كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
بسم الله ،
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(57)
الطـاولة تفصلُ بينهما، يحمِل في صدره مشاعر تناقضت في هذهِ اللحظة، ما بين حُزنٍ وفرَح، ما بين ترددٍ واندفاع، ما بين خوفٍ وأمـل. يشعُر بأنّ نارًا تجرِي في أوردتِه، وعيناهُ الناظرتيْنِ إلى فيصل تضيقانِ بحوارٍ يُضيعُ الثباتَ في تكوينهِ ويُحيلهُ هشًّا هُلاميًا يهتزُّ صوتهُ ويتثاقل. رفعَ كُوب الماءِ الباردِ أمامه ليرتشفهُ دفعةً واحدةً لتوترِه، وبرودةُ الماءِ انتشرَت في صدرهِ بسرعةٍ حسيّة، دونَ أن تُطفئ الحرارةَ المتعمّقةَ في أعماقِة . . نطقَ بصوتٍ واهنٍ هشٍ وهو يُرطّب شفتيه بلسانِه : أي نقطة بالضبط تقصد بسؤالك؟
فيصل بهدوءٍ وهو ينظُر إليهِ مباشرة : كل اللي يقدر لسانَك ينطقه، كل شيء صار معك من وقت ما تركت بلدك!
ماجد بنبرةٍ مرتعشَة : ما أبي أحكِي
فيصل يرفعُ حاجبيه دونَ أن يفقد نظراتهُ الهادئة، يُشبك أنامله ببعضها أسفل ذقنه : وشلون تبي أحد يساعدك؟
ماجد : أنا أساسًا أشك إن فيه أحد يقدر يساعدني! خلاص حياتِي تعلّقت بهالمصير، متخبّي طول عمري لين أمُوت
فيصل : شلون عايش حياتك هنا؟ مسكنَك وقوت يومك؟!
ماجد يبتسم بُحزنٍ وأسى : أعمال عشوائية، كل فترة شيء جديد .. منها أغيّر جوي وأمشّي حياتِي شوي، والوقت اللي ما أحصل فيه شغل أجلس طول يومي أتمشى بشوارِع بارِيس .. ااااخ يا كِثر ما كرِهتها!
فيصل : تثق بربّك؟
ماجد يعقدُ حاجبيه بضعف : أثق فيه ، وبأنه قدّر مقاديرِي قبل لا أولد .. بيصيبني كل شيء هو كتبه لي!
فيصل : خذ بالأسباب! ادعي ربّك الدعاء يرد القضـاء .. وبعدين وش اللي مخليك متأكد إن ربي كتب لك تحيا طول عمرك بهالشكل؟ متخبي على قولتك؟
صمت ماجِد وأُطرِقت الكلماتُ في حنجرتِه التي تضيقُ بغصّاتِ سنين، بينما أردفَ فيصل بهدوء : ودامك يائس لهالدرجة، ليه وافقت إني أساعدك؟
ماجد يشتت عينيه قبل أن يبتسم بسخريةٍ مرّة، تُنثَر مرارتها في حلقهِ لتأتِي الكلماتُ وتجرّه، من أنينٍ، لآهةٍ، لتأفأفٍ بَكّاءٍ متذمرٍ من حالٍ مُرْ! لفظَ بنبرةِ وجَع : دغدغني الأمل، وضحّكْنِي على نفسي شوي! ماهي الحيـاة لعبة؟ بجرّب ألعب وش عندي؟ يمكن أخسر، بس وش عندي؟ أنا بنظر أهلي ميت! منسِي، فلو مت جد محد بيحزن عليْ مرتين، الحُزن على الميت مرّة، والحُزن على المفقُود مرّة، مافيه فرق والله! بكل الحالتين مفقود.
