وبينما هو يسير في أجنحة المستشفى مستندا على الجدار لثقل الهموم بداخله , جاء إليه أحد العاملين في المستشفى وقال له : الطبيب في المكتب يريد رؤيتك ؟ فذهب (فاروق) وهو في حالة سكونه ودخل غرفة الطبيب وجلس , فلم يعد قادرا على الوقوف أكثر وسأله : هل أردت رؤيتي ؟
- الطبيب : نعم نعم! المريض (لؤي) الذي خرجت من غرفته لتوك , هل تعرفه ؟
- فاروق : أنه قريبي , ولكن لما تسأل ؟
- الطبيب : أردت أن أسألك عنه بعض الأشياء , لأنني الشخص المكلف بمراقبته ودراسة حالته , لأنني لم أفهم سبب جنونه , فالرواية التي كتبها تخبرنا بأن لديه نسبة ذكاء عالية جدا أكثر من الآخرين ؟
- فاروق : كان ذكيا بالفعل ودودا مع الجميع برغم وحدته , يكتب لغيره ليسعدهم , لكن احدا لم يقدره , لقد كان حالما ؟
- الطبيب : الحلم! هذا ما أردت أن أسألك عنه , فمنذ دخوله المستشفى لم يقل شيئا , فقط يردد جملا عن أحلاما وحلما أراده! فما سبب تعلقه بالأحلام ؟
بكى (فاروق) متوجعا لسؤاله , لملم شتات نفسه واستجمع قواه وقال : أنها ليست أحلام بل حقيقة أفقدته عقله!
- الطبيب : دعنا لانتعجل في الحكم ؟ لكن ماذا يقصد بهذه الأحلام ؟
قال (فاروق) الذي لم يفق من حزنه بعد : أما (حلم الطفولة والشباب) فيشير إلى خيانة أبن عمه وكيف نهشه لحما ودما ولم يحترم طفولتهما وشبابهما معا! أما (حلم الضيم والقهر) فيقصدالمكان الذي عاش فيه وتربى وماذاق ويلاة من أهلها! أما (من باعوه بسعر التراب) فهم شخصيات خطها على الورق في قصصه , كرس حياته لإجلهم وأعتزل العالم وأحبهم , مقابل ذلك لم يستفد شيئا منهم!.
سكت (فاروق) قليلا ليريح نفسه من كل ماعاناه وأحس به من خطيئة , قال بعدها : في كل قصة كتبها تجد حزنا ودمعة , تجد أوجاعا وآهات , تجد ألاما وأحلام! كلها أحلام , كتبها أحلام! كل شيئا في حياته أراده وحلم به كتبه وجعل شخصيات وهمية من الأحلام تعيشه وتشعر به وتعانيه! أصبحت كل حياته أحلام! طفولته وقريته وقلمه وعالمه! كان يعيش أحلاما لم يستطع أن يعيشها في واقعه , ففضل الحلم وأختاره وتعلق به ولم يريد الأستيقاظ منه! قسى على نفسه بكل سادية وأستمتع بذلك من أجل حلم , بل أحلام أعطته أملا , عل وعسى أن تتحقق يوما ما! فقد عقله ولم تتحقق هذه الأحلام! لقد كان يحلم أيها الطبيب! كان يحلم! حتى أحلامه تحاسب عليها!
- الطبيب : أنك محق! دائما يتعلق الآخرين بأحلامهم وأمانيهم , فالحلم هو مايعطي الأمل بالحياة , وكذلك الذين يعانون من مشاكل نفسية وذكريات مؤلمة وطفولة قاسية وشعروا بالظلم والقهر , يهربون من واقعهم ويفضلون الحلم على مواجهة مشاكلهم .
- فاروق : كما حدث مع (لؤي) فقد عقله بسبب أحلامه ؟
- الطبيب : أستبعد هذا الأمر! فالكتاب بطبيعتهم أنعزاليين وأنطوائيين ولايحبون الأختلاط بالآخرين , ولكثرة جلوسهم لوحدهم هم صريحون جدا مع أنفسهم , (لؤي) يعرف ماضيه ومشاكله لكن صدقني! ليس ذلك من سبب له الجنون , فهو يستطيع أن يتحمل كل تلك الضربات النفسية والهزات التي تعرض لها .
