(29)
لن تُهزمي
- لقد أغمي على أمك .
عبث الذعر بملامح الطفولة في وجه ابن خالتها الصغير محمد والذي دخل عليها المطبخ راكضا .. تركت إيمان الأواني لتنزلق من بين أناملها المليئة بالصابون .. لتركض نحو حجرة النوم وتجد رأفت يجلس على مقربة من جسد والدتها المسجى على الأرض دون حراك .
- أمي .. أمي .. هيا استيقظي أرجوكِ .
لم تحرك سوسن ساكن وبدا أن قلب إيمان يسعى لشق صدرها بنبضاته الحادة تلك .. حولت نظراتها المستنجدة بين عيني ولديّ خالتها اللذان كانا يحبان قضاء إجازتهما الفصلية برفقتها وخدمة خالتهم .. لم تكن نظراتهما بأقل منها ذهولا .. مما جعلها تحارب تلك الرعشة ألا إرادية والعابثة بأطرافها الباردة ..
وبحركة خرقاء وضعت يدها على فتحت أنف والدتها .. تستجديها بضعة أنفاس كانت الأقدر على بث السكينة في كيانها المهزوز ...
- لتتصلي بأمي .
تمتم بها رأفت في حين بدا بعينيه اللتان تأبيان مفارقة خالته وكأنه يخشى أن تغادرهم على غفلة منه .. ستتصل بالخالة إخلاص .. نعم .. لما لم تفكر بذلك من قبل .. أسرعت بالتقاط سماعة الهاتف منفذة مشورة رأفت .. إلا أن أناملها تحجرت هناك حينما جاءها ذلك النداء اللاهث الضعيف بما يشبه الأنين :
- إيمان ....
لم تضف سوسن شيئا حتى أنها بقيت على سكونها .. لكن إيمان كانت الأقدر على فهم رغباتها .. مؤكد بأنها بخير .. فهي لا تود الاتصال بالخالة إخلاص .. ما هي إلا ثواني قليلة حتى ارتجفت رموش سوسن من جديد لتنفض عنها غبار غيبوبتها المؤقتة وتبعث في صدر ابنتها أنفاس الحياة .. ثم راحت تجبر جسدها على النهوض مشيرة لابنتها بالابتعاد :
- لا تساعديني حتى لا تؤلميني .
كم هو خانق شعور الإعاقة الذي يجتاحنا دون رأفة .. حينما تتحول حتى يد المساعدة لأداة تزيد آلام من نحب .. زحفت الدقائق ببطء شديد وسوسن تصارع آلامها لتنهض بجسدها المنهك إثر تلك السقطة المؤلمة .. حتى تمكنت أخيرا من الجلوس على كرسيها العريض .. والذي أصبحت بطانته السميكة غير كافية لتحول دون احتكاكه بعظام جسدها الذي ازداد بروزا في الآونة الأخيرة ...
في العصر .. جاءت إخلاص لتلاحظ ذلك الشحوب الطافح على ملامح أختها .. وخطواتها المترنحة التي كانت داعيا كبيرا لتطلب العون الطبي من أخت عبد العزيز الصغرى سمية .. خاصة وأن سوسن ترفض تماما اتصالهم بعبد العزيز نفسه .. والذي لم ينتهي بعد من حرب الكرامة التي يخوضها ضد حكم "صنعاء" .
- هل ستكون بخير ؟.
تساءلت إخلاص بصوت مختنق بعبراتها المحتشدة في مقلتيها .. وهي تلاحظ غياب سوسن عن الوعي من حين إلى آخر .. بينما تعمل سمية برفقة الأطباء على تزويد أوردتها بما تحتاجه من دماء ومغذيات ..
سارعت سمية بطمأنة ذلك التساؤل القلق لإخلاص .. لم تكن تدري بأن وجودها بحد ذاته كان مطمئناً خاصة وأنها جاءت برفقه زياد الذي عمل على ترك عروسه في شهر عسلهما ليقوم برعاية زوجة أخاه .. لكنها أفتقد هي للعون والعزاء .. وهي تراقب أوراق السوسن في ذبولها .. فما عاد بإمكان سمية كطبيبة سوى اللجوء إلى الله .. والسهر بجانب سوسن محتضنة كفها النائم باستسلام مثلها .. وإمطار أناملها الهزيلة بسيل من دموعها وقبلاتها .....
