كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
انقضَت الصـلاة، ورنـا إليهِ صوتُه مستغفرًا بجانبِه، نظرَ للأمـام بعقلٍ يتشوّشُ فيهِ الاستغفارُ والذكرُ فلا يعيها لسانُه في هذهِ اللحظـات الشائكةِ بأفكـاره، حتى صلاته لا يستطيعُ حصر عدد المرات التي نفثَ فيها على يساره وتعوّذ حتى يطرد الشيطـانَ ويخشع! وهو مثلها! عريسٌ لم يتوّج بالسعـادةِ في يومِه الخاص.
استـدارَ إليهِ يوسف، بملامحه الهادئـة، الوقورة والتي لا تعكسُ شيئًا من حدّة مشاعره حين لا يكُون الوقتُ مناسبًا لذلك، بلل شفتيه بلسانهِ وتنحنحَ قبل أن يهتف : شلُون أمّك وخواتك؟
أدارَ رأسهُ إليه وعيناهُ الخافتتان تنظُران إليهِ بإرهاقٍ واضح خلّفه السهرُ بتفكيره، حرّك شفتيه باستيـاءٍ ساخرً بعض الشيء : كلنـا بخير.
يُوسف يواجههُ مباشرةً دون لفٍّ أو دوران : لو إن أسيل أو ديما جاتك مرة من المرات تبكي وتقولّك إن زوجها تزوّج عليها وش بتسوي وقتها؟
نظرَ إليه بعجزٍ وكثيرٍ من الرجـاء : لا تصعب الموضوع علي واللي يخليك يا عمي!
يُوسف بجدّية : عندك جواب؟!
فواز باستسلام : أكيد ما بعدِيها لسيف أو شاهين.
يُوسف بحدة : ما رضيتها على أقرب الناس لك ، وأنا ما أرضاها على بنتي!
أغمضَ عينيه وقلبهُ الرابضُ في صدرهِ ينزفُ مرارةً بتضييقِ الدنيـا عليه بعد أن توسّعت، بعد أن رأى الدربَ أمامـه واسعًا مضيئًا تنسدلُ الأشجارُ الخضراءُ نحوهُ لتضللهُ عن حرارةِ شمسٍ فتيّة، وفجأةً انكسرَت الأغصان وسقطَت الأوراقُ جافّة، ضاقَ الدرب، واحتدمَت حرارةُ الشمس، ليذوبَ الآن بتعسّر هذا اليوم، بصعوبتهِ بالرغمِ من السلاسةِ التي كان يحياها قبلَ اندلاعِ تلك الصعوبة.
شدّ على شفتيه بوجعٍ ليهمسَ بانهزام : لا تقول كِذا وتظلمني! هي بنت عمي بعد ، وقبل كذا هي أقرب لي من هالأنفـاس اللي تحييني!
يوسف وملامحهُ تتجعّدُ بحنق : ليه أجل؟ اعطني عذر كافي يشفع لك!! وصدقني وقتها بكُون معك أنت بس وماراح أساندها بأي شيء راح تسويه ضدّك عشان تلمّ نفسها بعد ما كسرتها.
صمتَ فوّاز مطولًا لا يملكُ إجابةً تستحقّ البزوغ، أخفضَ حدقتيه للأسفلِ وهو يتنهّد ويرفعُ كفّه ليضغطَ بأصابعهِ على صدغِه، طـال صمتهُ ليعقدَ يوسف حاجبيه لافظًا بتساؤل : أنت من البداية كنت تبيها؟!
هزّ فـواز رأسه بالنفي : ما كنت أبي كل هالشيء يصير ، بس غصب عني!
يُوسف بشكٍ دفعهُ مع الكثيرِ من الضيق : غلطان معها؟
رفعَ رأسهُ بسرعةٍ إليها وهو يهتفُ بذهول : أعوذ بالله الله لا يقولها.
يوسف بحدة : أجل ليه متزوج؟!
فواز بعتب : اللي يتزوج لازم يكون مسوي شيء غلط؟!
يوسف : سكُوتك قاعد يشككني لا تخليني أفقد أعصابي يا فواز!
صمتَ وكلماتُه تنصـاع لصمتهِ المرغوبِ من قبلِه، شتت عينيهِ عنهُ حتى استقرتا في إحدى زوايـا المسجِد، ينظُر للمصاحفِ المُصفّفةِ داخلَ رفوفِ الكتب، وصمتُه ذاك وصلَ إلى يوسف بجلِّ معانيه، أدركَ منهُ أنّه لا يريد الإفصـاح عن شيء، ولا يريد غسلَ غضبهِ منه بتبريرٍ واحِد، لذا وجد نفسهُ يقفُ بانفعالٍ وهو ينظُر لهُ بغضبٍ عاتِب، تحرّك أخيرًا مبتعدًا لينهضَ من بعدِ فواز بصمتٍ ويتبعه، وما إن وصلَ للسيارةِ حتى كان هو يقفُ منتظرًا لهُ وذراعيه مكتّفين أمامَ بابه، دارَ حول السيارةِ ليفتحها ويدخل ومن بعدهِ يوسف، وما إن تحرّك حتى انبعثَ صوتهُ ببرودٍ وهو ينظُر للأمـام : كل شيء اليوم بيمشي مثل ما هو ، ماهو عشانك بس عشان جيهان لأنّ هالشيء من مصلحتها ، بس بعد هاليوم، ماراح أتدخل بشيء لو جيتني تشكي منها ! أنتَ اللي تسببت بكل شيء لنفسك.
