كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
البارت اليوم طويل جدًا، + دسم بحجم المدة اللي ظليت أكتب فيها ، أقرأوه على وقتين متفاوتين ما أحس بتركزون لو قريتوه مرّة وحدة :"" فيه كم موقف متأكدة بيصدمكم وبيمنعكم تركّزون على اللي وراه، عشان كذا قاعدة أقُول عادي وقّفوا قراءة وبعدين كمّلوا بوقت ثاني، ضروري التركيز :"" ومثل ما حكيت هالبارت بيكون البارت الفاصل بين زمنين - بنعدّي كم شهر بس -.
عندي كلام طووويل بيخلص الوقت ولا خلصته ، كلام عن فتنتكم، عن حبي لكم، وعن حظي الكبير فيكم، نأجّل الكلام ونخليكم في البارت عارفة ما ودكم تشوفون وجهي وتقرأون ثرثرتي :( :$
ربي يسعدكم ويخطّ الراحـة في حياتكم كلّها ، الله يحقق لكم كل أمانيكم ويجعل الجنـة هي داركم ودارنا :$ أحبكم ()
*
بسم الله نبدأ ،
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيـكم عن العبادات ..
- جزء اليوم إهداء للجميلة علياء ، ربي يسعدك ويطوّل عمرك بالطاعـة -
قصيدتنا هالمرة من قصائد الاسطورة فاروق جويدة، بترت جزء بسيط من طولها بس ما قدرت أبتر الباقي من فتنتها :( اقرأوها لأنها تحاكي الشخصيات اليوم وتحديدًا " سلطان، غزل "،
لأن الزمان طيور جوارح
تموت العصافير بين الجوانح
زمان يعيش بزيف الكلام
وزيف النقاء.. وزيف المدائح
حطام الوجوه على كل شيء
وبين القلوب تدور المذابح
تعلمت في الزيف ألا أبالي
تعلمت في الخوف ألا أسامح
ومأساة عمري وجه قديم
نسيت ملامحه من سنين
* * *
أطوف مع الليل وسط الشوارع
وأحمل وحدي هموم الحياة
أخاف فأجري.. وأجري أخاف
وألمح وجهي كأني أراه
وأصرخ في الناس: هل من دليل؟!
نسيت ملامح وجهي القديم
* * *
وقالوا..
وقالوا رأيناك يوما هنا
قصيدة عشق هوت.. لم تتم
رأيناك حلما بكهف صغير
وحلوك تجري.. بحار الألم
وقالوا رأيناك خلف الزمان
دموع اغتراب وذكرى ندم
وقالوا رأيناك بين الضحايا
رفات نبي مضى.. وابتسم
وقالوا سمعناك بعد الحياة
تبشر في الناس رغم العدم
وقالوا وقالوا سمعت الكثير
فأين الحقيقة فيما يقال؟
ويبقى السؤال
نسيت ملامح وجهي القديم
ومازلت أسأل.. هل من دليل؟!
* * *
مضيت أسائل نفسي كثيرا
ترى أين وجهي..؟!
وأحظرت لونا وفرشاة رسم.. ولحنا قديم
وعدت أدندن مثل الصغار
تذكرت خطا
تذكرت عينا
تذكرت أنفا
تذكرت فيه البريق الحزين
وظل يداري شحوب الجبين
تجاعيد تزحف خلف السنين
تذكرت وجهي
كل الملامح, كل الخطوط
رسمت انحناءات وجهي
شعيرات رأسي على كل باب
رسمت الملامح فوق المآذن
فوق المفارق.. بين التراب
ولاحت عيوني وسط السحاب
وأصبح وجهي على كل شيء رسوما.. رسوم
وما زلت أرسم.. أرسم.. أرسم
ولكن وجهي ما عاد وجهي..
وضاعت ملامح وجهي القديم
(70)*2
قطراتٌ تصتدمُ بالنـافذة، مطرٌ وليد، ديمٌ وصوتُ برقٍ تحشرجَ بين الغيُوم، هذهِ الأرضُ تسقيها الماءُ ولا ترتوي، ارتواؤها الظاهريُّ كاذب، ماذا تعنِي الخُضرةُ والمشاعرُ جدباء؟ لو تُحرثُ ذاتنا ويُزرع فيها بسمة، تكبرُ فيأتِ موسمُ الحصـاد، موسمٌ لا تبكِي فيهِ عينٌ على وجهِ الأرض . . يولدُ الأطفال فيبكون، بكاءٌ هو استقبـال للحياة، من ذا الذي يستقبلها بضحكة؟ هذهِ الحياة التي تُظهر أنيابها في كلّ يوم، هذهِ الحياة التي يشقى فيها الجميع ويُغادرون بعينٍ أرهقـها البُكـاء.
تنهّدت بـوجعٍ وهي تفركُ عنقها بأناملها المُتيبّسة، نظـرت نحو النافذةِ التي تبكِي ضربات المطرْ، كانت مشرّعة الستائِر، نسيَت أن تُسدلها قبـل منامِها، أن تُنهي بذلك مسرحيّة يومها الروتينيّ البـارحة، المفترضُ أن ترفعها اليوم وتبدأ بمسرحيّة يومٍ جديدة، لكن ما الجديد؟ ما الجديد وهذهِ الرتابة تخنقها؟
نهضَت وهي تستغفرُ وتسبّح، اتّجهت نحوَ النـافذة، رفعَت كفّها بعد أن توقفَت، لامسَت البرودة والقطـرات من خلفِ الزجـاجِ البارد، كانت قطراتًا قليلة، شحيحةً لا تكفِي رائحتها حتى تسترخي من روائِح الضيق.
بقيَت تتأمّل الشـارعَ المبلول، في كلّ شتـاءٍ يستقبلك أيّها المطـر، تزورهُ وتُغرقه، وهو صامت، كشيخٍ حزين، شكى لهُ النـاس، وابتسم! بقلبٍ مواسِي، أخـذ الكثير من آلآمِهم، وبكَى حين اجتمعَت فيهِ وأوصدَته عن الفـرح، في كلّ موسِم شتاءٍ يوصَد، يبكِي، تجتمعُ الآلآم على مدى أشهـر، وتنبثقُ منه الجـراح فيك يا أيّها الشتـاء . . لحظة! نحنُ لسنا في الشتـاء، بأيّ حقٍ بكـى؟ ولو أنّ بكاءهُ الآن مجردُ نشيجٍ مُقطّع ، إلا أنه بكى!!
ابتسمَت، يُجيد المطـر الخداع، جـاء في أطرافِ الربيع، يجيءُ في أيّ وقت، لمَ أصبح المطر حزينًا هكذا؟
تراجعَت واتّجهت للحمـامِ وهي تطلقُ هواءً باردًا من رئتيها، ورغمِ برودةِ الأجواء إلا أنّ الحرارةَ فيها لا تخمـد، لذا وجدت نفسها أسفـل ماءٍ باردٍ جعل جسدها ينتفض، لكنّها لم تشعر بتلك البرودةِ فعلًا.
في الأسفـل . . وضعَ فارس ملعقةَ الشربـة الساخنة بعد أن أنهى إطعـام والده الذي حمد الله، رفعَ أنظـاره لفارس ليلفظَ بحدة : كم مرة قلت لك اطلع لجنان معقول للحين ما صحت؟
نظر لهُ فارس بوجوم : يبه الله يهديك رامي طلع لها من وقت.
ناصر بضيق : وللحين ماجاء؟ لا يكون نساها وراح يلعب؟
فارس بعتب : وليه ما تكون هي رفضت تنزل؟
صمتَ ناصِر وطغـى الضيقُ على عينيه، أصبحَت ترفض الطعـام كثيرًا كما أنّ نفسيتها ساءت وهو السبب، لا أحـد سواه!
لم ينطق بشيءٍ آخر بينما أكمل فارس فطوره بمزاجٍ سيءٍ ورغبتهُ انعدمَت وهو منذ أيـام يرى نفسيتها ولا يستطيع فعلَ شيء، ليتها على الأقل تخبره ما بِها! ترفضُ دائمًا وتقول له " اسأله هو ".
وفي تلك اللحظـة كانت جنان تدخُل وتُلقي السـلام بصوتٍ هادئ، ارتفعَت الأنظـار إليها مباشرة، وانشرحَت ملامحُ ناصِر بينما ابتسم فارس وهو يهتف : وعليكم السلام والرحمة ، ما بغينا نشوف الزين من صباح الله خير.
ابتسمَت ببهوتٍ وهي تقبّل رأس والدها ومن ثمّ تذهب إلى فارس لتقبّل وجنتهُ برقّة، وبمشاكسة : بعلّم زوجتك بعدين وبقولها يتغزل فيني.
جلست بينما ضحكَ هو هاتفًا : لا تفتنين بيننا خلينا حبايب.
جنان تتناولُ التوست : خذلك وحدة أجمل مني عشان ما تغار، ولو إنّي متأكدة ماراح تحصل.
فارس : هههههههههههههههههههههه الله أكبر يا الثقة لا ينكسر راسك من كُبرها بس.
جنان ترفعُ إحدى حاجبيها : ما بتحصل أجمل مني مووووت
مدّت لسانها ليبتسم ناصِر لروحها الزائفة كلّ صبـاح، كيف لا يرى زيف ضحكاتها، نظراتها، كلماتِها .. يرى كلّ ذلك بوضوح، يفهمها أكثر من نفسها.
هتف بابتسامةٍ ونبرته الحنونةُ تغلّف صوتَه : يا ليتني أشوف ضحكتك أصدق من كذا . .
تلاشَت ابتسامتها وهي ترفعُ نظراتِها لهُ في اللحظة التي عقد فيها فارس حاجبيه ونظر لهُ بعتب.
مررت جنـان طرف لسانها على شفتيها، ملامحهـا الباهتة بهتت أكثـر، عيناها التهبَتا أكثر .. وجدَت نفسها دون شعورٍ لا تُبالي بتواجدِ فـارس، لا تبـالي بسماعِه، لا تبالـي بحجمِ ما أرادَت اقتنـاء ولو نصفِ حقيقة!! ... هتفَت باندفـاعٍ ونبرتها حملت كثيرًا من اللوم، كثيرًا من العتـاب لأنّه هو سبب الزِيف وسبب هذا الابتسامة التي بترها كذبها : بيدك توخّر كل هالضيقة بصدري .. احكي يبه، علّمني عشان أرتـاااح.
تنهّد بضيقٍ وهو يشتت عينيه عن فارس الناظِر لهما باستنكـار، لفظَ بنبرةٍ واهنـة : قفلي الموضوع.
جنـان باندفاع : مانـي مقفلته، تعبت وأنا أنتظـر منك تبرير! أنت تدري من وين دريت بالكلام اللي ما أدري هو صدق أو لا؟؟! تدري إنّه هيثم اللي علّمني بيوم عمليتك !!!
نظـر فارس نحوها بحدةٍ حين سمع اسم هيثم، وبغضب : وش يبي هالكلب بعد؟!!
جنـان بأسى : علّمني شلون أبكي كل يوم.
فارس بحدةٍ أخافته كلماتها تلك : وش سوّى فيك؟ علّميني عشان أوريه المرجلـة شلون !
ناصِر : شدخل هيثم بالموضوع؟
جنان بقهر : هذا اللي أبـي أفهمه منّك ، هيثم يدري بالحقيقة وأنا لا ، هيثم علّمني باللي ما علمتني أنت وقالّي اللي قاعد يوجعني لهالوقت .. قولّي وريّحني ، قولي هو صادق أو لا !!
صمتَ فـارس بحيرةٍ بعد أن ضـاع بين كلماتِها، كـان ثائرًا منذ أن ذكَرت اسمَ هيثم، لكنّها في كلمـاتها المُبهمة زرعت فيه الحيرة حتى صمتْ.
أشـاح ناصر عينيه وهو يغضّنها بغيظٍ من ذكر اسم هيثم، ما دخله؟ وما الذي قاله لها بالضبط؟ كيفَ علِم؟!!
جنان بألـم : يبه ..
ناصر بحدة : قفلي عالموضوع ..
لفظَت بأعصـابٍ توشك على الانهيـار : قولها ، قولها قدّام فارس ما عاد يضر لو درى ، قول إنّي بنت أبوك بس ماني بنت أمّك ، قوله إنّي أخته من الأب بس!!
،
وضعَت كفّها على فمها وهي تتثاءب، تتحرّك بعينين شبه مغمضتين وفي ذاتِ اللحظةِ ترفعُ يدها اليُسرى لتنظُر لساعة معصمِها، وبتذمّر : الساعة 8!! الساعة 8 وش مصحيك بيوم إجازة يا الخايس!!!
نظـر لها مبتسمًا حتى ظهرت أسنانه، كـان يجلسُ على الأريكةِ أمام التلفـاز وهو يفردُ ذراعهُ اليُسرى على راحةِ الأريكةِ خلفه، يضعُ إحدى ساقيهِ فوق الأخرى، بينما يدهُ اليُمنى تحملُ جهاز التحكم بالتلفـاز .. لفظَ بمشاكسة : وش جوّك تنامين لهالساعة؟ لو كنتِ بدّلتي ملابسك كنت قلت كاشخة بملابس نوم بس حتى وجهك منفّخ ويخرّع ..
نظرَت لهُ نظرةً تلتهبُ وهي تنفخُ فمها، وبامتعاض : قد مسحت وجهي وفرّشت أسناني والله ، بس ما نمت الا بعدك بساعتين وفي النهاية نمت من غير لا أحس والساعة واكسسواراتِي عليْ.
مدّ سيف يدهُ لها بعد أن وضعَ جهاز التحكّم، وبابتسامةٍ حنونة : طيب تعالي جنبي، ليه وجهك مصفّر كذا؟
اقتربَت منه لتجلس بجانبه، وملامحها كـانت شاحبةً بدرجةٍ كبيرة، أحـاط كتفَها وهو يعقدُ حاجبيهِ قليلًا بينما همسَت هي بإرهاق : ولدك متعبّني.
سيف : وش مسوّية فيك بنتي؟
ديما بحدةٍ مستوجعة : قلت ولدك ،
سيف يبتسم : خلاص ولدي ، وش مسوي فيك الدب؟
ابتسمت ديما بغنجٍ وهي تُحيط ذراعه، وبكلماتٍ متدللة رغمَ لكمةِ الوجعِ فيها : مثل أبوه ، قاعد يوجعني ويتسلى.
سيف بحنان : ألا قليل الأدب لو يطلع على أبوها ذبحته ...
ابتعدَت وهي تضحكُ بقوّةٍ رغمًا عنها : لو يطلع على أبوها ذبحته!!! ياخي بإذن الله ماراح تكون بنت لا تمنّي نفسك وتنكسر آخرتها.
سيف يبتسمُ بعد أن أدرك ما قـاله : تراني أدعي من وراك تكون بنت.
ديما بحقد : الله لا يتقبل منك.
ضحكَ وهو يضمّ كتفيها إليه : استغفر الله بس . .
تصـاعد في تلك اللحظـة رنينُ هاتِفه، حملهُ بعد أن كـان بجانبه، وما إن رأى الرقم المُتّصل به والذي سجّله تحت اسم " ام زياد " حتى بهتَ وارتخَت ذراعهُ حول كتفها، ردّ مباشـرةً متناسيًا وجودَ ديما أمـام فكرة أن يكون زياد قد حدثَ له شيء، فهي لا تتّصل بهِ عادةً إلا لأمرٍ مهمٍّ يخص زياد ونادرًا ما يحدث ذلك.
