كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
من جهةٍ أخرى . . استكنَ في سيارتهِ ورأسهُ يتراجعُ للخلفِ ناظرًا للأعلى بشرود، أنا سيء! سيءٌ جدًا وأدرك ذلك، لم أفعل في حياتِي ماهو صالحٌ سوى رجُلٍ يغيبُ في الغُربة وينتظر الخلاص، لم أفعل أي حسنةٍ في حياتِي! أنا سيء، وأؤمن بذلك، لذا فإن قلبًا طاهرًا كقلبها لا أستحقه، لكنّي ألتوي بأفعالي لأحصل عليها قسرًا، لو أنّني أعتمد على حسناتي، على صورةٍ جيدةٍ لي أمامها حتى أظفر بها، ما ظفرت! لذا أنا سأكُون سيء، سأبقى كذلك حتى أحصل عليكِ . . نجلاء!
في إحدى نهاراتِ الصيفِ الحارقَة، ابتدأت رحـلةُ الاشتياقِ في الاندلاعِ بجحيمها في صدرِه، كان عمرهُ يومذاكَ عشرونَ عامًا، غابَت نعومةُ بشرتها ورائحتها الطفولية ثمانِي سنين، يا الله ! كيف تحمّل لهيبَ هذا الشوقِ الذي أذابَ أضلاعـه؟! . . قرّر ، وذهبَ إلى منزل والدها ، لم ينساه! لم ينسى أيَّ شيءٍ عن تفاصيلِها، لكنّها غابَت عن عينيه، ليُصدم فيما بعدُ بحقائقَ أهلكته.
*
بنبرةٍ حانقة : كيف يعني؟ أبي أشوفها.
أحمد يرفعُ حاجبًا وهو يضعُ ساقًا فوقَ أخرى ويجلسُ فوقَ أريكةِ المجلسِ الخارجي الحمراء، ببرود : بأي صفة جايني عشان تشوفها؟!
أدهم باقتضاب : بصفة إنّي عشت معاها لأيـام كأخ!
أحمد يبتسم ومن الواضح أنه يُخفي ضحكته : لا تضحكني! في النهاية اكتشفت إنك مالك فيها صلة صح؟ أجـل ما يصير تشوفها.
عضَّ شفته بغضبٍ واراهُ خلف نبرتهِ المُتشنجة : أفهم إن مقصدك ما يجوز؟ يا شيخ ترى عمرها 8 سنين يعني لا تفكر إنّك بتقنعني بعُذرك.
أحمد : عمرها 8 سنين وحتى وإن كان اثنين منت شايفها ، هي الدنيا سايبة تبي تجبرني تشوف بنتي بعد؟؟
قال - بنتي - بسخريةٍ واضحةٍ وتقرّفٍ ينبعُ من عينيه، لذا اشتعلت عينا أدهم بنارٍ وهو يقبضُ كفيْه بقهر : وليه تقولها كِذا؟
أحمد يرفعُ حاجبيه بتعجّب : وش أقول بعد؟
أدهم بغضب وأفكارٌ عديدة قفزت إلى رأسه لنبرةِ أحمد المزدرئة وهو ينطق تلك الكلمة : إذا منت مبسوط ببنتك فهذي ماهي مشكلة طفلة مثلها هذي مشكلتك وتحلها بينك وبين نفسك ما تطلّعها لها أو للعالم!
أحمد يلوي فمه باستنكارٍ لنبرته تلك، وبسخرية : والله ما بقى إلا بزر يعلمني شلون أتصرف مع هذيك!
أدهم بحدةٍ يعتلي بها صوته : اسمها نجلاء ماهو هذيك.
أحمد ببرود : لا ترفع صوتك ببيتي.
أدهم بنبرةٍ أشد : الله يلعنك أنت وبيتك.
وقفَ أحمد ببرودٍ وهو يبتسم بحقد، كتّف ذراعيه حول صدرهِ ناظرًا إلى عيني أدهم الملتمعةِ بغضب، لينطقَ بهدوء : تفضل برى لو سمحت ، ولا صرت بيوم ولي عليها أو لك عندها حق هنا تقدر تعارضني على أي شيء يخصها * أشار للبـاب بابتسامةٍ ليُردف * تفضل
لم ينهض أدهم من مكانهِ وهو يرمقهُ بحقدٍ ويشد قبضتيه على فخذيه، تساقطَت العديدُ من الأفكـار في رأسه، من الصورِ أمـام حدقتيه عن حياتِها هُنا، كيف تعيش؟ كيف تبتسم؟ كيف تضحك؟ هل تضحكُ وتبتسم أصلًا؟ هل مازالت النعومةُ تقطنها أمْ أن خشونةَ الأيـام كانت حليفها في الثمانِي سنين التي جرَت . . أرعبتهُ فكرة ألّا تكُونَ بخير، لذا ارتبكَ فكّهُ السفلي في رعشةٍ وجفّت حنجرته ليبتلعَ لعابهُ حتى يُبلل مجرى كلماتِه وأنفاسه، وعيناهُ تشتعلان أكثر مرافقةً لنبرتهِ الحـادة والحاقـدةِ بجنون : طيب وإذا قلت لك أبي أصير فعلًا وليّها وأتزوجها !