- فاروق : إذا تخبرني بأنه لم يفقد عقله بسبب الحياة التي عاشها ؟
- الطبيب : لا لاأظن ذلك! أنظر لقد قمت بدراسة هذه الظاهرة وأقصد (جنون الكتاب في سن مبكرة) دون غيرهم , فلما هم فقط من فقدوا عقولهم! فكما تعرف الكتابة مجالاتها كثيرة هناك من يكتب موضوعات متنوعة عن المجتمع والرياضة والصحة ومن يكتب القصة والرواية ومن يكتب الشعر والنثر ومن يكتب تقارير وبحوث ودراسات طبية وعلمية وغيرها والكثير والكثير , فالجميع يستطيع الكتابة فلما لم يصابوا بأي مرض!
- فاروق : لااعرف في الحقيقة , لست أهل للطب وعلم النفس ؟
- الطبيب : تبين لي بأن من يفقدون عقولهم (المؤلفين) وليس الكتاب , التأليف يختلف كثيرا عن الكتابة وفي الغالب مؤلفي القصة والرواية وبعض المجالات الأخرى .
- فاروق : لما هم دون غيرهم ؟
- الطبيب : لأنهم يخلقون شخصيات جديدة بكل مافيها وماتعيشه من مشاكل نفسية وصراعات ومايجري في حياتهم , فهذا ليس بالعمل الهين! لنفترض بأن مؤلفا كتب 50 قصة وفي كل قصة ما يقل عن شخصيتين , وإذا قمنا بحساب بسيط بما يعني 100 شخصية كتبها على الورق , هل تعي ما أقول ؟ فهذا المؤلف عايش 100 شخصية بكل مالديها من مشاكل وظروف يمر بها الأنسان , (فهذا الجو والمناخ) يحتاج إلى من يتحمله ولديه القدرة والأستطاعة على ذلك!
- فاروق : يوجد مؤلفون كثر! لم أجد أحدا يعاني مما قلت ؟
- الطبيب : هذا مانتاولته في دراستي! خلال بحثي عن هذا الأمر في علم النفس والكتب والمقالات وكل شيئا عن هذه الظاهرة والحالة لم اقرأ سببا منطقي لجنون هؤلاء الكتاب! الكثير من الأسباب ذكرت البعض قال بأنهم فقدوا عقولهم (بسبب الأبداع الكبير لديهم أو بسبب الوحدة والصداقات والمرأة والتفكير والعصاب والسوداوية والأكتئاب والحزن والعزلة) فكل المهتمين بهذه الظاهرة لديهم رأيا يختلف عن الاخر , لكنني لم أميل أو أصدق أحد من هذه الأسباب , وكما يقول المثل (مالايصدقه العقل يرفضه)! وخير شاهدا على ذلك الآيتين القرآنيتين : (لايكلف الله نفسا ألا وسعها)! (لايكلف الله نفسا ألا ما آتاها)! فحين ينعم الله على شخصا بموهبة دون غيره كالكتابة والرسم وسرعة البديهة والحلم والصبر والبصيرة وتحمل المشاكل ورؤية ماوراء الطبيعة والأشياء والكثير الكثير من النعم التي لاتحصى! فالله علام الغيوب يعطي الأنسان بقدر مايتحمله ليس أقل أو اكثر , لن يكلفه بشيء لايستطيع فعله , حين يقولون بأن الكتاب فقدوا عقولهم بسبب أبداعهم الزائد عن الحد أو التفكير والأنعزالية وووألخ , هذا منافي للآيتين القرآنيتين!
- فاروق : لكنك لم تجبني! هناك من يكتبون القصة والرواية وبأعداد هائلة ولم يحدث لهم شيء ؟
- الطبيب : بالطبع ليس الجميع! كل كاتب يختلف عن الآخر في طريقة كتابته , ربما تقول : أنهم يكتبون في ذات المجال فأين الأختلاف بينهم ؟ هنا أريدك أن تصغي جيدا لما سأقول! الأختلاف يكون (في التعمق الشديد داخل القصة وتلبس شخصياتها وتقمصها والعيش مع أحداثها والتأثر بما تفعله الشخصية الرئيسة فيها)! وليس كل من يكتبون يتعمقون أو ربما يتعمقون ولكن بدرجات قليلة جدا!