،
حفظَت الغُرفة من عددِ المراتِ التي تفقّدتها فيها بعينيها المذعورتين، كانت تجلسُ عند البابِ مستندةً بظهرهَا عليه وارتعاشـتها التي كان لابد من أن تندثرَ بعد كل تلك الدقائق تضاعفَت، عيناها محمرّتـان من بُكائِها، صوتُها بحَّ للرجـاء الذي كانت تتدفّق بهِ خارجَ تلك الغرفـةِ حتى يفتحَ بابها، حتى يُخرجها بعد أن تنبّأت بخوفٍ ما سيفعلهُ بها، لمَ أحضرها هنا وحبسها؟ لا شيءَ جـال في عقلها سوى الخطـر، لا شيء سوى السقُوط ومعنى ما فعلهُ مُرعب !!!
طـالت دقائقُ غيابهِ إلى ساعتيْنِ أو ثلاث، لم يكُن يسمعُ رجاءها لأنّه ما إن أدخلها الغرفة وأغلقها حتى خَرج، تُدرك ذلك، لكنّ الخوفَ فيها لم يكُن يُدرك، لم يكُن يدرك سوى أن تواجدها في هذهِ الغرفةِ خطأٌ قد تنتهي بسببه.
في الخـارج، كانت سالِي تقفُ قُرب بابِ غرفة سلطان وهي تسمعُ نشيجها الخافتَ بعد أن صمتَ بكاؤها العـالي، وعلى الأرجحِ أنّ حنجرتها تعبَت أخيرًا، لا تُنكر أنّها أشفقت عليها، لكنّها في الجهةِ المقابلة كانت تشفق على سلطان أكثر وهي تستذكر مرآهُ يبتعدُ بعد أن أغلقَ الباب، ملامحهُ الغاضبـة سرى غضبها بتيارِه بعيدًا عنهُ ليضمحلَّ بأسآه، عينيه المقهورتين وقهر الرجـال لا يكُون يسيرًا، تحرّك كي يخرج دون أن ينبس ببنتِ شفة، كـانت الكلماتُ تتشاجرُ في حنجرتهِ حتى تطفُو، لكنّه فقدَ صوته، وكيفَ يصهُل الحصـان دونَ صوت؟ كيفَ يرتّل الإنسـان دونَ نبرةٍ ثابتة؟ لم يُرِد الحديث، لم يُرِد الكلام الذي عافَه، لم يُرِد أن يظهر عدَمُ اتّزانِ صوتِه في كلماتِه وآثر التلاشِي لوقت، كـان مقهورًا، وخشيَ من قهرهِ ذاك الوقت! خشيَ أن يتصرّف بشكلٍ خاطئٍ يندمُ عليه فهرَبَ ليُصلّي ويُصفِّي عقلهُ من شوائِب حقدِه، لذا حبسها في غرفتِه حتى يعُودَ وقد وضعَ في عقلهِ إمكـانيّة هروبها إلى والدها، وهذا مالن يسمـح له! أخطـأت حين دخَلت إلى حياتِه بهذا الشكل، ولم تكُن تدرك أبدًا أن دخُولها إليهِ - خطر -! . . ستندمُ على كلِّ شيء ، ستندم !!
تحرّكت سالِي لتبتعدَ عن الغرفةِ وهي تهتفُ بكلماتٍ متأسّيةٍ بلغتها الأم، لم تتوقّع أبدًا أن ترى كلّ هذا منذ أوّلِ يومٍ ستعملُ فيهِ بوجودِ أصحـابِ هذا البيت، توقّعت أن تجدَ ربّة منزلٍ تُشابهُ سلطان في لطفهِ الواضح، لا أن تجدَ النقيضَ منهُ تمامًا !!
،
القمرُ شريكُ الأسى، هاهوَ يبزغُ في ليلةٍ ستحملُ الكثيرَ من الجراح، ستحملُ الكثيرَ من الإنكسـارات، غابَت الشمسُ وغيّبها الشفق، أو أنّ الشفقَ لم يكُن سوى مواسـاةٍ للغيـاب، هذا الغيـابُ الذي يشطُر، هذا الغيـابُ الذي يزرعُ الانحناءآتِ المُبكيـة، يصنعُ بؤرةً من الحُزن، بؤرةً من الوحشةِ تتّسعُ وتتّسعُ وطأتُها.
هـاهو اليومَ يبكِي ورقةً خطّها بأنامِله، لا يبكِيها حُزنًا بل شوقًا، لا يبكِيها يأسًا بل أملًا، لا يبكِيها أسًى وحسب! وحدهُ الأسى لم يُغادره أو يتناقص، لكنّه بات يتشاركُ مع هذا الأمل، مع تلك الابتسـامة.