اتّسعت عينا أحمد بصدمةٍ للحظـات، وجفلَت ملامحهُ محاولًا استيعابَ طلبه، لم يطُل بتعبيرِ الصدمةِ تلك، بل سرعان ما ابتسم والتمعَت عيناهُ بخبثٍ وهو يخفضُ يده التي كانت متوجهةً نحوَ البـابِ ويقتربُ منه لافظًا بنبرةِ مكر : متأكد من اللي تبيه؟
أدهم بثقة : أيه متأكد.
ضحكَ أحمد دونَ أن يستطيع السيطرةَ على سعادته : بتسوي فيني خير يمكن يكون كافي عشان يدخلك الجنة بعد.
شعر بالغضبِ لتصريحه الوقحِ والمباشر بأنّه لا يريدها، لذا وقفَ وهو يلفظُ بنبرةٍ حادة : متى؟
أحمد بابتسامةٍ ماكرة : لو تبي اليوم ما عندي مانع ، بعد العشاء؟!
وتم كلُّ شيء! بلمحِ البصـر تمامًا مثلما زُرعَ فيه الجنون، لا! ليسَ جنونًا، سيكُون أحمقَ إن مثلها بالجنون، هي تستثيرُ الجانبَ المتهوّر فيه، تستثيرُ التهوّر اللذيذَ فقط وهو الذي لطالما كان تهوّره جنُونًا لاذعًا حتى يتوقف عندها لتكُون الحد الفاصل بين اللذّةِ التي تودي بهِ في نعيمٍ بعكسِ اللذاعـةِ التي تُسقطهُ في حفرةِ من جهنم!
كنتُ أعدُ نفسي والمُملك بجانبي بأنني سأكونُ كوالدكِ قبل زوجك، كانت يداي تنتفضانِ بغيرِ استيعاب! أن يكُون حلمًا مثلكِ قد تحقق وأنتِ أطهرُ أحلامي، كدتُ أُقسم تلك الليلة بأنّ عملًا صالحًا هو ما جعلكِ لي، كدت أُقسم وأنا المغسولُ بذنوبٍ شكَكتُ للحظةٍ أنني لربما تصدّقتُ - بريالٍ - أو أمطتُ أذى عن طريقٍ ما! وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، والصدقةُ تطفئ غضب الرب! كدتُ أُقسمُ يومها بأن الله رضى عني بصدقةٍ قد أكونُ نسيتها لكنّها جاءت بكِ، لا تتعجبي كل ذلك - اللا تصديق -، فأنتِ ارتقيتي لمرحلةٍ تخطّيتي فيها حدودَ التصديق، وأخشى أن أغلو بكِ في يومٍ ما وتتسببين في تكفيري بعد أن جئتنِي بحسنَة.
كان المُملّك يبارك له بعد توقيعه وولي أمرها، لم يستمعْ لكلماتهِ ولم يفقه العربية وقتذاك، كان يومئ فقط، وما إن رحلَ حتى نظرَ لأحمد الذي كان يبتسم وهو عائدٌ من جهةِ البابِ بعد توديعه، وبلهفةٍ لم يستطِع إخفاءها : الحين ما عندك عذر عشان تمنعني أشوفها.
أحمد وعيناه تلتمعان بلؤم : عفوًا! أنت تدري إن عمرها 8 سنين؟
أدهم دون فهم : طيب! أنت قلت ماني ولي أمرها ولا أقدر أشوفها بس الحين أعتقد الوضع اختلف.
أحمد بابتسامةٍ تتّسع وبُرود : ما أحب إن بناتي يقابلون أزواجهم ببيتي ، لا صارت ببيتك تقدر تشوفها قدامك.
أدهم وبدأ الغضب يتسلل إليه، أدرك بأنّه يتعامل معهُ بصيغة العناد لا أكثر : بما أنّك ما تبيها ومشمئز كونها بنتك ما أظن تمنعني آخذها أجل!
