كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
استفاقَت من نومِها باقترابِ السـاعةِ من العاشـرة، نظـرت حولها ورأسها يشقّ سكُون الصـداع من بكائِها الطويلِ على صدرِ سلطان، جلَست تضعُ كفًّا على رأسها وهي تضوّق عينيها من الألـمِ والنعاسِ في آن .. لو أنّ للخـواءِ شكلًا لتشكّل أمـامها في سلطان - بعد أن رحـل! لمَ رحـل؟ لمَ لم يبقى جانبها لتفتحَ عينيها وهي في حُضنه! هـذا الصُداع لم تكُن لتُبـالِي بهِ لو أنّه كان جانبها وترتـاح بحُضنه، لقد قالها لها، قـال لها سيساعدها في محقِ هذهِ الحـاجة، وهاهو بدأ في ذلك الآن، ابتعدَ في أوجِ حاجـتها له!! كيفَ تراه يحتضنُ غيداء ويمدّها بالحنـان ويريدها أن تقتل هذهِ الحاجة؟ كيف تقتلها؟ وهي ترى كلّ ذلك الحنـان في سواها. .
رفعَت ركبتيها إلى صدرِها لتحيطَهما بذراعيها وتضعَ ذقنها عليهما بضيـاع . . أحتـاجك! ما معنى ذلك؟ ما معنـى هذا الاحتيـاج في صدري؟ هـذهِ الروح التي تنـاديك، هذا الانعكـافِ في أهدابي يشرحُ كلّ انكساراتي يا سلطان، كلّ احتياجـاتي إليك! إلى كلمـاتِك التي تواسِي حُزني حتى في اشتعـال حقدك! يؤلمنـي أن أعترف، أحبّ هذا الاحتيـاح لأنّه ينتهِي بالرضا! ترضيني وأخـاف! أخـاف أن تنهدمَ حصوني وأقـع بِك.
عضّت شفتها بقوّةٍ وهي تدفُن وجهها بأكمـله من تلك الاعترافاتِ التي أصابت الجمـاد حولها، قالت أنّها محصّنةٌ ضدّ الحُب، كيفَ جعَل ثقتها بذلك تهتزّ الآن، هل يُمكن أن تقعَ به؟ هل يُمكـن أن تـنهي نفسها بتلك الطريقـة؟!!
انتفضَت وهي تسمعُ صوتَ رنينٍ يصرخُ بجانبها، رفعَت رأسـها بضياعٍ لتنظُر نحوَ هاتفها الذي تركتهُ على الكومدينة قبل أنْ تنـزل من الغرفة وتحترقَ في الأسفـل، مدّت يدها لهُ لتأخـذه ويقشعَ ضوؤهُ ظـلام هـذا الصمت ، هل يكفِي أن تشتكِي للجمـادات؟ انظـروا لمَن أنسانِي معانِي الحيـاة، لمَن ولّد فيّ هذا الاحتيـاج لسلطان، لمَن قصّر في حقّي وجعلني أنتهِي في سواه! جعلنِي أخسـر حنان سلطان، لن أظفـر بهذا الحنـان أبدًا! لن أظفـر بهِ والسببُ والدي، السبب بمَن جعلني أخسرنِي . . أريدك يا سلطان، أعترف أنّي أريدك، لا أدري إن كـان حبًا أم احتياجًا وحسب! لكنّني أريدك .. لا تكرهني! لا تجعـل غزل التائهـةَ في حضنِ رجُلٍ آخر تعلّمك أشدّ أنـواع الكرهِ إليّ.
كرهَت نفسها، كرهَت والدها، كرهَت من لجـأت إليه سابقًا، كرهَت الحُضن الحـرام، كرهـت الحيـاة، الغنَى الفاحـش، السفـر، الدلالَ الماديّ! كرهَت كلّ ذلك الذي لم يرزقها بنصفِ ابتسامتها الحقيقةِ مع سلطان، بحضنهِ الذي دفّأها قبل ساعـات، حضنه الذي جعلها تعترفُ كم تحتاجـه، أضعفها أكثر، وتُدرك أنّ هذا الضعف انهَى حياتها معــه !! كيفَ يقبل بأنثى ناقصةٍ مثلها؟!!