" كيفَ تُهدرُ الدمـاءُ المشتركة؟ أخبرني يا أخي! كيفَ تَهدرُ دمِي وهوَ فيك! كيفَ تسحقُ العظـامَ وفيها دليلُ صلتِنا؟!
شاهين ! إن الدمَ يغلِي ، ليتكَ لم تفعلها وليتنِي متُّ فعلًا ولم أدري بخيانتِك "
تلكَ كلمـاتٌ يذكُر أنّه كتبها في بداياتِه هُنا وبعد هروبه، كانَ في أوجِ حزنه، في أوجِ انكسـاراتِه، كـان الألمُ يشتعلُ في داخلهِ بأقصى ما يُمكن حدّ أنّه كان ينهزمُ أمام حزنهِ ويسندُ رأسهُ على المنضدةِ ويبكِي أخيرًا!! يئنُّ كما لم يئنّ سابقًا ببكائِه، كـان يبكِي بصورةٍ لم يظنّ أنّه سيبكيها في يومٍ مـا، يذكُر أنّه بكى آخر مرةٍ بأنينٍ ضعيفٍ حينَ ماتَ أبُوه فقط! يومذاكَ أنّ، ولم يكُن ذاك الأنينُ كهذا، لازال يذكُر كيف كان يحاولُ أن يكونَ أقوى رغم حداثةِ سنّه، كيف كان يحتضنُ أخـاه حتى يخفّف عنه . . أخـاه الذي انهاهُ إلى هنا! أخـاه الذي تبرّأ مِن دمِه، أخـاه الذي كان في مكرِ إخوةِ يُوسفَ وأراد قتله، كان يُريد أن يكُون كـقابيل وينجحَ في مقتلِ أخيه، لكنّه كان كإخوةِ يوسف ، ولم ينجح !!
ابتسمَ بأسَى وهو يُوقفُ قلمَ الرصاصِ على نتوئِه، رسمَ خطًا من فراغِ الورقةِ البيضـاء حتى وصلَ إلى اسمِ " شاهين " وقسمهُ لنصفيْن بخطٍ فاصلٍ بين أحرفهِ وكأنّه يشقّهُ عنه، ارتفعَ القلمُ أكثر حين صوّب أحداقهُ على " أخي "، الاسمُ لا يهمُّ ولا يعني شيئًا كتلكَ الكلمـة التي تدلُّ على الانتمـاء، الأسمـاء لم تكُن يومًا دلالةً كما الحقائِق والعلاقة، كنتَ أخِي! لم تكُن شاهين كما كنتَ أخي، وهذا وحدهُ كـان السيفَ الذي قطَع عنقِي . . شدّ على أسنـانِه بقهرٍ وهو يشدّ على القلم، هذهِ المرّةَ قلبهُ ليصوّب الممحاةَ إلى تلك الكلمة، مسحَ الألفَ يرجُو مسحَهُ من صدرِه، مسحَ الخـاء يرجو بترهُ من دمِه، مسحَ اليـاء وهو يتمنّى لو أنّ الخيـانة مُسحَت بزيف، لو أنّها كذبة، لو أنّها وهم، لو أنّه لم يُدركها !!
اقتربَ اللقـاء الذي ينبضُ بهِ قلبهُ ويزيدُ أسـآه، أشهرٌ بسيطةٌ تفصلهُ حتى يراه أمامه أو من بعيد، لا يدرِي ما الذي سيفعله ! هو حتى لم يستطِع أن يذكر اسمهِ لفيصل أبدًا، لم يستطِع أن يثبتَ أنّه في الزاويـة السيئةِ مع كثيرٍ من الأشخـاص . . فما الذي سيفعلهُ بالضبط تجاه خيانتِه وغدره؟ لا يدري ، لا يدري أبدًا !! وهذا وحدهُ يوجعه . .
،
دخَل بعد صلاةِ المغربِ وهوَ يدلّك عنقهُ وملامحهُ الجامـدة يتصلّب فيها أي شعورٍ يدلُّ على أنّ صراعًا احتدَم في صدرهِ منذ العصر، أنّ قهرًا تولّد فيهِ لتطوفَ ذكرياتٌ كثيرةٌ فيه، في الغدرِ الأول، في القهرِ الأكبـر، في الصدمةِ الأولى قبل أشهر، حينَما تكُون الصدمةُ الأولى من أقربِ النـاسِ إليك تُصبح بقيّةُ الصدمـات أقلّ وطأة، حينما يستنفدُ ذاتَهُ في انفعالٍ شديدٍ لازال يصاحبهُ حتى هذهِ اللحظـةِ يصيرُ انفعالهُ الباقي لا شيء! وهذا ما أثبتهُ اليومَ أمـام غزل، لم ينفعل كما انفعلَ ذاك اليومِ حتى كادَ يموتُ بحُزنه، لم يتألم أبدًا كما حدثَ سابقًا، حتى مع اندلاعِ القهرِ ومع تدفّق الذكرياتِ لم تكن قسوةُ مشاعرهِ كذاكَ اليوم . . أبدًا !!!
نادى على سالي التي هرولَت إليهِ قادمةً من غرفتها في الطابقِ السُفلي، نظرَت إلى ملامحهِ بتوجسٍ وتوترٍ وهي تلفظُ بربكة : نـ نـعم . .