***
"أريد أن أموت في بيتي"
ظلت تلك الجملة التي همست فيها سوسن حين أفاقت تدوي في رأس إيمان طيلة اليوم مصدرة طنينا لا يرحم ولا ينقطع .. فعلى إثر ذلك الرجاء اليائس الحزين رضخت كل المقاومات .. كانت عودة والدتها بتلك الحالة المرضية المتدهورة ما هو إلا تأكيد من العمة سمية بأنها تعيدها لكفنها .. أصبح العم زياد متواجدا طيلة النهار لتلبية احتياجاتهم .. بينما استمرت سمية بالإشراف على سوسن اليومية وتزويدها بالمغذيات اللازمة وتطهيرها الدائم لتلك الغدة القابعة بخبث على عنقها .. بينما لم تقدر الخالة إخلاص على ترك إيمان لتضيع بين أزقه التيه والذهول وتركت زوجها وأولادها لتمكث برفقة أختها وابنتها .
ولم يكن خالد بأقل معونة إذ اهتم بأمور المنزل في غياب إخلاص .. بينما سخر أبنائه لخدمة خالتهم .. إذ كان محمد ورأفت يتناوبان على قضاء حاجيات المنزل الخارجية .. بينما تكفل كلا من رامي وعُمر بحمل خالتهم للحمام أو تعديل وضعية نومها على سرير الموت .
"أريد أن أموت في بيتي"
أهذا ما يسمى بالاحتضار ؟.. أهكذا ينضب وعلى مرأى منا ذلك النبع الفياض من الحب والعطاء .. كيف للقلب أن يعي تلك الحالة العبثية التي دفع بها المرض بجسد الأمومة والحنان حتى حافة الانهيار .
بقايا إيمان .. ظلت تنتفض في صدرها الذي يتلوى للفض أنفاسه الأخيرة .. مطمئناً ومهدأً لكل من حوله .. ربما تخلى عنها الجسد .. إلا أن الروح الطاهرة باقية .. لم تكن لتوهن .. ولم تكن لتحتضر .. فإيمانها برحمة الله أقوى من أن تُهزم أو تخور .. وهكذا بدت سوسن مصرة على عيشها للحياة حتى أخر رمق .. بتمسكها بصلاتها وإصرارها على إيمان في كل ليلة على ترتيل بضع آيات من القرآن .. كانت كفيلة بإحلال بعض السكينة على نفوسهم جميعا .....
***
- لما تقولين هذا الكلام يا سوسن ؟.
لم يفلح نشيج إخلاص في إسكات همهمة أختها .. التي راحت تضغط بأناملها الوهنة على كف إخلاص المرتجف بينما تعيد وصيتها بإلحاح أشد :
- أنني على ثقة بأنكِ خير الأم لإيمان .. لقد كنتِ لها كذلك حتى مع وجودي أنا في حياتها .. إلا أنني وددت أن أوصيكِ خيرا بها حتى يطمئن قلبي فقط .
- سوسن ؟!!!...
اخترق ذلك الصوت الرجولي مشدوه النبرات ذلك الصمت المنتحب من حولهم .. لتفر على مرآه إخلاص مخبئة دمعاتها بعيدا عن العيون .. ولتترك زوج أختها العائد من "صنعاء" برفقة الألم وحده .
تسحبت خطواته الحذرة نحو ذلك الجسد المتهدم فوق فراش المرض والذي لا يشبه امرأته المحاربة في شيء .. جلس بجانبها على السرير .. ثم رفع أناملها متحسسا نحولها بشفتيه :
- ألف سلامة عليكِ ؟.
- أنا بخير يا عزيزي .. لا تقلق .
حاولت تخفيف وقع الصدمة عليه .. حينما راحت تتساءل بعفوية :
- كيف كانت رحلتك .. وهل وفِقت في الحصول على وظيفتك ؟.
- نعم .. نعم ....
أكان قادرا على إشهار الحقيقة في وجهها .. وبأنه عاد خائبا ككل مرة يلتقي بها "صنعاء" فوق أراضي القهر والمظالم .. بل هل سيمهله قدرها العجول لحظات أخرى ليبثها هموما ماضية وأخرى محدقة به .. سرقت قشعريرة غريبة في كيانه وهو يستشعر شبح الموت القابع في إحدى زوايا تلك الحجرة .. اهتزت نظراته ذعرا مع تحرك الدمع في مآقيه .. مما جعل سوسن تهمس له بابتسامتها الحنون :
- لا تحزن أرجوك .. فكم أود لو تركت بداخلك بعضا من روحي .. لترعاك .. وتمكنك من احتواء طفلتنا بروح الأب والأم معا ....
حاولت جذب نظراته الهاربة من أسر عينيها .. حينما راحت تردد بكل ثقة :
- كن قويا من أجلي أنا .. ومن أجل إيماننا الحبيبة .
ما كان لرجولته أن تتجلد أكثر من ذلك .. خاصة حينما لانت عينيها بنظرة عشق أدمنها لأعوام طويلة وهي تهمس له بشغف :
- ولا تنسى يوما .. بأنني أحبك .