ردّ ليهتف بعجلة : نعم!
بثينة من الجهةِ الأخـرى لم تُلقي السلام، بل فاجئتـه بهجومٍ عنيفٍ من جهتها، لفظَت بكلّ حقدٍ وغضبٍ وصوتها العالي يكاد يطُول الصـراخ : الله ياخذك، الله لا يبقي فيك عظم سالم وش سويت بولدي؟
اتّسعت عينـاه بصدمةٍ من هجومها، بينما ابتعدَت عنه ديما متفاجئةً من الصوتِ الذي وصلَ إليها من حدّته، الصوت الذي كـان لأنثى!!
سيف بحدة : وش صاير أم زياد وش فيه زياد الحين؟
بثينك بحقد : قلبته عليْ؟ قدّرك ربي تغسل مخه وتقلبه بعد ما كـان وضعه كويّس؟ فوق كذا كنت تحذّرني أشوّه صورتك عنده، كنت تهدد وتتوعّد والحين تروح أنت وتسويها فيني؟!!!
سيف بقلّةِ صبرٍ بدأ يهزّ قدمه وهو يكاد يفقد أعصابه منها : يا بنت الحلال احكي معي زي الناس وعلميني وش صار؟!!
بثينة بقهرٍ تكـاد تبكي وتقاوم بكاءها أمـام مسامعه : زياد رافض يفطر، رافض يبدّل ملابسه، رافض يسمع كلامي .. يقولي أبي أبوي ما أبيك .. أنت وش مسوي بولدي؟!!
سيف بصدمةٍ اتّسعت عينـاه غير مستوعبٍ ما تقول : شلووون؟
بثينة ودموعها تسقط دون أن يفضحها صوتها : اسأل نفسك، صحى يبيك ما يبيني ، ما يسمع كلامي ورافض ياكل ويحلف إنّه يجوّع نفسه أهم شيء تجيه.
عقد سيف حاجبيه، في اللحظة التي انتزعَت ديما جسدها منه ونهضَت يملأها الغضبُ والغيظِ وغيرتها الأنثويّة اشتعلَت! ابتعدَت عنه ودخَلت غرفة النومِ وهي تكاد تنفجر، لم ينهض حتى! لم يبتعد حتى لا تسمعه بل ردّ بكلّ وقاحـةٍ أمامها وكأنّ مشاعرها لا تعنيه، كأنّها لن تهتم أو هو الذي لم يهتمّ لهـا، ألا يعلـم أنّها لمجرّد التفكير في أنّه قد يرجعها لعصمتهِ تقتلها؟ دونَ تخيّل أنّه سيحادثها وجهًا لوجه، سيُمسك يدها، يقبّلها، ستكون زوجته وتمتلكه بمشاركتها!! هـذا كثيرٌ على أنثى مثلها، كثيـــرٌ جدًا.
سحبت الوسادة لترميها على الأرضِ وهي تصرخ من بين أسنانها بحنق، وبغضب : وهي بعد الحشرة قليلة الأدب ليه تحاكيه؟ حسبي الله عليك ، حسبي الله عليييييك.
في الخـارج، لفظَ سيف باستنكار : يبيني أجيه الحين؟
بثينة بحقدٍ من الجهةِ الأخرى وهي تمسح دموعها : أي ، تعال الله لا يبيحك ، ماهو راضي يآكل ولا يسمع كلامي ، خذه ما عاد أبيه جالس يبكي وأزعجنـي .. واسمع! لو أدري إنّ الحرباية مرتك هذيك قالت له شيء والله لخليها تشوف نجوم الظهر.
سيف بحدّةٍ غاضبـة : احترمي نفسك والزمي حدودك يا بثين، ديما خليها على جنب مالك شغل فيها.
بثينة بحدةِ محاربةٍ على أطفالها : شلون مالي شغل فيها وزياد قايل لي إنها كم مرة حاكته بأسلوب زفت وفوق كذا مخوّفته دايم بنظراتها؟ شكلها العقيم غيرانة منه هه.
وقفَ وعينيه اشتعلتـا بغضب، تجاوزَت حدودها كثيرًا في الكـلام، لم تعُد تزن ما تقول لذا لفظَ بنبرةِ وعيدٍ من بين أسنانه : العقيـم أبشّرك حامل، وأنتِ خليك بشخصيتك الزفت وأسلوبك المُنفر وماراح تحصّلين غير زياد!
ابتسمَت بتحدّي : بتزوّج ما يضرني ، وبجيب عشر بعد وبتشوف.
ابتسمَ سيف بسخريةٍ وهو يرفعُ إحدى حاجبيه يتحدي مماثـل : أي بتتزوجين، وبتجيبين عشر ، وكل هالشيء قريييييييب إن شاء الله.
لم تفهم قصدهُ من الكـلام، لذا تأفأفت بضجرٍ وهي تلفظ بنزق : يلا تعال وفكني من صياحه ، ولو اكتشف وش معبي راسه علي والله لعبي راسه بضعفه.
سيف بحدة : قلتلك يا بنت أبوك ما قلت له شيء ماني لئيم مثلك . . جهّزيه بمره الحين . .
أغلقَ وهو يزفُر بحنقٍ منها، لم تتغيّر أبدًا، ويبدو أنّها لن تتغير ما عـاشت، ستبقَى بثينة ذات الأسلوب الوقحِ والمتمرّد، لكنّه لن يرضى، إن أعـادها لعصمتهِ لن يرضى وسيتعامل معها هذه المرّة بالأسـلوب الذي لم يره أحدٌ ولن تراه سواها، سيف بوجهٍ آخر كي يروّضـها.
أدارَ عينيه في الصـالة ليعقدَ حاجبيه حين لم يجد ديما، انفردَت عقدةُ حاجبيه، وعضّ طرف شفتِه حين استوعب أنّها كانت بجانبه وقت حديثهِ مع بثينة . . تحرّك وهو يقلّب عينيه بصبـر، الآن ما الذي سيجعلها ترضى من جديد؟ بالتأكيد علمت أنّه كان يحادثها من صيغة الأنثى كما أنّه قال " ام زياد "، تمتمَ بحنقٍ وهو يتّجه لغرفة النوم : الله يصبّرني وش هالبلوة اللي محصلها بحياتِي!
دخـل الغرفة وهو يردف بهدوء : ديمـا . .
لكنّه صمتَ فجأةً حينَ وجدها ممددةً على سريرِها نائمـة، انفردَت ملامحه بعد اشتدادِها، وابتسمَ ابتسامةً طفيفةً وهو يراها ممددةً بالعرضِ على السرير، قدميها متدليان على الأرض، هيئتها جعلته يعطفُ عليها ويلوم ذاتـه لأنّه أيقظها رغمًا عنها باكـرًا.
اقتربَ منها حتى يعدّلها ويغطّيها ، وضعَ رأسها على الوسادةِ بعد أن حملها، سحبَ اللحـاف من أسفلها ورفعهُ على جسدها، ومن ثمّ وضعَ كفّه على شعرها يمسحُه بحنـان، لكـم ظُلمنا ، أنا وأنتِ ، كنتُ ظالمًا ومظلومًا، ظلمتكِ وظلمتُ نفسي، انقشَع ضبـاب صدرِي يا ديما، كُنتِ الريح الكافيـة لإثارةِ زوبعةٍ تكفِي لتشتيت هذا الضبـاب فيّ، لجعلِ مشاعري أكثـر وضوحًا، لجعلي - سيفك -، وأنتِ غمدِي! لجعلـي أستسلم.
قبّل جبينها ومن ثمّ ابتعدَ ليغلق البـاب ويخـرج ، يريد تركها تنـام بأريحيّة ، ولم يدرك أنّها كـانت قد فقدت وعيها ، لم تنَم!
،
حينَ أشرقتْ عينيها وجدَت أنّها أشرقت على أرضٍ زارَها جفـاف، زارهـا القحطُ لأيـامٍ تشعر أنّها طالت وتجاوزَت أيام العطاء ، هذهِ الملامحُ الرقيقة في المنـام كيف يجفّ عطاؤها؟ هل تملكُ جوابًا مقنعًا؟ هل هناك جوابٌ مقنعٌ سوى " غدرت بِه "!
مررت طرف لسانها على شفتيها الجافتين وهي مُمددةٌ على جانِبها الأيسر، بينما كان هو يتمدد على جانبِه الأيمن وملامحهُ المسترخية تُقابل ملامحها، حاجبيه اللذين كانا ينعقدان كثيرًا في الأيـام السابقةِ يسترخيانِ الآن، شفتيه القاسيتين ومعبَرُ سلاحِه - الكلمات - منفرجتين قليلًا يعبُر من بينهما الهواء، شعرُه الكثيفُ يمارسُ الفوضويّة بصورةٍ جعلتها رغمًا عن إدراكها ليدِها تمسحُ عليه وتهذّبه، تهذّب الفوضويّة فيه وليتها تهذّب فوضويّة مشاعرها أو تدركها على أقلّ تقدير! ليتها تهذّب كلماته، مهارتهُ في التجريح بكلماتٍ بسيطة، لازالت تذكُر بعد أن أعلمته بما قال والدها في اتصاله وبعد أن قالت له " وراه مصيبة كبيرة "، ليردّ عليها بجفاء : مصايب بعد، أبوك كل حياته عايشها بمصايب، وأوّل مصيبة بحياته كانت أنتِ.
صمتت يومها، ولم تعُد تجيدُ معه سوى الصمت على إهاناتِه، تزدادُ ملامحها ذبولًا، كم يُجيد القسوة ويمارسها بحدّة تجرحُ ولم تقتل، امتلأ داخلها بالجراح، لازالت تنزف، لكنّها لم تمُت بعد.
تذوّقت ملامحه بعينيها، ملامحها لازال يطوف فيها النعـاس، وملامحهُ يطوفها قوّة جاذبيةٍ شدّتها بجنونٍ رغمًا عنها، كفّها مستقرةٌ على شعرهِ دون أيّ حركـة، وعيناها ترتفعـان لعينيه، حاجبيه، جبينهِ وجرحٌ طفيفٌ تلاحظه لأوّل مرةٍ عند مفرق شعرِه، لم يكُن الجرح واضحًا، تخيّلت في تلك اللحظة أن يكون سقطَ على شيءٍ في طفولتِه اليتيمةِ وهو يركض! فعاشَ هذا الشرخ الباهت في أعلى جبينه . . ابتسمَت وعيناها تنزلقـان إلى بقيّة ملامحه، أنفه، شفتيه، عوارضه .. استطاعت معاودة الكرّة وتأمّلته.
غرقَت أناملها في شعرِه، تذوّقت بالأخـرى ملامحه، هذهِ المرِة لامسَت شفتيه بأطرافِ أصابعها، وأناملها الأخرى تمتّعت بملمسِ شعـره بأريحيّة . . لا يكفيها تذوّق ملامحه بالنظر، حتى إن نهضَ وجرحها بكلماتٍ أخرى . . لامسَت شفتيه بكلّ جرأة، عينيه، ودغدغَت رموشهُ بخفّة، قد يستيقظُ في أيّ لحظةٍ يا غـزل، كفّي عن جنونك !!
ابتلعَت ريقها بتوتر، واضطربَت والجذبُ في ملامحهِ جعلها تقتربُ أكثـر، أنفاسها تسارعَت، صـارت قوّتها أكبر ، وكانت أنفاسها بحرارتها كافيةً ليشعر أخيرًا وتنهضَ حواسه بالكـاملِ بعد أن كان شبه مستيقظٍ لملامسة أناملها الباردةِ لكنّ إطـار استيقاظِه لم يتجاوز الشعور النـاقص.
بهتَ شعورهُ حين شعرَ بملمسٍ ناعمٍ على عينِه اليُمنى، كانت شفاهُها التي قبّلته قبلةً سريعةً ختـامًا لجنونها قبل أن تبتعد وهي تتنفّس بانفعـالٍ وتنتفض للتيـار الذي سرَى في جسدها .. لم يتحرّك! تجمّدت حواسـه بينما نهضَت هي على عجلٍ وابتعدَت عن السرير بفوضويّةٍ متناسيةً أنّ فوضويّتها قد تُيقظه ولم تُدرك أنّه استيقظَ وانتهَى الأمر.
لو أنّهُ نهضَ في خضمِ ذاك الجنون لجرحـها جرحًا أضعافَ جراحهِ السابقة لها، لكـان جعلها تبدأ صباحها بندَى العيُون على زهرِ الوجنـات، ولم تدرك أنّه بقيَ جامدًا وقتها ولم يصرخ في وجهها بملءِ إرادتـه، تركَها حتى سمعَ صوت باب الحمـام يُغلق، حينئذٍ فتـح عينيه الناعستينِ بهدوء .. أطـلق زفـرةً عنيفةٍ وهو ينقلب على ظهرهِ وينظُر للسقفِ المنقوشِ بنظراتٍ شـاردة، نظراتٍ تنقشُ وتزاحم السقفَ بعبثِ اضطراباتِ صدرِه، بات متأكّدًا أنّها تحبّه! خشيَ كثيرًا من أن يقعَ هذا الشيء، لكنّه وقع! وقعَ وأوقعهما في حفرةٍ لا قـاع لها، في نارٍ لن تنطفِئ أبدًا ولن تقلّل من بطشِها الزفـرات، كيف يجعلها تكرهه؟ إن كان بالرغم من كلّ تعامله القاسي لم تكرهه بحجمِ ما ظهرَت مشاعرها وطفَت على سطحِ أفعـالها، رغمَ كلّ شيء، جراحهِ بنصلِ كلماتِه، قسوتِه التي يمارسها بكلّ براعـة، فماذا بقيَ حتى تنفر منه وتكرهه؟
أغمضَ عينيه وهو يرفعُ ذراعه ويغطّي بها عينيه، زفـر زفرةً من بضعِ زفـراتِ الجحيم، تتضاعفُ نارهُ ولا يعرف كيف يُطفئها، التحمَت نيرانٌ عديدة، التحمَت حتى أصبحَت نارًا عظيمة، تصرخُ وتُذيبُ بصرختها، نـارٌ ما بينَ ماضٍ وحـاضر، ليس مستعدًا لنـارٍ جديدة، نارُ حبّها الذي لا يريد ونارها الأولى في الغدر لم تنطفئ، ليسَ مستعدًا !!
بينمـا في الحمـام، كانت قد فتحَت المـاء وتركتهُ ينسابُ على شعرها وجسدها بأكمله، تُطفئ تلك الرعشة التي أصابتها من حجمِ جنُونها، ما الذي تفعلهُ يا الله؟ لقد جنّ جنونها، كيف تقترب منه بتلك الطريقة وتنجرف نحوه؟ .. أغمضَت عينيها والماءُ يُثقل أهدابها وأجفانها .. وشفتيها تشعر أنّهما تحترقـان، أناملها تشتعل، وخصلات شعرهِ لازالت تغرقُ فيها، ما الذي يحدثُ لها؟ ماهذا الانجراف الذي يُصيبها نحوه؟ باتَ كتيّارِ نهرٍ جـارف، وهي مجرّد حصى يتلاعبُ بها ويسيّرها في مسـاره .. يا الله ما الذي يحدث! ... أقف على مسارِ دائرة، ما بالي أطوفُ ولا ينتهِي طوفانِي؟ يأسرنِي في حلقة، أشعُر بذلك، ولا أدرك ما تلك الحلقة يا الله! . . ازدردَت ريقها بصعوبة . . والماءُ رُغم إغماضها لعينيها تشعر أنّه قد دخلَ وأثقل أحداقها، أمْ أنّها دموعها التي جفّت عادَت لتتفجّر من عينٍ حزينة، يا شدّة هذا الحُزن! هل يحزنُ الناس؟ هل وُلد هذا المسمّى في غيرها؟ لمَ إذا تشعُر أنّ الحُزن بأكملهِ فيها، لمَ تشعر أنّها الوردةُ الذابلـة الوحيدة في بستانِ الأرض؟ القطرةُ المالحة الوحيدة من غيمةٍ حُبلى، منذ متى كـانت الغيُوم تَلِد الملوحة؟ وكأنّها لم تكُن طفرة! دائمًا ما تأتي مختلفة، مختلفةً بطريقةٍ - سيئة -.