سلطان بهدوءٍ غريبٍ ونبرتهُ باردةٌ لا تحوي الانفعـالَ الذي خاصمَ بهِ غرل قبل خروجِه : جيبي لي كوب قهوة لغرفتي.
سالي تعقدُ حاجبيه باستغرابٍ من هذا الهدوء : اوكي.
تحرّك حتى يصعد، لكنّه توقّف فجأةً ليوجّه نظراتُه نحوها ويرمقها بامتنان : نسيت أقولك بعد . . شكرًا لأنّك فتحتي عيوني على أشياء ما انتبهت لها طول هالفتـرة.
ابتسمَت بارتباكٍ وهي تومئ برأسها، رمقَتهُ بشفقةٍ لتُردف بعد نظرتها تلك والتي لم توضحها له : أنت واجد كويس بابا سلطان ، حرام هدا يكون زوج إنتَ.
ابتسمَ دونَ أن يرد، ومن ثمّ أدارها ظهرهُ ليتحرّك مبتعدًا، التناقض الذي حدثَ الآن يختلفُ عن الذي كان قبل أكثرِ من خمسةَ أشهر، في يومِ احتراقِ المكتب! يومذاكَ كانَت الخادمةُ هي من ساعدَت الرجلين اللذينِ دخلا للمنزلِ وكاد أحدهما أن يغتصب غيداء، واليوم، الخادمـة هي من نبّهتهُ على خطرٍ يُحيطُ بهِ مفادها زوجته، ليسَ كلُّ النـاس كبعضهم، لطالمـا كرهَ الخادمات خصوصًا بعد تلك الليلة، ولم يكُن ليُحضر خادمةً إلا لأجلِ غزل التي أصرّت، وهاهي وحدها تُنقذه ، هاهي وحدها فقط !!
اقتربَ من بابِ غرفتهِ وملامحه تتصلّب أكثر بقسوة، لا تلوميني الآن على أيِّ شيء! على أيّ تصرفٍ تجاهـك، لم أتوقّع أبدًا أن تري وجهي الذي لم أردهِ أبدًا طيلةَ حياتِنا معًا . . لكنّك وحدكِ من استدعاه ، وحدكِ يا ابنةَ أبيكِ . .
ابتسمَ بسخريةٍ لأفكـاره، هه! ابنةُ أبيها، وسيعاملها كما يجبُ وكما تستحقْ.
وقفَ أمام الباب ليُخرج المفتـاح من جيبهِ ويدخلهُ في القفلِ ويفتحه، سمعَ شهقةً واضحةً من خلفِ الباب الذي كانت غزل تستندُ عليهِ بظهرها وقد غفَت عيناها لتنهضَ بذعرٍ من صوتِ الباب، قفزَت واقفةً في اللحظةِ التي حرّك فيها المقبضَ ودفعَ الباب، رمقها ببرودٍ سـاخرٍ من أسفلِها إلى أعلاها، وتوقّفت عينـاه عند نظراتِها المهتزّة بتوجّسها وخوفها، عيناها المحمرّتان ووجهها المُنتفخِ لبُكائها الذي طـال . . ابتسمَ باستخفاف، بينما كانت هي تقبضُ كفيها المتعانقينِ أسفلَ صدرها، ارتعشَت شفاهُها خوفًا من نظراتِه المتفحّصةِ تلك، اقشعرّ جسدها لتحكّ قدمها اليُسرى بباطِن قدمها اليُمنى في حركةٍ تلقائيةٍ تدلُّ على خوفِها وربكتِها وهي تُخفضُ رأسها للأسفل.
تحرّك سلطان للداخِل أكثر وهو يدفعُ الباب من خلفِه بقدمهِ كي يغلقه، راقبَ نفضتها حين سمعَت صوتَ إطباقهِ الذي ضربَ صدرها بقوّةٍ كي يتكرر صداهُ محمّلًا بخوفُها من خطوتِه الأخرى، رفعَت رأسها برعشةٍ وهي تسمعُ صوتَ المفتـاحِ هذهِ المرّة . . لا ، لا ، لا . . بدأت تلكَ الكلمة تتكرّرُ داخلها وهي تهزّ رأسها بالنفيِ ذعرًا، ترجُوه بنظراتٍ متوسّلةٍ منكسرةٍ أن يتركها، دموعها تعودُ للتدفقِ من مقلتيها وهي تتخيّل صورًا كثيرةً تأتيها متكهّنةً بانتهـائها، هاهوَ اكتشفَ السرّ الأول في النهـار، والليلُ جاء محمّلًا بسرها الآخر ، وإن كـان لم يقتلها للأول فسيقتلها للثانِي . . ماهذا اليومُ يا الله ! هل كُتب انتهاؤها فيه؟ . . لم تكد تنعمُ بتلك السعـادة حتى سقطَت بهذا البؤس! لم تكد تنعمُ بفرحةٍ حتى كُسرَت بحزنٍ والآن بهذا الذعر، خـلقَت والأفـراحُ لا تناسبها، الأفـراح تجلبُ من خلفها المآسي، الأفراح تجرُّ في أذيالها ضحكةَ الغدر.