أجابها عبد العزيز يومها بهزة مطمئنة من رأسه تتعهد بحفظ وصيتها .. وبقبلة طال رسمه لها على جبينها .. ثم خرج من الحجرة كي يبتلع أحزانه بعيدا عنها حتى يختنق بها وحده .
وفي لحظة خروجه العاصف ذاك اصطدم بجسد صغيرته التي دخلت بكوب من الماء لوالدتها .. وقفت إيمان للحظات متأملة ذلك الجو المشحون بالأحاسيس الحزينة في حجرة والدتها .. إلا أن ابتسامة سوسن اتسعت لمرأى التساؤلات القلقة في عينيها .. وراحت تكرر عليها تلك الجملة الأخيرة .. بنفس النبرة التي تذوب عشقا بوالدها :
- أنا أحــــبه يا إيمان .
لم تكن بحاجة توضيح .. إلا أن والدتها أردفت بهيام أكبر :
- إن قلبي مملوء بالحب والرضا نحوه .. ولا أريدك أن تقفي في سبيل سعادته مهما كان قراره .. حتى وإن أراد الزواج بأخرى بعد رحيلي .
- أمي .
كم كانت تبغض مثل تلك الأحاديث .. بل وهذه النبرة المستكينة بين شفتي والدتها .. والتي تخبرها في كل مرة بأنها راحلة لا محالة .. وكأنها تقرأ خبر نعيها المسبق في كل مرة ترى ذلك الرضا المرتسم على صفحه وجهها .
أشارت سوسن بأناملها كي تستحث خطوات ابنتها للاقتراب وتنهي آخر وصاياها وهي تربت على يديّ إيمان :
- أسمعيني يا حبيبتي .. إن رحلت .....
- ساُجن إن رحلتي .. هل تسمعين .. ساُجن ...
هاجمتها إيمان بكلماتها المختنقة مرارة .. إلا أنها ابتسمت بحنان أكبر معاودة حديثها :
- لن تُجني يا صغيرتي .. فأنتِ تمتلكين إيمانا أكبر من أن يرميكِ في براثن الجنون .. وأنا على يقين تام بأني سأكون راضية عنكِ دوما .. فلا تخيبي ظني بكِ .. كما أنني أوصيك خيرا بوالدك يا إيمان .. وأن لا تتركي بيتنا مطلقا .
زاغت نظراتها أمام ذلك الضغط الذي تمارسه والدتها عليها .. إلا أنها جاهدت لتركز عينيها على شفتي والدتها التي أردفت موضحه :
- أعمامكِ وعماتكِ .. أخوالكِ وخالتكِ .. جميعهم سيحبونكِ ولن يتوانوا في الاهتمام بكِ .. حتى أن أبوابهم جميعا ستنفتح من أجلكِ بعد رحيلي .. لكني لا أريد لكِ أن تعيشي اليتم والغربة بعيدا عن والدكِ .. يجب أن تبثي أنفاس الحياة في صدر بيتنا .. وتعيدي رسم هندسة أسرتنا ولو بالضلعين المتبقيين .....
- ستبقى هندستنا الثلاثية مثلما هي .. وسيبقى صدر بيتنا عامرا بأنفاسكِ أنتِ أمي .
لم تكن لتستوعب تلك المهام التي تكلفها بها والدتها .. ذلك الوقت الذي تحدثها عنه .
"بعد الرحيل"
أي رحيل تتحدث عنه .. ألا تدري بأن طفولتها لم ترتوي منها بعد .. بأن أباها سيعاني اليتم إلى جانبها .. وأن منزلهم لن يقوى الصمود بعد تهدم أقوى دعائمه ....
- ماذا جلبتِ من أجلي ؟.
سرحت إيمان حنجرتها المختنقة بعبراتها المكتومة .. قبل أن تقدم لوالدتها ذلك الكأس الراشح بين أناملها :
- لقد أحضرت لك مياها باردة .
كلتاهما تدركان عدم جدوى المحاولة .. فقد مر أسبوعين كاملين وسوسن لا تقوى على تمرير شيء إلى جوفها .. فتلك الغدة في عنقها قد ازدادت حجما بعد أن امتصت الحياة من جسدها .. إلا أن نظرات الأمل في عيني طفلتها جعلتها تفكر بحل يربت على كل القلوب الملتاعة من حولها :
- ما رأيك أن تحضري لي قطعة من الثلج لأضعها في فمي .. علّها تذوب وتروي شيئا من عطشي .
قفزت إيمان حاملة معها آمالها الجديدة .. لتجلب تلك القطعة الصغيرة من الثلج .. وبالفعل وبرحمة من الله أفلحت تلك القطرات المنسابة ببطء في حنجرة سوسن من أن تبدد خواء جوفها .
