما إن اقتربَ ظلّه حتى انتبـه شاهين لجسدٍ اقترب .. استدار بتلقائيـةٍ لتستقبلـه لكمةً من قبضـة أدهـم ، تعالَت معها صرخـة ذعـرٍ من أسيل وهي ترى شاهين يتراجعُ ويسقط على الأرض بعد أن جاءته اللكمـة بغتـة ، لم يتركْ لهُ أدهـم مجالًا للاستيعـابِ وهو يصرخ : . . .
،
لم يشعـر أنّ الوقتَ يهرولِ بعجـل، لم يشعُر بالعبثِ الذي حدثَ من حولِه ، لم يستمعْ للضوضـاء .. نسيَ فيصل ولحظـة الموت لأنّه الآن ميّتٌ ببؤسـه ، بفقده .. ينظُر للأرضِ وعينيهِ تُظلمـان ، يغرقُ في قبـر أفكاره أكثر ويبخلُ عنـه ضريحٌ يوصمُ هويّته التي فقدَها .. تأخّر غيـاب الروحِ وهو يترك لعينيه أن تلتمعـا بألـم ، أخذها منـه ، كما أخذ هويّته ، أخـذها منه ، كما أخذ حياتـه ، أخذها منـه . . من جديد ، هاهوَ يخذلـه ، يؤذيه بكلّ ما يستطِيع ... أخذها منـه ! أخـذها ، وتركتـه .. ماذا بقي؟ إن كـان أخذ نصفًا والآن نصفٌ آخر فماذا بقيَ غير الروح التي نُقشَ فيها " عُلا "، هذه الروح التي ستغادره الآن ... ماذا بقي!!!
لم يستوعب في تلك اللحظـة أن موته تأخّر ، أنّه يحتضرُ في عواطفِه وفقده ، لم تحتضـر روحه بعد .. لم يستوعب عقله الذي بقيَ يركّز النظر للفـراغِ بعينٍ مـاتَ فيها ضوءُ الحيـاة .. حتى اعتلت صرخـةٌ من بين الضوضاءِ حوله والتي لم يستوعبها ، صرخـةٌ من حنجرةٍ حـازمة : انتبهُوا له ... لا يهــرب . .
.
.
.
انــتــهــى
موعدنا القـادم الخميس إذا ربّي كتَب لنا لقاء.
البارت قصير بعض الشيء بس البارت الجـاي بيكون طويل وفيه شيء بيعجبكم :$
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|