عقدَ فيصل حاجبيه لتسكُن مرارةُ كلماتِ ماجد بين حاجبيْه في تعجيدةِ جَزع، رطّب شفتيه بلسانِه قبل أن يُخفض كفيه بعد أن فضَّ تشابكهما، وبنبرةٍ جامِدة : شلون وصِلت لهالحال؟ أبي أسمع كل شيء من فمّك أنت
تحشرَجت الكلماتُ للحظةٍ في صدره، كيف يُخبره؟ ويجدد كل الأوجاعِ مرّةً أخرى؟ كيفَ يُخبره؟ وعيناه تحكِي عنه مواجعَ وظلامًا يحتكرُه! كيف يُخبره؟ وهو الذي استطَاعَ صبرًا حتى الآن بينما البُكاءُ يشقُّ صدره في كل ليلةٍ دونَ دموع، يتأمّل السماء السوداءَ دونَ دموع .. النجُوم شاهدة! اسألها عني، فهي تفقهني أكثر مني، اسألها عن حُزني، فهي رأتهُ في صورةٍ وصُور، اسألها عن مأسآتِي، فأنا أُخبرها بها كلّ ليلةٍ لأدثّرها في الضُحى والنهار، وتعودَ للعلوّ ليلًا من جديد .. لا تسألِ العيونَ عن حُزنها، ولا الصوتَ عن حشرجَتِه، لا تسأل الابتسامةَ عن ربكتها، ولا الجسدَ عن انتفاضتِه ؛ كلّها تعابير! لا تُجيد التفسير عن السبب! اسأل الشاهدِين، العابرِين، السنينَ والماكثينَ في صدرِي عن حُزني إليهم، عن حُزني منهم، عن التماعِ الحنينِ فيَّ كلّ حين، لا تسألنِي! فأنا فقدتُ الحديثَ في كومةِ الأنين.
أشاحَ عينيه عنهُ لينظُر للشارِع المكتظِّ بالعابرِينَ عبرَ نافذةِ المقهى الزُجاجيـة، أمالَ شفتيهِ بابتسامةٍ حزينَة، والتوَى لسانهُ في فمهِ مُعبرًا عن حُزنهِ في أسطر : وش تبي تعرف؟ شلون تورطت؟ شلون بالغلط كنت متواجد مرّة في وحدة من حوارِي الرياض الفقيرة! ، بغيت أتصدّق يومتها والله! رحت أشُوف حال اللي أقل مني وأشكر ربي! أتصدّق عليهم يمكن دعوة من فم واحد منهم توصل للسما وتدخّلني الجنة، تدخّل أحبابِي الجنة! ما بغيت أكثر والله! ما كنت طمّاع .. ومن غير لا أحسب حساب، سمعْت وشفت اللي المفترض ما أشوفه، وغصب عني ندمت إني يومتها رحت هناك! إني يومتها تصدّقت! إني يومتها طحت بحفرة للحين تحاصرنِي
وجّه نظراته إلى فيصل الذي كان يستمعُ إليه صامتًا بملامحَ جامدة، واتّسعت بسمةُ الأسى على شفتيه وهو يسرُد لهُ مأسآته : كانوا مجموعتين من الناس اللي يثيرون الرّيبة، بآخر الليل والمكان فاضي ومظلم! اللي فهمته إنها متاجرة بالأسلحة أو شيء من هالقبيل! ووقتها صارت مشكلة بين واحد من المجموعَة المُشتَرية وواحد من المجموعة اللي كانت تبِيع
عَادَت ذاكرتهُ لتلك الليلة، لتلكَ الحُفرة، لتلك اللحظاتِ التي ختمَت على عقدِ تعاستِه.
*
: أنا مالي نقاش معك أنت، نقاشِي مع رئيسك
الآخر بعنف : وكلامه بيكُون نفس كلامي! البضاعة ناقصة ووزنها يحكِي، ومحنا مسلمينك الفلُوس لين ما تجيبها لنا مثل ما كان الاتفاق
لوى الرجُل الأول فمهُ بتقززٍ ليهتفَ بشر : الشرهَة ماهي عليك على اللي خلّاك تنُوب عنه ، احنا معرُوف عنّا ما نسلم بضاعة ناقصة، الكمية مثل ما اتفقنا وتقدر تراجعها.
الآخر : لا مراجعة ولا هم يحزنون الفلُوس محنا مسلمينها لين ما تكمّل المطلُوب.
احتدّت ملامحُ الرجل الأوّل لتتحرّك يدهُ بخفةٍ نحوَ حزامهِ ويسحبَ مسدسه، وقبل أن ينتبه الآخر كان قد وجّهه إليهِ بسرعةٍ ليدفُن الفوّهةَ في كتفهِ وتتسرّب شهقةُ الآخر بذعر. وبحدةٍ وشر : آخر كلمة عندك؟ تبي تلعب علينا أجل؟!!
الآخر تزيغُ عيناهُ وينتفضُ جسدهُ قليلًا وقدماهُ تُضعِفهما الرّعشة، بذعر : استهدي بالله يا سالم.