أغلقَت المـاء، فتحته لتبرّدَ حرارة هذا الثورانِ في صدرها، ولم يحدُث سوى أن تضاعفت، بأقسى طريقةٍ ممكنةٍ لا تشابـه إلا قسوة سلطان!
تحرّكت حتى تأخذ منشفتها وتجفّف جسدها، لكنّها تجمّدت فجأةً في مكانها حين استوعبت أنّها لم تأخذ منشفتها معها، تأوّهت وهي تضربُ جبينها .. يا للغبـاء! تلك القُبلة الهوجاء أفقدتها عقلها.
دارَت في الحمـام وهي تلوِي فمها بحنق، سقطَت نظراتها على منشفتِه المعلّقة وبجانبها روبه، لكنّها أشاحت نظراتها وهي تزفُر بغيظ، تحرّكت باتّجاه الباب تتمنّى في داخلها أن يكون استيقظ، لا بأس إن طلبت منه، لا بأس .. فتحَت الباب قليلًا وهي تكاد تُقسمُ أنّه لازال نائمًا، إن كان لم يشعُر بها وقت اقتربت منه فكيف سينهض الآن.
طافت أحداقها في الغرفة لتفاجئ بهِ جالسًا على طرف السرير ورأسه للأسفل ينظُر لهاتفِه، عضّت طرفَ شفتِها بحرجٍ ولا يظهرُ منها سوى وجهها إن رفعَ سلطان نظراته إليها .. بللت شفتيها الجافتين بتوترٍ وهي تقاوم ضعفها، لا بأس ، قوليها، استدعيه وقولي له، لا ضيرَ في ذلك هي مجرّد - منشفة - !!!
ازدردَت ريقها باضطرابٍ لتفتحَ فمها بتردد، لكنّ صوتها ماتَ فجأةً لتعود وتغلقَ فمها، أغلقَت باب الحمام وتراجعَت، لم تدري أنّ الاحراج وصل فيها إلى أنِ احمرّت ملامحها قليلًا، تنفّست بتوتر، من المستحيل أن تستخدم ما له! لـذا وجدت نفسها تعود مضطرةً لتقفَ خلف الباب وهذهِ المرّة دونَ أن تفتحه، تنحْنحَت بربكةٍ لتهتفَ أخيرًا بصوتٍ خافتٍ لم يصل إليه : سلطان.
كـان يتفقّد رسائل هاتفه، رنينُ الرسائل طغى على صوتِها الضئيل الذي يكاد أن لا يكون. عاودَت مناداته بصوتٍ أعلـى : ســلطـــان.
رفعَ رأسه وقتذاك وهو يقطّب جبينه مستنكرًا الصوت الذي ناداه، داهمـه بعض الشكّ أن يكون متوهمًا من شدّة خفوتِه، لكنّها وأدت شكّه حين عادت لتنطق : سلطااان.
لم يغادره الاستنكار بل تضاعف، إلا أنّه هتف بنبرةٍ مستنكرةٍ رغم الجمود الكبيرِ فيه : نعم !
غزل بصوتٍ مرتبكٍ بوضوحٍ لأذنيه : جيب لي منشفتي . .
سلطان : وشو؟!!
غزل برعشة : جيب منشفتي ، * أردفت بذعرٍ حين استوعبت أنّها لن تستطيع الخروج إليهِ بمنشفتها * والا لا لا جيب لي روبي ماهو المنشفة.
سلطان بسخرية : شرايك أجيب لك ملابسك بعد؟
غزل بحرجٍ وهي تشدّ على مقبضِ الباب : لا لا بس أبي الروب.
تنهّد سلطان بضجر : استخدمي اللي في الحمام.
غزل باستنكار : حقتك؟ لا وووع ما أحب أستخدم حق غيري
رفعَ إحدى حاجبيه وهو يلوِي فمه : ووع! عمومًا حتى أنا بقُول ووع لا لبستيها بس مضطر مافيني أنبش بأغراضك هذا اللي ناقص.
غزل برجاء : تكفى سلطان ما أحب أستخدم أغراض غيري.
ارتفعَت زاوية فمهِ في ابتسامةٍ لئيمة : ماعليه تعوّدي لازم نستخدم أغراض بعض من باب المشاركة الزوجية.
تضاعفَ احمرارُ وجهها بحرجٍ وهي تلتصقُ بالباب باضطرابٍ وَربكَة، وصمتَت كلماتُها ولم تجد ما تقُوله، بينما عـاد هو يتفقّد هاتفهُ وتجاهل أيّ حديثٍ آخر قد تقُوله، منذ أيامٍ وبعد أن علِم من غزل أنّ والدها قال لها أنّ ما يريد ليس لديهِ بحثَ بذاته عن اسم " الرازن "، ولم يجد سوى أمورٍ عادية أبرزها مؤسسة ضخمة لها فروعٌ في معضم دولِ العالم يترأسها " سعود الرازن ".
تراجعَت مبتعدَةً عن البابِ وهي تتأفأفُ بغيظ، نظـرت لرمـاديّتهِ في أغراضه، منشفتِه، روب حمامِه، معضمُ بجائمه تحمل ذات اللون، يا لكـآبةِ ما يرتديه! . . بالرغم من أنّ الرماديّة تناسبها هي، لكنّها ما تجرأت يومًا على جعلها تطغى، لربّما حتى تُزيّف نفسها أمـام العيـان، حتى تُظهر ذاتها بصورةٍ كـاذبة، كلّ الرمـادية هيَ، أو ربّمـا سوداء! هذا السوادُ المُهلك الذي يطبعُ ذاته في دموعها الملتحمةِ بكحلِ الجراح.
تناولَت روبه رغمًا عنـها، اقتربَ منها سلطـان في رائحته، رائحـته في كلّ شيء، في السرير، في الوسادات، في ملابسها التي تعطّرت بملابسه، في جراحِها التي لم تفُح منها رائحة الدمِ بجحمِ ما نزفَت بِه، والآن هاهـي ترتدِي جزءً مما لـه، رماديُّ يعكـس ثورانَ عينيها.
فُتـح البابُ وخرجَت، تضـادٌ حدثَ بين رماديّة ما ترتديه واسمرارِ بشرتها، وأخيرًا حُمرة وجنتيها، رمقها يُخفي ابتسامةً لا يدري من أين جاءَته، يكاد الروب أن يصل للأرضِ بتفاوتِ أطوالِهما . . رفعَ إحدى حاجبيهِ بعبث، بينما كانت هي تُشيحُ نظراتها عنهُ وهي تتّجه نحو الخزانةِ وكفّها على صدرِها بربكـة .. هتفَ بلؤم : ضرّك لما لبستيه؟ حسيتي فيه اللي يخليك تقولين وع؟
عضّت شفتها بحرجٍ وهي تنظُر للأرضِ وتضمُّ كفيها جميعهما إلى صدرها كمَن أخطأ، وبربكَة : لا مو عن كذا .. بس أنا أقرف من أي شيء ماهو لي، حتى الفنادق ما أحب أستخدم المناشف والأغراض اللي فيها عمومًا.
سلطان : كذا الموضوع أجل! بس ماعليه بتتعودين تستخدمين أغراضي شلون تقرفين من زوجك؟ لو صارلي مثلًا مثل وضعك وما حصلت الا اللي لك بستخدمه ما يضر.
ابتسمَت رغمًا عنها حتى ظهرت أسنانها، رفعَت رأسها إليهِ لتظهر ضحكةٌ لعينيه كانت تخبّئها بين جنباتِ عينيها الضاحكتين : وبتوصل لك وين؟ كل أروابي ما تنزل عن ركبتي تكفى لا تلبسها عاد ..
ضحكَت أخيرًا تتخيّل شكله، وابتسمَ سلطان ابتسامةً قاتمةً ضيّقة وهو ينهض، تلاشَت ضحكتها فجأةً وحلّ محلّها نظرة ذعرٍ وهي تظنّ أنّه قادمٌ باتّجـاهها، لكنّه خيّب ذاكَ الظنّ بـأن اتّجه نحوَ الحمـام ودخـلَ مُغلقًا الباب خلفـه.
سـرى في جسدها تيّارٌ يُشـابه التيّار الذي أصابها حين قبّلت عينـاه، تراجعَت للخلفِ لتسندَ ظهرهـا على الخزانةِ وهي تتنفّس باضطراب، تضغطُ على قلبها الذي ينبضُ بقوّة، ابتسـم، وضحكَت معه، ضحكةً فقدتـها منذ أيـامٍ طالَت، ضحكةً لم يولّدها بصدقٍ فيها سـواه ... يا الله في أيّ جرفٍ سقطتُ حتى أُصـاب بِه! مجنونةٌ أنـا، مجنونةٌ حين عانقتهُ عنـاقَ الزهرِ للرحيق، حينَ قبّلتهُ قبلةَ الخريفِ للأوراق، عينيه تجفّان من نظرةِ الحنـان، وهي! تقعُ بأقسَى وقوعٍ حدثَ في حياتِها .. هي الناقصة! كيف تفعلها، كيف تغدر بذاتِها وتقع! كيف تنسَى أنّها على جرفٍ من لهَب، ستقعُ إن اكتشفها في نـارٍ لن تنطفئَ أبدًا . . . تألّم قلبها وهي تعضّ شفتها السُفلى، نـادمة، وهل يكفِي الندم بعد أن انتهَت! هيهـات يا هذِي المشاعر أن تفوزي، هيهات يا هذا الحُب! إنّه الحب ، تعترف، إنّه الحُب أخيـرًا .. كيف وقعت بِه؟ ولمَ؟ لمَ حين وقعَت كـان وقوعها في الرجُل الذي لا يجب أن تقـع به، كُنتِ انتظرتِ يا غزل! انتظرتِ حتى تنتهِي هذه العلاقة بأيّ طريقـة، حتى ترتبطِي بسواه ويصبحَ حبّك مُمكنًا ...
تضاعفَت انقباضاتُ قلبها، من - سواه - الذي يكون كـ هو؟ هو رجُلٌ لا نظير له، حتى في قسوتِه تجدُ منه ولو القليل من الحنان، حتى في قسوتِه لم تكرهه! الرجـل الأول الذي جعلها تضحك وهو يريدها أن تضحك بصدق، الرجـل الأول الذي ركضَ خلف سعادتها بصدق، لم يكُن زيفًا، كان صادقًا في كلّ شيء، صادقًا دونَ مُقابل، لم يكُن ينتظر منها متعةً أو جـائزةً على كفاحِه، لم ينتظر منها سوى - بسمة -! وكيف تسأل لمَ أحبّته؟
سرَت رعشـةٌ على شفتيها، قبّلها ثـلاث، واحتضنَ جسدها كثيرًا، احتضـنها في بكائِها ليزرع بعد البُكاءِ راحـة، كيفَ ألومنِي بوقوعِي وأنتَ مُعجزة؟ كيف ألومنِي وأنتَ - ملاك -، لم يولد على الأرض، حتى في قسوتِك لم تمحِي كلّ حساناتِك، عُد يا سلطـان، عُد الرجل الذي يكافحُ لأبتسـم، الذي يُريدني انسانةً لا تنسـى، عُد، واتركنـي فيما بعد لآلآمي كيْ لا تكرهني، لستُ الأنثى التي سترضيك، لست أنـا يا سلطان ، وليتكَ جئتني قبل هذا بسنتين أو أكثـر، ليتكَ انتشلتني من معصيتِي قبلَ أن أكفـر بجسدِي وأرتدّ عن العفّة.
تضاعفَ ضيقها، تضـاعفَت مقدارُ هذه النارِ الباكيـة، إن خرج الآن ووجدها لا تزال لم ترتدِي شيئًا كيف سيكُون وضعها أمامه؟ بالتأكيد سيشكّ في وقوفها منذ دخل بهذهِ الطريقة .. لذا تحرّكت قسرًا لتُخرج ملابسها وترتديها بعجـل ، وبعد أن انتهَت بلحظـاتٍ خـرج يلفّ المنشفة على خصرِه، شعرهُ المُبلل تتساقطُ قطراته على كتفيه .. أشاحَت نظراتها عنهُ بحـرج، وتحرّكت تنوِي الخروج، في اللحظة التي اتّجه بها للخزانةِ وقاطع هروبها منه بكلماتٍ سقطَت عليها سقوط الصاعقـة في يومِ شمسٍ وسمـاءٍ صافية، هتفَ ببرودٍ وكأنّه يلقي عليها خطابًا سخيفًا : الليلة ليلتنا ، برجـع متأخّر وأبيك بأفضل هيئة ممكن يلاقي فيها الرجـال مرته .. تزيّنــي لي.
،
حكَى زوجٌ من العيُون عن صدمةٍ وجِلَة، لم تنظُر إليـْه، لم تقوَى، وبقيَت نظـراتها معلّقةً بوالدها فقط، والدها الذي كـانت نظراتـه تتابع نظراتِ فارس الذي تجمّدت ملامحـه وتصلّب فيها الإدراك ، لم يستوعب ما سمِع، لربّما كـانت أذنـاه لا تفقهان السمْع، لربّما عقله فهم كلامها خطأً ، فهمَ كلامها بعد أن انحرفَ مع موجَةِ اللا واقِع!
شتت جنان عينيها وهي تفرشُ ذراعيها على الطاولة بعد أن تركت قطعة التوستِ وتنهّدت بأسـى، ابتسمَت شفاهُها بعذاب، وتحشرجَ الصمتُ في ميعادِ الكـلام، قطراتُ المطرِ اختـزلت ذاتها بعد عمليّةِ تكثّفٍ في عينيها ، لكنّ غيمتها كانت مالحـة، مُقذعَة! لذا تحوّلت إلى مـاءٍ مالِح .. كلٌّ لهُ نصيب، وهي نصيبها من الراحـة القليل، من الضيق الذي يقيّد بسمتها الكثير!
ارتعشَت أهدابها، لم تسقطِ القطرات، بل بقيَت تتكوِن في عينيها وتقذفُها المُقَل لتغشـاها في ضبابٍ مـائي، بينما لفظَ صوتها باختنـاق : علّمنـي الحقيقة، علّمني كل شيء .. وهالمـرة أوعدك لو تحكِي برضى بفوّاز! برضى فيه يا يبه بس احكي .. وقدّام فارس!
ناصـر بجمود : جنــان . .
جنان برجـاء : تعبت وأنا الأفكـار تاخذني وسوء الظن تجاهك ذبحني! أبي أسمع الحقيقة منّك بعيد عن كلام هيثم، وبرضى في فواز، برضى بكلّ اللي أنت تبيه.
