المنتدى :
المنتدى الاسلامي
رجب الأصم
.
رجب الأصم
عند دخول شهر رجب من كل عام، يتداول الناس جملةً من المسائل المتعلقة بهذا الشهر، فأحببت أن تكون هذه الأسطر مُلخٍّصةً لجملة من أهم تلك المسائل، وذلك فيما يلي:
أولاً: سمّى العرب هذا الشهر برجب الأصمّ؛ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح للقتال.
ثانياً: شهر رجب أحد الشهور الأربعة التي حرّمها الله بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: من الآية36].
وحرمتها كانت معروفة في الجاهلية، فأقرها الإسلام؛ وبيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ـ كما في الصحيحين ـ "السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القَعْدة وذو الحِجّة والمحرمُ، ورجبُ مضر، الذي بين جمادى وشعبان"([1]) ونسبة رجب إلى مضر؛ لأنها كانت تبالغ في تعظيمه، كما قال أهل العلم.
ثالثاً: هل ورد في فضل رجب حديث صحيح؟ وهل صح في الأمر بصومه أو النهي عن ذلك حديث؟
وجواباً على هذين الأمرين أسوق كلاماً نفيساً للحافظ ابن حجر؛ حيث يقول:
"لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديثٌ صحيحٌ يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ ـ رويناه عنه بإسناد صحيح ـ.
ولكن اشتهر أن أهل العلم يتسمحون في إيراد الفضائل ـ وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة ـ وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفاً، وأن لا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال، فيظن أنه سنة صحيحة.
وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبدالسلام وغيره، وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين"([2])فكيف بمن عمل به؟ ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام، أو في الفضائل، إذْ الكل شرع"اهـ.
وقد ذكر بعض العلماء أنه لا يثبت في صوم رجب لا نهياً ولا ندباً حديثٌ صحيح، منهم: النووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب([3]).
وبما قرره هؤلاء العلماء يتبين ضعف قول العلامة علي القاري في كتابه "الأدب في رجب" ص:(24 ،25) : "وقد جاء في فضائل صومه أحاديث ضعيفة، تصير بكثرة طرقها قوية، مع أن الأحاديث الضعيفة الأحوال، معتبرة في فضائل الأعمال" ا هـ.
رابعاًً: كل ما تقدم في النهي ـ لو صح ـ إنما هو في إفراد شهر رجب وحده بالصوم، أما صومه تبعاً لغيره كصيام الأشهر الحرم أو صيام الدهر ـ عند من يرى جوازه ـ أو من يصوم يوماً بعينه كالأثنين والخميس، أو البيض، فلا بأس به، وممن قال بذلك من الصحابة : ابن عمر وممن بعدهم : الإمام أحمد ـ نقل ذلك ابن رجب في "اللطائف"([4])والله أعلم.
خامساً: فهم بعض الناس خطأ أن كونه من الأشهر الحرم أن السيئة تتضاعف فيه، وهذا غلط، فمن الأمور المحكمات الواضحات في الشريعة أن السيئة لا تتضاعف من حيث العدد لا في الزمن الفاضل ولا في المكان الفاضل، وإنما تعظم من جهة كيفيتها، بحيث لو قُدِّرَ أن حجم السيئة في غير الزمان والمكان الفاضل بحجم النواة ـ مثلاً ـ فقد يكون حجمها في الزمان والمكان الفاضل بحجم الصخرة الكبيرة أو الجبل الصغير، والمؤمن ـ في أي زمان ومكان كان ـ ينبغي أن يعظّم شعائر الله، وحرماته، فإن ذلك من تقوى القلوب، ومن علامة خيريتها.
سادساً: من الأحاديث المشتهرة في هذا الشهر حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي... ولا تغفلوا عن أول ليلة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب، ... الحديث"([5]) وهو حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نشره إلا على سبيل البيان والتحذير منه.
سابعاً: من الأمثال السائرة: "عش رجباً ترَ عجباً"، وقد قيل في سبب وروده: إن الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة طلّق بعض نسائه بعدما أسنّ وخرف، فخلف عليها من بعده رجل كانت تظهر له من الوجد به ما لم تكن تظهره للحارث بن عباد، فلقي زوجها الحارث بن عباد فاخبره بمنزلته منها، فقال له الحارث: عش رجباً ترَ عجباً، فصار يضرب مثلاً فِي تحول الدَّهْر وتقلبه، وإتيان كل يوم بما يتعجب منه([6]). والله الموفق.
...........................
([1]) البخاري (3197)، مسلم (1679).
([2]) مقدمة صحيح مسلم : (1/8).
([3]) شرح النووي على مسلم 8/39، مجموع "الفتاوى" 25/290، "المستدرك على مجموع الفتاوى" 3/178، المنار المنيف (97)، "لطائف المعارف" (228).
([4]) ينظر: اللطائف (230)، وهو ظاهر كلام النووي في شرح مسلم 8/39، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 25/291، وابن حجر في " التبيين" ص(70،71).
([5]) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2 / 124)، وينظر: "اللآلىء المصنوعة" للسيوطي (2/48).
([6]) ينظر: أمثال العرب للمفضل الضبي (ص: 140)، جمهرة الأمثال (2/53)، الأمثال للهاشمي: ص:(166).
.
.
لـ/ د. عمر بن عبد الله المقبل
|