أحمد يعضُّ شفتهُ وهو يقفُ أمامـهُ مباشرةً ويلفظُ بوقاحةٍ وعيناهُ تضيقان : يقُول الشرع إن زواج البنت الصغيرة يجوز وما عليه حرج ، بس إذا كان جسمها ما يقوى على العلاقة الزوجية فهِنا ما يجوز إنّ الزوج يدخل عليها ، ونجلاء جسمها ما يساعد، عشان كذا بتنتظر يا حلو والا ودك تأذيها مثلًا؟
احمرَّ وجههُ رغمًا عنه لوقاحته، غضبًا قبل أن يكُون إحراجًا، لكنّه تنحنحَ وبلل صوتهُ بنبرةٍ واثقةٍ ابتسم بها بتحدي : تأكد ماني مأذيها وبنتظر لين تكبر .. فلا تتعذّر بشيء تدري إني أقدر أتجاوزه.
أحمد يضحك بوقاحة : هههههههههههههه تعجبني ، بس بعَد ما اقدر أسلمها لك.
أدهم بقهر : وش اللي يمنع؟
أحمد ببرودٍ يُلقي القنبلةَ على رأسه : اللي يمنعني إنّها من بعد ما جبتوها لي رميتها بدار أيتـام ولا أدري عاد وش وضعها الحين * ابتسم بتسلية * إذا قدرت توصل لها هِنا هي لك.
وكأنّ صاعقةً سقطَت على رأسِه، اتّسعت عيناه بصدمة، وتحجّر جسدهُ وتجمّد دمهُ عن الجريـان، لازال يذكر كل شيء في تلكَ اللحظات، لم ينسى شعورهُ يومذاك، لم ينسى وقعَ الصدمةِ عليه وهو يقفُ دون شعورٍ ويلكمهُ على وجههِ دونَ تردد، كيف أنّه صرخ! شتمهُ بأقذع الألفـاظ، كيفَ أنّه نوى قتلهُ في تلك اللحظـاتِ وأحمد يصخبُ بضحكةٍ باردةٍ منه بعد خداعِه له. لازلتُ أذكُر ذلك اليومَ يا نجلاء، تحطّم كلُّ شيء، كل شيء! وكان من الغبـاءِ أن أظن بأنه سيُعلمني باسم الدار، تحطّمتُ في دائِرتك، كيف رماكِ؟ كيفَ فعلَ ما فعل؟ هل هنـاك قلبٌ كذاك؟ قلبٌ قطّع روحي لأشـلاءٍ وأنا أرى حياتِك هناك وأتخيّلها، أتخيّل جريانها بقسوة! كان بديهيًا أن تمرَّ صورُ القسوَةِ أولًا، وأشعر بأنني أمـوت، كان بديهيًا أن تتألّم عينايَ بملوحةِ دمعٍ بعد أن خرجتُ من منزلهِ وصرتُ أجوبُ الشوارعَ كمتشردٍ يبحث عن قوتُه، وكنتِ قوتي التي لم أجد، فقدتك، بعد أن ظننتُ بأنني ظفرتُ بكِ.
،
جاءَ الليلُ وعمَّ سكونهُ المُرعب، دائمًا ما يكُون الهدوءُ مُرعبٌ بعد أن شوّهت صورتهُ بالمثلِ الذي يقُول " هدوءِ ما قبل العاصفة "! . . يستعجلها بصوتٍ متذمرٍ يسكنُ البرودُ طيّاتـه، كان يرتدي ثوبًا أسود، و " غترةً " بيضـاءَ يستريحُ أحد طرفيها على كتفهِ الأيسـر، عطرهُ الرجـولي يغلّف المكان ويصلها إلى غرفتها وهي تتناول عباءتها بخفةٍ وتركضَ بكعبِ حذائـها الأحمـر نحو بابِ غرفتها، وبنبرةٍ عاليةٍ بعض الشيء : خلصت خلصت هذاني جـ .. * أكملت بلعثمة وهي تنظر إليه * جيت
فغَرت فمها وهي تنظُر إليه يقفُ قرب البـابِ وهاتفهُ بيده، فكّها السُفلي كاد أن يسقطَ وعيناها لم تستطِع إلا الربكـة أمامَ جاذبيته الرجـولية، رفعَ نظراتهُ إليها وابتسمَ بهدوءٍ لكنَّ ابتسامته اختفَت فجأةً ليعقد حاجبيه مستنكرًا لنظراتها الغريبةِ إليه : وش فيك؟
غزل تلعثمَت لتخرجَ كلماتها بتأتأةٍ وهي تشتت حدقتيها بحرجٍ وتلومُ نظراتها تلك : لا لا ولا شيء . . نمشي؟
سلطان يـعاودُ الابتسـام : أي
ركبا السيـارة، وبدأت المسافـةُ تتقلّصُ مقتربـةً من لقـاءٍ يُربكه، يُحاول حصرَ هذا الموعدِ في والدهِ لكنّه لا يستطِيع! لا يستطيعُ وسلمان يتنفّس هواءه، يلمحهُ ويلمحُ ضحكاتهُ وحديثُ الناس معهُ وهم يرونهُ في صورةِ الصالـحِ ذو الذكرى الحسنـة، هذا اليومُ لطالما كان لأجـل والده، لكنّهُ يصبح لوالدهِ ولسلمان! الكلُّ يراهُ ملاكًا، لا أحد يعرفه، لا أحـد ، وأنا أكثر من أوذيَ من هذا - الشيطان -، يكفي أنني أحببتهُ كما لم أحب والدي حتى!