أصبحَ خوفها ورجاؤها في دموعِها التي كانت تسقُط رويدًا رويدًا، دمعةً دمعة، يقابلها هو بملامحه التي لازالت قاسيـة، بنظراتٍ مستخفّةٍ وهو يسندُ ظهرهِ على البابِ وابتسامتهُ تلتوِي بطريقةٍ أخافتْها أكثر لتسقطَ دونَ شعورٍ جالسـةً على الأرضِ تبكِي دونَ أن تحصر عدد المراتِ التي بكتها هذا اليوم ومنذ تلك الفرحة، الأفراح تجلبُ من خلفها المآسي! ليتني لم أطالب بفرحة ، ليتني لم أطالب بها.
شدّت بقبضتيها فوقَ الأرضِ وصوتُها يشتدُّ في فمها بنحيبٍ مستوجع، لفظَت برجـاءٍ وهي تنظُر للأرضِ بانهزامٍ يعوِي في كلماتها : الله يخليك . . تكفى . . تكفى والله ما كنت أبي هالشيء ، كنت مجبورة والله العظيم مجبورة . . اتــركــنـــي.
رفعَ إحدى حاجبيه دونَ أن يفقدَ بسمتهُ الباردة، وبسخرية : كنتِ مجبورة؟ افـا !! مسكينة والله . .
رفعَت نظراتها إليه بيأسٍ وهي تقرأ السُخريةَ في صوتِه، وبانهزام : وش بتسوي فيني؟ ليه قفّلت الباب؟!!
سلطان بابتسامةٍ قاسية : عشان نحط النقـاط على الحروف.
غزل بتوجسٍ يائسٍ ودموعها تُشاركها اليأس : نحط النقاط على الحروف؟
تحرّك ببرودٍ ليقتربَ منها، حينها انتفضَت ليتحرّك جذعها قيدَ أنملةٍ للخلف، في حينِ انخفضَ سلطان بجسدهِ نحوها حتى جلسَ القرفصـاء أمامها بملامِحه المرعبـة، ليسَ سلطان، هذا الرجُل لا تعرفه، هذا الرجُل ذو الملامح المرعبة لم ترهُ من قبل ولم تضحك معهُ أو تبتسم، لم تبكِي حتى في حضنه!!
أسند مرفقيه على ركبتيه ليسند وجنتيه أخيرًا على كفوفِه، وببرودٍ وهو يتطلّع بملامحها الباكيـة : حاليًا أنتِ بتكونين هالمرة معي .. ماعليه لئيمة بس بنربّيك على السمع والطاعة وبتمثلين قدام أبوك إنك لازلتِ وياه بس أنتِ العكس.
غزل ببهوتٍ وعيناها تتّسعان نظرًا لأحداقه الثابتة بحدقتيها العسليتين : معاك؟!!
سلطان بقسوة : أي ، أجل تظنيني بتركك مثلًا وترجعين له كذا وأنا ما أدري وش اللي كنتوا قاعدين تخططون له من وراي؟
لم تستطِع تصديقَ ما يقُول، بهتَ التفكيرُ في عقلها لكنّ جزءً كبيرًا من الخوفِ انطفأ فيها وهي تهزُّ رأسها بالطاعةِ وتهتفَ بتأكيد : أي أي بكون معك ، بسوي لك أي شيء بس اتركني.
رفعَ حاجبيه بتعجب : وشو؟ أتركك!!! لا لا وش أتركك عيب علي، أنتِ زوجتي ما يصير أتركك بهالبساطة.
غزل بصدمةٍ وأسنانُها تعزفُ برعشتها موسيقى ذعرها مما فهمته : وشو؟!!
سلطان باستخفاف : وش اللي وشو؟ فتّحي عقلك شوي أبي زوجة نبيهة ما أبي مفهيّة!!
غزل بضعفٍ وأنفاسها تغادرها، تتوسّل إليه ببكاءِ عينيها وبحّة صوتها : بتطلّقني صح؟!
جعّد ملامحه وكأنّه يتفكّر بكلمتها تلك، يستخفُّ بها بشكلٍ واضحٍ جعلها تنهارُ ويسقُط آخرُ ثباتها حينَ وصلَت إليها الإجابـة بوضوح، شدّت قبضتيها فوقَ الأرضِ وشعرها الطويل ينسدلُ مغطّيًا جوانبَ وجهها، مغطّيًا انتهـاءها، لا يُمكن، لا يُعقل! جنونٌ أن يبقيها زوجتـه، جنونٌ أن تبقى بقُربه.
انتفضَت بانهزامٍ وهي تشعُر بكفّيْه تُلامسان شعرها ليبعدهما عن جوانِب وجهها ويرفعَ رأسها إليه ببرود، نظرَت لملامحهِ برعبٍ وهي تحاول التحرّك وإطلاقِ سراح وجهها من لمسةِ كفيه اللتين أحرقتاها بحرارتهما، تشعر أنّه أذابَ كلّ شيءٍ فيها حينَ أدركَت أنّها انتهَت، كل شيءٍ بسببه، بسبب والدها، كل سقوطٍ في حياتِها هو السبب، ستنتهي يومًا فوقَ نعشِ الحيـاة لأنّها ظفرت بأبٍ خـان عهدهُ بتلكَ الكلمـة، ستنتهي يومًا ويزيّن قبرها بضريحِ البؤس . . شعرَت بأناملها تمسحُ دموعها وصوتُه يخرجُ ساخرًا إلى أذنها مستخفًا بهذا البُكـاء : هه ! الله يصبّرني على غلطتي لأنّه شكلي عوّدتك على هالدموع.