سالم يبتسم بشر : مو أنا اللي ينلعِب علي! جيب الفلُوس بسرعة والا منت شايف طيّب .. وأنا قول وفعل مثل ما سمِعت
تراجعَ من معَ الرّجلِ بذعرٍ بعد أن أشهر سالِم بسلاحه، بينما تحرّكت شفتا الآخر بكلماتٍ مرتعشَةٍ ليأمر أحد رجالِه بتسليمه النقود، حينها تقدّم أحد من في الخلفِ بترددٍ وخوفٍ ليتقدّم أحد رجالِ سالم من الجهةِ المُقابلة بعد أن أشارَ لهُ برأسه، بقيَ لوقتٍ يعدُّ النقودَ في الحقيبَة بينما تحدّث سالم بترفّعٍ ونبرةٍ ضيّقة : كان اتّفاقنا تحوّلون في البداية ربع المبلغ لنا، بس تجاهلتم بغباء وظنّيتوا إننا بنمشي الوضع بالتسليم اليدوي بس ما دريتوا إنّنا ما نجاري أبد!
ارتفعَ صوتُ الرجلِ من الخلفِ بكلمتين فقط : الفلوس كاملة
حينها ابتسمَ سالِم وهو يجذبُ المسدّس للخلفِ قليلًا بعد أن كان مدفونًا في كتفه، ليدوِي صوتُ إطلاقِ الرصاصِ فجأةً ومن ثمّ صرخةٌ متألّمةٌ بعد اختراقِ الرصاصةِ كتفَه، ليتراجعَ سالم وهو يضحكُ ضحكةً متسليةً مُردفًا : هذا عقابك ، واحمد ربّك ما قتلتك * رفعَ نظراته لأتباعِه ليُردف بشر * خذوا كلبكم
انتفضَ الرجَالُ من خلفِ المُصابِ بخوف، بينما بقيَ هو يشدُّ على كتفهِ ويتأوّه بألمٍ والدماءُ تُغرقُ كفّه، في حينِ كانت عينا ماجد تتّسعانِ بذهولٍ وهو ينظُر لما يحدثُ أمامـه، للجنونِ الذي يراهُ لأوّل مرةٍ في حياتِه، كان يندسُّ في إحدى الأزقّةِ المظلمة وأسنانه تعضُّ على شفتِه وهو يراقبُ ما يحدث، يستمعُ لما يُقال، ولمحَ المدعوّ سالِم الذي لم يرى وجههُ جيدًا في الظلام وهو يُعيد أمرهُ على رجالِ الآخر الذين كانوا تسعًا أو عشرًا، حينها تقدّم اثنانِ منهم ليُمسك كلّ واحدٍ بإحدى ذراعيّ رئيسهم ويرفعوهُ ويتوجّهوا بعد ذلكَ لإحدى السيارتينِ ويساعدونهُ للركُوب، وانتشرَ نصفَهم في سيارةٍ والآخرُ في الأخرى، ومن ثمّ تحرّكت الإطاراتِ بصوتٍ مزعجٍ ليختفِي ظهُورهم في الساحةِ بعد الذي حدَث.
ابتسمَ سالِم بسخريةٍ وهو يأمرُ رجالهُ بالتراجع، بقيَت سيارتي " بي ام دبليو " سوداوتين تخصّهم، ركبَ معضمهم في واحدةٍ وبقيَ اثنانِ وسالِم معهم، تحرّكت السيّارةُ الأولى قبل أن يتحرّك الباقيان ويركبا في الأمامِ وأحدهما يقُود، بينما كان سالِم يحملُ حقيبَة النقودِ واقفًا في مكانِه دونَ أن يتحرّك، ينظُر للأرضِ المُظلِمةِ بابتسامةٍ باردةٍ وبعضُ الشرُودِ أصابه، وعينا ماجِد الساكنتينِ في الظلامِ تُراقبانِ بقيّة ماقد يحدُث وأذناه تنتظرانِ أيّ حديث، وبديهيًا لم يكُن ليستطيعَ التراجُع في تلكَ اللحظةِ دونَ مغادرةِ من بقي وإلا فبالتأكيد سيتنبّه له هذا المجنون وسيقتلهُ لا محالة!
حرّك سالِم عنقهُ يمينًا ويسارًا ليُذهبَ تصلّبها ومن ثمّ تحرّك ينوي المغادرَة، لكنَّ صوتَ هاتفِ ماجد صدَح فجأةً بقوّةٍ لتسرِي نفضةُ ذعرٍ في جسدهِ وتتّسع عيناهُ مرافقةً اتّساعَ عينا سالِم في تلكَ اللحظة!