غزل تفركُ ذراعها وتبلل شفتيها المتلونتين بالأحمـر في حينِ توجّه نظراتها إليه وتقتلُ الجانبَ الجاذبي فيه والذي أربكها سابقًا، تنحنحَت لتلفظ : وش مناسبة هالعَشـاء؟ * أردفت بحيرة * قلت لأبوك؟
سلطان بهدوءٍ ونظراته معلقةٌ بالطريق : نسويه كل سنة ، ما يكُون لناس معيّنة حتى الفقراء وأي شخص يقدر يجيه، يعني تقدرين تقُولين صدقة للمرحوم.
غزل : أوووه أكيد مُتعب ويكلف كثير!
سلطان يبتسم : لجل عين تكرم مدينة، طلبت كميّة كبيرة من الأكـل وبيكون الحين على وصول ، وأكيد عمي سلمان ما قصّر
لفظَ كلماته الأخيرة بسخريةٍ لتلتقطَها غزل وتلاحظَ تبدّل صوتهِ حينما لفظَ بـ - عمي - وكأنّهُ يقُولها بتحشرجٍ مـا.
صمتت بعد نبرتِه تلك، واحتفظَت بأي كلمةٍ قد تستثيرُ بها الحديث وهي تنظُر للطريقِ ورائحـةُ عطرهِ تخترقُها إلى رئتيها حتى وصلَ لمنزل عنـاد لتبقى فيهِ إلى ما بعد العَشـاء.
،
نظرَت لهُ من خلفِ اللحافِ الذي غطّت بهِ نفسها إلى أنفها، كان يقفُ أمامَ المرآةِ ويرتدي كبكه، يتجاهلها تمامًا وبقسوة، حتى نظراتهُ التي تتّجهُ إليها دونَ قصدٍ منهُ تتحوّر للبـرودة حين يرى عينيها. تكره تجاهله! لكنّه في النهاية لا يحقُّ له أن يتدخّل بينها وبين والدها، مهما حدث لا يحق له.
بللت شفتيها بلسانها وهي تشتت حدقتيها، عادت لتنظرَ لظهره، وببحةٍ خرجَ صوتها حزينًا رغمًا عنها : ترى حفلة زواجنا بعد كم يوم.
صمتَ لبعضِ الوقت وسكنَت كفهُ فوقَ كمهِ الأيسر وهو يُغلق الكبك، ارتفعَت أنظارهُ إليها عبر المرآة لتعقدَ حاجبيها بتحشرجِ أنفاسها عن رئتيها، مُردفة : لا تتجاهلني كذا وتتعامل معي بشكل بارد!
فواز ببرودٍ استدارَ إليها وأسندَ جسدهُ بطرفِ التسريحة، لوى فمهُ ليلفظَ بصوتٍ جامـد : كأنّك تتأثرين من الجفـاء؟
جيهانْ بغصةٍ حاولت ابتلاعها ليظهر صوتها واضحًا، لكنها لم تستطع وتلاشى الوضوحُ عن صوتها تحتَ حطـامِ أوجاعها : تعاقبني لأني أجافي أبوي؟
فواز ونظراتهُ تتثبّت بها بحدةٍ قاسيـة : أعاقبك لأنك خنقتي عيُونه بالدمع.
جيهان ترتعشُ شفتها السُفلى والدموع تتجمعُ بمحاجرها، جلسَت وصدرها اختنقَ بهرولة الأكسجين عنها، صورتهُ عادت لتجري في ذاكرتها، جسدها ارتعشَ وهي تتذكّر أنها كانت أمام خطوةٍ من السكنِ بأضلاعـه، لكنها فوّتت تلك الفرصـة، فوّتتها دونَ إرادةٍ منها.