فارس بحدةٍ أيقظته كلماتـها الأخيرة : جنان ! وين راح كلامك عن إنّه متزوج واللي ما تبينه على نفسك ما تبينه على غيرك؟
صمتت وهي تزمّ شفتيها تُخفي رعشتهما، جـاءتها صورةُ جيهان، بأيّ حقٍ أخـذت زوجها؟ هذا الموضوع يؤرقها كمـا تؤرقها الحقيقة .. وجدَت دموعها تتساقطُ دونَ شعورٍ منها بعجـز، رفعَت كفّها لتغطّي بها فمها وهي تهتفُ بصوتٍ تضاعفَ اختنـاقه : وأيش أسوّي أنا وأبوك قاعد يقفلها بوجهي من كل طريق ، وش أسوي وأنا اللي تعبت!
زفـر فارس بضيق : قلتها لك من قبل ، تفكيركم عاطفي بس لو أخذتيها مني فأنا واثق بفوّاز وإنه ماراح يظلمك أو يظلمها.
ابتسمَت بوجعٍ من خلفِ كفّها وهي تنظُر لهُ تُشوِّش ملامحه عنها الدمُوع : تقُول ماراح يظلمنا ، بس أنتوا ما تفهمون مشاعرنا ، تظنون إنّ العدل بس بيوم لكل وحدة، إنه يعطي الاولى مثل ما يعطي الثانية، تظنون إن العدل بس مادّي وما فكّرتوا بعواطفنا احنا! ، أنا ماراح أحس بوجَع كثر زوجته الأولى، هي اللي بتحس بالقهر وبتكرهني أنا وأنـا مالي ذنب الا إنّي وافقت على ظلم أبوي لي.
نـاصر يزفُر بوجَع : ما ظلمتك !
وقفَت تسحبُ الكرسي للخلفِ بحدّةِ حُزنها : ظلمتني وقت اخترته لي ، وقبلها لمّا خبيت عنّي مين هيّ امي.
ابتعدَت عنهما وهي تمسحُ دموعها بعنفِ الصـراخ الذي يولدُ في صدرها ويرتدّ ليجرحَ جدران جسدها الدخليـة، بينما وجّه فـارس نظراته لوالده، نـظراتٍ امتلأت استنكارًا، تساؤلًا، امتلأت حيـرةً بمـا قالته ، اخته من الأب !! ماهذا الجنـُون!!
دخَلت غرفتـها وهي تمسحُ على عينيها وأنفها وجسدها يرتعشُ بانفعـال، بجب أن ينتهي كلّ هذا، يجب أن ينتهي هذا الجنُون وهذا التطفّل الذي وقعَ منها على حيـاة، تطفّلت على حيـاة زوجيْن بكلّ وقاحـة!! ..
تحرّكت نحوَ هاتفها الموضوع على الكومدينةِ بجنون، لن تقف هكذا أكثـر معتمدةً على فـارس، لن تصمُت أكثر!! .. حملَت هاتفها، واتّجهت للرقـم الذي دوّنته لديها برمُوزٍ فقط، الرقـم الذي سرقته من هاتِف فارس ... رقمُ فوّاز!!
،
في ذاك الوقتِ كـان هاتفهُ لدى جيهان، طلبت من والدها أن يحضره لها في غمرةِ نومِه، تُريد أن تحادثَ صديقةً لها كما تقول، وحين قال لها يُوسف أنّ تستخدم هاتفه تعذّرت بأنّ أرقـام صديقاتها تحفظها في هاتِف فواز ولا تحفظها عقليًا .. رفضَ يوسف بادئ الأمـر أن يأخذ هاتفه وهو لا يعلم، لكنّها رجته وهي تقُول لهُ أن يخبره ما إن ينهضْ وهو لن يقول شيئًا فهي اعتادَت أن تأخذ هاتفه وتستخدمه إن لم يكُن هاتفها لديها.
غيـرتها الأنثويّة حرّكتها، تريد أن تعرف من هي التي أخذت منها فواز، وكيف استطاعت إن كان كما يقُول يعشقها حدّ الغلو؟ بقيَت الفجـر تقلّب في هاتفه تبحث بين الأرقـام عن اسم امرأة، لم تجد رقمًا يثير شبهتها، انحصرَت أرقام النسـاء بين امه وأختيهِ وهيَ، أين هي؟ بالتأكيد إن كانت تزوّجت برجلٍ متزوجٍ لن تضيّع فرصة إغوائِه وشدّه إليها وسيبدأ ذلك من - هاتف -! بصوتٍ متغنّج، بكلماتٍ جريئةٍ تسيطرِ بها عليه ، هو رجلٌ في النهاية، وستستطيع شدّه .. منّك لله يا فـواز!! يا خــائِن!!!
بقيَت حواسُها طيلة الساعات التي كان فيها هاتفها قربها مشتدّة، تبكِي دون شعورٍ منها تـارة، وأخرى تصرخ من بين أسنانها بقهرٍ صراخًا لم يتجـاوز نطاق غرفتها، هذهِ النـار كيف تنطفئ؟ لم يدرك ما الغيرة الأنثوية، لم يدرك أنّها تغسلنا بحممٍ تسلخنـا، لم يدرك أنّها نارٌ إن اندلعَت لا تنطفئ، كيف يفعلها بي؟ بعد شهورِ اقتراب، بعد أن جعلني أجيد حبّه، بعد أن تجاوزتُ نطـاق الأخويّة وأصبحَ الحبيب! نسيتُ طفولتنا، كرهتُ مسمّى " الأخ "، أحببتك بشكلٍ آخر، بشكلٍ لا يجيده أيّ أحد، بشكلٍ لا يمارسهُ سوى المترفُون في مشاعرهم، أحببتكَ حبّ امرأةٍ لرجـل لم يحبّ قبلها قطّ ولن يحبّ بعدها - كما قال -، أنـا الغارقـة في عينيك، كيف تسمحُ لأخرى أن تسبحَ في موجِهما معي؟ أنـا المتلحّفة بأهدابِك، كم ظلمتَ حين جعلت أخرى تُدرك دفئها، ألم تدرك بأن الظلم ظلمات يومِ القيامة؟
مرّت السـاعات بعد سرقتها لهاتفه، خـرج والدها بعد أن كان يغيبُ مرةً واثنتين كانت تستغلّها في البحثِ والبكـاء، وبعد أن غـادر تمامًا وذهبَ للمنزل إلى أختيها وجدَت نفسها تزفُر وهي ترفعُ اللحاف وتغطّي بهِ منتصفَ وجهها، تنظُر للجـدار الأبيضِ بعينينٍ منسدلتين، ستائرها اهترأت بالبُكاء، أهدابها تكادُ يقطّعها حرارةُ الدمُوع . .
انتفضَت حين صرخَ هاتف فوّاز فجأة، تأفأفت وهي تستعدّ لإحالتـه لوضع الصامت فكم من مرةٍ رنّ برقمِ أحد معارفه وأزعجـها، ومن حسن حظّها أنه لم يرنّ في لحظات تواجد والدها والا لغضب وقتها وأعاده لغرفـة فواز فهو منذ البداية غير راضٍ عمّا فعلـه.
رفعَته وهي تزفُر بحنق، وحين كادت تُخرسه تجمّدت أصابعها وهي تنظُر للرقـم الغريبِ الذي أنـار شاشة هاتِفه، التمعَت عيناها وقلبها تشنّج، قد تكُون هي! ولمَ لا تكون؟ حسنًا لربّما كان أخد معارفـه أيضًا لكن لربّما كانت هي أيضًا!!
بللت شفتيها بلسانها وهي تفكّر بأنّها سترد وتصمت منتظرةً حديث المتصل، إن تبيّن أنّه رجلٌ ستغلق، وإن كانت امـرأة! ستسقيها من بضـعِ نارها !!
ردّت وخلاياها كلّها تنتفضُ من فرطِ انفعالها، ارتفعَ معدّل الأدرينـالين في جسدها وهي تشدّ على أسنـانها في اللحظة التي وصَل فيها إلى مسامعها أنفاسٌ متسارعةٌ أخبرتها أن المتّصلة أنثـى! شدّت على الهاتفِ وعينيها تتشتتـان هنا وهنـاك بضعف، أمطـر عليها الضعفُ بوابِل سهامِه، في اللحظـة التي لفظَت فيها جنان بصوتٍ نـاعم، صوتٍ أنثويٍّ يمتلئ بالفتنـة كما امتلأ بربكةٍ واضحـة : معليش ، عارفة إنّي اتّصلت بوقت غلط بس ضروري أحاكيك ،، اممم أنـا ، أنا أخت فارس . .
صمتت بحـرجٍ ووجهها يحمرّ خجـلًا، وتلك احمرّ وجهها أيضًا، احمـرارَ نـارٍ اشتعلَت في أوداجِها ، هذا الصوتُ النـاعم، النبرة المتغنّجة، الكلماتُ الهادئة حتى في ربكـتها، هذا الصوتُ المغــوي! من أين تأتي المقارنات؟ بدأتْ من الصوت، وهُزمَت !! هُزمَت من الجـولةِ الأولـى . . يا الله! هل زوجتـه الأخرى تحمل هذا الصوت الفاتن؟ وأنا! لا لا ! لا مجـال للمقارنـة بين صوتِها وصوتِي! . . شعرَت بالغصّة لخسـارتها الأولى، في حين حلّ الصمتُ على جنان التي لامَت نفسها على اتّصالها بهِ وهي تحترقُ بخجلِها، كـادَت تُغلق وتهرَب، إلا أنّها نهرَت نفسها، ما معنى الهربِ الآن؟ هل ستبقى ضعيفةً هكذا تنتظرُ فارس حتى يُنقذها مما هي فيه؟
تنحنحَت بحرج، وحين كـادت تتكلّم قاطعـها الصوتُ الآخر، جيهان التي كـانت ترتعشُ بغيظ، بقهر، برغبـةٍ في قتـل فوّاز ومن ثمّ هذهِ السـارقة!! ... هتفَت بنبرةٍ منفعلةٍ عنيفةٍ حملَت كثيرًا من الحقـد : أنتِ زوجته؟!!
أُخرسَت جنـان التي بقيَت فاغـرةً فمها دونَ استيعـابٍ للصوتِ الذي جـاءها، بهتَت عيناها وقد أدركَت دونَ ذكـاءٍ أنّها زوجتـه، ومن قدْ تكُون سواها؟!!
ارتبكَت أضعاف ربكتها وهي تفغر فمها أكثر وتشتت عينيها في غرفتـها، في حين أردفَت جيهان من بين أسنانها بقهر : وين راح صوتك المايع اللي من شوي!! أنتِ زوجتـه صح؟
جنـان بخفوتٍ مرتبك : أي .. اسمعي ، أنــا ...
قاطعتها جيهان بجنونِ امرأةٍ تدافع عن حقّها برجُلها : أنتِ أيش؟ ولا شيء!! مجرّد حقيييرة ما حصّلت رجال يقبل فيها فراحت تدوّر ورى المتزوجين ، حيـوانة منتهيَة وش أتوقع منها؟!!!
أجفلَت جنان بصدمةٍ من الشتائِم والكلمـات التي أُلقيَت عليها فجـأةً دون أن تستعدّ لهـا، كـان البديهيّ أن تغضب، أن توقفها عند حدّها، لكنّها زفـرت محاولةً ضبط أعصابها وهي تُحاول عُذرها فهي في النهايـة تطفّلت وأخذت زوجها! . . هتفَت بهدوءٍ لازالت تحاول السيطرة عليه : اسمعيني أختي مافيه داعي لقلّة الاحترام بيننا ، كلّ اللي أبي أقـو ...
جيهان تقاطعها من جديدٍ بحقدٍ وهي تتمنّى لو أنها أمامها فتصفعها وتُشبعها ضربًا، بحدةٍ هتفَت : لا تقولين أختي جعل لسانك القص! وبعدين وشو قلّة الاحترام هذي؟ أنتِ لك شويّة احترام أصلًا يا ام الرجـاجيل!!!
جنان بحدة : ما أسمح لك! أنا ودي أتفاهم ما ودي نقلل احترام بعض ونخليها شتايم!
جيهان تعضّ زاوية شفتها بغيظ، أصابعها ترتعشُ بجنونٍ من قهرها، من غضبها، وجـدت نفسها تهتفُ بكلّ حقدٍ ومحـاولةٍ لردّ كرامتها : تدرين أصلًا وش يقول فوّاز عنّك؟ قال إنّه ماهو متزوجك إلا عشانك دخلتي مزاجه بس ، وممكن بأي لحظة يطلقك بعد ما يملّ منك أو أقوله أنا ، منتظر أمر مني بس وبيرميك رمية الكلاب يا حشـرة.
زمّت جنان شفتيها بحنق، تُدرك أنّها كـاذبة، فهي كما يبدو لا تعلم ظروف زواجهما، وتحاول بأيّ طريقةٍ أن تستردّ ذاتها وثقتها بذاتها ، لكنّها من الجهةِ الأخرى لا يمكنها تحمّل إهاناتِها هذهِ حتى وإن عذرت قهرها! لذا لفظَت بنبرةٍ مشدودةِ الأوتـار : اعذريني بقفّل دام الكلام بيننا بيكون كِذا.
جيهـان بحقدٍ تجلدُ بِه ذاتها : لحظـة ، مين أنتِ أوّل؟ من حقّي أعرف ضرّتي.
جنـان بضيقٍ وهي لا تريدها أن تعرفها : ما يهم.
جيهان بقهر : لا يهم ، يهم أعرف الحقيرة اللي تفكّر تسرق رجّال متزوج ، ما سرقتيه للحين ، لازال يحبني ولازال يبيني أنـا ، ما سرقتيه يا قـذرة !
شدّت جنـان على أسنانها وقد شعرت بأنّ أعصابها اشتعلَت كفايـة، لذا لفظَت بنبرةٍ حـادةٍ قبل أن تُنهي هذا الاتصـال : جنـان ، أخت صديق زوجك فـارس، تعرفيني وقد شفتيني قبل كذا .. الحين اسمحي لي ، وبقولك قبل أقفّل أنا مو نـاوية آخذ زوجك أبدًا، اللي ما أبيه لنفسي ما أبيه لغيري، فياليت تتعلّمين الاحترام شوي وتتركين هالألفـاظ.
أغلقَت بعدَ كلمـاتها، كلمـاتها الأخيرة التـي غابت عن مسامِع جيهان، توقّف عقلها عند تعريفها بذاتِها، توقّف وهي تسترجعُ الاسم بينما غابت أوّلًا عن " أنا اخت فارس " حين لفظتها بدايـة اتّصالها، نسيَت فارس، لكنّها تذكّرت الآن - جِنـان -، تذكّرتها، وكيف تنسى تلك الجميـلة؟ تلكَ التي ظهـرت أنّها في النهايـة المستحوذَة على زوجـها!! هــذا كثييير، كثيرٌ عليها، كثيرٌ عليـها ...