غزل برجـاءٍ تتجاهلُ كلماته : لا تسوِي فيني كذا! لا تطيّحك من عيني!
سلطان بحقدٍ وزاويةُ فمهِ ترتفعُ بتقرفٍ واضح : بستحقر نفسي إذا كنت بكون شيء في عيُون الحقيرات أمثالك!
غزل تبتلعُ ألمها، لن تهتمّ للإهانـات، لن تهتمّ لكلماتِه، لن تهتمّ لشيءٍ سوى النجـاة! حرامٌ أن يسحبُوا منها حبل النجـاة وتغرق، لمَ لا تفوزُ بحياةٍ ترتـاح بها؟ لمَ لا يريدُون لها الراحـة أبدًا؟ يكفِيها من كلِّ البؤسِ أبيها، لا تأتِ الآن يا سلطان وتمحُو صورتك الأم، صورتكَ الأنقى، لا تُصبح بؤسًا وجلدًا آخر حتى مع خطئِي، لم أكُن أُريد كلّ هذا ، أقسمُ لم أكن أريد كل هذا.
لم يستطِع صوتُها التعبير عن كلّ تلك التبريرات، لم تستطِع سوى التركيز على نقطةٍ واحدة، على معنى أنّه لن يتركها! لفظَت برجـاءٍ ودموعها تسقطُ على كفوفِه : تكفى سلطان لا تسوي فيني كذا ، أنا آسفة على كل شيء، آسفة على كل شيء كان غصب عني ، بس اتركني! الله يخليك اتركني.
ابتسمَ بقسوةٍ لا تليقُ بهِ وهو يُمرر أناملهُ أسفل عينيها ويتلقّى دموعها بأطرافِ أصابعه، حدّق في عينيها بحدةٍ وهو يهتفُ بنبرةٍ باردة : دخُول الحمـام مو زيّ خروجه يا غزل.
غزل وصوتُها يرتفعُ انفعالًا : كان اتفاقنا تطلّقني بعد سنة.
سلطان بحدةٍ يشدُّ على أسنانه وكفيه تشاركانه في الشدّ على وجهها : وأنا غيّرت رأيي ومحيت هالاتفاق من بالِي ، عندك مانع؟!
غزل بألمٍ تقوّس شفتيها وصوتُها لازال مرتفعًا بنبرته : أكيد عندي مانع ، أكيد عندي . . أنا ماني لعبة لك !!
عضّ شفتهُ وملامحهُ تقتربُ من ملامحها لافظًا بوعيد : خفّضي صوتِك ، لا يرتفع علي أقطع لسانك !
طُرقَ في تلكَ اللحظـة الباب، كانت سالِي تقفُ خلفهُ بعد أن أحضرَت كوب القهوةِ التي طلبها، أخفضَ سلطان كفيْه عن ملامحها ليُدير رأسه ويهتف بجمود : حطيه بالصالـة يا سالي.
لم يأتِه صوتُ سالي التي عقدَت حاجبيها وكادت تتذمّر لولا أنّها تذكّرت حالته اليوم وعطفَت عليه، ابتعدَت خطواتها عنهما لتنزل، في حين استدارَ سلطان إلى غزل ببرودٍ ليُمسكَ بعضديها وينهضَ وهو يوقفها معهُ ورعشتها تصلُه جيدًا، لفظَ بجمودٍ لا مُبالي : امسحي دمُوعك وقومي صلّي الصلوات اللي فاتتك أكيد ما صليتي لا العصر ولا المغرب، ومن اليوم تنقلين أغراضِك لهالغرفة لأنّك زوجتي وما ينفع كل واحد فينا بعيد عن الثاني.
ارتفعَت نظراتها الباهتةُ إليه ووجنتيها ممتلئتين بالدموع، ابتسمَ بقسوةٍ وهو يردفُ مستشعرًا انفعالاتِها التي كانت تتضاعفُ بعد ما قالَه : ليه هالنظرة الخايفة يا حلوة؟ لا تخافين ماني مثل أبوك ماراح أضربك ولا بأذيك.
غزل برعشة : ليه تسوي فيني كذا؟ تعاقبني؟ عاقبني بالضرب، بأي شيء بس ماهو كذا!!
سلطان ببرود : أنا أعاقب في حدُود حقوقي وبس! الضرب ماهو من حقِي أبد بس * نظرَ إليها من الأعلى إلى الأسفل بسخرية * غيره يحق لي.
اقشعرّ جسدها من نظراتِه الجريئةِ لتضمّ نفسها بذراعيه وهي تنشجُ بذعرٍ من تلك الفكرة، هتفَت برعشة : نظراتك تقُول إنك تكرهني، تقرف مني !!
سلطان ببرود : وهو ذا !