،
التحمَت العيُون ببعضها، الشراراتُ تتلاقَى لتُشعل فتيلًا من الحقدِ والإزدراءِ القاسِي .. لوَى سالِم فمهُ ببرُودٍ وهو يقتربُ منه، يبتسم بسخريةٍ مريرة ناظرًا للنافذةِ من خلفه، ليردَّ لهُ سعد الابتسامةَ بأخرى باردة، تغتصبُ الابتسامةَ نفسها وتظهر بعيدًا كل البُعد عن مسمّاها.
سالم ببرود : تتأمّل مهرَب؟
سعد بعنف : قلتلك ماني جالس لكم لو على موتِي
سالم وابتسامتهُ تتّسع بشكلٍ مُستفز : اووووه! لهالدرجة شريف!
سعد : أسوي بلاوي الدنيا كلّها بس ما أحشر نفسي في شيء ماراح ينتهي! ... ليه أنا بالذات؟!!
سالم يقتربُ منه بخطواتٍ متكاسِلة وهو يُميل فمهُ ببلادة، هاتفًا بنبرةٍ جليدية : لأنّنا نبيك
سعد بقهر : ما أعرف سلطان صدّقني! كل معرفتي فيه مجرّد عمل
سالم : تأدي المطلوب
سعد : لا مو عن كِذا! أنت تبي شخص تقدر تتخلّص منه بعدين بسهولة بعد ما ينصاع بسهولة! فيه الأقرب مني لسلطان .. بس ما عرفتني زين ومستحيل أنصاع لكم
سالم بابتسامة : والله!
سعد بقهرٍ أكبرَ وهو يضرب الجدار من خلفهِ بقبضتِه : وليه سلطان بالضبط؟ ما أظن إنه بنَى عداوة مع أحد لهالدرجة اللي تخليه يدخل مع ناس مثلكم في مشاكل!
سالم بهدوء : على قولتك ، ما سوّى لنا شيء، بس احنا لنا شيء عنده! تقدر تقول هو ما يدرِي عن هوى دارنا أصلًا! بس ذنبه إنّه ولد فهد وهذا كافِي حتى عشان ننهي حياته
عقَد سعد حاجبيه باستنكارٍ ودُونَ فهم : ولد فهد!!
سالم : مو كأنِّي معطيك وجه بزيادة؟
ارتفعَت زاوية فمِ سعد في ابتسامةٍ ساخرة : ولي الفخر طبعًا
سالم يبتسم بازدراءٍ له، وبمكر : أبوك يشتغل شغل على قد حاله في مدرسة، فرّاش بالمعنى الأصح، امك مُقعده، عندك أخت عمرها 16 سنة تدرس بالثانوية، واثنين أخوان واحد عمره 9 سنين والثاني عمره 8 سنين في الإبتدائية
اتّسعت عينا سعد بذهولٍ واستنفارٍ مما ينطُقُ بهِ وعقلهُ يُحاول تداركَ المعنى المغلّف خلف حديثه، في حين أكمل سالم ببرود : إذا جينا للصورة العامة فأنت المُعيل الأول لأهلك، شغلك يعتبَر زين مع إني أستنكر للمرة الألف إنّك عرّضته للخطر بمصاحبتك لإبراهيم! * ابتسم بسخرية * وهذا اللي يأكد لي سذاجتك يا إمّعة
سعد يتجاهل محاولـة استفزازهِ الأخيرة وهو يزدردُ ريقهُ ويتقدّم خطوةً واحدة للأمـام، وبحذر : أنت وش تبي بالضبط من سرد كل هالمعلومات عني وعن أهلي؟
سالم ببرود : أبيك تدرك أنت مع مين تتعامل
سعد بتردد : يعني؟
سالم : نقدر بالمعنى الكامل للبساطة ندمّر هاللي أنت تحيا عشانهم ، بشربة مويا!