ردّت عليهِ بأصابـع تنتفضُ انفعالاً، هذا الضغطُ في صدرِها سيجعلها تصرخُ في وجهه، لمَ ظلمتني؟ لمَ أرغمتني على إيذاءُ سلطان؟ لمَ جعلتنِي أخسر نفسي؟ . . نسيَت تحذير سلطان لها من أن تحادثهُ وهو غيـر موجود، نسيَت ذلك وأرادت الصـراخ بلوعـة فقدها لذاتِها، بلوعةِ هذا الاحتياج! بلوعـة هذهِ المشـاعر!!!
حينَ أفرجَت شفتيها لتصـرخ بغضبٍ كـان صوتُ أحمـد يقطعُ كلّ وسـائِل الصـراخ، لفظَ هو في المقابـل بنبرةِ غضـبٍ مكتومة، بكلماتٍ حـادةٍ حـارقة، هتفَ بصوتٍ كـان مستعجلًا وكأنّه خائفٌ من حقيقةٍ مـا : خــــــلاص ارجـعي .. اللي أبــيــه ماهو عند سلطان ، اللي أبيــه ماهو عنده اتركي بيته واهربي قبل لا يصير شيء يطيح فوق روسنا . .
،
عـاد في وقتٍ متأخرٍ من الليل، السـاعة اقتربَت من الواحـدة بعد منتصفَ الليل، وجـد أنـوار المنزلِ مُطفأة، تركَهُ مُضاءًا، وكأنّما كان هو الاشتعـال وحين غـادر انطفأت شُعلته وعمّ الظـلام، مشتعلًا بمشاعره، مشتعلًا بحقدِه، مشتعلًا بكرهِه وشفقتهِ على غزل في آن! مشتعلًا بالوعيدِ الذي قطعهُ على نفسه ليغسـل بهِ غزل من كلّ شوائِبها، من كلّ نتانتِها !! مشتعلًا من بين كلّ تلكَ وأعلاها بـالماضِي، بفهد وسلمان! بسلطـان الطفـل.
أغمضَ عينيه قليلًا يُكمل حضورَ هذا الظـلام، يغيّب النظـر الباقِي، ويحضّر طقُوسَ خيباتِه، بالظـلام! .. في الليل ، مات والده، في الليل، اكتشف قاتله، في الليل، احترقَ وكرُ والده، في الليل، جاءه القاتل وقال لهُ تزوّجها! لا تتركها، " حرام "! .. في الليل، كـاد يقتلهما بشاحنتِه، في الليل، صرخَ غاضبًا في مجلسهِ وركل طاولةً بما عليها ليفتضحَ سر الخمسَ عشر عامًا أمامَ صُحفيّ، في الليل، حدَث الكثيـر ، فكيفَ لا يكرهُ الليل! ، في النهار اكتشف غزل، وقبلها فقدَ امّه " ليلى "، لمْ تحدُث مآسى تعدّدت كما في الليل ، فكيفَ لا يكرهه؟
ظـلامُه، أشبـه بحربٍ سجـال، لم ينتصر، ولم يُنتصَر عليه، ولربّما أُنتصـر عليهِ ولا يريد التصديق !!
تحرّك نحوَ الدرجِ بعد أن أشرقَ نظرهُ بتحرير أجفانه لأحداقِه، صعدَ ليتّجه لغرفته/غرفتهما وهو لا يريد فعلًا رؤيتها الآن، لكن ذلك لم يعُد بيديه، ستَزور أحداقهُ كلّ ليل، بل كلّ وقت، ولن يستطيع تغيير ذلك ، لأنّه لا يُريد !
فتحَ البـاب ليجدَ غزل تجلسُ على السرير تضمّ ركبتيها إلى صدرها وتهزّ جسدها للأمام والخلف ناظرةً للفراغ بشرود، لم تنتبه إليه لذا أطبق الباب من خلفه بقوّةٍ لتنتفضَ وتنظر إليهِ بسرعةٍ وهي تُخفضُ ساقيها وتعدّل بنطال بجامتها الواسعةِ بعض الشيء . . تعلّقت نظراتها المتوترة بعينيه الجامدتيْن، اهتزّ فكها قليلًا لترسمَ بسمةً مضطربةً على شفتيها وهي تهمس : صباح الخير.