- فاروق : كيف ذلك ؟
- الطبيب : يجب أن تسال في البداية ؟ لما هذا الكاتب مبدع والآخر ليس كذلك ؟ ولما هذه القصة أو الرواية جميلة والأخرى سيئة ؟ أو لما بكيت وتأثرت في هذه القصة والأخرى لم أشعر بشيء ؟ فالأجابة والسر في ذلك (مدى تعمق الكاتب في عمله وتقمصه للشخصية وتعايشه معها)! فكاتب من هذا النوع حين تقرأ قصته تشعر بها وصدق مشاعرها وتحس بألم شخصياتها وتلامس أحاسيسهم وجروحهم وكأنك معهم أو تشاهدهم أمامك وتستشعربهم! حين يخبرك كاتبا بأنه يرى القصة وأحداثها وشخصياتها ماثلة أمامه كواقع! فهو حقا يشاهدها ويدركها رؤى العين والقلب لغوصه الشديد وأندماجه بداخلها .
- فاروق : قرأت عن ممثلين ومسرحيين يتقمصون شخصياتهم وأدوارهم بشدة , يتصرفون مثلها تماما دون أدراك لذلك , وبعضهم لايستطيع الخروج منها! وبعضهم يذهب للمصح النفسي ليتخلص منها ؟
- الطبيب : نعم , بدأت تفهمني الآن! فإذا كان الممثل يتقمص شخصية قرأها على الورق وعانى منها كثيرا! فلنسأل ؟ من قرأها تقمصها ؟ فكيف بمن كتبها وألفها ؟
- فاروق : أيضا هناك حلقة مفقودة ؟ يوجد الكثير ممن يتقمصون ولكن لم يفقدوا عقولهم ؟
- الطبيب : أنظر جيدا! الأندماج والتقمص كذلك تحتلف درجاته بين شخصية وأخرى! (هناك شخصيات لاتتقمصها ألا قليلا! وهناك شخصيات تستطيع أن تسيطر عليها وتتحكم بها! ولكن هناك شخصيات تخرج عن السيطرة وتتلبسك وتتملكك لسنوات طويلة)!
- فاروق : فهمت ماتعني! لكن أين (لؤي) من كل هذا ؟
- الطبيب : هذا ماجعلني اقوم بمتابعة حالته! فكثير ممن كتب عن هذه الظاهرة قام بدراسة حالة (نيتشه! وكيف فقد عقله)! (لؤي) أصابة ماأصاب من قبله وتسبب له بالجنون! لذا أظن (ولاأجزم هنا) بأن : (الشخصية الرئيسية في رواية (أدفنوا سري معي) تقمصها (لؤي) بشدة وتلبسته بشكل كبير فخرجت عن سيطرته , مما أصابه بخلل ذهني وعقلي حاد وأضطربات نفسية ومشاعر وأحاسيس متناقضة , فحدث صراعا شديد بين الشخصيتين في داخله (شخصيته الحقيقية والشخصية التي تلبسته) , وأضف إلى ذلك شيئا مهما جدا بأنه (سهره لعدة ليال وقلة نومه لتعاطيه المنبهات بشكل جنوني مما سبب له هلوسات كثيرة وأثر عليه بشدة , ونظرا لذلك الصراع والخلل والأضطراب والسهر والهلوسات أصيب بالجنون)!
- فاروق : أجد واقعية فيما تقول , لكنني لاأعرف في الحقيقة ؟
- الطبيب : كما أخبرتك سلفا! هذه دراسة تخصني لوحدي , كل من فعل ذلك من قبل لم يستنتج هذا لسبب بسيط جدا! أنهم يقومون بتحليل مارأوه أو سمعوه أو قرأوه , ولكن أحدا منهم لم يجرب ذلك بشخصه أو حدث له ذلك , فالمثل يقول (لو شاهدت الشيء مئة مرة! فلن تشعر به حتى تجربه بنفسك)!
- فاروق : (من فمك سأدينك)! قلت بأن الله لايكلف نفسا ألا وسعها! فما تفسيرك لهذا ؟
- الطبيب : هناك شيئا لاتعرفه! حين يتلبس الكاتب شخصية ما فهو (يستمتع) بذلك , وبالأخص حين تكون تلك الشخصية والأحداث التي تمر بها قوية ومؤثرة كشخصية فلسفية أو ثائرة أو أو أو , هنا تجده يعيشها ويتمسك بها ويحاول بشتى الطرق أن يبقيها داخله , فلقد أعتاد الكاتب على هذا الأمر ويستطيع التخلص من أي شخصية وقتما يريد! ولكن كما قلت لك هناك (شخصيات تسيطر عليك بشدة وتتحكم بك) , أضف إليها تمادي الكاتب في تقمصها فهنا يتسبب في فقدان عقله! ولكن (مايزيد عن الحد ينقلب إلى الضد) , فالطعام مفيد وأن أكثرت منه تصاب بالمرض , والرياضة كذلك والعمل وتناول الأدوية والجماع وكل شيء , فالجميع يعرف أضرار هذه الأشياء وبالرغم من ذلك يفعلونها! كذلك (لؤي) أكاد أجزم بأنه يعرف الأضرار المترتبة من ذلك ولكنه فعل وبدليل تعاطيه المنبهات بشكل متكرر أثناء كتابته وأدمانه على هذه العادة!