أخفضَت يدها مع الهاتفِ ببهوتٍ لتضعهُ أخيرًا بجانِبها، بقيَت أحداقـها تنظُر للأمـام دونَ رعشة، دونَ مـا يُخبر الجدران عن الانفعـال فِيها ، دونَ صوتٍ نشـجَ بهِ القلب! يقُول يحبّني؟ كيف يكذِب، كيف يكذبُ وهو حين نـادته الفتنة : أجاب! ، أيّ هوى ذاك الذي يُستبدل بالجمـال، أيّ حبٍ يا فـواز؟ أتقُول تحبّني؟ أتقُول أنّي الجميـلة الأولى والأخيـرة على أرضِ البـشر؟ أنّ لنـا أرضًا أسقيتِها بجمالِك، زرعتِ فيها الزهـر وأنتِ أمّ الزهر، وجنتـاكِ همَا بتلاتُ زهرةٍ حمـراء، وجهُكِ اقحوان، اشتدّ فيهِ البيـاضُ فأغوى! معـاذ اللهِ يا الهوى، قتلوك! قتلوكَ بجمالٍ خصب! قتلوكَ بعد أن كنتَ تصنعُ جمالًا من القُبح، قتلوكَ لأجـل مـلامحْ، فتنَت فبرعت في الاغواءِ أكثـر من الهوَى. قتلــوك ، وقتلنِي هوَ، فعلها بِي، كذَب وسرقَ منِي قبلـة حُب، سرقَ منّي قلبًا أعيـاهُ الصد، يا لهـزيمتي! خسرتْ، خسـرت كلّ الجـولات، خسـرت حين قالت اسمها، كيف أخادع نفسي وأقول سأحـارب؟ لن أنتصـر، لن أنتصـر .. أنـا الجنديّ الذي فضّل رفعَ رايتهِ البيضـاء حين قرأ الهزيمة في ملامحِ خصمه، استسلم حتى قبل أن يخوضَ في حربهِ أو يخطّط لها، انتصـرَتْ عليّ يا فـواز، وكنت أنتَ سبب هزيمتي! فـ شكرًا للكلمـات الكاذبة، للقُبلاتِ المسلّحةِ بـالتمثيل.
أغمضَت عينيها أخيرًا، هذهِ الهزيمة الساحـقة، كيف تشرحُ شخوصها؟ أغمضَت عينيها في اللحظـة التي أغمضت فيه عيُون هذهِ العـلاقة، لا شيء بيننا! لا شيء بيننا حتى الحُب كـان زائفًا، كـان زائفًا يا فوّاز، كـان زائفًا !!
سَرى الوقتُ في عقـارب لدغَت الماضِي منها، ولدغتها! صورُ اللقـاء بينها وبين جنـان عادت، تستذكُر ملامحها مرةً وأخـرى، تستذكُر جمالها ، جمال صوتِها حتّى! أيّ خصمٍ ساحقٍ هي؟ قتلها بمـا فعل، قتلها حين جعل تلكَ خصمها.
فرّغت انفعالها بمجلدٍ كـان قُربها على الطـاولة، ستمـوت بهذا الانفعـال، ستموُت بقهرها، ستموت بخيانتِهِ لهـا !! .. قطّعت أوراقه ورقةً ورقة، تقطّع بذلك صفحـات حياتهما الماضيـة، كلّ كلمة، كلّ قبلة، كلّ ليلةٍ نامت قُربه، كلّ حُضن، كلّ حِصن! كـان حصنها، وتحطّم قبل أن تشعر بحمايتِه.
فُتحَ البـاب، انتفضَت ووجّهت نظراتها نحوهُ بسرعة، ارتعشَت ما إن رأتـه، يبتسم، بينما وجهها المحمرّ يحكي روايةً بدايتها كذبةٌ ونهايتـها مأساةُ حُزن .. شدّت على المفرش، على الوسادة ، وتلاشَت ابتسامته حين قرأ البكـاء على ملامحها .. أفرجَ شفتيه بصدمةٍ حتى يتساءل بصوتٍ ملأهُ الاستنكارُ عن سبب بكـائِها ، لكنّها قاطعتـه بصرخةٍ هزّت جدران الغرفـة وهي تحمل الوسادة وترميها عليه : اطـــــلــــع .. اطـــــــــلـــــع يا حقيييييير ، يا كـذاب ، يا خااااااااايـــــن ..
تراجعَ بصدمةٍ لا يستوعب انفجـارها، صراخها الذي كـان عامل جذبٍ للنـاس في الخـارج من مرضى ومرافقين، لم يكَد يستوعب وينطق بشيءٍ حتى تابعت بقهرٍ وغضبٍ برزَت بهِ عروق عنقها بشدّة : عرفتها ، عرفتها اللي تقول ما تآخـــــذ مكـــــانك ... يا كذّاب ، يا **** ، شوّهت الحبْ بحكِيك ، شوّهته لمـا خدعتني بكلامك وارتبطت بالـ ***** الـ **** هذيك !!
اتّسعت عيناه بصدمةٍ من القذف الصريح الذي صدرَ من حُنجرتها ضدّه وضد جنان، التفتَ بسرعةٍ حوله ناظرًا للواقفين والمتفرجين على ما يحدثُ ليصرخ فيهم بجنون : وش عندكم؟ اذلفـوا من هنـا .. ابعدوااا
تناثر النـاس وبعضهم تحرّكوا على مضص وهم يتمتمون بكلماتٍ بالتأكيد فيها تنقيصٌ من جيهان، بينما اقتربَ منها هو بعد أن أغلقَ البـاب بغيظٍ ليهتف بصوتٍ غاضب : جيــهــان!!! أنتِ مستوعبة الكلام اللي قاعد يطلع منّك؟
جيهان بجنونٍ لا تبالي بما تقول : أي ، أنت وهي مجرّد *** ، اشبعوا ببعض يا قذرين ، ما أبيك يا خاين .. طلّقني ... طلّقني الحين ...
صرخَ بغضبٍ لم يستطِع السيطـرة عليه : تعقبين يا قليلة الأدب ، لسـانك ذا بقصّه ، شكله تساهلي معك خلاك تتمادين! أنا اللي بربيك علي إيدي، أنا اللي بوريك إن الله حق ...
هتفَ صوتٌ غاضبٌ من خلفِه : فوّاز ! تطوّر الوضع وصاير تهددها بعد!
استدارَ فوّاز نحوَ يوسف بينما رفعَت جيهان عينيها الباكيتين إليه، ارتعشَت شفاهُها بألـمٍ بينما هتفَ يوسف بصوتٍ غاضبٍ يخنقُ فيه انفعالًا من الكلمات التي التقطها حين دخُوله : وش اللي صاير! وش الازعاج اللي هنـا.
صمتَ فواز يلوِي فمهُ بغضب، بينما لفظَت جيهان ببكاء : خلّه يطلقني الحين ، ما أبيه ، ما أبيه كافي اللي جانـي منه.
يوسف ينظُر نحو فواز باشتعـال : وش جابك هنا وأيش مسوّي فيها عشان يفكّرون الممرضات يدخلون لها لو ما وقّفتهم!
فواز بحدّة : اسألها هي وش مسوّية . .
تحرّك بغضبٍ ينوي الخـروج وهو يُحاول إطـفاء نيران غضبه بالصمت إلا أنّها تضاعفَت، توقّف حين سمع صوتَ جيهان الغاضب يخرج من بين أسنانها بحقد : لو ما خليته يطلّقني بخلّي خالي ذياب يتدخّل مافيه غيره يعرف يتصرف مع أشكـاله ... حسبي الله عليه حسبي الله علييييييه.
عضّ شفته وهو يقاوم رغبةً في العودةِ إليها وصفعها! لازال قذفها يتكرّر في عقلـه، يُشعله بشدّةٍ لا يستوعب بها أنّها وصَلت إلى هذا المُنحدر! .. شدّ على أعصابه ليخرج في اللحظة التي لفظَ فيها يوسف بحدّة : بلاش مشاكل يا جيهان واتركِي هالكـلام اللي ماله داعي ، كل اللي تبينه بيصير بس ماهو بهالطريقة! . . الحين علّميني ليه كان يقول هالكلام؟
جيهان تصدّ عنه بقهرٍ وهي تقبضُ كفيها غيظًا : هذا هوّ ، ما عنده عذر بس لأني صرت ما أبيه صار يستقوي ويفرض نفسه عليْ غصب عني ...
،
بعد الظهـيرة،
ابتسمَ وهو يلفظُ بتهكّم : لا عـاد ما صارت، شيلي شعرتك وجع.
ضحكَت بإحراج : والله طاحت بالغلط يمممه شعري صار يتساقط بشكل مجنون هو أصلًا خفيف اوووف.
عناد بقرف : الله يقرف العدو ، شيليه شيليه.
غيداء : هههههههههههههههههه شعرِي عطر، ولما يطيح على أكل يعطيه نكهة مُحبّبة.
عناد يدفعُ طبقه الذي احتوى شعرةً من رأسها بعد أن كانت هي من تسكُب الأرز له، هتفَ بتقرّف : وجع يوجع العدو بعَد ، ما عاد أبي آكل.
غيداء : هههههههههههه افا شدعوى يا نفسية بغيّره لك!
عناد : مع شعرك ذا شكرًا لخدماتك.
نظرت لامّها وهي تضحك لترى نظراتِها الغاضبة منها، ابتلعَت ريقها وأُخرسَت ضحكتها، وبخفوت : والله شعري طاح يمه ما نتّفته بيدي !
ام عناد بحدّة : غيريه له واتركي عنّك هالحركات الماصخة.
غيداء بضيق : يمممممه شعري طاح ما نتّفته أنا وش ذا؟
عناد يبتسم : ما عليك يمّه أنتِ الحين دوّري لها علاج عشان شعرها وتساقطه ذا يمكن نحمي الأكل من قرفها.
نظَرت إليهِ بـ " استهبال " : اصرفلي دواء.
عناد بابتسامة : بآخذك لعيادة تفحصين نسبة الفيتامينات بجسمك أكيد من دلعك بالأكـل وإهمالك.
غيداء بتذمّر : فحص؟ لا واللي يعافيك.
وقفَ عناد وهو يحمد الله رغم أنّه لم يأكل الكثير، وبحزم : آخر كلمـة وانتهى الموضوع.
لوَت فمها بتذمّرٍ لتهتف امها : عناد وش هالأكل اجلس؟
عناد لا يريد أن يخبر أمّه أن معدته لن تتقبّل شيئًا بعد سقوطِ شعرةِ غيداء على طبقِه : لا الله يعافيك شبعت.
ام عناد بحدّة : حسبي الله على عدوّك يا الوصخة عجبِك الحين؟
عقدَت حاجبيهِ بضيقٍ ليتدارك عنـاد غضب امّه هاتفًا : الله يهديك يمه هي وش دخلها لو أبي غيّرت الرز ، بس أساسًا أنا ما كنت جوعان.
ام عناد بحدّة : أيه العبها عليْ ودلّعها أكثر.
ابتسمَ يُشير لها بعينيه أن تصمتُ وتتوّقف عن كلامها لغيداء التي غصّت بلقمتها، لم تكُن لتتحسّس قبلًا، لطالما وبّختها امها على مشاكساتِها أمام عنـاد وبقيَت تضحك أو تتدلّل عليـه، لكنّها الآنَ تغصّ، بوجِعِ أفكـارها التي جـاءت من أفكارِ سـارة ، هم لم يعُودوا يحبّوها كما السابق! الآن صراخ امّها عليها لأنّها تفضّل عنـاد، بينما ترى صورتها كالعـار الملتصقِ بِهم، هـذا هوَ! لا تفسيرَ آخر .. امّها لا تحبّها الآن كمـا السابق، لذا تحسّست من كلمـاتها الآن، باتَت مشاعرها تؤذَى من كلّ شيء!
ابتعدَ عناد بعد أن لوَت امه فمها وصمتت لتُكمل طعامها بينما فعلَت ذلك غيداء أمامها كي لا تعرفَ بما يختلجُ في خاطِرها، أكملَت تمثّل أنّها تأكـل!
،
يسعُل بشدّةٍ وهو ممددٌ على سريره وذراعهُ يريحها على جبينه، في حين كانت سهى تجلسُ قربهُ وتهتفُ فيه بغضب : وخّر يدك وجع ، حرراتك عالية وأنت مو راضي تخليني أخففها لك!!!
أدهم بإرهاقٍ يشعر أنّ عينيه تشتعلانِ ولا يستطيعُ فتحهما : الله يوجع العـــ ... * انقطعَ حديثهُ بالسعال ليردف بعد أن توقّف * العدو .. مو كافيني اللي فيني ؟!
سهى بحنق : طيب وخّر يدك عشان أكمّد لك.
أدهم بصوتٍ خرجَ إليها بأضعفِ حدّةٍ استطاعها وكانت بالنسبةِ لمرضهِ عالية : ما أبي اوووووف .. وخري أبي أنام.
سهى بغضبٍ يشتدُّ سحبَت ذراعهُ الساخنة قسرًا ومن ثمّ وضعَت المنشفة التي بللتها بالماء البارد على جبينه، ارتعشَ وصرخَ غاضبًا وهو يحاول إبعاد يدها : الله يحرق ابلييييس بارد بارد ...
ضحكت رغمًا عنها حتى دمعَت عيناها وهي تُقيّد المنشفة على رأسه بكفيها حتى لا يسحبها، وبتسليةٍ بين ضحكاتها : الصخونة عاملة عمايلها فيك ... اليوم ماراح أتركك تستاهل دامك رفضت تروح المستشفى قبل لا يشدّ عليك التعب ... بسوي لك شربة الحين وبتشربها غصب، بعدها بعطيك دواء لهالصخونة ... وياويلك تعاند.
أدهم بصوتٍ مرهق : أنتِ انقلعي بس وبقفل الباب وراك، معفنة !
جحظَت عيناها ، وبوعيد : طيب طيب ماراح اعاقبك بشيء دامك تعبان بس بوريك في الشربة والله لخليها كلها ليمون وحامضة بالضبط مثل ما تكرهها.
أدهم بلؤمٍ لا يتركه حتى في حالاتِ مرضه : انقلعي بس ، جيبي لي نجلاء يدها أبرك منك فديتها بيروح المرض بدل ما يزيد على يدينك . .
سعلَ من جديدٍ بقوّة وطـال سعالـه دونَ وقوفٍ لتبتسم سهى بتشفّي رغم أن كلمـاته استفزتها، ابتعدَت عنه ليستغلّ هو ابتعادَها ويُنزل المنشفة الباردة وهو لا يزال يسعل، بينما لفظَت هي بحنقٍ وهي تتّجه للبـاب : منها وأردى يا الخايس .. والله ما تستاهل مني اهتمام بس وش السواة على حظّي المعفن.
سحبَت مفتاح غرفته قبل أن تخرج حتى تمنعهُ من أغلاقـه رغم أنّها تدرك أنّه سيتراجع عن ذلك لأنّه سيستصعب التحرّك من إرهـاقه، بينمـا تقوقعَ هو على نفسهِ بعد أن انقلبَ على جانبِه الأيمن، ضمّ جسدهُ الساخن بذراعيْهِ وتقوّس كطفلٍ صغيرٍ في رحمِ أمّه، أفـرج عن شفتيه ليتنفّس عبرهما ويزفُر هواءً ساخنًا أحـرق شفاهه.
