المنتدى :
خواطر بقلم الكتاب العرب والعالميين
يومان من العمر !!
يومان من العمر . .
عبثا جرّبت العمل بنصيحة صينيّة قرأتها مؤخراً " عليك أن تُنجز بسرعة ما ليس مُستعجلا ، كي تنجز ببطء أعمالك المستعجلة " . نسختها ورحت أحاول بدءاً فهمها ، لثقتي بحكمة الصينيّين . وعندما تعذّر عليّ ذلك ، قلتُ سأدرك مغزاها عند التطبيق .
لكني حين شرعت في تقسيم الأعمال التي تحتاج مني الإنجاز ، بين " مستعجل " و " قابل للتأجيل " ، فوجئت بأن معظم المشاريع التي تعنيني حقاً مستعجلة . لعلّه العمر ، كلّما تقدّم بنا ، ما عدنا نثق في الغد ، خوف أن يسبق الأجل ما هو مؤجّل .
سألت مؤخرا ، الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج الذي يُصدر منذ فترة رواية كل ّ سنة ، وأحيانا روايتين ، لماذا لا يتأنّى في النشر ، وما الذي يجعله في عجلة من أمره ؟ . صمتَ قليلاً ثمّ أجاب بكلمتين " إنه الموت " . واسيني تعرّض أكثر من مرّة لذبحة قلبيّة ، آخرها وهو يحاضر في السوربون ، وككلّ مرة كان يشعر فيها باحتمال الرحيل ، كان يبعث لي رسالة " عزيزتي أكتبي " . أولى رسائله ، كانت في التسعينات ، يوم كان مهدداً بالقتل من قبل الإرهابيين ، الذين اغتالوا آنذاك أكثر من سبعين مثقف وكاتب جزائري . قال لي في رسالة مطوّلة تحكي تفاصيل محنته ، وهو يغيّر عناوين إقامته كل مرّة " إن قتلوني إثأري لي... إثأري لنا فدمنا حبرك " وكتبتُ " فوضى الحواس " وبعدها "عابر سرير " . وما زال دم الرفاق يمتزج بحبري كلّما كتبت عن الجزائر .
ليس هذا ما كنت سأقوله عندما بدأت هذا المقال ، فقد كنت أنوي كتابته بسخرية ، لكوني مثل تشرشل ، الذي حين جاء من يخبره أن الحرب العالمية قامت ، وأن الألمان على الأبواب ، رأى أن الشيء الوحيد الذي لا يقبل التأجيل هو النوم ، وذهب إلى قيلولته .
لكني قرأت هذه الأيام كتابا جميلا لكاتب فرنسي أحبّه كثيرا ، جان دورمسون العضو في الأكاديمية الفرنسيّة . العجوز الوسيم الذي تتخاطف فرنسا كتبّه ، والذي يكتب كل مرة كتابا يودّع فيه قرّاءه ، ثمّ يفاجأ بكونه مازال على قيد الحياة ، فيُصدر كتابا جديداً لوداعهم من جديد . عنوان كتابه الأخير " سأرحل ذات يوم من دون أن أكون قد قلت كل شيء " . أفكّر في كلّ الكلمات التي ستموت معي لأني عن وفاء للغائبين ستخذلني الشجاعة لكتابتها ، والأشياء الكثيرة التي لن يسعني الوقت لفعلها ، لأن الوقت سيكون قد غدر بي . لذا أربكتني تلك الحكمة الصينية ، فأنا لم أعرف يوما تصنيف الأمور حسب أولوياتها ، مذ سلّمت قلبي مهمّة إدارة مفكّرتي .
وكانت تلك أكبر حماقاتي ، فالوقت عملة نادرة أغلى من أن يتولّى القلب إنفاقها !!
لعلّ أعظم حكمة علينا جميعاً العمل بها ، هي تلك التي أوصت بها ماري تيريزا ملكة النمسا ابنتها ماري انطوانيت ، وهي تغادر لتزفّ إلى لويس السادس عشر. لكن الطفلة التي كان عمرها آن ذاك أربعة عشرة سنة ، لم تُصدّق أن الأجل لا علاقة له بالأعمار ، فما كان لها من وقت وسط طيش الشباب ، والحياة الصاخبة التي كانت تعيشها في فرساي ، لتتذكّر أن تخصّص في كلّ سنة يومين ترتّب فيهما أمورها ، كما لو أنها مُقبلة على الموت . أو لعلها تذكّرت ذلك ، عندما اقتيدت إلى المقصلة ، بعدما أطاح الشعب بالملكيّة . هنا تأخذ الحكمة الصينية بُعدها الأعمق ، فلا شيء يبدو لنا غير مُستعجل أكثر من ذينك اليومين ، الذين لا نحسب لهما حساباً في مفكرتنا المزدحمة بما نظنه "مستعجلا " . . إلى أن يفاجئنا الأجل على عجل !.
|