غزل برعشةٍ تتفاقم وصوتُها يخرج إليه غيرَ متزن : ودك تقرب مني وأنت تكرهني؟ منت بهالحقارة يا سلطان! منت بهالحقارة اللي تخليك تستغل بنت بتتركها بأي لحظة!
ضحكَ بسخريةٍ وهو يرفعُ كفّه ويقيّد خصلةً من شعرها في يدهِ مداعبًا لها بعبث : أتركها؟ تتوقعين للحين إني بطلقك؟ لا يا غزل لا عاد تحلمين بهالشيء أنتِ صرتي مقيّدة فيني وما بتركك إلا على موتي ، مو أنا اللي تستغفلينه وتكملين حياتِك! كل شيء بثمته ، وثمن اللي سويتيه حياتِك.
أغمضَت عينيها ودموعها تثقُل أكثر ساقطةً تشقُّ وجنتها الجافـة ولا تُسعفها ببللٍ من شدّةِ ملوحتها، أنّت بكلماتٍ منهزمةٍ واهنـة وكتفيها يتهدّلانِ انكسارًا : تبي تقمع حياتِي معك وأنت كارهني؟ حرام عليك ، حرام عليك تعيش مع إنسانة تشمئز منها بس عناد وانتقام!!
سلطان باستخفافٍ وهو يُديرُ خصلةَ شعرها حولَ سبابته : مو بس أقمع حياتِك، اللي بسويه فيك أعمق، أعمق من هالبراءة اللي كنت شايفها فيك طول الفترة اللي راحت واكتشفت زيفها! أعمق من غدرِك، من تلاعبك واستخفافِك فيني . . أنتِ يطلع منك كل هالحقارة؟ . . * أمال فمه بابتسامةِ استحقار * وبالنسبة للاشمئزاز . .
انتهَت كلمـاته، واحترقَت وجنتها بملمسِ أناملهِ التي مررها على نعومةِ بشرتها، احترقَ صوتُها في شهقة، وتلاشى الأكسجين حين شعرت بشفاهِه تلتحمُ بشفتيها في قبلةٍ قاسيـة، قبلةٍ جاءتها الآن كأعنفِ صفعةٍ لم تجئها منهُ بعد . . اتّسعت أحداقها وساقيها تذوبـان، كـادت تسقط، لكنّه كان قد أحـاط خصرها بإحدى ذراعيه ليلصقها بِه، وكفّه الأخرى لازالت تلامسُ وجنتها . . تحترق! تحترقُ وكل الدنيا في عينيها الآن عدَم، تحترقُ وكل ما تراهُ الآن أمامها هو ضريحها الباسـم، تحترق والانتهـاء غلّفها في تاريخِ هذا اليوم، تحترقُ والصورةُ الملوّثة بألوانِ العتمةِ تتلاشى بنارِ قُبلتهِ الأولى ، قبلتهِ التي كان المفترضُ بها ألّا تجيء أبدًا، وهاهي تجيئها كعقـابٍ تشاركَ في حرارةِ جسدهِ الملتصقةِ بهِ الآن، خلاياهُ تثورانِ بحممٍ استشعرتها وكان الغدرُ وحدهُ هو الكافِي لإيقاظِ بركانِه الخامل . . فعلتها! فعلتها وأنهضَت السلطانَ الآخر فيه، فعلتها وأنهضَت الوجه الآخر لحيـاةٍ لم تُردها، حياةٍ يخبرها بشفتيه الآن أنّها بدأت وهي من رسمَ فصولها.
كانت ترتعشَ أكثر وهي تشعرُ بهِ يضمّها إلى جسدهِ بقوّةٍ آلمتها وكأنّه يطفئُ قهرهُ فيها، فقدَت القدرةَ على المقاومةِ وهي تتركُ لعينيها الإنطفـاء، تتركُ لدموعها السقوط . . كفّه انتقلَت مبتعدةً عن وجنتِها ليتخلخلَ شعرها أخيرًا ويأسِر رأسها من الخلفِ مثبّتًا لهُ عن أيّ مقاومةٍ قد تقومُ بها، لكنها لم تستطِع! لم تستطِع حتى المقـاومة !!
ابتعدَ عنها لتشهقَ طالبـةً الهواءَ الذي فقدته، شدّ بكفِه على رأسها ليُعيدهُ للخلفِ قليلًا ويرفعهُ حتى تواجههُ بعينيها المُغمضتين وأنفاسها المُتلاحقة، رطّب شفتيهِ بلسانِه ليهمسَ بصوتٍ باردٍ حطّمَ كلّ ما قد يكون تبقّى فيها حتى بعدَ قبلته : أقدر أتجاوزه ، احنـا البشر نقدر نتكيّف مع أمور كثيرة ومنها الاشمئزاز عشان نعيش وبس!
لم تستطِع النظرَ إليه، كانت تُريد الصد، تُريد إدارَةَ وجهها عنهُ حتى لا تُقابل ملامحهُ ما إن تفتحَ عينيها، لكنّه كان يثبّت ملامحها نحوه، يعذّبها أكثر لتدرك أنّ الواقف أمامها لم يعُد هو . . ليسَ سلطان! هذا الرجُل ليسَ سلطان الذي كان حنانُه يتدفّقُ نحوها، ليسَ سلطان الذي بكَت مراتٍ على صدره حتى هدأ حُزنها، ليسَ سلطان الذي وعدها بسعادةٍ وصدَق، ليسَ سلطان الذي وعدها مرةً بعدمِ إيذائها.