في هذهِ اللحظـة امتلأ عقلهُ بالكثير، لحظـاتِ مكوثه على السرير أرغمتـه على التفكير الطويل، متعب! منذ مدةٍ طويلةٍ لم يتّصل بِه، بعد أن قـال له بكلّ صراحـةٍ أنِه يفضّل عدم الاتصال بِه، يُدرك السبب، يخاف عليه! لكنْ لا حقّ لـه، لا حقّ لهُ بحياتِه التائهة، لا حقّ لهُ ليجعلها تتوهُ أكثـر! يريد أن يحميه، لا يهتم إن أوذيَ بشيءٍ حتى قبل أن تتوّج أحـلامه بالتحقيق، أحـلامه المختزلـة في - نجـلاء -.
انحصـر فكرهُ إلى شاهِين ، الرجُل الذي وجـد في عينيْهِ هويّةً يعرفـها، هويّةً جعلته يرضى بتقرّبه الغريب والذي أدركَ فيهِ سوءً ليُصدم في النهايـة بتفكيره، عينـاه ! لم يُدرك حتى الآن أنّهما شبيهتينِ بعيني متعب، لم ينتبِه بعد !!
أمالَ رأسـه على كتفِه وهو يبتسمُ بتلقائيـة، الصـورة الأخيـرة لهـا تتكرّر، جـاءتهُ بكامِل زينتها، لتُعذّبه بفتنتها حتى هذهِ اللحظـة، حين هربَت إليـه، وأقصـاها من حياتِه بأشدّ قسـوة، لقدْ برّر! برّر بطريقةٍ قد لا تقنعها ، لكنّه حـاول، وكافح، ولازال سيكافح أكثر ليظفر بها وإن اضطرّ في النهاية للقوّة!
مرر لسانه على شفتيه الجافتيْن وأنفاسها المنفعلة لازالت تضربُ أسمـاعهُ عبـر الهاتف، مكالمتهمـا الأخيرة، والتي أخبـرها فيها عن كلّ ماضٍ وحـاضر، أخبرها فيه حتى عن المستقبل! عن شغفِه! .. تحرّر أخيرًا من أسِر الكلمـات، من كبريـاء الصمت، وقـالها لها " عيونك تغفر عُمر، ما تغفر حُب؟ ".
أيّ حب؟ هذا السؤال سمعهُ في أنفاسها المُنفعلة، تذوّقهُ في صمتِها، وجدهُ بين جنبـات تنهيدةٍ يائسةٍ وأخـرى ، للحبِّ أشكـالٌ عديدة! أصبحَ يؤمن بذلك حتى مع تكذيبها لهُ بصمت، وهو لم يُجِد حتى الآن سوى الحُب بإيذآء . . تمدد على ظِهره، يعُود ليُغمض عينيه الملتهبتين بالحُمرة، أجفانه الساخنة أحرقتها وشعر أنّ الدمعَ يُبللها . . لازال يتذكّر حشرجـة أنفاسها ببكـاءٍ حين أخبرها عن كلّ شيء! لم تكُن تبكِي، لكنّها كُانت تُقاوم البكـاء بترفّعٍ عنـه، أنفاسها المرتعشة تُخبره بوضوحٍ عن حزنها، هذا الحُزن الشفاف النـاعم كنعومتها، الحُزن الشاحب، يقتلُها بصمتِه، يقتلها حين تقاومه بكبريائِها ، حُزنها أوجعه هو! وأوجعهُ أكثر أن يكون جزءً من هذا الحُزن ، يا فصُول الشتـاء في عينيها! تكـابر بالمطَر! هل سمعَ أحدٌ يومًا عن غيمةٍ بخيلة؟ تلك الغيمة التي يتكدّس فيها المطر لكنّها لا تُسقطه، هذه الغيمة لا تكُون سوى في شتـاءِ الإنـاث المكابراتِ على أحزانهنّ ، هي لا تحمل مطرًا! بل واللهِ ثلجًا يُعادل في صقيعهِ كلّ موتْ!
فتحَ عينيه مُفرجًا شفاهه، يعُود للمـاضي من جديد، يعُود لقصيدةِ رثـاء، وشطرِ وجَع!
*
: يا بنت النـاس خلصيني ! * صرخَ بغضب * ما صـارت والله على هالذل؟
رقيّة تلفظُ بحدة : رووح يا ولد الناس أنت اللي ذليت نفسك عندي وش تبي فيها؟ خلاص البنت راحت بحالها وعايشة ومبسوطة بعد حاسدها على السعادة ذي؟
أدهم بابتسامةِ سخريةٍ يميل ليسند كفّه على ذراع الأريكةِ الحمراء التي تجلسُ عليها، وبحقد : بالعكس أبي لها السعادة ، بس قُربي.
انفجرت رقية ضاحكة : هههههههههههههههههههههه من متى الحُب والله وأنت ما عرفتها الا بزر؟
أدهم يبتسم " بدون نفس " : مين قال حُب؟ الحين يعني فسرتيها حُب؟ اووووه نسينا إنّك ما تعرفين الحب عشان تقيّمينه ، يا بخت الحقارة فيك.
رقية بحدّة : احترم نفسك ولا تنسى إني زوجة أبوك.
أدهم بتشديدٍ على كلماتِه : كنتِ ، تعرفين معناها؟ الحين أنتِ مجرّد مطلقة ومستور وجهك عن فضايحك قدام الناس، احمدي ربّك أبوي عزّك شوي وما تكلّم.
رقيّة بحقد : طز فيك وبأبوك بعد ، منتم ضمن اهتماماتي.
أدهم بسخريةٍ مُستفزّة : وأيش هيّ اهتماماتك؟ رجّال جديد إن شاء الله؟
رقيّة ببرود من لا تبـالي بتلك الصورِ من الاهانـات : يهمك وضعي؟
أدهم : يهمني بس أعرف أيش اسم اللي كفلها!
رقيّة : قلنا ماراح نقولّك يا ورع ، مر سبع سنين وللحين تدوّر؟
أدهم بغضبٍ ينفجرُ في وجهها : سبع سنين ومن حقّي أعـرف بعد ، عطيني اسمها بالدار وش اسمها؟!!!
رقية ترفعُ إحدى حاجبيها ولم تكُن تعرف وقتذاك أنّه قد تزوّجها، وبضحكةٍ أخفتها : هه! شلون من حقّك فهمني؟
أدهم بنبرةٍ مستفزّة : ما يخصّك ... وينها؟ أيش اسمها في الدار دامك ما تبين تتعّبين نفسك وتقولين اللي كفلها.
رقيّة : ههههههههههههه ما سكت عشان أقولك أيش اسمها وتروح تدوّر ! بعدين ترى ماراح يسلّمونك معلومات عن أي بنت عندهم لا تتحمّس واجد!
تحرّك أدهم بانفعال : أنا اللي بعرف مكانها.
ابتسمَت بخبثٍ ليرتفعَ صوتُها هاتفًا باستفزازٍ قبل أن يصرخ : نسيييت أقولك ! لحظة ..
استدار بسرعةٍ ظنًّا منه أنّها تنازلت وستُخبرها، لكنّها وقفَت لتقتربَ منهُ حتى أصبحَت أمامه مباشرة، مـالت قليلًا نحوَ أذنه لتهمسَ وهي تشبك أصابعها خلف ظهرها : صار عمرها 15 سنة ، صح صغيرة على الزواج بس ما يمنع ! مممم تراني قاعدة أدبّر زواجها من ولدهم ، اسمه ياسِر ، حليو ويدرس طب ، لايقين على بعض وفوق كذا * شدّدت على أحرفها * - يشرّف -!
وكأنّها لسعتـه حينها، ابتعدَ عنها وملامحهُ تجمّدت واشتدّت قسـاوتها، في حين كـانت تبتسم، تتلاعبُ بأصابعها خلف ظهرها وتُميل برأسها لتسقطَ خصلاتٌ من " كعكتها " منسابةً على كتفِها، أردفَت بصوتٍ رقيق : بعض الرجاجيل أو نقول يظنون إنهم رجاجيل دراستهم تفشّل ، شهادتهم تفشّل! حثالة وحشرة بالمعنى الصحيح مالهم مكان ولا ينشافون لأنهم نكرة! يستشرفون على روسنا مع إنّي أظن انهم مثل - أباءهم -! آه صح يا بعدي شلون طعم الخمر؟ ويسكي والا فودكا؟ تحبه بنكهات والا لا؟
كـانت ملامحهُ تقسو أكثر، عينـاه اشتعلتا بنارٍ سوداءَ، رُجمَت كلماتُها بين أهدابِه كحطبٍ أثـار الشرارةَ في أحداقه، كانت أحرفُ الغضبِ تتراقصُ على ملامحه، لكنّه بالرغـم من كلّ ذلك ابتسم! لم تكُن بسمةً بحجمِ ما كانت التواءَ غضبٍ على شفتيْه .. اقتربَت خطواتهُ منها ليقطعَ المسافة الصغيرة الفاصلة بينهما، شبكَ أنامله ببعضها البعض خلف ظهرِه، وانحنَى نحوها ليقلّص فارق الطول بينهما، أمـال رأسه نحو أذنها تمامًا كما فعلَت ليزدادَ التواءُ شفتيه ويهمسَ بصوتٍ امتلأ شرًا، بخفوتٍ خطيرٍ يطلقُ بهِ سهامَ كلماتِه الصارخـة بانتقـام : هالحثالة ، والحشرة ، والنكرة ، وشارب الخمر .. متزوّج بنتك المصون من سبع سنين .. أبوها الجلو زوّجني ياها قبل لا أجي لك وأسألك عن مكانها حتّى .. * ابتعد عنها وهو يبتسم هذه المرّة بتحدّي * زوّجيها لو تقدرين ، مع إنّي ما أظن صعبة عليك تسوينها وهي متزوّجة، ماهو هذا خُطاك؟
كـانت ملامحها كافيةً لجعلهِ يشعر بالانتـصار، الصدمة التي طرأت على وجهها، جمودُ أحداقها، شفتيها اللتين انفرجتا بشدّةٍ لا تستوعب ما سمعَت . . ضحكَ بتشفّي ليبتعدَ عنها في طورِ صدمتها ، وخرجْ.
بقيَ ذلك اليوم ورغم انتصـاره بتلك الملامح المصعوقة يشتعل ، كلماتها واحتقارها لهُ يتكرّر في عقله، لطالمـا كانت تستفزّه المقـارنات التي كان يخرج منها خاسرًا ، فلان طبيب، مُهندس، وزير، وأنتَ ماذا؟ مجرّد رجلٍ يعمل في بنكٍ عملًا بائسًا ! دائمًا ما كـان يخسرُ في المقارنات، يمقتها! لا يحبّ أن يحتقره أحد ، والآن هاهـي المقارناتُ جـاءت ، ولأجل من؟ لأجل طفلةٍ لا يدري كيف يشعر بهذا الاهتمام نحوها! طفلةٌ لم تعِش معهُ كثيرًا لكنّها استطاعَت سلب كلّ اهتماماتِه بغيـرها. ممَ يصنّف هذا الاهتمام؟ تقُول حبًا؟!! .. أمـال فمهُ بغيظٍ وهو يفتح النافذةَ ويرمِي قنينة المـاء بحنق، هو مجرّد مبالغة في الاهتمام ! فقط، يشعر بأنّها تخصّه، لا يدري كيف، لكنّها تخصّه ولا يجب أن تكون إلا قربه حتى يطمئنّ قلبه ، هذا القلب الذي فِتنَ ببراءتها، بوجنتيها! ... وجدَها قبل سبعِ في محضِ صدفة، وضـاعت منهُ في محضِ غيـاب، لو كان يعلم أنّه حين سيعود لها لن يجدها، ما تركـها ! يا لبـؤس حظّه الذي جعلـه يذلّ نفسه لامها الوضيعة!
أغلقَ النُافذَة ليحرّك السيارةَ وهو يهزّ رأسـه بالنفيِ ويبتسمُ ابتسامةً بائسة ، لن يعود لسؤالها ، هذهِ المرّة سيبحث عنها بنفسِه . . عن طريق اسم " ياسِر " فقط ... لكم كرهه!
في اليومِ التـالي اتّجه للميتمِ وخرجَ من سيارته ليستندَ عليها ويكتّف يداه، تعلّقت أنظـاره بأطفالٍ يتراكضُون خلف سيّارةِ المُثلّجـات، راقبهُم بيأسٍ حتى تنهّد واستـدار ، أيّ جنونٍ هذا؟ كيف قد يجدها عن طريق اسم ياسِر؟
ركِبَ السيـارةَ ورحـل بملامحَ تكسوها الخسـارة، ابتعدَ عن الشـارع الذي كـان فيه، يشدّ على المقودِ بغضبٍ يكـادُ يحطّمه وعينيه تُظلمـان بجنُون، ابتعدَ كثيرًا، ليقاطع سكُون سيّارته أخيرًا صوتُ هاتفه، رفعهُ بتبلّدٍ ليُصدم حين وجدَ أنّه رقمُ رقيّة ، كـان سيتجاهلها، لكنّه تراجع في النهاية وأجاب بجمود : نعم؟!
رقيّة بهدوء : خلاص ، بعلّمك مكانها ..
أوقف السيارة بصدمةٍ وهو يوسّع عينيه دون تصديق : وشو؟؟!
رقيّة : بعلمك * برجاء * بس تكفى اتركها ، اتركها يا أدهم وطلّقها ماهي ناقصة ترتبط في أحد مثلك ! .. اسمع ، أنت تبيها تكون تحت ناظرك اوكي ، بس لا تكون زوجتك .. أنا آذيتها وخلّيت حياتها بهالشكل، ما عاد أبي لها الا تكون ضمن هذيك العيلة وتتزوّج ولدهم عشان تعيش! ما بغيت إلا أنها تعيش حياة كريمة ... عشان كذا أرجوك لا تسوي شيء يخرّب كل اللي خططته!
صمتَ أدهم لبعض الوقت ليتنهّد أخيرًا ويهتف : صعبة يا رقيّة !
رقية برجاء عميقٍ وكأنّها لم تكُن التي أهانته قبلًا : تكفــى أدهم ، تكفــى ما ودي غير هالشيء ، أنا لو ما أبي مصلحتها ما سويّت اللي سويته وخليتها ترتبط بعايلة أعرفها بهالطريقة!
أدهم بجمود : أنتِ اللي وصلتيها لهنا !
رقيّة : ندمـانة والله ندمانة على كل اللي سويته.
تنهّد بقنوطٍ ليهتف أخيرًا بصوتٍ خافت : طيب ، بطلّقها.
ابتسمَت بفرح : توعدني؟
أدهم : أوعدك ، والله بطلقها.
تنهّدت براحـة لتصمتَ بضعَ ثوانٍ ومن ثمّ تحدّثت وأخبرته باسمِ من كفلـها وأضافت بأنّها تزورُ الميتم بشكلٍ أسبوعيٍّ كلّ جُمعة، وقعَت في فخٍّ استغربه أدهم يومها ! استغرب أنّها أخبرته عمّا سيجعله يصل إليها !! لكنّه لم يهتمّ بالتفكير ، ما إن نطقَت بالاسم حتى ابتسمَ بشرٍّ ليضحكَ ضحكةً خافتة ويلفظ : أشكـرك يا حلوة ، خدمتيني وبتلمّين شمل الأزواج الحين.
رقيّة بصدمة : أدهــم !!!
أدهم بتشفّي : سويتي لي أكبر خدمة في حياتي .. ميغسي ميغسي الحين أقدر أتطمّن على زوجتي وتصير قُربي.
رقيّة بصراخٍ غاضب : يا وييييلك ، يا ويييلك يا حيوان تقرب منها سامع ... مالك حق مالك حق!!