تجـاهل ما قالت واقتربَ من السرير ليجلسَ على طرفهِ مواجهًا لها بظهره، انحنَى حتى يخلعَ حذاءه بينما مررت لسانها على شفتيها وهي تُخفض نظراتها لتجاهله .. هتفَ ببرودٍ وهو مُنشغلٌ بحذائِه : كيفها رجلك؟
غزل تشتت عينيها بالزوايا لتهمسَ ببحّة : توجعني شوي.
رفعَ جسدهُ ليُديره نصفَ استدارةٍ وينظُر إليها بحاجبٍ مرتفعٍ في اللحظة التي سقطَت أنظارها عليه .. تلعثَمت الكلمات في حنجرتها لتعُود وتشتت عينيها وهي تهتفُ باندفـاع : قلت لي أول إنّي كذابة عشان كذا بقول الصدق الحين.
صدّ عنها ببرودٍ وهو يهتف بلا مبالاة : طلعيلي ملابس لين أطلع من الحمام.
بهتت قليلًا دونَ استيعابٍ بينما نهضَ هو بجمودٍ واتّجه للحمـام بعد أن خلعَ ثوبهُ وعلّقه، وقفَ عند البابِ وهو ينظُر نحوها جامدةً في مكانها تنظُر حيث كانت تنظر قبل أن يقول ما قال وكأنّها لم تستوعب، لذا أردف بنبرةٍ أشدّ : أكلّم جدار أنـا؟!!
انتفضَت لتومئ مباشـرةً ومن ثمّ اتجهت لخزانـة الملابس في اللحظـة التي دخلَ بها للحمـام وأغلقَ البـاب.
وقفَت أمام بابِ الخزانـة، وتنهّدت برعشـة أهدابِها الواهنـة، مالَ جسدُها قليلًا لتسند رأسها على البابِ وتُغمض عينيها وهي تُفرج شفاهها لعبُور هواءٍ غير صافٍ - بعطره! هذا العطر الذي ما إن دخَل سلطان الغرفـة حتى انتشـر كعينٍ انبثـقت من الأرضِ أسفلها وعرقلَت حركتها، .. شدّت على أجفانها دون شعور، واستنشقَت رائحتهُ بعمق .. يكفِي! انـتــهى كلّ شيء! انتهى! لـن تُساند والدها مرةً أخرى، لن تصمُت، ليس من أجلها، بل من أجلِه! من أجـل الذي حتى في احتقارِه لها وجَدت منه الحنـان ولو للحظـات، هذا الحنـانُ الذي أنسـاها كلماته، أنساها قسوته، أنساها جراحـه واهاناتِه لهـا، هـذا الحضن - الجنة -! لمَ لم تجدهُ قبلًا؟ لمَ لم يظهر في حياتِها قبل أن تقع؟ لو أنّه تراجَع سنتينِ وتقدّم إليها، ليتهُ بكّر قليلًا، ليته جـاءها حين ما زال النهـار يسطعُ بشمسِه في بداياتِه، نهارٌ دافِئ، نسيم، ورائحةٌ فجريةٌ ساحـرة، كـان سيكُون ندَى أهدابها، لا تسقُط سوى لسُقيـاها . . لمَ تأخّرتْ؟ جئتنـي كحصـادٍ بعد ممات، لم تأتِي باكرًا يا سلطان، لم تأتِي باكرًا وعثرتُ عليكَ وأنـا جفّفني خريفُ الحيـاة، ليتكَ جئت باكرًا.
ابتعدَت قليلًا عن باب الخزانة وهي تمسحُ أنفها وتفتحُه بأنامِل فاتـرة، تفقّدت بجائمه التي كـانت تجاورُ بجائمها في مشاركةٍ زوجية، ابتسمَت رغمًا عنها بأسى، ومن ثمّ مدّت يدها لتُخرج بجامةً رمادية كانت تعتلي بجائمه، جهّزت ملابسه كلّها ووضعتها على طرفِ السريرِ ومن ثمّ اتّجهت لبابِ الغرفـة تسيّرها طاقـةٌ غريبة، نزلَت بهرولةٍ لتدخل المطبخ، تُريد تحضير شيءٍ لـه، لا تدري ماهذهِ الطاقة التي تُرغّبها في إرضـاء ولو جزءٍ منه، أرادَت أن تحضّر شيئًا يأكله لكنّها تراجعت وهي تضعُ نصب عينيها أنّه سينام وربّما لن يأكل، فكّرت أن تحضّر له قهوة، لكنّها تراجعت حين تذكّرت كيف أنّه سابقًا لم يتقبّلها وقال " السم أفضل "، ابتسمَت بتلقائيةٍ وهي تستذكُر ذاك اليوم، حين سرقَ كوب قهوتها وامتعضَت متمتمة " فيه سم " فارتشف بعنادٍ لينقلب وجهه في ثانيةٍ ويقُول ما قال . . لو يعُود لابتسامتِه معها! كيف فرّطت فيها بكلّ غبـاء؟!!