تنفّست بألمٍ وفي لحظةٍ سريعةٍ انهـارت أخيرًا بعد كل ذلك التحشرج، الغصـاتُ تتدافعُ من جديدٍ في محجريها، تشعرُ بالجفافِ يوخزُ حنجرتها ورموشها تبتلُّ بدمعها الذي سقطَ على وجهها كمطرِ الشتـاءِ وارتفعَت كفّاها لتغطّي وجهها غارقةً في بُكـاءٍ صامتٍ جعلهُ يجفل للحظـات، لا ينقصها المـزيد، يكفي أنّ جفاءها لوالدها يؤلمها هي قبلًا، لا تحتمل جفاءً آخر، لا تحتمل صدًا آخر من فواز . . عضَّ شفتهُ واقتربَ منها بعد زفرةٍ عنيفـة، جلسَ بجانبها على السريرِ وامتدّت ذراعاهُ ليلفّها حولها ويسحبها إليه بقوةٍ دافنًا لها في صدره، صدره الذي مهما كان دفئهُ كبيرًا إلا أنّهُ لا يُشبعها عن صدرِ أبيها.
ارتفعَ بكاؤها وابتعدَ عن صمته، شدّت أناملها على ثوبِه لتُبلل صدرهُ بدمعها وهي تهتف بصوتٍ متحشرجٍ متوسّل : لا تزودها علي ، الله يخليك، ما أتحمل تجافيني! والله ما أتحمل.
تنهّد بصمتٍ وشدّها إلى صدره، رقّ صوته رغمًا عنهُ وهو يمسحُ على شعرها وينطقَ بحنان : خلاص كافي دموع جوجي، بس أنا خايف عليك قبل كل شيء ولا يهون عليْ عمي، خايف علينا! على عيالنا يا جيهان
شهقَت ببكاءٍ وهي تدفُن وجهها في صدرهِ وتُخفي حمرة ملامحها، في حين ابتسمَ وهو يقبّل رأسها ويُردف : أمي كانت تقولي كثير إن عقوق عيالك فيك دليل إنّك كنت عاق بأمك وأبوك ، خايف عليك وعلى عيالنا مستقبلًا!
جيهان تعضُّ شفتها السُفلى بقوةٍ حتى كادت تُدميها، صدرها يهوِي بحُزنه، تُدرك أنها مُخطئة، لكنها تفعل كل ذلك دونَ إرادةٍ منها، تحرّكها الذكرى وتستحلُّ جسدها في صدٍ ونفُور. همسَت بغصّة : ما أكون قاصدة اللي أسويه ، والله ما أقصد!
فواز يبتسم : عشان كِذا ودامك عروس ونبيك تعيشين لحظات كل عروس بتكونين في بيتك عمي لين يوم الزواج عشان نشتاق لبعض ومن هالكلام
شهقَت بصدمةٍ وهي تبتعدُ عنه وتنظر لعينيه، عيناها اتّسعت قليلًا برفضٍ في حين هزّت رأسها يمينًا وشمالًا وهي تهتفُ باعتراض : أكون في بيت أبوي؟ لا لا مستحيييل
فواز يعقدُ حاجبيه بحدة وابتسامتهُ تختفي : ليه إن شاء الله؟
جيهان برجـاءٍ رغمَ لهفتها لقُربه : ماراح يكون فيه غير الوجع ، صدقني ما ينفع ، ما ينفع أكون قريبة منه يا فواز
فواز بجمود : لا بتكونين قريبة منه ، وهذي آخر كلمة عندي
تشبّثت بثوبهِ برجـاءٍ وهي تُحاولُ أن تُبعده عن تلك الفكرة ، تريد قربه بالفعل، لكنّها أدركت منذ رأته في المطـار أن هذا الشوقَ ينجرفُ باتّجاهٍ خاطئ ما إن تراه، ببحةٍ ترجوه : بتوجعه أكثر، هذا اللي تبيه؟
اقتربَت ملامح فواز الحادة من وجهها أكثر لينطقُ بأمرٍ قاسٍ من بينِ شفتيه : الحين بطلع وإذا رجعت ألاقيك جاهزة . . ما أبي أجبرك بس مشكلتك ما ينفع معك غير كِذا، لو لِنت معك بتجلسين طول عمرك تصدّينه ، فلا تلومين إلا حالك
قالَ كلماته تلك ليبعدها عنهُ بقليلٍ من الخشونة، اتّجه للبـابِ وخرج، في حين تابعته بضعفٍ ودموعها تسقطُ بصمتٍ بينما أسنانها تمارسُ الضغطَ على شفتِها السُفلى.
يُتبــع ..
|