ارتعشَت شفتاه وحلقهُ يجفُّ من كلّ كلمَةٍ ونبرَة، عيناه انحسَر عنها موجُ التّمردِ وانصاعَ لخفوتٍ وتجمّد، في حين اتّسعَت ابتسامةُ سالم وهو يميلُ مستندًا بكفهِ على طاولـةٍ بجانبِه : نقدر نتفاهم الحين
،
عانقَت عقاربُ الساعة مع العاشِرةِ والربع، تجلسُ فوقَ سريرِها وحاسوبها أمامها، عيناها تخفتانِ بنورهما قليلًا وزفرةٌ باردةٌ ببرودةِ غرفتها تُغادرُ رئتيها الواهنتين. أطبقَت شاشة الحاسوب وهي تتنهدُ بضيق، لا بأس! هي قد سمِعَت العديدَ من القصص، وليس مهمًا إن كانت قصصًا أخرى قد تؤثر بها أم لا .. لا تدرِي ما شعورها بالضّبط أمامَ ما تسمع! لا تنكر أنّ جسدها اقشعرّ للحظات، ليسَت المرّة الأولى التي تسمعُ فيها قصصًا كهذهِ ولا تتأثّر بعظمتها، لكنّ قلبها بالرغم من تأثّره لطالما غلّفه الشيطانُ بعدَ حين! لا! ليس شيطانًا، هي فقط لا تدرِي! ليست كلُّ العوالِم تناسبها، ليسَت كلّ حالةٍ تناسبها، لرُبما يُناسبها الضياعُ فقط! أن تكون مجهولةً للأبـد، ألّا تعرفَ نفسها، هل هذا يُرضيها فعلًا؟! أم أن الشيطان غلّفها فعلًا في صورةٍ ما!
عضّت شفتها وهي تُزيح الحاسُوبَ جانبًا بعد أن أغلقَت ما كانت تسمعُ من قصص، كانت القصّة الأولى بالمعنى الصحِيح، ولم تُكمل نصفها حتّى، تحدّثت القصّة عن " إبراهيم عليه السلام "، وكيف وجّههُ عقلهُ لمعرفةِ ربّه، كيفَ ابتهلَ للشمسِ حتى أفلت، ومن ثمّ القمرَ ليجدَ الطريقَ الصحيحَ أخيرًا، لمْ تُكمل! اقشعرّ جسدها وأي إنسانٍ لم يغزُو الإلحاد قلبهُ بعد كان ليتأثر ولو بصورةٍ بسيطة.
تنفّست بحدةٍ واهنَة وهي تمدُّ ساقيها بعد أن كانت تعكفهما وتجلسُ عليهما، دلّكتهما قليلًا لتُذهِبَ تيبّسهما ومن ثمّ تمددت على ظهرها لتنظُر للسقفِ بشرود، تتابِعُ نقوشاتِهِ بكَدر، بسخطٍ من نفسها ومن " ما الذي تريده؟ "، من هذا السؤال الذي يجُول لياليها لتُدرك أنها مجهولة الهويّة، وأن الهوية ذاتها تغيبُ عن ملكوتِها وفضائها والمجرّة التي تحياها فلا أمل لإشراقها يومًا في سمائها، لا أمل في أن تمرَّ يومًا كشهابٍ عابِر، أو تسقطَ عليها كمطرٍ موسمي، أو على الأقلِّ مطرٌ نسيَت غيمتهُ وجهتها ووقفَت خطأً فوقها.
أغمضَت عينيها وشهيقها يتعمّق لتكتمَ نفسها لثوانٍ قليلة قبل أن تزفُر بهدوءٍ وعُمق، تُحاول إسكانَ انفعالاتِ دمِها وعقلها، شهيق، زفير، وللإنفعالاتِ بقيّة!
شدّت على عينيها مُسدلةً ستارَ أحداقها فوقها، تُغلِّفُ ينبوعها السخيَّ والبخيلَ في آنٍ بأهدابِها الكثيفة، علَّ الدفءَ يغزو عينيها يومًا بعد أن تدثّرهما باعتناءٍ وتُصبح دموعها فرحًا لا تعاسـةً واحتياجًا.
بحثَت عن النومِ بين جحورِ أفكارها وغياهِبِ صدرها، تحاولُ الهربَ من كل كدرٍ لا يزول، لكنّ صوت هاتفها منعها من الهرب في هذهِ اللحظة لتفتحَ عينيها وتعقدَ حاجبيها بضيقٍ من أن يكُون والدها، ليس وقتهُ الآن! مزاجها فعليًا لا يحتمل! تعبَت من تكرارِ قول " سلطان قال بننقل بيته بعد أيام! ".
زفَرت وهي تجلُس ومن ثمّ مدت يدها نحو هاتفها لتأخذه من الكومدينة، نظرت للشاشةِ لتتّسع عيناها للحظةٍ قبل أن تبتسم ابتسامةً باهتة وهي ترى اسم سلطان يسطَعُ في الشاشة.
يُتبــع ..
|