فتحَت الثلاجـة حتى تبحث بعينيها عمّا يناسبُ كي تجلبه له، التقطَت بعينيها العصـائر، فتنـاولت عصير البرتقـال وظلامُ المطبخ أُضيء قليلًا بنورِ الثلاجة . . صبّت لهُ من العصير في كوبٍ زجاجي، وأضافَت ماءً في آخر، خرجَت من المطبخ تحمل الصينية في يدها ومن ثمّ صعدَت إليهِ من جديد . . حينَ دخَلت وجدتهُ قد ارتدَى ملابسه وبقيَ صدرهُ فقط عاريًا بينما كان يحملُ في يديه قميصَ بجامته .. توتّرت رغمًا عنها وانتفضَت يدُها وهي تُشتت عينيها، تحرّكت وقد توتّرت وبدأت الصينية تهتزّ بين يديها كالبلهاء! اقتربَت من الطاولة الزجـاجية لتضعَ الصينية عليها، وكـانت نظراتُ سلطان من الجهةِ الأخرى تتابعها باستنكـار، يرفعُ إحدى حاجبيهِ مستغربًا ما أحضرته ... التوَت شفتيه في ابتسامةٍ مستخفّةٍ وكأنّه فهمَ ما يحدث، وبسخرية : هذا لي؟
توتّرت وهي لا تستطيعُ رفعَ عينيها إليه، مررت لسانها على شفتيها وقد استشفّت من نبرتِه الاستخفاف والسخرية الملازمتين لكلماتِه، وبخفوت : إذا ما تبيه برجّعه عادي.
سلطان بسخريةٍ أكبـر : وش قصّتك اليوم ، غريبة! لا يكون فيه شيء تقتليني فيه؟
رفعَت نظراتها مباشرةً إليه ليصوّب إليها سهمَ نظراتِه المحتقرة، انتفضَت خلايـاها لسوءِ الظن الذي وصَل إليه، وبصوتٍ باهتٍ واهن : مستحيل.
سلطان : اووووه صح يمكن عشان الحُضن! تشترينه والا كيف؟
اتّسعت عيناها بصدمةٍ واهتزّت أحداقـها لعمقِ طعنـةِ كلماتِه، بينما تابعها هوَ ببرودٍ واللا مبالاة تكتنزُ في ملامحه، يريدها أن تكرهه، يريدها أن تنفُر منه كما ينفر منها، يريدها أن تقتلَ حاجتها إليه فلا يعذّبها بمشـاعرها التي بات يخشى أن تكُون حبـًا !!
تراجعَت للخلفِ ببعثرةٍ وهي لا تستوعبُ جرحَ كلماتِه ونبرتِه المستخفّة بهـا، كمشرّدة! هذا ما يقصده، وحضنهُ مأواها، تقايضهُ بعصيرٍ ومـاء! يا للقســوة !!!
بقيَت متجمّدةً في مكانِها تنظُر للأرضِ بفراغِ عينيها الميّتتين، يدها ساقطتانِ بجانبها، عينيها المهتزّتـان تنثُر على الأرضِ كلمـات جرحها، مواساتِها .. أستحق! أستحقّ كل شيء، أستحقّ القسـوة، الجـراح التي لم اعتدها منه، أستحـقُّ وإن كـان ما فيّ لا يتّسع للمزيد ... لا يتّسع !!