سرت موجة من التفاؤل والسعادة الهشة في أرجاء المنزل .. بينما سوسن تتابع امتصاصها لقطرات المياه الدائبة في فمها .. حتى حل المساء .. وراحت تزيد بإيمانها الكبير معالم الطمأنينة في تلك الوجوه الملتفة حولها :
- لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون .. فكلما اُقفل باب في وجهي فتح الله لي طريقا آخر .. أليس كذلك ؟.
- ليشفيكِ الله يا حبيبتي .. ولا يخيب لنا رجاء .
قالها عبد العزيز بعد أن قبل خدها مودعا .. إذ كان يقضي الليل في منزل والدته حتى لا يقيد حرية إخلاص أثناء مكوثها بجانب أختها .. وبعد رحيله تلك الليلة ألحت سوسن على إخلاص اليقظة دوما كي تأخذ قسطا من النوم هي بأشد الحاجة إليه .. بينما داعبت نظرات إيمان بابتسامتها الحلوة وهي تدعوها لتحتضنها وتقبلها ككل مساء :
- ابتسمي يا إيمان .. إنني بخير .. ولا تنسي بأن الله أحن علينا من أمهاتنا .
أكان ذلك تفاؤلا حقيقيا ما يملأها فرحا .. أم أنه إحساسها بقرب لقائها لذلك الإله الرحيم ؟.. لم يجرؤ عقل إيمان على إجابة ذلك السؤال البسيط .. بل أنها سارعت بحجبه عن أفكارها .. ووجدت في تلاوتها المسائية للقرآن منفذا لطرد وحوش الهواجس .. استمرت إيمان يومها بترتيلاتها حتى وقت متأخر من الليل .. لتعزز تلك السكينة التي زينت وجه والدتها النائمة .. وحتى تيقظ بداخلها هي أملا جديدا بأن الله معهم .. ولن يتركهم يتذوقون مرارة الهزيمة في معركتهم الطويلة مع ذلك المرض اللعين ....
***
- من أين هذه الأصوات ؟.
تساءلت الجارة هدى بحيرة وهي ترهف السمع لذلك الصخب والضجيج المنبعث من منزل عبد العزيز المقابل لهم .. خرجت على عجل لتروي فضولها .. ففوجئت بأولئك الأشخاص المرتديين للبياض والفرح كحلة واحدة .. بينما ترفرف الزغاريد من أفواههم بتناغم جميل مع قرعات الدفوف بين أيديهم .
دست هدى جسدها بين الجموع في حين كان عقلها يحلل الموقف بصمت .. أمعقول بأنه عرس إيمان ؟.. لكنها لا تزال صغيرة جدا على الزواج .. كانت السعادة تبتسم لها في كل وجه تلقاه .. حتى طرحت سؤالها أخيرا على أحد المحتفلين :
- لمن هذا العرس ؟.
- إنه عرس سوسن .
أجابها ذلك الرجل ببشاشة .. مما أثار الريبة بداخلها .. أمجنون هو .. إن سوسن متزوجة منذ زمن :
- كيف لها أن تتزوج مجددا وهي متزوجة من عبد العزيز ؟.
- إنه عرس سوسن .
ابتعد عنها ذلك الرجل مكررا إجابته بابتسامة لطيفة .. ليندس بعدها بين الجموع .. يشاركهم احتفائهم بالعروس الجميلة سوسن ....
انخفضت وتيرة قرع الدفوف في آذان هدى .. حتى تحولت لنقرات خافتة على باب حجرتها .. كانت تلك والدتها التي تحاول إيقاظها لتأدية فريضة الفجر :
- رباه يا أمي .. لقد حلمت حلما عجيبا .
داعبت والدتها ملامح الشرود على وجهها الذي لم يستفيق بعد من روعة ذلك الحلم :
- خير إن شاء الله يا حبيبتي .
أضافت هدى بسعادة بالغة وحماسة حقيقية بعد أن شرحت لوالدتها أدق تفاصيل ذلك الحلم :
- ربما هي بشارة من الله عز وجل بأن جارتنا الطيبة سوسن ستصبح بخير بإذن الله .
- لندعو الله أن يخفف مصابها .
أجابتها هدى بهزة مؤيدة من رأسها .. ثم سارعت بالتوضؤ وأداء فريضة الفجر .. حتى تبتهل إلى الله بالدعاء لتلك الجارة الطيبة .. وترجوه تحقيق ذلك الحلم الخلاب والذي لم تكن تدركِ بأن الله قد صدقها الرؤيا .. حيث زُفت في ذات الليلة تلك الحورية الجميلة إلى جنان الخلد .......