أدهم يضحك وهو يحرّك السيارة : مالي حق؟!
رقية بصرخةٍ دوَت في أذنيه بكلماتٍ مقهورة : الحيوانات ما تترفّع للبشـر سامِع ! لا تنجّسها فيك ، لا تنجّسها فيك يا نجس ...
ابتسمَ بقسوةٍ وكلماتها تعدّت المعقول والذي يُمكنه تجاوزه، هتفَ بنبرةٍ باردةٍ ينتقم بها : أنجس الحيوانات الخنزير يا طليقة أبُوي ، وأنتِ يوم اقترنتِ بأحمد في علاقة تدرين إنها غلط صرتِ من نفس جنسه.
أغلقَ بعد كلماتِه، ورمَى هاتفه على المقعدِ الجانبيّ وابتسامتهُ القاسية لم تُبـارح شفاهه، خلخل خصلات شعره اللولبية بأنامله ناظرًا للأمـام، فلتذهب إلى الجحيم هي وكلماتها ، فلتذهب للجحيم بعد أن وصلَ إليها ...
كـان ذلك اليوم هو يومُ الثـلاثاء، انتظـر حتى جـاء الجمعة، كان يفضّل أن يلتقي بها خارج المنزل الذي تعِيشُ فيه .. المنـزل الذي كان فيهِ فتاتيْن فقط، بقيَ يراقبه في الأيـام التي سبقت اللقـاء، استطـاع حفظ هيئة الفتاتيْن معًا للحيطة، فهو لم يعلم أيٌّ منهما نجـلاء.
جـاء اليوم، ومكثَ بسيّارتـه قريبًا مُبكرًا ينتظِرها، جـاءت محمّلةً بنسيمِ الطفُولة، محمّلةً برائحـة مهدٍ صغيـر، ابتسمَ رغمًا عنـه وهو يتابعها بنظراتِه، عرفها ببساطة، استطـاع حفظ هيئتها هي وتلك، وإن لم يكُن سيعرفها فيكفيه أن السائق الذي أوصلها هو نفسه سائقهم.
نحيلة، تبدُو صغيرةً جدًا ، إلهي ما الجنُون الذي اقترفـه؟ هو كوالدها أمـام حجمها الصغير ، كابنةٍ لـي! كيف أجرمت هذا الجُرم وتزوّجتها وهي صغيرة؟ . . ضحكَ بسخريةٍ من ذاتِه، تذكّر القصص التي تدور حول تزويج الإنـاث وهنّ في سن الثانيـة عشرة، زواجٌ فعلي! لازال هذا يحدث حتى مع تدافـع السنين ، كيف يقترفُونها في حقّ مراهقـاتٍ كـ هي! طفلـة ، طفلـة وجسدها من خلفِ العباءة يُثبت ذلك.
تنهّد وهو يشتت عينيه عنها ومن ثمّ يعاود النظـر إليها ، صحيح أنّه تزوّجها طفلةً بتهوّر، لكنّه أبدًا لم يكُن ليتعدّى في ذلك إطـار حمايتها وقربها منه ، لم يكُن ليجرؤ على إيذائِها ..
مكَث حتى غادرَت سيّارة السائق الذي رحَل ليدرك أنّها تتأخّر في الداخِل، وانتظـر لخمسَ عشـرة دقيقةً قبل أن ينزل مبتسمًا، اتّجـه نحوَ الحـارس بوجهٍ بشوش، صافحـه ومن ثمّ أردف : ممكن تنادي لي آخر بنت دخلت؟ قولها ياسر عبدالله وبتعرفني.
اتّسعَت ابتسامة الحارس الخمسيني ويبدو أنّه لمْ يرى ياسِر من قبل، قد يكون لم يوصلها قبلًا أو أوصلها دون أن ينزل من السيـارة . . تمنّى أن تكون الأولـى، يشعر بنارٍ تحرقهُ تحاه هذا المدعـو بياسِر، ولو رآه لأشبعهُ ضربًا!
الحارس بترحيب : تقصد إلين؟ حيّ الله الوجيه الطيبة والله ما تدري شكثر هالبنت محبوبة عند البنات صح طلعت وصارت عايشة مع ناس ثانين بس على صغر سنّها ما تخليهم! كل أسبوع تزورهم وتعطيهم هدايا وتفرّحهم عسى ربي يسعدها.
جاملـه بابتسامةٍ صامتـة ليتحرّك الحـارس حتى تأتِي، ابتعدَ مباشرةً كي لا يُفسِد خطّته، ركبَ سيارتهُ قُرب باب الميتم، ومرّت لحظـاتٌ كان ينكوي فيها من حرارةِ الشمس، من حرارةِ الانتظـار، هذا الانتظـار يُصيب في مقتل! هذا الانتظـار للقـاءٍ بعد غيـاب، تعـالي، تعـالي إليّ، واجعلي السنينَ تنطوي بعينيكِ يا طفلتِي!
تصلّب جسدهُ حين رآها تخرجُ بعجل، توتّرت عينـاه رغمًا عنه، بينما كانت هيَ تنظُر حولها باستنكارٍ حتى وقعَت عيناها على سيّارتِه، فكّرت قليلًا قبل أن تتحرّك نحوها فهي السيارة الوحيدة الواقفة الآن، لربّما كـان ياسِر قد أخذ إحدى سيّاراتِ زملائه ، في بعض المرّاتِ يفعلها ويبادل سيّارتهُ هو وأصدقائه أثنـاء عودتهم من الجامعة كطقسٍ لم تفهمهُ منه، ما أكّد لها أكثر أنّه ياسر هو ضرب مزمـار السيارة مرتيْن حتى ينبّهها، لم يعُد هناك داعٍ للشك! لذا تحرّكت حتى وصلَت إليها، بديهيٌّ أن لا تشكّ في وضعٍ كهذا، قال أنّه ياسر، وطلبها بالاسم أيضًا والآن ينبّهها بمزمار سيّارته، وقد اعتادت منه بعض المرّات أن يبدّل سيارته فكثيرًا ما يفعلها الشبابُ في ذاكَ السنْ، لذا اتّجهت نحوه بكل ثقة، فتحَت الباب الخلفيّ مباشرةً لتصعد ، أغلقتْهُ ولفظَت بامتعاضٍ طفولي : وش جابك بدري يسّوري ماهي من عوايدك . .
شهقَت حين رفعَت عينيها ورأت عبر المرآة عينيْ رجلٍ غير ياسِر، ارتبكَ جسدها لتهتف برعشة : آسفة ظنيتك ...
لم تُكمل من شدّة خوفها ومدّت يدها نحو مقبضِ البابِ حتى تخرج، لكنّ أدهم كـان أسرع نباهةً منهـا حين حرّك السيـارة بسرعةٍ ليمنعها من النزول، صرخَت بذعرٍ وكادَت تفتحُ البابَ بجنونٍ وتقفزُ دون اهتمامٍ بما سيحدثُ لها، لكنّه صرخَ موقفًا لها : ماراح أأذيك ، لا تسوين شيء غلط وتذبحين نفسك تبين تنتحرين؟
هتفَت ببكاءٍ ورعشة : وقّف السيارة شتبي مني يمممممممه ..
عضّ شفتهُ وهو يضاعف السرعة بينما بكَت هي بقوّةٍ وهي تطلب منه أن يوقف السيارة، دمـاغه اشتعل بنارٍ انتشرت منه إلى كامِل جسده، قـالت " يسّوري " بكل تغنّجٍ وكأنّهُ شخصٌ من محارمِها، عضّ شفتهُ بحنقٍ يحاول السيطرةَ على أعصابـه، عمرها خمسةَ عشرَ عامًا يا أدهم! طفلة، وهو عاش معها عُمرًا، ليس في الأمر ريبة! دلالٌ طفوليّ، دلالٌ طفوليٌّ فقط وبالتأكيد تعتبرهُ مجرّد أخْ!
رفعَ عينيه نحوَ المرآةِ لينظر لها وقد تعالى صراخها من الخلفِ مطالبةً بإيقافِ السيارة، انتشـر الذعر في كلّ خلايـا جسدها، لم تفهم سوَى شيءٍ واحـدٍ مُرعِب ، أنّه اختطفها !!!
هتفَت بتوسّلٍ باكِي : وقّف السيارة والا بفتح الباب وارمي نفسي ، الله يخليك وقف السيارة والله ما أقول لأحد بس وقف السيارة.
ابتسمَ رغمًا عنهُ وأصابعهُ تطرقُ على أزرارِ التحكّم بالأقفـال بتسلية، شعرَ بحقارتِه في إخافتها لذا تلاشَت ابتسامته ولفظَ بهدوء : يا بنت لا تخافين والله ما ودي أأذيك ، أصلًا بحكي معك وبخليك.
إلين لا تقتنعُ بكلامه، بالرغم من صغَر سنّها إلا أنّها تدرك إدراكًا ضئيلًا أنّه أسلوبٌ في تهدئته الضحية ومن ثمّ قد يغتصبها ويقتلها، عـادت لتصرخ ببكـاءٍ خائفٍ وهي تنطقُ بشهقاتٍ متقطّعةٍ جرحَت حنجرتها مع حدّة كلماتها : لا لا لا يا ربـــــي يمه يبه يااااااااااااسسسسر أبي ارجع وقف السيارة تكفى . . تكفى اتركنييي
أدهم بحدّةٍ أشعله اسم ياسـر : بطّلي تصارخين قلت لك ماراح أأذيك
إلين بصراخ : كذااااااب كذذاااااب تحسب إني غشيمة تبي تذبحني يممممممممه آه ياربــي ساعدني.
أزعجهُ صراخها، بينما بدأت هي تفتّش في حقيبتها بعد أن تذكّرت هاتفها، رآها من المرآةِ ليوقف السيارة فجأةً وتصرخ الإطـاراتُ معترضةً على احتكاكها القويّ بالطريق، استدارَ بسرعةٍ ليمدّ يدهُ إليها ويقتلع الهاتف ومعه الحقيبة منها، صرخَت وتراجعَت للخلفِ حين لامسها، كـادت تصرخ شاتمةً لهُ لكنّ شتيمتها غصّت في حنجرتها وهي تنظُر لوجهه، تتعرّف على ملامِحه، ملامح الرجُل قبل سبع سنين ، هو ذاتـه ، وكيفْ تنسـى غريب الأطوار الذي كان يهمس بكلماتٍ لم تفهمها ويقبّل وجهها! ثبتَ في ذاكرتها الطفولية، خُزّن بين جدران عقلها . . ارتعشَت وهي تُلصقُ ظهرها بالقعدِ وترتعشُ رعشةً رهيبةً لعينيه، دموعها غطّت نقابـها، يرى عينيها بوضوح، تجمّد الزمـن، تجمّدت كفوفُه المُمسكةُ بهاتفها وحقيبتها، وتلاشى كلّ شيءٍ عدا عينيها اللتين اسودّتا بكُحلها المُنسـاب مع دمُوع الخوف، كانت شفاهُها ترتعشُ ولم يرَها خلفَ حاجِز نقابـها، لكنّ الذُعر كان يصرخُ في عينيها اللتين احمرتـا، ذعرًا لا يحتملهُ قلبها ... ابتلعَ ريقهُ وعقدَ حاجبيه بحنانٍ وهو يدرك مقدار الرعبِ الذي أثـارهُ في قلبها، مدّ يدهُ يريد مسحَ دموعها وتغافـل عن كونِها لا تعرفه، لا تعرف أنّه زوجها، اقتربَت يدهُ منها وعينـاها تتوسّعـان أكثر برجفة، همسَ بحنانٍ بالغٍ وهو يراقبُ دمعةً تعلّقت بأهدابها : بسّك خوف ، والله لو إنّي وحش! أنــا ...
قاطعتهُ بصرختها وهي تُغمض عينيها وتنكمشُ حين كاد يُلامس أهدابها، انسحَبت يدهُ حين أدرك خطأه، وما إن كـاد يتكلّم حتى هتفَت بخوفٍ وهي تضمّ جسدها وترفعُ قدميها عن أرضيّة السيارة : لا تلمسنــي يا وصخ ، لا تلمـسنــــي ...
بهتتْ ملامحه، ولم يكد عقله يترجمُ كلماتها حتى اندفعَ لسانها بشتائمَ عديدةٍ لتصوّبها بسهمها إليه مباشـرة : وصصصصخ ، أنت وصخ ومقرف ما تخاف الله شلون تتجرّأ وتخطفني كذا؟ حيواااان زبــاااالة الله ياخذك يا وصصصخ الله ياخذك يا نجــس.
صرخَ بغضبٍ وبضعُ كلمـاتها جاءت في وقتٍ خاطئ، في وقتٍ سبقتها فيهِ أمّها وقالتها له، لم يشعر بنفسه إلا وهو يمدُّ يدهُ ليضعها على فمها بحدّةٍ وهو يصرخ مقاطعًا لها : بــــــس!! كلمة ثانية وما بتشوفين شيء يرضيك .. اهجدي ماني مسوي فيك شيء.
امسكَت يدهُ وابعدتها عن فمها بقوّةٍ ليميل نقابها ويظهر جزءٌ من وجنتها وأنفها، وبرعبٍ أكمَلت شتائمها : انقــلـــع يا نجس لا تلمسني قلت لا تلمسنيييييي
أدهم بغضبٍ تجاوزَ استيعابـهُ أمسكَ فكّها وغرسَ أصابعهُ فيها وهو يهمسُ من بين أسنانه بتحذير : لا تعصبيني أكثر ، انتبهي يا بنت تراني ما أصير نفسي إذا عصبت .. أحذرك.
انتزعَت يدهُ من جديدٍ بقوّة وهذه المرّة انتزعَ نقابها معه، مدّت شفتيها وعينيها أحاطتهما هالـة الكحل الذائب مع دمعِها، وبكل جرأةٍ وجنون رعبها يحرّكها بصقَت على وجهه، تجمّد المكـانُ وصمتَ الوقتُ كما الأنفـاس، التهبَ الجحيمُ في عينيه، وتجمّدت ملامحهُ بشدّةِ الغضب الذي تصاعدَ فيه أكثر وأكثر حتى وصَل لمرحـلة الجنون ... لم يقُل شيئًا، لم ينبس ببنت شفة، بينما تضاعفَت رعشتها بعد ما فعلته، بعد أن رأت الغضب العـارم في عينيه، الغضبَ الذي جعلها تنكمشُ على نفسها وتهمسُ بخوفٍ أضـاع الصوت الذي كان يشتمُ بقوّةٍ قبل لحظـات، بضعفٍ وصوتُها يغصُّ في رجاءٍ واهِن غلّفه الخوف : آسفة ، آسفة .. والله آسفة بس رجّعني .. افتح لي الباب بس وبطلع وأدبّر عمري .... اسمع أنت وش تبي بالضبط مني؟ شيل شنطتي وجوالي وكل شيء بس اتركني الله يخليك والله ما سويت لك شيء.
لم يردّ عليها، صمتهُ أرعبها أكثـر . . استدارَ ببطءٍ وهو يمسحُ وجههُ بكفه، عـادت ترجُوه بينما حرّك السيـارة متجاهلًا لها، لبكائها الذي ارتفعَ حين تجاهلها وتحرّكت السيـارة إلى المجهول، رسمَت مقتلها وربّما اغتصابها ، لا لا يا إلهي، ليقتلها مباشرة ، ليقتلها مباشرةً ولا يعرّضها لهذا الذلّ والهـوان !