تحرّك سلطان بجمودٍ أمـام تحجّرها بعد قسوةِ كلماتِه، وقفَ أمامها تفصُل بينهما الطاولة، ومن ثمّ أخفضَ يدهُ ليتناولَ كوبَ الماء ويرتشفه دفعةً واحـدة، ابتعدَ عنها ليتّجه نحوَ السريرِ ومنشفةٌ تستقرُّ على كتفيه، يتقاطرُ الماءُ من شعرهِ الرطبِ بعد حمّامه السريعِ كيْ يُطفئ انفعالاته .. وضعَ القميصَ جانبًا وبدأ يُجفّف شعره الكثيف، بينما رفعَت هيَ رأسها بضعف، نظـرت إليهِ بنظراتٍ تعطّل فيها الإدراك، بالرغم من توتّرها لحظة دخُولها حين وجدته عاري الصدر إلّا أنّها الآن بقيَت تنظُر نحوه، يجبُ أن تُخبره ، يجبُ أن تخبره !!!
أفرجَت شفتيها بتوترٍ وخوف، يجبُ أن يعلم .. لن تبقى تغدُر بهِ وتساندَ والدها كلّ مرة، يجبُ أن يعلم حتى وإن كان جرحها بقسوتِه لتوّه! ... همسَت بضعفٍ ورعشة : سلطـــااان
وجّه نظراتهُ مباشرةً إليها وهو يعقدُ حاجبيه بضيق، وببرود : نعم !
ابتلعَت ريقها بتوترٍ وهي تشبكُ أناملها ببعضها البعض وتشتت عينيها في زوايـا الغرفـة، نطقَت بتردد : اليوم ، آ يعني صـار . .
رفعَ سلطان إحدى حاجبيه : وش عندك تكلّمي زي الناس!
مررت طرف لسانها على شفتيها لتركّز بعينيها على عينيه مباشرةً، وبنبرةٍ مترددة : اليوم أبُوي اتّصل . . و ...
صمتت رغمًا عنها حين وقفَ بانفعـال، تراجعَت للخلفِ بذعرٍ وهي تراقبُ عينيه اللتينِ اشتعلتا غضبًا أسودًا، ملامحه التي اشتدّت، شفاهُه التي امتدّت قليلًا تُنبئ عن كلمـاتٍ قادمة، كلمـاتٍ سترتحلُ إليها فوقَ نبرةٍ قاسيـة .. ارتعشَت أطرافها في اللحظـة التي بتـر فيها الخطواتِ الفاصلة بينهما، أصبحَ فجأةً أمامها والمنشفةُ سقطَت عن كتفيهِ إلى الأرض، وحين كـادت تتراجعُ للخلفِ بذُعرها وجدت يده قد امتدّت نحوها لتقبضَ على عضدِها بقسوة، كُاد يغرس أصابعه في جلدِها وهو يهتفُ بنبرةٍ حادةٍ من بين أسنانه، بنبرةٍ تُنبئ بالخطـر : ورديتي عليه؟
كانت ترفعُ رأسها إلى ملامحهِ وتوسّع عينيها في وجههِ الغاضبِ بذعر، هتفت بلعثمة : أي بـس ...
سلطان يُقاطعها بحدّةٍ وهو يشدّ على عضدها أكثر : أنا وش قلت لك قبل؟ وش قلت لك يا الوضيييييعة؟!! طبعًا صاحب طبع ما يجُوز عن طبعه، ترجعين لأصلك وتثبتين إنتمائِك لأبوك، بعد كل شيء صار للحين معاه وما عرفتي تخافين منّى أو حتى تتّقيني كويس ... وش أسوّي فيك أنا عشان أعدّل خريطة استيعابك؟ وجاية بكل قواة عين وتقوليلي؟ يمكن بتكذّبين بعد شوي وعلى بالك بثق فيك لأنّك بس اعترفتي !!!
كانت قد أخفضَت رأسها ويدهُ تشدّ عضدها للأعلى قليلًا حتى ارتفعَت على أصابعِ قدميها، تُغمضُ عينيها بقوّةٍ وهي تتألّم من قسوةِ كفّه، وبنبرةٍ مرتعشة : لاا والله ما نويت بهالشيء .... آآآه
ارخَى قبضته حين تأوّهت واستشعرَ قوّة كفهِ على عظامها الهشّة، لكنّ صوتهُ لم يرتخِي أو تنخفض وطأةُ الغضبِ والاحتقـار عنه، إذ لفظَ بحدّةٍ تتجاوزُ حدّة السيوفِ فتُصيبُ صدرها مباشرةً : كم مرة أقولك لا عاد تجيبين اسم الله على لسانك الوصخ؟
غزل بنبرةٍ باكية وهي لا تزال تُغمض عينيها ولا ترفعُ رأسها إليه : بغيت أحذرك ، صدقني بغيت أحذرك باللي قاله.