قلت لي لن تؤذيَني، مهما حدَث!! لن تكُون ضمنَ قائمةِ من يؤذونني.
اهتزّت أهدابُها المُثقلةِ بالدمُوع، شهقَ صوتُها شهقةَ ألمٍ لترتفعَ أجفانُها وتنظُرَ نحوه بعذاب، أرادت رؤيـة ملامحهِ هو، ملامحه التي لامستها مرّةً، أرادَت رؤيةَ حنانِ عينيه الذي كان يُغرقها بِه، أرادَت رؤيـة ابتسامتهِ التي تبتسمُ لها رغمًا عنها، أرادَت سلطان! لكنّها لم تجِد سوى ملامحَ أخرى قاسيَة، لم تجد سوى نظراتٍ محتقرة، لم تجد سوى ابتسامةٍ مستخفّةٍ بانكسـارها وحزنها الآن.
همسَت بضعفٍ ورعشةُ شفاهِها تلطُم كلماتِها لترتعشَ أيضًا : وعدتني ما تأذيني لو أيش ما صار !!!
أمـال رأسهُ قليلًا وهو يبتسمُ بسخريـة، كانت تدرك أنّه قد يكتشف! كانت تدركُ أنّ ما تفعلهُ خاطئ، كانت تدرك أنها تؤذيه! لذا طلبَت منه ذاك الوعد، لذا أرادت سماعهُ يقولها، قـال لها سابقًا ( أوعدك بكُون آخر إنسان ممكن يأذيك، هذا إذا كنت من قائمة اللي بيضرونك أساسًا! ) . . يا حقارتك! سيظلُّ يكررها بغيظ، سيظلُّ يكررها بقهرِ الأيـام التي كانت تتلاعبُ فيها بهِ وهو لم يُدرك هذا التلاعب والخداع !!
شدّ جسدها إليه أكثر مُستشعرًا حرارتهُ وارتعاشه، ابتسمَ ببرودٍ وهو يمررُ كفّه على شعرها ويلفظَ بهدوءٍ باسِم : متى آذيتك؟ لازلت عند وعدي.
غزل بغصّةٍ وهي تهزُّ رأسها نفيًا ما إن شعرَت بحرّيتهِ من كفه : أنت تأذيني بأكبر طريقة ، بأقواها يا سلطان !!
سلطان بجديّةٍ حـادة : انتهَى الموضوع ، مالك حق تناقشيني في أي شيء لأنّك اللي رسم فصول حياتنا الجايـة وأنا قاعد أثبّتها وبس.
غزل بألم : منت سلطان !!
سلطان يضحكُ بسخرية : ذبحتي سلطان اللي المفترض يعيشْ معاك.
غزل برجاء : اضربني قطّعني سوّى فيني أي شيء الا ذا! ماراح أعارضك على شيء لو تدوسني بعد! بس اتركني ، تكفى اتركني.
دفعَها عنهُ وهو يرمقها بتقزّزٍ واحتقـارٍ نمى في صوتِه أكثر : شخصيتك مقرفة ، كميّة التذلل اللي فيك تلوّع الكبد!!
زمّ شفتيهِ ليردف بصوتٍ زلزلَ كلّ مافِيها وبترَ الراحـة التي يمكن أن تبقى في حياتِها القادمـة : الموضوع انتهى ، أنا ماراح أذلّك ولا بأذيك بشيء ، بعاملك بما يُرضي الله وبتكونين معزّزة مكرّمة في بيتك وماراح ينقصك شيء.
شدّت على أسنانِها تبكِي وكل شيءٍ أمامها يتلوّن بالأسودِ ويتلاشى، نظرَت لهُ بضعفٍ وانكسـار، تريد أن ترجُوه أكثر، لا يهمها شيءٌ بحجمِ الخلاص! لا يهمّها شيءٌ بحجم ما تريد الخروجَ من حياتِه.
رمقَها باحتقـارٍ وهو يتحرّك حتى يمضي، وقبل خروجهِ كان قد لفظَ بسخرية : ولا تشيلين هم إني بعيش مع وحدة أقرف منها أو إني بعد بقمع حياتِي ويّاك ، لو شِفت إني محتاج حياة أنظف بتزوّج محد بيحدني عن هالشيء يعني في كل الأحـوال ماني خاسِر شيء . . أنتِ الخاسرة لأنّك فكرتي تتلاعبين بالشخص الغلط!!
وخرج! وكأنّ لا عاصـفة اندلعَت هنا، كأنّه لم يخلّد نارهُ هنا وفي شفتيها تحديدًا، كأنّه لم يُرِها معنى عدمِ إصرارها على رفضِ ما يريد والدها . . أخبرها الآن بوضوحٍ أنّ والدها كان صادقًا، لم يكذب حين قـال " احذريه قبل لا تحذريني "!! . .
يُتبــع ..
|