لم تعُد تبالي أستمُوت أم لا، حاولت فتح السيارة لكنّه أوصَد الأبـواب ورعشـة يدها المُتعرّقةِ لم تُساندها، السيارة هادئةٌ لا يعجّها ضجيجٌ سوى بكاؤها وتوسّلاتها مع اعتذاراتها التي غسلته بها حتى ملامحها لم تهتمّ لستـرها، وهو لم يُبالي! لطالمـا أراد رؤية طفلته كيف أصبحَت، هل كبُرت؟ هل خطّت المراهقـة على وجهها خطوطها؟ هل تلوّنت اللوحـة البيضاء بألـوان الحياة أم بقيَت كطُهرها، لا يُضاهيها أحـد ، بقيَت بذاتِ قطنيتها، براءةِ عينيها! . . . لم يُبـالي!!
راقبَت الطريق بذعرٍ وهي تراهُ يبتعد بها إلى حيٍّ مُتهالك، ما الذي سيفعلهُ بها هنـا ؟!! ... نشجَت بخفوتٍ وهي تتمنى أن يقتلها وحسب، القتل عندها لا شيء أمـام الذل وشرفها.
توقّف أمام منزلٍ صغير من الواضح أنّه مهجور، نزلَ ليتّجه لبابِها ويفتحه، تشبّثت أظافرها بالمقعدِ وهي ترتعشُ وتُرجع ظهرها للخلفِ هاتفةً برجـاءٍ باكي : الله يخليك ، تكفى لا تسوي فيني شيء الله يخليك والله ما قصدت الكلام اللي قلته أنا آسفة آسفة بس اتركني ااااااااااه
سحبها بقوّةٍ ولم يُبالِي بتوسّلاتها حتى نزفت أظافرها، قربَها منه ليهتفَ من بين أسنانِه بجنونٍ غاضب : كم سنة؟ كم سنة تعّبت عمري وأنا أدورك؟ كم سنة كان أكبر طموحاتي فيها أنتِ عشان تجي أمّك وتجين أنتِ وتحطّون منّي بهالشكل! ذليت نفسي كثيييير عشانك ... أرهقت نفسي كثير فيك!!
صرخَت ما إن سحبها من زنـدها ليدخُل بها ساحـة ذلك المنزل الصغير، قتـل صرختها بكفّه وهو يسحبها بقوّةٍ رغم مقاومتها، لم يُبالي بصرخاتِها ورجائِها، خوفها الذي كـاد يقتلها طفلة! أدخـلها المنزل ذو الباب المتهالك ليدفعها على الأرض ويهتف بغضبٍ نـاري : ليتني نسيتك وتركتك بحالك تتزوجينه، بس وش الغباء اللي خلاك ما تذلفين من مخّي؟ أبيك وأبي سعادتك بس ليتك تستاهلينها! نسيتك؟ صح!! أنـا نسيتك! وما تستاهلين اللي فيني تجاهِك . . * صرخ مردفًا * بس لااااااا ظليتي طول عمري في بالي طفلة في مهدها أحس تجاهها بمسؤولية كبيرة ... مسؤولية ماهي شفقة! ليتها كانت شفقة على حياتِك اللي ضاعت بسببها، ليتها كانت شفقة عشان أتجاوز كل اللي مريت فيه قبل لا يمرْ!
زحفَت للخلفِ بخوفٍ وهي ترتعشُ وتبكِي لا تفهم شيئًا مما يقُول. هتفت بذعر : وش تبي فيني وأنا ما أعرفك حتى!!
أدهم يقتربُ منها بجنون : أبي ضرائب تضحيتي
*
دفَـن وجههُ الذي يشتعلُ في وسادته، هل المرضُ يعيد كلّ الأشياء الماضية ويجعلنا نشعر بها فعليًا في حاضرنا؟ .. يشعر أنّه يتمزّق، وكأنّه لتوّه أفـاق مما كـاد يفعلهُ بها، لم يفق إلا بعد أن فقدَت وعيها من خوفها قبل امتهانِه لها، انقبضَت خلايا جسدهِ بهـوان، عضّ شفتهُ وهو يغمض عينيه بقوّةٍ والشعُور ذاته يتجسّد في قلبه الآن، لازال يذكر كيف ابتعدَ عنها يرتعشُ ويشعر أنّ جبـال الأرضِ كلّها تتوكّأ على صدرِه، إبَرُ الدنـاءةِ توخزُ خاصرتـه، قلبه كـاد يتمزّق يومها وهو يضعُ كفيهِ على رأسه ويتراجعُ بخطواتٍ بطيئةٍ للخلفِ هربًا من ذاتِه، منها، حتى في غياب وعيها كان يهربُ منها ، كانت طفلةً أيّها الدنيء! طفلةً كدت تفرّغ بها غضبك وحيوانيّتك ، طفلةً أشعرَته يومها أنّه يستحقّ كل الشتائم التي ألقتها هي وأمّها عليه، بل كانت قليلةً أمـام حقارتِه !! استحقّ بصقتها على وجههِ الوضيــع ، كيف فعل بها ذلك؟ كاد يقتلها بذاكَ الخوف، بذاكَ الامتهـان، كـاد يقتلُ قلبها بحقـارته.
كـادت شفاهُه أن تُدمَى وهو يعضّ عليها بقوّة، رفعَ كفّه ليضعها على قلبِه، يشعر أنّه يغصّ بمشاعرهِ يومها، يغصّ بالهوانِ الذي ينهشُ خـلاياه. ابتعد! اكتشفَ أنّه يجب أن يبتعد فقط ويتركها للحيـاة للأبـد، كآد يؤذيها ، فقرر الابتعـاد قدر المستطاع ، قرّر نسيـانها ، وتنـآسى! لكنّه بالرغم من ذاكَ وذاكَ لم يستطِع أن يحلّها منه، تنـاسى حتّى أنها زوجتـه.
عـاد صراخها الذي غصّ في نبرة بكاء ، صراخها يومَ أخبرها بحقيقةِ ذاكَ اليوم، صراخـه اللائم له، العاتِب بوجَع : خليتني أكـره الميتم، خلييييتني أتوب أروحه مرة ثانية، خليتني أحتقر نفسي! كنت كل أسبوع أشكر الله على نعَمه باسعادهم، صارت لي صداقات هناك بس قطعتها، خليتني أكره كل شيء متعلّق فيه! خليتني أوشم وجهي بعلامة غبيّة بفترة جهل، علامتك للحين موجودة بوجهي يا أدهم ، اغتصابك لي للحين يحاكيني كل ما طالعت وجهِي بالمرايـة ... شكرًا على بطشَك، حتى خدمة إنّك ترجعني البيت أو حتى الميتم ما عطيتني عشان تشفع لك ولو شوي! تركتني بروحي مرميّة هناك ومغمى عليْ ولو إنّ فيه حيوان دخل عندي غيرك كنت رحت فيها جد يومتها ، لو مر وقت طويل وأنا مغمى علي وانتبهوا اهلي ورحت فيها، لو ما طاحت شنطتي منك بالغلط برى سيارتك، لو صاحب التاكسي اللي ركبته بعد ما مشيت أمتار عن هذيك الحارة مع تعبي كان حقير وعلى شاكلتك! .. لو إنّي تزوّجت بهالسنين! تزوجت وأنا مرتبطة فيك برباط وصخ! وش عندي يشفع لك يا أدهم؟ وش عندي يشفع لك؟
أدهم : الشنطة حطيتها متعمّد ، كنت أراقبك من بعيد ولاحقت التاكسي بعد ! ماقدرت أرجّعك بنفسي، ما قدرت أواجهك ، وما كنت بسمح طيلة هالسنين تتزوجين، تظنين إنّي كنت بغفل؟ هربت بس كنت أرجع كل ما رجَع أدهم الطفـل!
صرخَت بقهر : وش يغفر لك؟ هالعذر ما يغفر ، ما يغفر اللي سويته !!
أدهـم بحبٍّ كبُر معه، تنـاساه ولم ينساه، تنـاسى هذا الحُب أن يكبر ولم ينسى ، كـان يكبر رغمًا عنه، عن هوانِه، عن أخطائه، عن ذنوبِه، يكبُر ويهيمن عليه أكثر مهما تناسـاه : عيونك تغفر عمر، ما تغفر حُب؟
صرخَت بجنون : ما تغفر ، ما تغفــر حُب كذّاب ، ما تغفر يا أدهـم وأنت قتلتني وأنا طفلة تبيني أسلّمك حياتِي كبيرة وواعية؟
أدهم بخفوت : سلّمتك عمري كلّه ، لا تبخلين علي بنص عمر! أخطائي تمحيها عيونك، معصيتي بتخضع لطهارتك، العمر في عيونك غفران !
" إني أرى العمر في عينيكِ مغفرة، قد ضل قلبي فقولي .. كيف أهديهِ؟ " كيف أهدي قلبي عنك؟ يريد أن يهتفَ بها، أن يطلب استشـارة قلبها، أن يسأله كيف ضللتُ طريقي إليك؟ كيف أهدي قلبها إلى سراطِي؟ سراطكِ لوعـة، ونــار! مُشتعلْ، مشتعلٍ واللهِ فيكِ يا نجـلاء، مشتعلٌ بعينيك التي لم أرى احمرارَ خجلهما وعمري قد تجاوزَ الثلاثين ، يا الله! هل مرّ بي هذا العُمر ولم أشعر؟ كـان عُمري - خـواءٌ - قبلك، كـان واللهِ خـراب، خرابٌ لا يستوي إلا بأهدابِك ... اغفري، فإن بابَ غفـرانكِ يؤدي إلى جنّةِ الأرضْ، اغفـري ، اغفـري يا نجلاء!
كانت تهزّ رأسها بالنفيْ، كيف يحاول إغواءَ غضبها بِكلماتٍ حوّرها لفاروق؟ لا شعْرُ فاروقَ يغفر معصيتَك، لا القصائدُ كلّها، لا الطهـارة التي لوّثتها فيّ .. لا تطلب الغفرانَ منّي ، لا تطلب !!
ابتلعْت غصّتها لتهمسَ بتحشرجٍ وهي تكاد تبكِي : تقفّل باب مغفرتي ، صُوم عن ذنُوبك يمكن وقتها أتقبّلك من باب الريّان !
أدهم بولَه : عُمري والله يا جنة الأرض!
أغلقت وقد استفزّها بكلمـته الأخيرة ليضحك ، علمَت كلّ شيء، أخبـرها بحيـاتها الضائعة، أمّها، والدها، طريقة زواجهما، ومعصيته! هربـه بعد تلك المعصية، هربه لسنين حتَى تنـاساها ، وحين عـادت إليه تظنّه أخْ ، ارتعبَ من ظهورها أولًا قبل أن يكذب ، ويحتاجها !
تأوّه منتفضًا حين شعرَ ببرودةٍ توغّلت وجهه، فتحَ عينيه وقد كانت عيناه قد غفَت دون شعورٍ منـه ليجد صورتها في منامه، نظـر لسهى وقد تضاعَف وجعُ جسده، لامسَت عنقهُ بقلقٍ وهي تهمس : زادت عليك الحرارة يا وجع قلبي!!! قم قم يا روحي اشرب الشربة والحبوب وبعدها ادخل تروّش بمويا باردة.
أدهم بإرهـاق : آآه جسمي مكسّر ..
سهى بقلق : يا رجّال لا تصير حساس أكيد من المرض ، قوم بس ساعدني عشان أشرب وصير قوي لا تصير عجّاز كذا!
تحرّك بوهنٍ بمساعدةِ يدها لتضع الوساداتِ خلفه وتجعله يسند ظهره حتى تتمكّن من جعله يشرب من الشُربة، قرّبت الملعقة من شفتيه وهي تنطُق بحنان : ماعليه تحملها حبيبي حامضة بس عشانك.
ابتسم أدهم بوهنٍ ابتسامةً تكادُ لا ترى، وببحّةٍ خافتة : والله إنّي أحبك بس عارف إني نذل.
سهى بقلق : يا بعدي والله الصخونة خلته يتخيلني نجلاء ... هييي أدهم قوم حبيبي تراني عمتك سهى المعفنة اللي ما تحترمها.
ضحكَ ضحكةً ميّتة : الله لا يحرمني منك.
ابتسمَت بينما فتحَ فمه ليشرب الشربة، اتّسعت عيناه وتشنّجت رقبته وبلعومه وكامل وجهه من المذاق : ااااخ قرف وش هالحموضة؟!!
سهى بحدة : نعمة استغفر ربّك وجع !
،
وقفَت أمامه تمنعهُ من الخروج : شلون يعني؟
نظر لها بحدةٍ رافعًا إحدى حاجبيه : يعني لو اكتشفت إنّه فيه بينك وبينها علاقة فأنتِ مطلّقة.
اتّسعت عيناها بصدمة لتهتف بقهر : لهالدرجة صار الطلاق يجري على لسانك بكل سهولة يابو ياسر؟ يا خسارة السنوات اللي بيننا!
عبدالله بحدةٍ غاضبة : اذا أنتِ ما تطيعين زوجك في كل شيء شلون تبينه ما يصير سهل على لساني؟ تعبت منك! مرة وحدة بس أبي أحكي عنها وما تدافعين !
هتفَت من بين أسنانها بقهر : مالها ذنب!
عبدالله بسخرية : الا لها وخليني بس ساكت ، على فكرة تراك بنفسك معترفة إنها موصلتك لالين خصيصًا ماهو واضح إن وراها شيء غلط؟
هالة تكتّف يديها باعتراضٍ لكلّ أفكاره : بنتها وتبي لها حياة حلوة!
عبدالله : وليه ما شالتها هي من باب كفالة؟
هالة تبرر : مافيه رجّال عشان تقدر هي عايشة بروحها.
عبدالله : حلو ، وليش عايشة بروحها ان شاء الله؟ اهلها ليه متبرين منها؟
هالة بصدمةٍ تُنزل ذراعيها : أنت ليه كل شيء تفسّره بمزاجك؟
عبدالله بجمود : لأنّ هذا الصح ، أنتِ تدرين ليه ما كانت تبيك ترضعينها ومنبّهتك بعد مع تهديد مبطّن؟
هالة تضوّق عينيها بضيق : بنتها وحرة ولازم طبعًا توافق قبل.
ضحكَ بسخرية : على أساس احترمتِ رغبتها أنتِ!! ... تدرين ليه يا هالة؟ لأنها كانت تبيها تتزوّج يـاسر ، * أردف بقهر * وزين إنّك رضعتيها بالسر وحميتينا من خطأ كان بتنجلد ذاتنا عليه طُول عمرنا!
لم تفهم مقصده بكلماتهِ الأخيرة، لكنّها هتفَت قاصدةً بداية كلامه : بطل تدخل بالنوايا بهالشكل ! إن بعض الظن إثم.
تحرّك متجاوزًا لها حتى يخرج من الغرفة : ما بضيّع وقتي أكثر بحكي مامنه فايدة ، إلين تبيني الحين.
هتفَت بضيقٍ قبل أن يخرج : والخطيب اللي جاها حاكيتها عنه؟
عبدالله بوعيد : حسابي مع ياسر اللي ما صدّق خبر يعلّمك ، بعض السوالف ما ينفع تنقال للحريم !
يُتبــع . .
|