سلطان بصرخة : كذّابة .. ليه أصلًا تردين لييييه؟ مو كنت محذّرك ما تكلمينه وأنا مو موجود؟ وش اللي صاير من وراي؟ علّمتيه إنّي دريت صح؟ وبتسوين نفسك معي وأنتِ أساسًا معه ، يا قذارتك ! أعجز أستوعب اللي أنتِ فيه ، بس بنت أحمد وش نتوقّع منك؟ ماراح تطلعين من نجاسته.
عضّت شفتها تكتمُ أنينَ بُكائِها ودمُوعها تساقطَت تباعًا، أخفضَت رأسها أكثر بهـوان، ما الذي كانت تظنّه؟ أن يثق بها الآن وبما ستقُول ! أن تتغيّر نظرته إليها في لحظةٍ ويأخذ بكلامها على محملِ الجد، أن يتغيّر ! واهيـةٌ هيَ، إن ظنّت أنّها بعد خداعـها وغدرها ستستطِيعُ بعثرة حقدِه بسهولة، واهيـة! وسلطان الذي صُدم في حياتِه كثيرًا لن يثق، أبدًا لن يثقَ بسهولة !
تركَ عضدها بازدراءٍ وهو يتراجعُ للخلف ويرمقها بنظرةٍ لو أنّ عينيها كانتا في تلك اللحظةِ مرتفعتين إليها لشعـرت أمامها أنّها حشـرةٌ من شدّة الاحتقـار في نظرتِه ، باتَ صوتُ بكائِها يُزعجه، دموعها الكاذبـة تجعلهُ يتمنّى لو يقتلها وقبلها والدها .. هتفَ باستخفافٍ وهو يرمقها بذاتِ نظراته المحتقرة من أعلاها لأسفـلها : مشكلتي لمّا بديت أتلوّث بهالحيـاة تلوّثت فيك ... يا كثر ما صرت أحتقر نفسي بسببك! ... تبيني ما أقسي عليك؟ بس أنتِ ما تساعدين لهالشي يا غزل، لا تتوقّعين مني غفــران !!
استدارَ عنها وهو يُغمضُ عينيه ويزمّ شفاههُ بقهرِ النـار التي تشتعلُ فيه، بشدّةِ البطـش الذي مارسُوه كلّهم، وسيمارسهُ هو! لم يعُد يريد أن يهتمّ لذاتِه إن كانت ذاته ستجعلهُ يشفقُ عليها وعليهم، لم يعُد يريد سلطان! يريد فقطْ أن ينتقمَ لوجعـه، أن ينتقم ممن غدروا به!!
تحرّك خطوةً يُريدُ بها الابتعـاد عنها قبل أن يصرخ في وجهها صرخةً أخـرى غاضبة، صرخةً يفرّغ بها قهـره منها ومن الجميع، لكنّ خطوتهُ تلك وأدت من بعدها الخطوة الأخـرى، أجـفل فجأةً حين شعرَ بذراعينِ تُحيطانِ خصره، ووجنةٌ ناعمة رطبةٍ بالدمُوع التصقَت بظهرهِ العارِي ، كـانت غـزل ، بكلّ جنونِ اندفاعها إليه عانقت ظهرهُ إليها، لم يجيء العنـاق منهُ هذهِ المرة، بل جـاء اندفاعًا منها وكأنّها لم تكُن لتجبره على الاستمـاع إليها والتبرير إلا بهذهِ الطريقة، جـاء ليجعلهُ يبهت في مكانهِ بينما كانت هي مُغمِضةً لعينيها النازفتينِ دمعًا، هامسةً بتحشرج : ما علمته ، ما غدرت فيك من جديد ، قالي اهربي منه ورفضت ، ما رضيت .. ما غدرت فيك يا سلطـااان ، والله ما غدرت .
يُتبــع ..
|