غمرت (فاروق) سعادة كبير بعد سماعه تحليل الطبيب أكان صحيحا أم لا! لكنه سيصدقه مجبرا ليزيل ثقل الهموم التي أكهلته , لحظات قال بعدها : لاأخفيك! أنك أزحت عن صدري غما أرقني في نومي!
- الطبيب : حسنا! قلت لي ماذا كان يعني (لؤي) بحلم الطفولة والقهر ومن باعوه! ولكن هناك شيئا لم أفهمه ؟ كان يردد دائما عن حلما يراوده! (حلما واحد فقط)! فما هو ياترى هذا الحلم ؟
- فاروق : في الحقيقة لاأعرف! ولكنني أشعر بالأرتياح الآن! وأريد أن أعود إلى المنزل ؟
هم بالخروج من المكتب , سار خطوات ثم توقف وتوقف! يفكر ويسترجع! يمينا شمالا! هنا وهناك! يفكر بعمق في حديث الطبيب و(لؤي) وهوس التلبس والشخصيات وكل شيء! يحك رأسه قليلا , شيئا ما تلاعب به في ثوان! كأن شخصية تلبسته مما سمع , دوامة حركت لبه من الداخل! , ماأخاف الطبيب من تصرفاته وجعله يفكر في الهروب من مكتبه مما شاهده وكأنه لم يقرأ في كل كتب النفس عن حالة كهذه , لحظات قال (فاروق) : ياإلهي! أنك محق , أنك محق!
قال الطبيب مرتبكا : مابك ؟
أبتسم (فاروق) ونظر إلى الأعلى والأسفل , وقال : (أقسم! بمن أحل القسم)! أنه عبقريا مجنون!
الطبيب في غمرة دهشته وكأنه بحاجة لطبيبا آخر يعالجه , قال : عما تتكلم ؟
فاروق : ماذا قلت قبل قليل ؟
شعر الطبيب وكأنه تهديدا ما , قال وهو يبتلع ماسد أنفاسه : لم أقل شيئا ؟
فاروق : لا لا , أعني ماذا قلت عن (لؤي) وحلمه ؟
ألتقط الطبيب شيئا مما تبعثر من فزعه , وقال : قلت (بأن هناك حلما واحدا كان يردده دائما)!
ضحك (فاروق) متعجبا وكأنه أكتشف شيئا ما , وقال : نعم نعم! ويحي! ويحي!
الطبيب الذي لايعرف أين يدور الفلك , شعر بتوترا وقال : يارجل! أرجوك! أخبرني ما القصة ؟
فاروق : يبدو أنك لم تفهم ماذا جرى ؟ لم تعي ما الذي حدث ؟
الطبيب : يجب أن تهدأ الآن ؟ وتقول لي مالخبر ؟
ظل (فاروق) ينظر إلى الأرض بغرابة مبتسما لحظة مفكرا أخرى , قال بعدها (مالم تكتبه علوم النفس كلها)! : اللعنة , لقد كان يعرف! لقد كان يخطط للأمر مسبقا! لقد كان يعلم بأنه تجاوز كل الخطوط والحدود وسيفقد عقله في أية لحظة!.
سكت (فاروق) قليلا بعد هستيريته إذ قاطعه شيئا ما , أكمل بعدها : لاأصدق بأنه فعلها! اللعنة (لقد وضع رهانا على نفسه)!
ظن الطبيب أن الشهادة التي يحملها مزورة , فقد ضاع في الشتات! قال حائرا : لاأ .....
يسرعة قاطعه (فاروق) : أنتظر أنتظر لحظة أرجوك! أريدك أن تجاريني فحسب ؟
- الطبيب : لك ماأردت ؟
- فاروق : قلت بأن دراستك وأبحاثك لظاهرة الجنون , لايعرفها غيرك أليس كذلك ؟
- الطبيب : نعم نعم!
- فاروق : قلت بأن (لؤي) كان يتمادى في تقمصه للشخصيات وهو يعرف ذلك جيدا , أليس صحيحا ؟
- الطبيب : إذا ...
- فاروق : سحقا يارجل! هذا ماكان رهانه! هذا ماتراهن عليه!
وكأن الأحداث كلها أنقلبت رأسا على عقب في مكتب الطبيب وبدلا من أن يجيب أصبح من يسأل , قال غاضبا : بئسا ياهذا! قضضت مضجعي جالسا , أخبرني مالحكاية ؟
قال (فاروق) الذي يعيش صدمة من تلك الرموز الغامضة : أريدك أن تسمعني بدقة , وتربط الخيوط فيما بينها ؟
الطبيب : بسرعة هيا! أنني أسمعك ؟
قال فاروق :
- أسم الرواية (أدفنوا سري معي)؟
- حين زارني (لؤي) في المنزل قبل أن يفقد عقله قال : (يجب أن يعرف العالم ماكنت أعانيه وأنا أكتب)؟
- وقال أيضا : (روايتي ستحمل أسمي من بعدي)؟
- وقال : (لن أدفن روايتي بل هي ستدفنني)؟
- أرادني كذلك أن أقطع له وعدا بأن أنشر الرواية؟
- ردد لي مرتين (تلك أسم روايتي : أدفنوا سري معي)؟
- حين زرته هنا في المستشفى , وأخبرته قصة حياته (قال : الشاب الذي تتحدث عنه! ذكرني بحلم راودني)؟
.. هل فهمت ماذا أعني أيها الطبيب ؟
ضاع الطبيب بين الخيوط لصغر حجمها وكثر ألوانها , وقال : لم أفهم شيئا حتى الآن ؟
غضب منه (فاروق) وقال : ويحك! أين ذهب العلم الذي لديك قبل قليل ؟ حسنا حسنا ؟ سأخبرك! ولكن أنتبه جيدا للمفردات التي قالها وبما تعنيه ؟ فحين يقول (روايتي) يقصد بها (حلمي)؟ وحين يقول (سري) يقصد بها (جنوني) ؟ الآن سأربط لك الأحداث ببعضها لتفهم ماأقول ؟
هنا (فاروق) راح يفك الرموز ويشرح الغموض ويحلل الألغاز ..!
- روايته (أدفنوا سري معي) : لم يعرف أحدا لم أسماها بذلك , فالأسم لايمت لأحداث الرواية بصلة! لكنه لم يكن يقصد الرواية بهذا الأسم , بل كان يشير إلى نفسه! ويعني بها (الجنون)! جنونه هو! أدفنوا سري معي! أي (أدفنوا جنوني معي)!.
- قوله (يجب أن يعرف العالم ماكنت أعانيه وأنا أكتب) : ويقصد معاناته في التلبس وتقمص الشخصيات! واحدة تلو الأخرى!.
- قوله (روايتي ستحمل أسمي من بعدي) : أي (حلمي)! حلمي هو الذي سيبقى ويخلد أسمي , حتى لو فقدت عقلي أو رحلت عن الدنيا!.
- قوله (لن أدفن روايتي بل هي ستدفنني) : أي (لن أدفن حلمي كالباقين)! بل سأدفن نفسي وأضحي لأجل حلمي!.
- وعده (الذي أخذه مني لنشر الرواية) : كان هذا بداية الرهان , وليضمن بأن مافعله لن يذهب سدى !.
- قوله (تلك أسم روايتي : أدفنوا سري معي) : أي (هذا هو حلمي : جنوني لايهمني أدفنوه معي)!.
- قوله (ذكرني بحلم راودني) : هنا بكى (فاروق) للحظات بهدوء وقال : أما هذه والله ماأقشعر منها بدني حينما عرفتها ؟ لأنها كانت السبب في كل ماجرى!
مسح (فاروق) الدموع من عينيه وأكمل حديثه بنغمة حزينة : ذكرني بحلم راودني كان يعني (ذكرني بالرهان الذي راودني)! رهانا قطعته على نفسي وأجبرني على (طريقين) أشد حلكة وظلمة من بعضهما : أما (الجنون أو الحلم)؟ فما السبيل وما الخلاص ؟ مجبرا أخترت الجنون! مجبرا دفنني الحلم! فالأحلام تظل وتخلد حتى لو دفن صاحبها! (أختار الجنون ليحقق الحلم)! الحلم الذي سيشاهده العالم يوما ما حقيقة! (الحقيقة التي ستغير مجرى التاريخ)!.
- مخرج : (هناك من يكتب السخافات وتربع على قمة العالم , وهناك من يكتب العجب وتلوى في الحضيض)!
(النهاية)